
قاطع تذاكر السفر يتجاهلني، ويرفض أن يدلني الى وجهتي، أتوسل إليه، وهو يصر على إهمالي، وفي كل ليلة يتكرر حلمي، بل قولوا كابوسي. الرجل غريب الأطوار كلما أقترب منه، يؤشر لي بالانصراف، كأنه ينش ذبابة أمام وجهه. حتى الطابور الطويل العريض من المسافرين هو الأخر يميل وجهه عني ولا يجيب على طلبي، كأنني أتكلم لغة غير مفهومة.
اليوم حين استيقظت، قررت أن ألبس ملابسي الرياضية، وأهرول في الشوارع للبحث عنه، فلابد أنه يعيش بالقرب من سكني، وإلا لماذا لا يوجد غيره ينكد علي نومي ويناصبني العداء؟ أنعشتني برودة الفجر، ونسماته العليلة، وكانت خيوط الضياء تغسل بهدوء بنايات المدينة واشجارها، وتضفي سحرا على شوارعها وهي تفرك عيونها من النعاس.
نزلت، رصيف الشارع كعادته ظل ينظر إلى بسخرية، وأنا أزعجه بلهاثي المتصاعد، وعرقي المتصبب من وجهي.
أنظر حولي، لعلي أجد هذا اللعين كي أبعده عن أحلامي، وإزعاجه لي كل ليلة. أمسكت ركبتي وانحنيت، وأنا ألهث، طوقني ظل، وأياد تلامس ظهري. استقمت، فوجدت بشرطيين يحيطاني.
قال لي أحدهما ويبدو أنه يتنفس من منخار واحد:
-عليك أن تعود إلى البيت، لا يصح بقاؤك في الخارج، ألا تخاف من الإصابة بعدوى الكورونا وأنت رجل طاعن في السن.
- خرجت كي أطارد هذا الذي ينكد علي نومي وأحلامي.
- أتعرفه؟!
-لا...
ابتسم الشرطيان، كأنني أقدم لهما شايا ساخنا في هذا الصباح، ونظرا إلي باستغراب.
وقال الثاني وهو يداري ضحكته:
-أتعرف أين تسكن؟
- نعم ... وهل تعتقد...؟
قاطعني الثاني بحدة ولكن هذه المرة تنفس بمنخاريه الاثنين:
-ألديك أوراق رسمية تثبت شخصيتك؟
- نحن في بلد ديمقراطي....
-لا مجرد اشتباه ..
- أوراقي في البيت...
قبل أن أكمل جملتي وجدت نفسي مقيدا الى الخلف، والشرطيان يجراني .. كان الرصيف يضحك بشماتة، والمتشردون أيضا يضحكون وينظرون إلي كمهرج خرج للتو الى المكان الخطأ، بعض النساء المسرعات نظرن إلي بتعاطف قل نظيره، وكادت إحداهن أن تقبلني لولا التباعد الاجتماعي بسبب الوباء.
قلت للشرطي هذا بيتي، ومفتاحي في جيب السروال .. تناول المفتاح وفتح الباب ودفعني بقوة.
أصبحت شقتي في حضرتهم عبارة عن حفرة ماء آسن، رائحتها لا تطاق، ربما بسبب هذين الخنزيرين، أو أن الهواء لم يتجدد فيها، طلبت منهما فتح النوافذ قبل أن أتقيأ، وأن يحررا يدي من قيدهما كي أخرج وثائقي.
فتحت أحشاء حقيبتي الوحيدة ونثرتها: أوراق، نقود أقلام، واقٍ للجنس، رسائل من البلدية، فواتير الغاز والكهرباء والتلفون، قصاصات من الورق وبعض الصحف، صور قديمة، مداليات، براغي، ساعات قديمة، ومسابح. في هذا التل الرهيب مددت يدي، واستطعت أخيرا كأني فزت في الماراثون أن أجد وثائقي الرسمية: جواز، بطاقة النقل، بطاقات البنك، بطاقات لعضويات منتديات مختلفة. وضعتها في يدي الشرطي المبتسم، افترسني بنظراته.. تفحّص الجواز ونظر إلي مرة، مرتين..
-مستر .. هسن .. آسفين.. ولكن لدي سؤال هل تتناول مخدرات؟
-لا
- هل لي أن أعرف الأدوية التي تتناولها؟
جلبت لهم كيسا ضخما ودلقته على المنضدة .. هذا بخاخ للتنفس.. هذه حبوب الضغط.. هذا مضاد للكآبة.. هذه ..هذا ...
تكدست الأدوية وطال الشرح والأسئلة عن الكابوس وقاطع التذاكر الفظ الذي أراه بالحلم، ارتفعت درجة حرارة الغرفة، تعرقت الجدران والسقف، مما أضطر الشرطيان أن ينزعا ملابسهما الرسمية وبقيا بملابسهما الداخلية.
ثم قالا لي وهما يخرجان:
- مستر هسن لن نستطيع مساعدتك!
حملا أثقالهما ومضيا، رائحة الغرفة بدأت تتحسن وحرارتها تنخفض قلت: أفضل شيء أفعله، هو أن أرجع لأنام فما زال الوقت مبكرا، ولن أذهب الى هذا الحقير.. الحقير جدا، إنه لا يستحق أن أذل نفسي أمامه.. ثم ماذا يحدث أن تهت بالدروب، هل سأسلم نفسي الى أقرب مخفر شرطة.. ثم، وهذا هو مربط الفرس، سأكتب اسمي وعنواني على ورقة وأعلقها على رقبتي، وسأدونها بكل لغات العالم.. ثم.. بدأت حبة النوم تأخذ مفعولها أكثر مما تأخذه في الليل. سقطت من الشرفة وقبل أن أصل إلى الرصيف، دفعتني رياح قوية ورفعتني، وبدأت أطير، ثم وضعتني بهدوء في مكان كل بيوته بيضاء بلا أبواب، وسيارات شوارعه تسير إلى الخلف، والناس فيه تمشي على ساق واحدة، بينما تظل الساق الأخرى معلقة بالهواء، سرت إليهم وأنا أحاول أن أقلد عبثا مشيتهم، وقلت لهم:
- ما اسم هذا المكان.. أتعرفون هذا العنوان؟
نزعت الورقة المعلقة برقبتي وعرضتها أمامهم. لم يجبني أحد، دققت النظر في وجوههم لم أجد فيها فما أو أنفا.. كيف لي أن أتفاهم معهم وأستدل على بيتي، يا ألهي، برز قاطع التذاكر في هذه اللحظة كشيطان رجيم، نظر إلي، أشرت إليه، ابتعد عني، قلت له:
- أريد فقط أن تدلني على بيتي وهذا هو العنوان؟
نظر إلي باستعلاء، وقال لي:
- لن ولن أساعدك أيها المنافق؟
- لن ولن أساعدك أيها المنافق؟
-......
دقت ساعة المنبه الساعة العاشرة، نهضت، وأنا أحمد الله على خروجي من هذا الكابوس، ولكن هذه المرة قررت أن أقتص من هذا الحيوان، لا بد أن يكون موجودا قريبا من سكني. خرجت بملابسي الرياضية، ولكي أتجنب الانتقادات، وضعت الكمام على وجهي ولبست القفازات، ركضت طويلا، بدأت ألهث وساقاي قد تيبستا، إنحنيت وكدت أسقط، ويسخر الرصيف مني. يدان قويتان تمسكاني.
- هذا أنت ..
- أنتما...
إنه الحلم نفسه، زارني بعد أن خرجتما، نكد علي الحقير نومتي حتى في النهار، سأتعرف عليه، صورته محفورة بدماغي وأستطيع أن أرسمها لكما.
طوقاني بأذرعهما الممتدة مثل أخطبوط، ولكنهما لم يضعا القيود بمعصمي، وقاداني إلى البيت.
وقال الشرطي الذي يتنفس بمنخار واحد:
- التيه في الحلم أفضل من الموت بالكورونا! كندا هذا آخر إنذار لك.. تنام .. تحلم ... تطحنك الكوابيس لن نريد أن نرى وجهك ثانية في الشارع!
رماني بالغرفة وأغلقا علي الباب، كركرت الشقة كالطفل من وضعي، واهتزت النوافذ مقهقهة، أخذت أرتجف، وأشعر بالبرد، غطيت نفسي بكل الأغطية التي أملكها، وبدأت عيناي تثقلان، ولكني قررت أن لا أنام، ورميت كل المهدئات وحبوب النوم في سلة المهملات، جاء إلي، وقف قرب ساقي بعد أن رفع الأغطية عن وجهي وقال:
- لن آتي لك بعد اليوم، أنت مزعج حقا، تتيه وتحملني مسؤولية إرشادك، أنت لا تأتي ألا حين أكون في أشد الحاجة للذهاب الى دورة المياه، ثم من يقول أنت غير مصاب بالكورونا!
نهضت ثانية، الساعة تقارب الخامسة مساء، العتمة تغزو الغرفة وأثاث البيت تثير الكآبة وتمنع ستائر الغرفة علي الهواء، فتحت الضوء، أزحت الستائر، تنفست بعمق، حركت الأثاث وغيرت ديكور الغرفة والشراشف، أحسست براحة لا تصدق.
لم افكر بهذا الحقير، وقررت هذه المرة أن أركض ولكن بالاتجاه المعاكس، شجعني الرصيف وقال لي:
- يا مرحبا..
ومنّت علي السماء بهواء بارد كتحية منها، حتى جسمي لم يتعب أو يتعرق، ولكن الوساس الخناس قال لي: لا تنخدع بهذه الظاهرة. توقفت وأخذت: أتأمل المحلات المغلقة لعلها تفتح يوميا بعد الجائحة لأشتري منها.. ولكن ماذا تشتري يا حسن؟
- بوصلة!
قال لها الشرطي وهو يضحك
-....
- هل خرجت تبحث عنه، ألم نحذرك..
وقبل أن يكمل الاخر جملته أسرني الثاني ودفعني الى السيارة الواقفة، ثم تكلم بالموبايل.
- نعم سيدي قبضنا عليه متلبسا!
عصبا عيني ووضعا شريطا لاصقا على فمي، وتكملة لدورهما صفعني أحدهم بقوة، وقال هذا من باب التحذير من أي عنف تبديه.
في غرفة التحقيق، وضعاني على كرسي ورفعا القيد واللاصق، وجدت نفسي أمام محقق طويل، طويل الوجه، طويل اللحية، طويل الأنف، طويل الأصابع، حتى ربطة عنقه طويلة ممتدة الى الأرض. قال لي بعد أن ضغط على زر ألة التسجيل.
- نريد وببساطة أن تعترف يا مستر هسن!
- أنا .. أعترف على ماذا؟
- كيف قتلته وبأي أداة؟
- من؟
- الرجل الذي يزورك بالأحلام؟
- أتاني في نومة الظهيرة وقال لي أنت مزعج وأنه لن يأتي بعد اليوم!
- هذا يعني أنك قتلته!
- لم أقتل أحدا!
- صحيح لم تقتل أحدا.. ولكن أن تمحو أحدهم من حلمك يعني أنك قتلته!
- ومن أخبركم بحلمي!
- هو الذي أخبرنا!
- عجيب كيف حكى لكم إذا انا قتلته!
- حسنا بدأت تعترف لماذا قتلته؟
أصبح جو الغرفة خانقا، ولكني كنت أرتجف بردا، وأسناني تصطك.
- يا صاحب المقام الطويل أقصد الرفيع، إنه حلم...
لملم أوراقه وقام قبل أن أكمل جملتي، أرتفع سقف الغرفة كي لا يلامس رأسه، وقال ستبقي معنا والى الأبد هنا.
خرج وتركني وحيدا أراقب غيابه، وحضوره المخيف، ثم انفتح الباب، جاء شرطي يشبه المحقق ولكنه قصير جدا، قادني الى زنزانة أنيقة بسرير واحد ونافذة واحدة، ويتوسط جدراها لوحة طفل يبتسم، وقال هنا كل شيء متوفر لك، من الملابس والطعام وحتى فرشاة الأسنان والأنترنيت.
دخلت، رحبت بي الزنزانة، وجردتني كامرأة مجربة من ملابسي وحريتي، وأغلقت علي الباب، فتساقطت الجدران بالعتمة وطرحتني على الفراش. وقبلتني وقالت:
- تصبح على خير!
ثم ضحكت وقالت:
- لا أستطيع ان أقول لك أحلاما سعيدة فمن ينام معي لا يحلم مطلقا بأي شيء!
تناولت حبة وضعت قرب كأس ماء، قرب السرير، وسقطت في بئر عميق، في الصباح استيقظت يحيطاني رجل وامرأة بملابس بيضاء قدما لي أنفسهما دكتور روبرت والدكتورة ماغي. قاسا ضغطي، وفحصا عيني، ودقا على ركبتي، وبطني.. وأخبراني إني سليم وجيد، ولا تنقصني سوى الراحة.. وأعطاني حقنة قالا أنها مضادة للأحلام والالتهابات.
ذهب الطبيب وظلت ماغي تغمرني بالحنان، وانحنت علي لتقبلني بحرارة وهمست في أذني قائلة:
- بالأمس أراد أن يدخل فمنعته، وقلت له لن يحلم بعد، ولن يضيع أو يتوسل بك!
- بالأمس أراد أن يدخل فمنعته، وقلت له لن يحلم بعد، ولن يضيع أو يتوسل بك!
- لكني لم أطلب..
قاطعتني بقبلة أخرى، ووعدت أن تزورني غدا أو الأسبوع القادم أو ربما العام القادم ...وستجلب الزهور وماء الورد والبخور ورفشا ستزيل منه النباتات الزائدة التي قد تشوه منظر قبري.