الأجمل من السرد هو الكلام عن السرد..
إذا كان الأدب هويّة الحضارات، فإنّ القَصّ وقبل أي شيء، حسب روبرت شولز:" هو سلوك محاكاتي أو تمثيلي توصل عن طريقه الكائنات البشرية ضروبا معينة من الرسائل".
من أهم وظائف السّرد أنّه يستطيع أن يعبّر عن تجربة الشّخصيّات التي يصوّرها الكاتب في نسيج الأحداث المرويّة في حبكة خاصة بها. كلمة قَصّ بمعناها الواسع وتتضمن المسرحيّات والقصص، وهنا ينبغي الإشارة إلى أسلوب ميثم الخزرجي القصصي المتخفّي بأسلوب المسرح كتقنية فنية أضافت حضور الوصف بمشهدية عالية، والتي عبّرت عن رشد الكاتب إذ يرتقي بالسياقات القصصية في مجموعته من الطاقة الخاملة إلى مشهد حاضر مشرق يسكنه الإبهار اللغوي، والدهشة في صناعة الاختلاف والتمييز في المعنى.
إنّ السّرد يحمي حقائق العالم من الضياع، وقد اتّخذ عنوان مجموعته (النزوح نحو الممكن) للتعبير عن النازحين فيها بأنّهم ليسوا المهاجرين الطبيعيين الذين يعبرون عن النّزوح الاعتيادي بانتقال مجموعة من السكّان مكانيّا بحثا عن الخلاص بالمعنى المعروف، إنما بالطريقة المعنويّة للنزوح الفكري، فما علاقة النّزوح بالممكن الذي حمله العنوان؟
النزوح يشير إلى الحركة من مكان إلى آخر بدافع الضرورة للبحث عن حياة أفضل، بينما النزوح في السياق السيميولوجي يمكن أن يرمز لرحلة روحية أو فكرية للشّخصيّات، فحينما تحضر هنا الشخصية الأبين في فضاء زماني واضح المعالم يكتمل المعنى المنشود عبر حوارات بمساحات كشفت عن فكر وثقافة كل شخصية من شخصيات المجموعة القصصية التي بدأت بفلسفة خاصة عن الحياة.
الممكن الذي يرنو إليه الكاتب ليس لغزًا ولا من الوضوح بالدرجة التي تكشف عن نفسها، ليطرح أسئلة وجودية كبيرة، بدءا من الفرص والإمكانيات التي قد تكون غير محققة أو خارج نطاق واقعها الحالي، فماذا لو كانت تفسيراتنا عن العالم عالمًا قائمًا بذاته، وكل معنى يختلف عن الآخر اختلافا مهولا، إمعانا في إحداث فرق يستحق النزوح من أجله، كالأمل، الطموح، أو حتّى المجهول الذي يُسعى إليه.
القصّة الأولى والتي استهلها بعنوان "جمال مضمر" مشبعة بالدّلالة الرّمزية ، حيث ربطت الوطن الذي صّوره الكاتب بغرفة في بيت المعلمين الذي يرمز للأمان، وهي قصة معلم انتقل إلى القرية التي تمثل الطبيعة بآفاقها وجمالها وثرواتها وشخوصها وهم يحاكونها بجمال أرواحهم وعفويتهم وبساطتهم، رسم من خلالها صورة بهيّة للتعايش والألفة التي حملت التراث الفكري عبر كتب قيّمة على رفوف الغرفة تأصيلا للحضارة والثقافة العميقة كوطنه الأصيل العراق، وهو يشير إلى الحياة بمفهومها الأعم عن طريق اسم المدرسة" مدرسة المعرفة"، فكان التأويل في القصة يعبر عن حماسة المدرسين( الحكماء) الذي يمثل علاقة الدين( الحكمة) بالحياة، وتهافت الصبية دلالة أخرى على شغف الشباب نحو العلم والمعرفة، بينما الغاية العظيمة في اكتشافها الحكمة والمعرفة يكون عبر رمزية الطرق المتعرجة في سبل الحياة المختلفة، بإشارة إلى الطّبيعة وما تحمله من معانٍ محتملة للحرية المتعثرة، والتي تعزز فكرة انتصاراتهم المعرفية، وتحفر في عمق النفس يقين الحقيقة.
كانت صّدمة الأستاذ كبيرة حين دخل مبنى مدرسة المعرفة فانتابه حزن عميق حينما وجدها بسيطة متهالكة الحجرات وفي هذا رمزية للواقع المعاش، مع ذلك أضيئت بنور المعرفة والأمل، خاصة عندما بدأ بمكاشفات مع الصبية عن أحلامهم التي كانت غاية الحكيم المتصوف وهي الكشف عن الجمال المضمر وراء الحقيقة، وشكّلت لحظات مفصليّة يمكن تحليلها بأنها الحقيقة التي تختلج في دواخلهم والتي تعني نزوحهم نحو الأمل، كما صوره عبر التلميذ مشعل حينما قدم له لوحة عنونها ب " حلم وطن" وفي دلالة الاسم لمشعل النور والأمل. انتهت القصة بجمالها الذي حمل الأمل بين طيّات الألم، ولم تنتهِ حينما أتبعها بتجليّات تلميذ أو تداعيات وطن.
حيث استطاع شاب الهروب من قاعدة عسكرية بمساعدة سائق لديه من الحكمة ما لديه، في قصة " غصّة كونية" التي تحتمل دلالات عديدة:
بدأت القصة بعنوان له دلالة عاطفية ونفسية: كون كلمة غصة تستخدم عادة لوصف شعور بالألم، أو الحزن العميق الذي يصعب تجاوزه، وغالبا هي الحالة التي ترتبط بالبكاء أو الأسى.
وصف جري الشاب عند الهروب بالغرابة، وهو مما يلفت إليه فالجري إما يكون بالركض السريع أو التسلل المتخفي، وهنا جمع الكاتب بين الاثنتين معا/ فقال: "بجريه الغريب استطاع أن يتسرّب من الجحيم".
دلالة فلسفية وجودية: لأن إضافة كلمة كونيّة توسّع الدلالة لتتعدى الألم الشخصي إلى الشعور العالمي الشمولي، فيتمثل الأسئلة الوجودية والقلق الإنساني بشكل عام.
دلالة اجتماعية وسياسية: يشير فيها العنوان إلى الأحداث السّلبية الكبرى التي تؤثّر على الإنسانية جمعاء، كالحروب، وأزمات اللاجئين...
دلالة أدبية وشعرية: العنوان يمتلك جاذبية شعريّة للتعبير عن الأحاسيس العميقة والمعقّدة بطريقة موجزة ومكثفة.
دلالة علمية وكونيّة: من منظور علمي يرمز العنوان إلى الدّهشة والإعجاب بالكون مع التطرق إلى الشعور بالضآلة عند التفكير في اتّساع هذا الكون وصغر المكان الذي يشغله الإنسان.
في المجمل العنوان يثير التفكير ويدعو المتلقي للتّأمل في الألم الإنساني، بأبعاده الواسعة والشّاملة كالكون، فيكون خيطا يجذب القارئ لاستكشاف محتويات النّص.
جرّب الكاتب في هذه القصة اعمام شعور الظلم الذي اجتاح بلده ليجعل العالم أجمع يشاركه ألم هذا الشّعور، فليس كلّ قصّ يثمر سردا، وليس كل سرد يصنع قصة، لكن قصة غصّة كونيّة هي السرد الذي يتحول إلى فعل يقصد بلوغ درجة معينة من الأدب كونه يضم ذلك الاكتمال كجانب إنساني من مبدأ القصديّة التي تتحكم ببناء قصّته، فكان من الممكن أن يكون عنوانها" ناجٍ إلى الحياة"، حينما بدأت بجملة " استطاع أن يتسرّب من الجحيم "، لكن التطرف لا دين له، فيطرح الكاتب أسئلة وجودية في جو من الغموض يتخلله الذهول، فنتساءل معه، هل ما كان يحصل هو كابوس يستحيل إلى حقيقة أم هو صمت كوني؟ كما أوصاه السائق بقوله: "كن على قيد صمتك لتعش".
مع ذلك تستمر عجلة الحياة بالدوران وكأن شيئًا لم يحصل حين تبين بعد هذا الظلم والتخلخل بأنّ المعاني التي كانت تعد مهمة في السّابق فقدت وزنها، وما نعتقده بأن الكون منظّم ومتماسك قد يكون مجرد مظاهر عابرة لنظام أكبر غير مفهوم يتوضّح هذا المعنى في جملة: "إن الكون انصاع إلى العبث"، فحملت هذه الجملة دلالات فلسفية عميقة تستكشف معنى الوجود، والتجربة الإنسانية في الكون.
وجُمل من نوع/ بالريبة والانتظار/هناك موت وهناك موت مؤجل/ الحياة لا اتجاه لها/ تمشي ببطء لا مثيل له/ رهبة الموت لا تعرف التخطيط/ وأسئلة من نوع: إلى أين ولماذا علينا أن نكون هكذا؟
الرّهبة التي لم تزايل بطل القصة تمثلت في إعدام المسلحين لأفراد قاعدة عسكرية، ولكن الشاب أعانه رجل شريف على عبور منطقة المجاميع المسلّحة ليصل بأعجوبة إلى أهله في ميسان.
في النهاية يرى ألواحا سماوية كشاهدة وطن بعد أن تذكر جدته وهي تضع ألواحها ويفوح في المكان عبير البخور الذي لم يعرف مصدره، إشارة إلى دماء الشهداء الزكيّة، واستمرار الخير المتمثل بالعطر.
في قصة " إعلان سر" ، بدأت بتعبير يحمل نوعًا من التناقض حيث أن الإعلان يجعل الشيء مكشوفًا، بينما السّر شيء يُحتفظ به، فيثير الفضول ويوحي بأنّ هناك شيئًا مهمّا وحساسًا سيتم الكشف عنه، في هذا السياق يكون العنوان محوريّا في تطور الأحداث التي بدأت بتحقيق مع رجل حول علاقته بزوجته، ثم عن علاقة زوجته بوالدته، ثم هل بدا على الزوجة خلال فترة زواجها التي تجاوزت السنوات ما يدعو للريبة؟.
اهتمّ الكاتب بتشكيل الشخصيات، وكان من ضمنها الزوج المهندس المنشغل، والأم فاطمة بقوامها المترهل وخطواتها المتريّثة، للسؤال عن سلوك الزّوجة في الفترة الأخيرة قبل عودتها الأخيرة من السوق وهي ندية الملابس، حينما سألتها الحاجة فاطمة عن الولدين أين تركتهما، فأجابت " وهي في طريقها إلى غرفة نومها، تؤكد بكل برود: نعم يا ماما، لقد تركتهم في وسط النّهر، وقد ماتوا".
لم تكن هذه الصّدمة هي النّهاية، بل تصعيدًا بالحبكة التي تناولت أقصى درجات التوتر كمحرك للأحداث الرئيسة في السرد، والتي تناولت فقدان الأسرة لولديها، ثم استخراج جثامين الطفلين من النهر، وهو المشهد الذي جعل الزوجة المثالية ليلى تستوعب الحدث، مما استوجب إحالتها إلى الطب النفسي، ولكن السّر الذي بدأ يتكشّف بعد الحادثة هو أمر قديم مضى عليه أكثر من ربع قرن، وهي حادثة تعرضت لها الزوجة في طفولتها. ليتم بعدها الإعلان عن السرّ الذي اخفاه والد الزّوجة طيلة هذه السنين ولكن الحقيقية كالضّياء لابد تظهر مشعّة.
في حين جاءت " مفازة اجتماعية" بقصة مواساة لزوج مُهادن للحياة وهو معلم متقاعد اضطره الجلوس في البيت إلى الاستماع إلى زوجته "سعاد الشكّاية" ومهاتراتها الدائمة نحو اللاشيء، بينما هو متفرغ إلى تأمل الحياة عبر عملين يجمعان بين العناية بالنباتات والقراءة، لكن ضغط مهاتراتها دفعه للخروج إلى الحياة بما فيها الشارع، والسوق فيركن بنظره إلى الرجل المسنّ بائع الزبيب وهمّته العالية في الحياة، وكرجية بائعة الخضار وإقبالها على الحياة، ويتذمر من نكران زوجته لجمال الحياة، ثم واسته الحياة بمشهد ضمن رجل يقول لولده( التزم مكانك يا ولد لا تذهب إلى البيت ما لم تزل مكائد اللغو عن والدتك) فكانت المواساة تجعله يبتسم كثيرا إيمانا بحتميّة القدر وأنه لا مفر منه أبداً.
حملت هذه القصة بعنوانها دلالات يمكن تأويلها من عدة زوايا بداية من المفازة وهي المكان القاحل أو الصحراء الواسعة والخالية حيث تكون ظروف العيش فيها قاسية وصعبة ، أما وقد تم إضافتها إلى كلمة اجتماعية في هذا السياق فقد اشتملت على معانٍ مجازية تعكس شعور العزلة أو الانفصال عن المجتمع، حيث يشعر الأفراد بأنهم في مكان قاحل من الناحية الاجتماعية، بعيدين عن الدعم والتفاعل الإنساني، فيسيطر الفراغ الروحي أو الأخلاقي في المجتمع، ما يدعو إلى الاغتراب الذي يشبه الحالة الإنسانية التي تحوّل إليها الإنسان في عصرنا الحالي، عبر التحولات الكبيرة التي تعصف بالمجتمعات وتخلق نوعا من الفوضى وعدم الاستقرار، لكنه تدارك ذلك الحال بعد سماعه للجملة التي دعته إلى التراجع والتفكير أكثر بالتكيف مع الواقع عندما لا يستطيع المرء تغييره.
وفي قصة "الضوء" أبعاد فلسفية حين ارتعدت حواس الطفل الذي يفتش عن ضالته عبر محاولته فهم مشهد الضوء وهي قصة تمنح الإدراك صوتًا للوعي في حين لم يستطع الوالد إيصال فكرته لطفله.
هي قصة تعبر عن تجربة طفل في محاولة لاستيعاب محيطه، وكيف يمكن للعالم الطبيعي أن يثير الفضول والإبداع لدى الأطفال.
" ليبتكر عبد الله ... التجأت مخيلته إلى زمام اللحظة التي قطفت بها عيناه ضوء القمر، أمال بعوده على ملاءة السرير لبضعة من الوقت، انسحبت أنظاره إلى التلفاز، يا لله موعد المسلسلة اليومية إذن سيأتي والدي عن قريب، ثم تحضّر لسرد أغرب الأحداث التي رآها لوالده، إيذانا منه عن معرفة الغرائبية التي خطفت انتباه ابنه الصغير"
الشخصيات:
الطفل: عبدالله الذي يرمز إلى البراءة والفضول الطبيعي للأطفال.
الوالد: الذي يمثل مصدر الحكمة والمعرفة، ولكنه يواجه صعوبة في شرح مفاهيم معقّدة لطفله.
الحبكة: القصة تبدأ في المساء، حيث يتأمل الطفل الضياء الصّادر من القمر. يتم إثارة فضول هذا الطفل بالنور، ليسال عن طبيعته. يحاول الوالد أن يجيب، لكن الشرح يفتح أبوابا جديدة للسؤال، عبر ظهور سحابة تغطي نور القمر وتحجبه.
الرمزية: الضوء والظلام يمكن عدّهما رمزا للمعرفة والجهل.
السّحابة: تعني الغموض والعقبات التي تحجب الفهم.
الطبيعة: هي تعزيز الإحساس لدى الطفل لكل ما يدركه حوله ويشعر به.
الأسلوب: استخدم الكاتب أسلوب تميّز بالعمق والبساطة معا، يتناسب مع فهم الطفل.
الخاتمة: تنتهي القصة بمشهد الطفل وهو يواجه التغيير الطبيعي في السماء، وهي سحابة تغطي القمر، مما يثير فيه المزيد من الأسئلة والدّهشة، الدّهشة التي تفتح آفاق الفكر الفلسفي.
الرسالة في القصة هي أهمّية الحوار في مسيرة التّعلم .
أما القصة تعكس أحداثًا درامية ومأساويّة فتدور في قرية تعاني من ظلم وفساد صاحب مصنع بلاستيك، تشير الحكاية إلى قصة انتقام وعدالة ذاتيّة متأصّلة في النفوس المظلومة.
وهي تعبير عن معاناة الطبقة العاملة والفقيرة تي تتعرض لشتى أنواع الظلم على يد القوي الفاسد، والعناصر الدرامية تتضمن الحب، الكراهية، الانتقام، العدالة الشعبية.
القصة تطرح أسئلة أخلاقية عميقة من جملة كيف يمكن للظلم أن يولّد دوامة من العنف والموت؟ وكيف يمكن أن تتحول الضحايا إلى جُناة عبر سعيهم للحصول على العدالة؟
النهاية تكشف العدالة حينما يلقى الظالم جزاؤه على يد ابن ضحيته، لكن في الوقت نفسه تظهر التراجيديا التي لا تنتهي بموت الظالم والمظلوم معًا.
تمّ تقديم القصّة بأسلوب يعتمد على الوصف العاطفي والتّفاصيل الدرامية التي تسلط الضوء على الصراع الإنساني والاجتماعي في القرية، ليظهر لنا الكاتب أن الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بالعدالة والانتقام هي الأكثر جدلا وتعقيدا في الفلسفة الأخلاقية، والقانون.
من ناحية أخرى يُنظر إلى الانتقام على أنّه استجابة طبيعية للظلم، ووسيلة لتحقيق العدالة عندما تفشل الأنظمة القانونية، أو تغيّب.
النص يوحي للقارئ بأن الانتقام دائما دورة مدمّرة تؤدّي إلى المزيد من العنف، وبالتالي لا توفر حلّا مستداما، أو نهائيّا.
فهو يصعّد العنف، كما يمثّل المعاناة الإضافية بتأثيره السّلبي على النّفس، ويزاد الأمر سوءا بفقدان القيم الأخلاقية، وتقويض النظام.
وفي " أنثى مدمّرة " يسلط الضوء على الآثار المدمّرة للحرب عن طريق حوار مليء بالمشاعر بين وشاب وشيخ عايَشَ الألم ومآسي النزاعات، فبدا الشيخ بشخصية عانت الكثير من الخسارات، حيث تحدّث عن كيفية تدمير الحرب لكلّ شيء سواء كان حيّا أم ميتا، كيف أنّها لا تترك شيئًا من دون أن تمسه بالضرر.
وعنما يسأل الشاب الشّيخ عن سبب عدم هروبه من براثن الحرب يرد الشيخ بتهكم يكشف عن مدى العجز واليأس الذي يمكن أن يشعر به الأشخاص الذين تحاصرهم الحروب ككيان مدمر يستهلك كل شيء.
الخاتمة تلمح إلى أن الشّاب أصبح مدركًا لعبء الحرب، وتأثيرها المدمّر، الأمر الذي يدفعه على الصّمت والتّكتّم، ربما كنوع من الاحترام للألم الذي شهده الشيخ، أو كوسيلة لحماية نفسه من الألم النفسي الذي يمكن أن يأتي من اكتشاف حقيقة الحرب القاسية.
في العمق يمكن أن نرى القصّة كرمزية لكيفية تأثير الحرب على البشر، والمجتمعات، وكيف تترك الافراد محطّمين ومشوّهين، سواء بدنياً أو نفسيّاً، حاملين الندوب التي لا تندمل.
فمثل الشيخ رمز الحكمة والتجربة والألم كرمزيّة للماضي الذي لا يمكن الهروب منه، ومثل الشّاب رمز الأمل والبراءة وربما الجهل بتبعات الحرب، أما المكان فهو المقهى بفضائه المفتوح الذي يسمح بالحوار والتفكير والتّأمل وسط الحياة اليومية.
أمّا سؤال الشاب للشيخ عن إمكانية الفرار، فيشير السّؤال للبحث عن مخرج واستكشاف إمكانيّة الاختيار في مواجهة القدر، والإجابة بالسّخرية تعني أن الشيخ قد وصل إلى مرحلة من الاستسلام لم يعُد يرى جدوى من المقاومة أو الهروب.
اللغة معبّرة وتحمل معانٍ معبرة مثل:
" أوزار الحرب" عندما تصبح الحرب مجازًا للعبء الثقيل الذي يحمله الشخص، وهي رمز للدمار الذي يتعدى النطاق الجسدي ليشمل الروحي والنّفسي.
" أكلت الأخضر واليابس": تعبير مجازي عن التدمير الشامل للحرب التي لاتفرّق بين شيء وآخر، إنها علامة على الفتك اللافرقي بين مختلف جوانب الحياة.
"الصّمت والكتمان" الذي يختاره الشّاب في النّهاية، يمكن تفسيره كرمز للقبول بثقل المعرفة والتجربة. هذا الصمت يحمل دلالات معقدة تتعلق بالتّأمل والتّحمل، وأنّ التّأثير النفسي للحرب يتجاوز الزّمان والمكان.
ومع كل هذا الكم من المآسي التي تضمنت الحروب والفقر والعوز والموت وتداعياته على الشخصيات، وأثرها، كانت المتعة الأدبية حاضرة والمتعة كما هو معروف تقدم لنا مقتربا آخر للقضية الكاملة في ماهية الأدب. إن جاز لنا بوصفها مواد القدرة الاتصالية، فهي تقدم لنا فرص استعمال كامل نطاق القدرات التأويلية وساردية القارئ، ويذكرنا الفرويديون الجدد، لا سيما "لاكان" وحلقته أن المجازين الرئيسين عند جاكبسون وهما الاستعارة والكناية قريبان في المعنى من التكثيف والاستبدال عند فرويد، فاللاشعور يتحدث في قصة أنثى مدمّرة.
وفي القصة الأخيرة "تنقيب" كان عابرا أسيجة الموت، كالأرض لا تبح سرك لأي كان فالأرض ما عادت تحفظ خطانا، فكيف بنا نستأمنها علينا؟
جمعت القصّة ثنائيات بين الحياة والموت عن طريق رجل يحكي عن أخرس، في مشاعر جمعت التنقيب، والسؤال للاهتداء، وعمل كبت المشاعر فيها على مفكرة شخصية تحمل السواد، والحرمان، متلفعة بالكلم الأسود الذي يتأبط زمام الجدوى.
في هذه القصص الفريدة" النزوح نحو الممكن"، نجد أن كل قصّة فيها أسهمت في تشكيل لوحة متنوعة، تعكس النزاعات الداخلية والخارجية التي يواجهها الأشخاص في سعيهم نحو تحقيق ذواتهم، في عالم مليء بالتحديات، نجد فيها أننا عبرنا مع الشخصيات مساراتها المتشابكة، متنقلين بين أمواج الأمل وشطآن اليأس، لنكتشف أن النّزوح الذي خضناه لم يكن مجرد تحوّل في الزّمان والمكان، بل كان رحلة إنسانيّة عميقة نحو استكشاف إمكانيات الذّات، لنظل لاهثين بالتنقيب عنا على الرغم من منظومة الموت والحياة لنعلن الانتصار على الزّمن والمستحيل بالممكن.