نيسان/أبريل 25
   

  لا تخلو واحدة من غرف المنزل من ساعة تتدلى على أحد الجدران. فالرغبة في التعرف على الزمن كانت تستبد بصاحب المنزل وقد بدأت منذ أن ألقى عصا ترحاله في هذا المكان قبل خمسين سنة حين تهيأت له فرصة بنائه بعد سنوات من التنقل بين بيوت صغيرة مستأجرة.

 كان قد اعتاد طوال هذه السنوات على أن يراقب دبيب عقارب هذه الساعات ويطمئن إلى أنها تدب على نحو سليم مثلما كان يحرص على أن يملأ الساعات بما يمنع توقف عقاربها عن الدبيب أو   يسارع إلى استبدال البطاريات التي يستبد بها الوهن لكي تواصل ساعاته عملها على ما يرام. هكذا كان حاله مع ساعاته مخافة أن يهرب الزمن منه كما كان يتخيل. فإحساسه بجدوى حياته يرتبط بحركة الزمن، شاعراً بلا جدوى إحساسه بقيمة هذه الحياة بمعزل عن هذه الحركة.

 ظل يواصل علاقته مع الزمن على هذا النحو لسنوات لكنه صار يشعر بتخلخل هذه العلاقة منذ أن استبدت به الشيخوخة، فلم يعد يهمه أن تتوقف هذه الساعة أو تلك باستثناء واحدة على وجه التحديد. لم يشعر بالقلق حين توقفت الساعة في غرفة الضيوف ولم يجد ما يدعوه للبحث عن موقع الخلل وهو الذي يحتفظ بالكثير من أسباب الخبرة التي تجمعت لديه بفعل طول الممارسة. كان في يقينه أن ما أصاب تلك الساعة كان بفعل فاعل ولكن ليس على نحو مباشر، وهذا الفاعل هو من قدامى زملائه في العمل فقد ظلا يعملان معا لسنوات طويلة إلى أن استبدت بهما الشيخوخة. كان زميله هذا يتردد على بيته في زيارات منها ما هو قصير ومنها ما هو طويل خارج عن حدود المعقول. يتبادلان الحديث في أمور مختلفة وانتبه أكثر من مرة إلى أن صاحبه يختلس النظر إلى ما يتوزع في الغرفة من قطع أثاث، وهي قديمة، وما يلبث أن تداهمه حالة وجوم مصطحبة بحالة تأفف بين حين وآخر. لم يذهب به الظن إلى أن صاحبه هذا يذهب به الخيال إلى الحد الذي يتمنى أن يكون البيت الذي يضم غرفة الضيوف هذه من ممتلكاته بأي شكل من الأشكال وكانت هذه هي الحقيقة. في صبيحة اليوم الأول لأحد الأعياد فوجئ بصاحبه يبكّر في زيارته فظن أنه جاء ليقدم له التهنئة بمناسبة العيد. لكنه فوجئ به يلقي عليه ما يشبه الشتيمة: " ألا تبيع بيتك؟ " ظن أن صاحبه يمزح معه لكنه استفاق على الحقيقة حين سمعه يعاود سؤاله نفسه فلاذ بالصمت، حزيناً، ملتماً على نفسه، وظلت ساعة غرفة الضيوف غائبة منذ ذاك.

 إلى جوار غرفة الضيوف تستلقي غرفة المكتبة التي كانت المفضلة لديه وكان يشعر بألفة خاصة مع كتبها التي تتزاحم على رفوفها يوماً بعد يوم. فوجئ ذات يوم أن الساعة التي تتدلى على أحد جدرانها تلوذ بالصمت. ما هذا الذي يحدث يا فلان؟ ألم تجدد بطاريتها قبل يومين؟ " تأمل الكتب التي بدت له راقدة باستسلام. تذكر أن تاريخ أول كتاب فيها يعود إلى ستين سنة . وطوال السنوات الستين ظلت رفوفها تستقبل ضيوفاً جدداً باستمرار فتزداد ألفته برفقتها. عليه أن يبحث عن السر فبدأ على الفور. سأل الذين معه في البيت فكان الرد: "ما أدرانا وغرفة المكتبة مفتوحة أمام زائريك؟ " ولم يصعب عليه أن يتبين أن بين زائريه من يرى في المكتبة ملكاً مشاعاً يستوفي حقه منه دون سائل أو رقيب. بحث عن هذا الكتاب وذاك فلم يجد لهما أثراً، ويوماً بعد آخر بدأت عقارب هذه الساعة تتثاقل وتبطؤ إلى أن توقفت تماماً. فلم يجد ما يحفزه على معالجة الخلل.

 في المطبخ ساعة صغيرة كان يراقبها باستمرار فلم يجدها تعرضت للتباطؤ في يوم من الأيام. فالذي له علاقة بالطبيخ لا علاقة له بالزمن أو هكذا يظن. وليس بعيداً عن المطبخ ترقد غرفة صغيرة يلوذ بها في كل وقت وقد يظل برفقتها حتى الفجر بصحبة زميله العزيز: الفيسبوك. يرى أن عقربي ساعة هذه الغرفة تدّبان بانتظام.

 الساعة الوحيدة التي لا تفلت من رقابته الدائمة هي تلك التي تتدلى على جدار مجاور لسريره في غرفة نومه التي يرقد فيها لوحده بعد غياب زوجته، الساعة التي يسميها "ساعة الوقت الهارب"، يقع بصره على دبيب عقربي هذه الساعة مرتين في اليوم وهو ملزم بأن يفعل ذلك: مرةً قبل أن بغلق عينيه المتعبتين مستسلماً للنوم فيخطف نظرة عجلى من صورته مع زوجته الراحلة بعيداً دون وعد بالرجوع، وهي تتدلى فوق رأسه، ومرة ً حين يفتحهما ليستقبل اشراقة ضوء الفجر. هذه الساعة هي الوحيد التي يحرص على سلامة دبيب عقربيها، دون أن تغادره خشيته من أن تخيّب أمله حين تصمت إلى الأبد.