قراءة في مجموعة" خيط من ضوء" لناطق خلوصي

في المشهد:
في المشهد هذا العدد.. ناقد يقرأ آخر مجموعة قصصية لأحد رواد القصة العراقية (ناطق خلوصي) ومن هذه الريادة الحافلة بالعطاء.. نقرأ أحدث قصة كتبها وتنشر لأول مرة. محرر ادب وفن.
من المسلمات عند نقاد المنجز الأدبي، أن المجموعة القصصية أية مجموعة ليس عالماً واحداُ بل عوالم مختلفة ولكل عالم منها متلازمات الثقافية والفكرية والنفسية وقيمه الجمالية الخاصة وهذه العوالم هي وجهات نظر القاص نفسه إزاء أمور وقضايا وروئ يؤمن بها.
تعد القصة القصيرة، بخلاف الرواية، مساحة نصية محددة الأبعاد وهي كما يصفها الناقد الكبير محمد مندور " امتلاك اللحظة الخاطفة" أن القصة القصيرة، مرت بعدة مراحل إبان تطورها نتيجة لجهود كبيرة لكتاب مبدعين في مختلف أنحاء العالم امثال تشيخوف، الذي يٌعد بحق سيد القصة القصيرة، مما أهلها أن تحتل مكانة مهمة كجنس أدبي متميز بين المنجزات الأدبية الأخرى.
أن للقاص في الحياة دور كبير لأنه صاحب روئ متميزة تجانب الثقافة الهابطة، كما انه قارئ حصيف لمفردات الحياة و ليس بعارض للأحداث فحسب ومتفاعل مع الناس والتعبير عن قضاياهم الاجتماعية على اختلاف أنواعها و تفهّم مشكلاتهم، كالفشل العاطفي وكمعاناة المرأة كذات انثوية مضطهدة والتعبير عنها بصدق، وان تكون ثقافته جزءا حيوياً من الحياة، عن طريق منجزه الثقافي والأدبي ذي السياق الجمالي والإنساني، المنجز الذي يعد عطاء يتدفق حيوية بموضوعاته و شخصياته الحية، شخصيات قريبة من الناس ،اي انه ذا ثقافة تنبض بالحياة وليست ثقافة ميتة. لذا نجد ان مسؤوليته ليست بالمسؤولية العادية وينبغي ان يكون صوته عميقاً مؤثرا وملتزماً بقضايا الإنسان، والاستجابة لهمومه في منجزه، الأدبي والفكري.
تعد هذه المجموعة الرائعة باقة ورد زاهية الألوان وذات شذى عبق للحياة. ان القاص والروائي المعطاء ناطق خلوصي موهبة كبيرة وغنية ومتميزة توفرت له منذ زمن طويل وعبر تجارب عديدة، فضلاً عن ما يتمتع به من ذائقة جمالية أهلته ليحتل مكانة متميزة في المنجز الأدبي والثقافي في العراق، و قراءة اية مجموعة قصصية رحلة في تضاريس حياة المجتمع، تأريخه و شخصياته و احداثه و تقاليده و افكاره على اختلاف مشاربها الثقافية و متلازماتها. من هنا تعد المجموعة القصصية ليست عالماً واحدا وانما عوالم عدة ولكل عالم ميزاته وتفرده، وقد يكون عالم الملائكة وعالم الشياطين على حد سواء، لأنه عالم الوجود الإنساني.
هنا لا بد من التصدي بشكل سريع لتناول القاص الأساليب الفنية الموظفة في إداء كل واحدة من قصصه.
القاص غني عن التعريف في هذا المجال حيث سبق وان عُرف بتميزه ودرايته في منجزات إبداعية كبيرة أخرى، في الرواية والقصة والمقال.
خلوصي خبرة ثرية وموهبة كبيرة في كتابة المنجز الأدبي. لقد استخدم كثيرا وفي أكثر من قصة أسلوب الاسترجاع لإغناء القارئ بمعرفة اوسع بالشخصية والكشف عن ما يعتمر في دواخلها، كما أنه يلجأ الى اسلوب تعدد الأصوات المتسيدة في القصة الواحدة مما يجعل القصة أكثر حيوية كما نجده يلجأ إلى استخدام الضمائر المختلفة، المتكلم للكشف عن مكنونات الشخصية ما يجعل القارئ أكثر إحاطة بها ثم هناك استخدام ضمير الغائب لتسليط الضوء على الشخصية ويجعل القارئ متعايشاً معها وأكثر فهماً لمعاناتها ومشكلاتها. ان استخدام تبادل هذه الضمائر هو تعبير عن الخبرة المتراكمة للقاص. كما نجده يلجأ إلى اسلوب النهاية المفتوحة واستخدام اللغة بمفرداتها التي تفيض بتدفق حيوية وشاعرية، تلامس شغاف الوجدان ورومانسية اخاذة برقة كبيرة.
ليس من السهولة إصدار منجز أدبي إبداعي في زمن هيمنة ثقافة (الفيس بوك واليوتوب ووسائل الاتصالات السمعية والبصرية الاخرى، ذلك ان هيمنة التكنولوجيا) وانشغال القارئ بها، يعد تحدياً كبيراً يستحق التقدير العالي.
لقد أصبح ظاهرياً ان القراء الجدد غير معنيين بقراءة الكتاب (الورقي) و اقتنائه لأسباب مختلفة منها: صعوبة الحصول على الكتاب جهة و سهولة الحصول على المعلومة او الوصول لها، عن طريق وسائل الاتصالات التي تمتاز بالسرعة وتنوع المعلومات .اننا لنجد الآن، أن في إصدار المطبوع الورقي نوع من التحدي والتأكيد على أهمية دور المطبوع في مواصلة إغناء الثقافة و المنجزات الأدبية.
ليس ثمة قاسم مشترك في هذه القصص، فلكل قصة عالمها الخاص مما يجعلها متفردة.
ان اللغة بمفرداتها النابضة بالحياة وشاعرية كبيرة تلامس مشاعر القارئ ووجدانه وعواطفه وتسبر أعماقه كما انها رومانسية متميزة. وهي حاضنة رئيسة لرؤى القاص وافكاره التي يؤمن بها، كانسان صانع أمل كبير.
لا بد ان نذكر هنا تفرد اللغة بالمفردات وحيويتها بما لها من طاقة كبيرة في الوصف من حيث دقة تعابير مترعة بجمالية وبسحر يلامس الوجدان وبإحساس تبعثه سطور النص كوحدة عضوية، وهذا ما يجعل القارئ مأخوذاً بطراوة الجمل وجزالتها ورومانسيتها الفواحة بعطر متميز.
المرأة التي تشكل بقضاياها في هذه القصص، سمة اجدها ذات اهمية كبيرة. ففي قصة "رحمة" نجد اهتمام القاص بقضايا المرأة التقليدية وتاريخها الأنثوي، تلك القضايا التي اصبحت موروثاً بعبء ثقيل على المرأة كانسان، أماً وزوجة وابنة، انسان يطمح ويكره.
ان المجتمع لا ينظر إلى البنت كنظرته إلى الولد، الذكر، أي ليس الذكر كالأنثى، حيث انه لا يزال ينظر إليها نظرة دونية ينزلها منزلة اقل من الذكر. و نجد ان القاص قد انتصر لها في مواقف عدة رافضة لتجاهل المجتمع لها و لدورها في الحياة الذي جعل وظيفتها وظيفة احادية الجانب ،امتاع الرجل جنسياً وخدمته متناسياً دورها ألآخر في المجتمع ، فيذكر في قصة"رحمة:" ان المرأة ارض بكر و زوجها فلاحها الذي ينبت بذوره فيها ثم ينتظر ليقطف ثمار ما انبت و نجد ردة فعل الرجل ، الزوج ، حينما يُبلغ بولادة زوجته بنتاً و تعبيرا عن موقفه الرافض للبنت يصفه القاص "غامت عيناه و شعر كأن الارض تميد به" وهذا موقف موغل بالقدم فقد ورد في القرآن الكريم موقف بعض الرجال من البنت "إذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً و هو كظيم "سورة النحل. و يعيد هذا الموقف للأذهان قضية وأد البنات سابقاً، كما أننا نجد الموقف ذاته من الأنثى في الكثير من آداب العالم ، فعلى سبيل المثال ، موقف الكاتب المسرحي النرويجي (هنريك أبسن) في دفاعه عن المرأة في المجتمع الذي يعدها جزءا من اثاث المنزل و أنها ( جنس ثانوي كما في مسرحية (بيت الدمية( ، بيد اننا في قصة (رحمة ) نجد الزوج و قد تغير تماماً و سلم بالنهاية و قبل البنت وعامل يلطف زوجته التي كانت متوجسة "انحنى و قبلها من جبينها) و كما ان هناك اشارة القاص إلى موضوعة الجنس كنشاط إنساني مؤثر و حاجة طبيعية بشرية و ليس رذيلة ،و إن كان قصير الوقت بخلاف الحب العذري .في قصة (نوبة شبق ( يناقش القاص الحرمان العاطفي و الجسدي و تأثيره الكبير على المرأة ، ذلك الحرمان الذي يعد احد النوازع التي تهيمن على سلوكها ..غير اننا نراه ينئى عن اقتراف الفاحشة .و تستعيد وعيها (القت رأسها على صدره و أجهشت في البكاء (في قصة (سيناريو مشهد عابر) وهناك شخصية أخرى تحاول الاستجابة لنداء الجسد محترقة بحمى الشبق وهي تنضو عنها ثوبها ( و كذلك في القصة نفسها ثمة إشارة واضحة لاستخدام موضوعة الجنس المشرعن و الرغبة في ممارسته ولوفي الظلام و العراء حين اراد تسلق النخلة و كيف شعر بمتعة تلك الممارسة " ضحك في سره ما زالت على شفتيه حلاوة الرطب الذي تذوقه قبل قليل). ونجد ان في ممارسة الجنس وسط أهوال الحرب تعبير عن مواصلة الحياة التي لا ينبغي ان تتوقف وهذه رمزية تشير إليها النجمة التي تخترق الظلام. في إشارة إلى المستقبل في (اول خيط من ضوء الفجر." وفي قصة) زفة العروس) نجد العريس المتقد م بالعمر يهرب مع حرسه الخاص بعد مشادة مع حرس الفندق تاركاً عروسه ليلة الدخلة مذعورة مما توجب إعادتها إلى أهلها. ولهذه الإعادة بعدين: اجتماعي تمثل بموقف أهلها الذين يخشون الفضيحة )سيقول الجيران ان العريس و قد وجد عيبا فيها و اعادها مثلما تعاد بضاعة فاسدة وبعدُ نفسي الذي تمثل بما حصل للعروس في تلك الليلة حيث وجدوها (منكمشة مذعورة قرب السرير و هي بقميصها الداخلي يرين على وجهها شحوب الموت وقد تكومت بدلة الزفاف على الأرض.
ان القاص.. ليس واعظاً اجتماعيا بل هو فنان يتحسس أوجاع الأنثى ويحاول الانتصار لها عن طريق جملة مواقف في قصصه كرمزية الطيور البيضاء. ولا بدلنا من وقفة عند هذه الرمزية في القصة. التي مثل الموروث الإنساني ، أي عند الكثير من شعوب الارض و تطلع الإنسان نحو عالم السلام والأمان والحياة الهادئة بعد ان عاش اهوال الحروب العديدة ومعاناته و خساراته الكبيرة و تضحياته الجسيمة و الخراب الشامل لمنجزاته الإبداعية في مجالات الحياة كلها حيث راح يأمل ان يرفل في فردوس لا تعكر صفوه الحروب .تبدأ القصة بصوت انفجارات و دوي الطائرات المقاتلة و هدير المقاومات الأرضية وعويل صافرات سيارات الإسعاف و بأسلوب الاسترجاع، نجد البطلة تستعيد ذكرياتها لأيام السلم و التي تُفسر على انها وسيلة للخلاص من الحرب .كما يعد وجود الطيور البيضاء وسط هذا الجو تأكيداً لكل ذلك وعندما تهيأت سماع تنقير الطيور على زجاج النافذة رأت سربا من طيور بيضاء يحوم في سماء المنزل.
أن هذا التداخل ما بين اصوات الانفجارات وصوت تنقير الطيور البيضاء دلالة بالغة كبيرة على تطلع الإنسان نحو السلام و الأمان والعيش باطمئنان وسط اهوال الحرب و ويلاتها :رؤية الطيور البيضاء و هي تحط على اطار النافذة وهي تنقر على زجاجها مع اقتحام سرب آخر كما يعد تداخل صورة ابنها مع صورة تلك الطيور و كذلك تسلق الحفيد للسلم رمزية كبيرة ايضاً، انها تشير إلى طموح الإنسان وتطلعه نحو مستقبل الحفيد، الذي يمثّل بالنسبة لها ، كل ما بقي لها من ذكريات ولدها (لا تأخذوا الصغير، فلا تأخذوا الصغير، دعوه لي (علينا تأمل رمزية موقف البطلة عندما أفاقت من ذهولها على صوت كركرة حفيدها(.
التفتت فرأت الصغير يركض صوب السلم وحين بدأ بتسلقه ركضت إليه وصارت تتسلق السلم هي الأخرى ولكن وراءه. ان الحلم بالسلام رغبة قوية دائماً عند البشر كلهم وقد عبر عن ذلك المبدعون الملتزمون بقضايا الأنسان في جميع انحاء العالم. وهناك اشارات عديدة للحرب وتأثيراتها الخطيرة على مجمل الحياة وشخصيات قصص المجموعة ذاتها والتي هي بالحقيقة روئ القاص للحرب كانسان واع ومدرك لدوره ملتزم بقضايا شعبه.
في قصة" الغابة "نحن إزاء عالمين مختلفين تماماً، عالم المنجّم وعالم الزائر اللذين يشكلان طرفيُ المعادلة الفنية في القصة. يتصف عالم المنجّم بترف باذخ يصرح به المكان، التراث وتنوعه. ثم الجدران المزينة بالمرايا والفسيفساء والمزخرفة برسوم مبالغ بهما والسقف بما يتدلى منه من تحف وعناقيد الضوء وكذلك الأرض والمفروشات عليها، بساط كرنفالي الألوان وهناك الأثاث الباذخ (أما عالم الزائر، فهو عالم مغاير، عالم خال من الرعب والأشباح، عالم المشاهد التي الفها، اكواخ الطين وبيوت الصفيح وزرائب الماشية). يخبر الزائر المنجم أنه جاء طالباً ايجاد الجزء المفقود من جسده فقد عُرف عنه أنه ذو قدرة على تبصر في المجهول وانه مكشوف عنه الحجاب ومروّج عنه انه يستحضر الأرواح والتحدث مع الموتى ويذكر الزائر انه الآن بحاجة الى واسترداد الجزء المفقود من جسده لأنه يريد ان يدفن جسده كاملا حين الموت. انه وجد نفسه تحت الأنقاض فاقدا للوعي وان جزءاً من جسده مفقودا ولا يدري كيف وجدوه هناك وفي النهاية نجد ان القاص، كشخص واع بدوره في الحياة، أسقط عالم المنجّم، عالم الشعوذة والدجل وخداع الناس وخاصة الفقراء البسطاء منهم، وقام بكشف زيفه حين عجز في تحقيق ما يطلب منه الزائر، استرداد الجزء المفقود من جسده، فتبدا اركان عالمه تتهاوى وتتساقط عليه وعلى من معه من مساعدين له كما نجد القاص ينتصر لعالم الزائر فيجعله يغادر المكان سالما منتصراُ، على عجل مدركا انه خلف وراءه غابة مكتظة بالوحوش).
ان الشخصيات الرئيسة في المجموعة، نوعان :أبطال إيجابيون وأبطال سلبيون حسب مواقف تلك الشخصيات من الحياة نفسها، وتعني الإيجابية النظرة الى مفردات الحياة بتفاؤل ورؤية الجانب المشرق منها كما تعني بشكلها البسيط الإيمان الراسخ و المطلق بالإنسان والدفاع عن قضاياه المصيرية العادلة ، اجتماعيا وفكرياً و اقتصاديا .كما ان الشخص الإيجابي ينبغي ان يكون عاشقاً للحياة و ذا إرادة قوية لا تنال منه خطوبها والانكسارات مهما يكون نوعها كما في قصة) كسرة خزف( و قصة (الغابة (فشخصية الزوج في قصة) رحمة (نجده وقد سلم بولادة البنت بعد ان كان من الرافضين للأنثى وفي قصة (نوبة شبق) حين يتغلب البطل على الزوجة التي تريده ان يقع في براثن الفاحشة على سبيل المثال.أما البطل السلبي، بخلاف البطل الإيجابي ، فقد خبت عنده نزعة حب الخير ولإيمان بالإنسان وقضاياه وقدراته الفكرية وقد يكون مسكونا بالقلقً وبالعجز الوهمي والتردد والإيمان بالخرافة والشعوذة والدجل (شخصية المنجّم(في قصة) الغابة .(
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت عن اتحاد الادباء والكتاب في العراق/ 2024