آذار/مارس 26
   
 
 
      
 نبذة عن حياة فرانتس كافكا:
ولد كافكا في 3 تموز 1883 قرب ساحة المدينة القديمة في براغ، التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية، ولد لعائلة ألمانية من الطبقة الوسطى والتي تنحدر من أصول  أشكنازية. والده هرمان كافكا هو الابن الرابع لياكوب كافكا، الذي كان يعمل في أوسك، وهي قرية تشيكية سكنها عدد كبير من اليهود تقع بالقرب من ستراكونيسه في جنوب بوهيما. نشأ والده في الريف في ظروف فقر مدقع؛ وبنشاط دائب ارتقى حتى بات تاجراً ثرياً ومالكاً لمحل بيع بالجملة في براغ بعد أن انتقل بأسرة كافكا إلى تلك المدينة، كانت بنيته الجسدية والنفسية وطريقة حياته العملية مبعثاً للإعجاب من قبل ابنه مرهف الحس. كما كان في الوقت نفسه منبعاً لنفور كبير وشعور بالغربة مؤلم. والدة كافكا (يولي) نشأت في براغ في أسرة عريقة ووجيهة للغاية وذات مستوى ثقافي رفيع، وهي ابنة جاكوب لوي وهو تاجر ناجح في بودبرادي، وتلقت يولي لوفي تعليماً أفضل بكثير من زوجها، وكانت التناقضات بين والد كافكا ووالدته فوق كل تصور.
 في دراسة نُشرتُ في العدد الثاني من مجلة الآداب الألمانية (Litraturen) بعنوان (فرانتس كافكا أيقونة الحداثة السردية القصصية)(1)، لقد أصبح هذا الكاتب مادةً للبحثِ والدراسة، وتم تداوله بشكلٍ مكثف من قِبل الباحثين والدارسين والنقاد، هذا المؤلف (الذي تتلألأ كل جملة من الجمل المستخدمة في كتاباتهِ مثلما يتلألأ باطن اليراع)(2) بدا مناسباً للمحررين والكُتاب والمهتمين في الشأن الثقافي الخوضُ في أعمالهِ. وفي هذا المقالٍ الجديد الذي نُشرَ في مجلة (الآداب الثقافية) المرموقة واسعة الانتشار، الذي يتناول الخوض في عملين مهمين لكافكا، وتحليل سيرتين لأبطال تلك الأعمال، وقد تم تناول تلك الأعمال من وجهات نظر مختلفة.  ولا تزال رواية (تحول البائع المتجول إلى حشرة)، التي كتبها كافكا في تشرين الثاني 1912، والتي تعد لحظة تحول عظيمة في تاريخ الأدب المعاصر، حيثُ إنها وبعد مرور ما يقرب من 100 عام على نشرها، بقي الأدباء الكبار والنُقاد والباحثين وكذلك الذين يرومون الخوض في تلك الأعمال المهمة ولا يزالون يقدمون دروساً وتحليلات معمقة لتلك الأعمال، ويعملون بلا كلل في دراسة حياة وأعمال كافكا.
كافكا.. هو أسلوبه البسيط.. له سماته الفردية التي تميزُ أعماله.. الاتساق الفضفاض والأسلوب المندفع الحداثوي الصارم للسرد، هذا السرد القصصي الذي لا يمكن لأي قارئ أن يتجاهله. وفي رواية (التحول) نجدُ بأن القارئ ينجذب على الفور إلى وجهة نظر بطل الرواية والشخصية المحورية فيها (كريكور سامسا)، تلك الشخصية التي تبقى منذ بداية الرواية مروراً بكل أحداثها هي التي ترسم لنا نظرته إلى العالم الخارجي، وتجعل القارئ يرى ذلك العالم من خلال عيونهِ هو. ومن أجل الكشف عن ذلك العالم العاطفي لبطل الرواية، يستخدم كافكا بذكاء الأدوات الأسلوبية الأدبية، التي جاءت مع قدوم الحداثة ونشأتها. لقد كان كافكا مثله مثل الكاتب شنيتزلر، يسمح لبطله بأن يُظهر الصراعات والمُعاناة الداخلية وكيف يحاكي ذلك البطل نفسه؛ وهكذا يكشف عن عالم الأفكار والمشاعر الإنسانية مع المشاعر التي يحملها (الحيوان)، ويربط بذكاء عالم كريكور الداخلي بالعالم الخارجي عن طريق تصوير الأفعال والسلوكيات اليومية، التي تبدو متناقضة وعند التدقيق في الخطاب الذي يتبناه كريكور. ومن خلال هذا السرد الماهر ينجح كافكا في زج القارئ في شكوك حول مصداقية ووعي تصرفات كريكور، على سبيل المثال وعندما يتأمل كريكور واقعهُ المهني يظهرُ للقارئ على الفور وفي تحليل الخطاب الذي يتبناه كريكور واقع تلك الشخصية، وكيف يدينُ بطل الرواية نفسه وأدانتهِ لسلوكياتهِ اليومية(3). وقد قال في نفسه: (هذا الاستيقاظ المبكر يجعلك تشعر بالغباء. يجب على الناس أن يناموا. ويعيش الآخرون مثل الحريم)(4).   
على الرغم من أن القارئ لا يمكنه على ما يبدو رؤية عالم الرواية ومكنوناتها إلا عبر عيون كريكور (بطل الرواية)، إلا أنه قد يضع القارئ وبشكل دائم في موضع ينمو لديه الشك حول مصداقية ما يطرحه بطل الرواية هذهِ. لذلك نرى في الرواية بأكملها، أن كريكور مجبر على تحديد الواقع الذي يجب أن يفعله أو الذي كان يفضله؛ وهذا كان ظاهراً في أفكار كريكور أو أفعاله. وكما أن المنظور السردي للحوار الداخلي لا يتوافق مع منظور الحوارات التي سادت الرواية، إلا أننا نجد أفكار وممارسات بطل الرواية غير متكافئة أيضاً؛ فعندما تحاول الحشرات الضخمة إيقاف بطل الرواية بشكلٍ متعمد. وفي جانبٍ آخر نجدُها تحمل كراهية بطل الرواية لوظيفتِه. كان كريكور يحاول إقناع نفسه بجملة العوائق التي كانت تواجهه. وهكذا فإن شكل الحوار السردي لهذهِ الرواية يبدو وكأنما هو معدٌ سلفاً ويتناقض مع شكل الحوار الداخلي للبطل، وهنا سوف يجبر القارئ على قبول حقيقة ذاتية مفادها، بأن شخصية كريكور الحقيقية لا تعد موجودة شكلاً، كما أنه لا يمكن إنكارها من جانبٍ آخر.
ومما يجعل الأمور اكثرُ تعقيداً هو أن كافكا يتخلى في هذهِ الرواية بشكل شبه كامل وعلى مسافة وتقنيته السرد المتمثلة بحداثة السرد، ويستخدمها فقط من حين لآخر – من دون أن يتمكن أحد من ملاحظتها، وقد حاول بهذا الأسلوب (أن يترك القارئ في حالة من الشكوك حول ما يتم تصويره لأحداث الرواية). ويلخص الناقد الألماني فريدريش بيسنر ذلك بقولهِ:
(قد لا يترك كافكا أي مساحة سردية بجوار الشخصيات أو حولها، بمعنى أنه قد يملأ الفراغ الذي يتسلل منه القارئ عن طريق تلك الشخصيات المستخدمة في الرواية، كما أنه لا يترك مسافة محددة بين الحبكة والسرد. وأنه لا يوجد انعكاس من المحيط الخارجي على شخصيات الرواية أو أفعالهم وأفكارهم. وإذا فهمنا الأمر بشكل صحيح، فإن كافكا لا يحول نفسه في روايتهِ تلك حسب.. إذا اعتبرنا بأن بطل الرواية يعكس مفهوم وشخصية كافكا، بل القارئ أيضاً لا يمكنه الولوج الى تحول الشخصية الرئيسية)(5).
بمثل هذا الطرح، لا ينصف الناقد الألماني بيسنر الراوي كافكا. ومن الملاحظ أيضاً إن المثال السردي والأسلوب الذي انتهجه المؤلف كان ماثلاً وموجوداً في جميع أعمالهِ، ومثالنا في هذهِ الرواية هو، انه عندما يقوم كريكور بمحاولته الأولى للهروب، تكتشفه والدته، وتميل رأسها لرؤيته بشكل فاضح وظاهرٌ للعيان، ولكن بعد ذلك (يبدو أن كريكور يناقض ذلك)(6). ويتراجع عما هو عليهِ دون الوصول إلى أي هدف. هذهِ التداخلات المتناقضة في الاساليب التأليفية المستهدفة تجعل القارئ يحاول أن يصحح وجهة نظره، وأن يحاول فهم السلوك الفردي لتلك الشخصيات، وهذا ما يهدف إليهِ كافكا في رواية (التحول) من أنْ يثير لدى القارئ شكوكه الأولية حول صحة التصورات والصراعات النفسية الداخلية لبطل الرواية كريكور؛ حينها سيضطر القارئ إلى الشك في صحة وجهة نظر كريكور. وأنه سيكونُ من الأفضل أن تُعكسُ تلك السلوكيات لدى كريكور بشكلٍ دراماتيكي. حينها يمكنُ أيضاً النظر إلى التغييرات في منظور أفراد الأسرة، وينظرُ أيضاً بعدها إلى سلوكيات كريكور بشكل نقدي، على سبيل المثال، عندما يتم إظهار رعاية كريكور لأخته.
لقد رغِب كافكا منذُ البدء بأن يجعل من الاندفاع الحاد للأبن في رواياتهِ الاثنتين (التحول) و(الحكم) نحو عائلتهِما في كلتا الروايتين، وأن تنشر سلوكيات الأبن في الروايتين بعنوان واحد يحمل اسم (الأبن) وتنشر في عملٍ واحد. وفي رسالة كافكا المؤرخة في 11 نيسان 1913 إلى الناشر الألماني كيرت وولف، كتب فيها: (أن هناك علاقة واضحة وظاهرة للعيان قبالة علاقة غامضة في هذين الروايتين(7). إن أوجه التشابه بين هذين النصين من حيث الزخارف اللفظية والبنية السردية للنص دفعتني إلى ان أعدها نصوصي الأساسية). قد يبدو للباحث أن نصوص كافكا تبحثُ عن الأمل في أغلبِ رواياتهِ، وتصف كذلك شعرية كافكا، وهي مزيج تلقائي من (عالم الحياة اليومية والوحشية). إلى جانب ذلك، وضعتْ أيضاً الوعاء، الذي ربما كان مخصصاً لكريكور في رواية (التحول)، والذي سوف يصبُ بهِ الماء مرة واحدةً وإلى الأبد. وفي رواية (التحول) نجد بأن أخت كريكور ومن باب الرقة والشفقةِ عليهِ، وحين عرفت أن كريكور لن يأكل أمامها، ابتعدت بسرعة وأدارت المفتاح حتى يتمكن كريكور من ملاحظة ذلك، ويمكنه أن يشعر بالراحة حينها كما يريد. ويصبح التفاوت بين تصرفات أخته - التي تنمي لديهِ القلق واللامبالاة بالأشياء الضرورية التي تحيطُ بهِ، وبين ما يتمناه كريكور. أنَ أفكار كريكور، والذي كان يحاول أن يشرح لها حذره وتخوفه بأسلوبٍ سلس وعاطفي واضحٍ للغاية. في مثل هذه النقاط، يواجه القارئ تحدياً خاصاً؛ حيث يتعين عليه مقارنة التركيبة الفردية لشخوص الرواية بالأسلوب الذي يفضله بناءً على الموقف السردي الظرفي، من أجل فك رموز ما يحدث. ومع ذلك، تظل مثل هذه التغييرات في المنظور الظاهر هي الاستثناء، ويتطلب أسلوب السرد الذاتي أحادي التفكير مستوى عالٍ من الفهم القرائي، حيث تنشأ روابط من الانقطاعات في السرد الروائي، وهي انقطاعات لا يمكن تجاهلها في خضم التغييرات الحاصلة في سير الرواية.
ويلعب السرد الظرفي دوراً مركزياً في العديد من أعمال كافكا، لأنه، مثل غيره، ينجح في إدخال حبل مزدوج(8) في سرده يصعب الكشف عنه. ولكي يتمكن من سرد القصة بشكل ظرفي، فإنه يسبق المشهد بجملة مختصرة تشرح الموقف مقدماً وتؤدي إلى خاتمة من حيث المضمون. ويمكنُ توضيح هذه التقنية في هذا الحوار السردي:
(وبمجرد دخولك إلى غرفته، أُغلق الباب سريعاً، وأغلقه بإحكام)(9).  
هذهِ الجملة الموجزة التي تنبئ عن الوضع وتصف المشهد بشكلِ دقيق وبائن، حيثُ تم إغلاق الباب الذي ينمُ عن غلق الحوار، وإنهاء تداولية السرد.
وعبارة (الأخت التي كانت في عجلة من أمرها)(10) يمكن ان نعدها جملة موجزة أخرى، ذات صلة منظورية بـ (كريتا)، لتقديم أسلوب السرد الظرفي بشكلٍ مباشرة:
(لقد وقفت هناك بالفعل منتصبة وانتظرت، ثم قفزت إلى الأمام بخفة، ولم يسمعها كريكور وهي قادمة، وصرخت (أخيراً!) في وجه والديها بينما كانت تدير المفتاح في القفل).
وفي الخلاصة، يصف كافكا بعد ذلك المراحل الفردية التي يتم عن طريقها تحقيق النتيجة.
وبالنسبة لهذه الفقرة فإن النتيجة معروفة مسبقاً في عبارة (الباب مغلق)؛ تلك المشاهد السردية الجلية والمقتضبة المتمثلة بعبارة (الباب مغلق)، وكذلك في تكرار جملة من الأفعال يكرر النتيجة التي كان يرجوها كافكا في هذهِ التقنية، ويصف كافكا الدراما في هذهِ الرواية بأسلوب سردي مقتضب. وفي الوقت نفسه، يمكن استخدام هذا المثال لدراسة كيفية ارتباط الطبيعة المزدوجة للحبكة بين (كريكور والأخت) بالأحداث. وهما أشخاص منظورين سردياً، حتى لو لم تتح الفرصة للقارئ بالقيام بذلك لمراقبة الرواية(11).  
لقد تم تضمين العناصر المشهدية في بنية صارمة مكونة من ثلاثة أجزاء متساوية الطول تقريباً، بحيث يرى الناقد الألماني فينجر هوت أن بنية الرواية لدى كافكا مشابهة لبنية (دراما المحطة)(12). أنَ الجزء الأول من رواية التحول ينضوي على العرض، ويتم توسيع دور بطل الرواية والصراع المركزي فيها حيثُ يبدأ (التحول إلى حشرة وحشية) وتقديمهما للقارئ بهذا الشكل. لم يعد كريكور، الذي كان معيل عائلة سامسا حتى ذلك الصباح، قادراً على القيام بدوره الاجتماعي، مما أدى إلى اختلال التوازن في بنية الأسرة القائمة. وعلى الرغم من شكله الحيواني الذي لا ينكره، أو يشكك فيه أحد من أفراد الأسرة باستثناء والدته، إلا أنه يحمل مشاعر إنسانية ويستعرض الوضع المعيشي للأسرة بعين عقله. وهو على ثقة من أنه بفضل دعم عائلته، سيتم إعادة دمجه في النظام الاجتماعي والإنساني والتواصلي من جديد.
زمن السرد لا يتوافق مع زمن الرواية؛ لذا، نجد في الجزء الأول من الرواية، بأنه يتم وصف صباح واحد فقط، صباح التحول. حيث يتلقى القارئ فيهِ جميع المعلومات الأخرى حول عصور ما قبل التاريخ من وجهة نظر كريكور فقط. مع المحاولة الأولى للهروب، والتي تهدف إلى تغيير رأي الممثل الوحيد للأسرة، وهنا يفشل في التماسك في الحبكة، حيثُ يُنظر إلى كريكور بالشخص الوفي. وفي الجزء الثاني، يطور كافكا الصراع إلى مداه الكامل خلال فترة روائية مدتها شهرين تقريباً. إن القطيعة(13) بين العائلة والحشرات تصبح أكبر بشكل متزايد ولا يمكن التغلب عليها. ونرى في المشاهد المتتابعة كيف تُسرق أثاث البائع المتجول السابق، ويُطعم من وعاء ويُعزل في غرفته. باختصار: لقد حولته عائلته إلى حيوان؛ لأنه في هذا يتم إلغاء وإنكار الوجود البشري كله لكريكور.
استسلم كريكور تدريجياً لغرائزه الحيوانية، ومن أجل تشتيت انتباهه، اعتاد على الزحف على الجدران والسقوف. وعلى النقيض من ذلك، فإن أفكاره تنعكس بسذاجة وعاطفية على الأوقات التي كان لا يزال فيها معيلاً للأسرة، (لقد شعر بفخر كبير لأنه كان لديه مثل هذه الشقة الجميلة ويقدمها طوعاً لوالديه وأخته(14).
لقد كان المشهد الأخير يدللُ على الدوافع الإنسانية عبر محاولتهِ اليائسة لإنقاذ صورة سيدة الفراء المتمثل بالخروج من الغرفة. وينتهي الأمر بالفشل الذريع، ويبلغ ذروته بمحاولة كريكور المزعومة للهروب. وفي العبارة التالية دليلٌ واضح على فشل ذلك الهروب:
(أجابت وهي تجري وبصوتٍ باهت، لقد هرب كريكور)(15).  
أن الأب، الذي استعاد قوته، هو الرجل نفسه الذي كان يرقد متعباً في السرير عندما كان كريكور قد ذهب سابقاً في رحلة عمل. يستخدم كريكور محاولة الهروب، وعجز الأم، كشكلٍ من أشكال الضغط الأسري. وحين يرمي الأبُ التفاحة ينتهي به الأمر إلى موت أبنه، لأنه يريد التخلص من أبنه (الحشرة)؛ (مع أنه لم يكن يعرف هو نفسه ما كان ينوي فعله)(16)، إلا أنه يلجأ إلى العنف ضد أبنه.
الأم وحدها هي القادرة على ثني الأب عن العواقب النهائية للجريمة. إن تأجيل القدر المحتوم عند هذه النقطة هو بمثابة لحظة إعاقة، تستخدم في بنية الدراما وبأسلوب سردي مغلق، وكافكا يعرف مرة أخرى كيف يظهر أنه أتقن الأدوات الأسلوبية الأدبية ويجمعها بشكل هزلي في سرده النثري. هنا ينظرُ إلى كريكور بشكل طبيعي على أنه حيوان ويتم إعادته إلى غرفته؛ لم يعد يدعي كونه إنسانا.  في الجزء الثالث من الرواية، تنتهي الاحداث المتوقعة بوفاة كريكور، الذي ربما كان رأيه بضرورة الاختفاء من العائلة أكثر حسماً من رأي أخته.  في هذه المرحلة من رواية (التحول)، وهو ذلك التحول من حالة الإنسان إلى الحيوان، هو تقليل شأنه بحيث يتحول من إنسان إلى لا شيء. هكذا تحكم أخته، التي كانت معيلة لكريكور وإنه أحد أفراد الأسرة الأقرب إليها، قائلة: (علينا أن نحاول التخلص منه)(17)، أن تحول بطل الرواية إلى حيوان يترتب عليهِ الاعباء المالية الاضافية الناشئة عن تجهيز الغرفة التي يعيش فيها. وهذا يتناقض مع رغبة كريكور في الانعزال، حيث يظهرُ ذلك مع بداية الجزء الثالث، حين قام باختطاف أخته، مثل التنين واقتيادها إلى غرفته والعيش معها هناك، وقد تبرزُ للقارئ ويبرز كيف تحول كريكور إلى وحش وسفاح لذوي القربى وذلك بتصوره للمشهد.
وبينما يرى كريكور نفسه بوضوح كإنسان، نجد أخته تعرفه بوضوح أيضاً على أنه وحش، كما جاء على لسان فينكرهوت.
يؤمن كريكور بحب عائلته حتى حين أنتهى بهِ الأمر كخنفساء، بينما يحاول باقي أفراد الأسرة التخلص منه. وتنتهي الرواية بتغيير المشهد، وكانت عملية تغيير ذلك المنظور القائم على تحول كريكور إلى حشرة يجب أن تنتهي، بينما كان كريكور يحاول دس رأسهِ بقوة حيثُ خرجت أنفاسه الأخيرة من أنفهِ بضعفٍ وبطٍ شديد(18).  
هنا يضطر الراوي إلى تغيير وجهة نظره لأن وجهة نظر كريكور التي كان ينقل لنا أفكارهِ تكون قد اختفت. يقدم لنا كافكا خاتمة تشبه الرواية هنا من حيث الأسلوب التقني السردي. حين قرر أفراد عائلة سامسا الناجون الذهاب في رحلة إلى الريف والتخلي عن العمل لمدة يوم، كان ذلك القرار ناتجٌ الاحتفال بموت الحشرات.
هنا نجد الراوي يتبنى وجهة نظر تأليفية. وبينما يموت كريور في نهاية الرواية جافاً متيبساً، تزدهر الأخت لتصبح (فتاة جميلة وشهوانية)(19). تناقض بين الموت والحياة، والذي يمكن تفسيره أو حله بشكل مثير للسخرية إذا أدرك المرء التناقض الذي خلقه كافكا هنا.
إن رواية (التحول) لكافكا قد أثارت سيلًا من المراجعات، والتي في النهاية لا يمكنها إلا أن تحاول إعطاء القارئ خيارات لتفسير تلك الرواية. ويتراوح النطاق هنا بين التفسيرات الدينية والنفسية والسيرة الذاتية، على سبيل المثال لا الحصر. لكن ما يجمعهم جميعاً هو استقلالية الاستعارة والتغريب في البنية السردية للرواية، أي أن تحول البائع المتجول إلى حشرة ينتزع الوجود الإنساني.
أن كل أفراد الأسرة ومدبرة المنزل كذلك وكل شخصيات الرواية يرون في كريكور على أنه (خنفساء) في الإطار العام والتخيلي للرواية، وكذلك في الأسلوب السردي المتغير والمتطور الذي أنتهجه الراوي.
أن براعة كافكا تكمن في ترك القارئ غير متأكد مما إذا كان كريكور قد تحول بالفعل إلى حشرة أم أن رهابه الاجتماعي ومخاوفه قد زادت إلى حد أنه يشعر وكأنه خنفساء. ومع ذلك، يجب افتراض الأول، لأن الأسرة ومدبرة المنزل والممثل والنجارين لا ينظرون إلى كريكور إلا على أنه حشرة؛ وينكرون عليه وجوده الإنساني. فكيف يمكن للقارئ الهروب من هذا الواقع؟ عن طريق التعامل مع شخصيات الرواية وتفسير سلوكياتهم تجاه كريكور.
فهل يشير أو يرمزُ عنوان الرواية (التحول) او المسخ إلى تحول كريكور أم إلى تغيير سلوك الأخت تجاه أخيه؟ يتطور.
هذا التصور بداً من أحد أفراد الأسرة، ذلك الفرد المهم الذي كان، قبل ذلك الصباح، هو الشخص الوحيد الذي كانت لديه علاقات شخصية صادقة وقوية مع كريكور، يتحول بعد ذلك الصباح إلى خصمه الأكثر إصراراً، أو كما يقول بوليتزر:
أن عنوان الرواية هو قريبٌ جداً بالنسبة للأخت وهو أكثر من قربهِ إلى شخصية كريكور نفسه. حيثُ يشكل تحول كريت البنية الأساسية للحبكة الملحمية، في حين أن تحول كريكور في التحول الديناميكي كان مفترضاً سلفاً في أسلوب السرد الروائي، في حين نجد تحول كريت يظهر أكثر فأكثر في أحداث الرواية؛ ثم يظهر الاستنتاج المنطقي بأن تحولها قد وصل إلى مدياتهِ البعيدة.
فهل قام كافكا بتسمية بطل الرواية (سامسا) لأن هناك نصاً مشفراً لكافكا خلفه وبالتالي فهو يعكس موقف حياته في هذهِ الرواية. يمكنه بسهولة رسم أوجه تشابه بطل الرواية كريكور مع كافكا المؤلف. إذا كان كريكور يعتني بأسرته ويؤمن وجودها المالي ويكون مسؤولاً عن ديون والده.
كافكا مسؤول أيضاً عن والده. كان انغماس كافكا في العمل ومساعدته للأسرة، وكذلك نفورهِ من الروتين المجهد جراء ذلك العمل ظاهراً بشكلٍ لا يقبل اللبس في سلوكيات بطل الرواية كريكور.  كتب كافكا في مذكراته بتاريخ 3 نيسان 1912:
(لقد انتهى مثل هذا اليوم، العملُ في الصباح، والمصنع بعد الظهر، وفي المساء الاهتمام بشؤون المنزل، ولم أتمكن من عمل شيء ما لنفسي منذ مدة طويلة. -ولم أتمكن من فعل أي شيء به لمدة طويلة)(20).
مرض والده، وعانى من تصلب الشرايين، وما يرتبط بذلك من احتمال الاضطرار إلى أخذ مكان والده في العمل. أنه من الواضح أن فكرة الوقوع في فخ عالم الأعمال المكروه بالنسبةِ لكافكا، تنعكس سردياً في شخصية كريكور سامسا، الذي كان يشغل مثل هذا المنصب قبل التحول. إنه كان يعتني بالعائلة وبالتالي يتولى تصريف كل شؤونهم.
إن التطور الكلاسيكي النمطي في شخصية كريكور تعكس إلى حد ما شخصية كافكا، ولو أخذنا مشهد علاقة كريكور سامسا مع أمينة الصندوق في متجر بيع القبعات، وربطه بعلاقة كافكا بالسيدة (فيليس باور) والتي تعمل في متجر للقبعات في وقت كتابة الرواية أيضاً، حيثُ كان كافكا ينتظرُ منها الرسائل بفارغ الصبر، عندئذٍ كانت قد ربطته علاقة حبٍ كبيرة.
إن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة للقارئ هو السؤال عن سبب حدوث التحول. في البداية يبدو واضحاً أن رواية (التحول) هذهِ خيالية، مثل رواية (الأمير الضفدع) أو رواية (الحسناء والوحش)، لكن في نهاية القصة يصبح من الواضح أن كافكا ليس لديه خطط لحل تلك اللعنة التي حولت الأنسان إلى حشرة أو العودة إلى الحياة الطبيعية لديه. كذلك فانهُ لا يمكن اعتبار علاقتهِ بعائلته ولا حب أخته كريت له أن يعكس ذلك، التحول وكذلك بالنسبة لكريكور فإن موت الحشرات أمر لا مفر منه. إن المفهوم الذي بُنيت عليهِ الرواية هو مناهضٌ للخرافة. ويرى بعض النقاد أن سبب التحول يكمن في هذهِ الرواية في إفلاس الأب، وشعور كريكور بالذنب تجاه رئيسه ورغبته في الهروب من الحياة اليومية والتحرر منها، كلها عوامل تدلُ على فكرة التحول. 
يُظهر السرد الروائي لدى كافكا بوضوح أن كريكور يرى أن حقيقة وقوعه في فخ جسد خنفساء أقل تهديدًا من حقيقة أن قطاره المبكر كان قد فات. حتى حين تحول إلى خنفساء كان يحاول أن يلبي رغبات عائلتهِ، ولا يزال يحاول تحقيق رغبات الأسرة يقول كافكا:
(بالمناسبة، ما زلت أغادر في قطار الساعة الثامنة، على الرغم من أن تعبئة حقيبتك بأرجلك الصغيرة المرتجفة أصبح أمراً صعباً). هنا يتضح أن كريكور يتخلى عن كل أفكار الحرية لصالح الأسرة، ويقع في دوامة من التمرد والعقاب، التمرد على الحياة التي يكرهها والعقاب من قبل والده، الذي يجب عليه تلبية مطالبه، والذي يتعين على كريكور المثول أمامه والوقوف أمام عينيه. وعلى الرغم من أن كريكور هو معيل لسامسا، ما كان يفعل لنفسه شيئاً ملحوظاً أو أمراً صغيراً من أجل تحقيق ما يصبو بهُ، بل كان يسعى للحفاظ على هيكل تتمحور حوله الأبوية والعلاقة الاسرية.
(ظهرت إرادة كريكور العدوانية، التي هاجت جسده المتحول بشكل رهيب)(21)، حيثُ كتب سوكل في عام 1956 عن هذا التحول مستنتجاً، (أن التحول يمثل الطرف الوسيط بين الرغبة في التمرد والاندفاع الفوري لمعاقبة ذلك التمرد ورفضه).
لقد أصبح من الصعب بشكل متزايد الولوج إلى مكنونات كافكا وإلى المديات التي كان يرغب الوصولُ اليها ومعرفة القراءات ومناهج التفسير والمراجعات والمداخلات في ذلك. لن تتمكن أضواء البحث أبدًا من إلقاء الضوء على النص بطريقة شمولية، حيث سيتم دائماً الفصل بين الأجزاء والرموز ومحاولة فك شفرتها. ومع ذلك، فإن مجموع الأجزاء لا يساوي الكل، لذلك يبدو الأمر كما لو كان شيئاً غامضاً لا يمكن الولوج إلى مدياتهِ العميقة؛ (إنها من طبيعة فن كافكا الغامض بشكل لا يسبر غوره أنه لا توجد دراسة واحدة قادرة على فهم أعماله المعقدة بشكل كامل)(22). 
نفهم عنوان الافتتاحية (أيقونة الحداثة) في مجلة الآداب (LITERATUREN)، لابد أن يظل واعيا لحقيقة أن نسبة ما كتب عن كافكا يفوق بكثير ما كتبه كافكا. فهل يمكن أن تفي أعمل كافكا بكلِ ما كُتِبَ عنها، أم أن مؤلفاً ناطقاً بالألمانية من الأقليات اليهودية في براغ يتم تحويله إلى شخص يمثل الحداثة في الأسلوب الروائي السردي؟
إن المساحات الفارغة التي يجب على القارئ أن يملأها تمر عبر هذهِ الأعمال للمؤلف (رائد الكتابة الكابوسية. والذي يُعدّ أحد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة تُصنّف أعماله بكونها واقعيّة عجائبية) وتمتاز برموز وإشارات متكررة.
تظل رواياتهِ مثل (القلعة) أو (الوقاد) مجزأة؛ أما رواية (المسخ) وحدها هي واحدة من القصص القليلة التي عدها كافكا قابلة للنشر.
أن رواية مثل رواية (التحول) وأن كانت لم تُكتب حسب متطلبات النص الروائي الكلاسيكي، وحتى وأن لم توفر تلك المتطلبات، إلا أنها تظهر للقارىء بأسلوبٍ يثير الاندهاش تحول موظف من الطبقة المتوسطة الدنيا، (مصاب بالفصام الذهني)(23) إلى حشرة. إن التحول يجمع كل عناصر الرواية معاً، وكل ما يحدث من أحداث داخل الرواية يتماشى مع ذلك التحول، ويبين لنا كافكا ذلك التحول كيف ينشأُ وكيف يمكنُ أن ينشأ ذلك الصراع وإمكاناته التدميرية في الأحداث السابقة في التاريخ. ويتم الكشف عن نقطة التحول عندما يتم التخلص من غرفة كريكور، حيث تقرر والدته وأخته في الوقت نفسه التخلص منها من تلك الغرفة. والوسيلة التي يستخدمها كافكا هي الأدوات الأدبية الحديثة؛ المونولوج الداخلي والتغريب والاستعارات والمشاهد الخلابة التي تبدو مباشرة مثل فيلم صامت. وبقدر ما يستخدم كافكا هذه الأجهزة بحرية وسلاسة، كان من الصعب على الباحثين والنقاد العثور على شكل من أشكال السرد القصصي الروائي في التحول لفترة طويلة، لأن كافكا يوسع شكل الرواية عن طريق اختزالها إلى نقطة بدايتها. وهذا ما كتبه في مذكراته بتاريخ 19 كانون الأول 1914: (إن بداية كل رواية تبدو للوهلة الأولى وكأنها بداية ساذجة، ويبدو كذلك بأن عوامل النجاح فيها ميؤوسٌ منهُ، وأنها (الرواية) التي يتوجب أن تستشعر محيطها وتتفاعل مع ما يدور من أحداث، حتى التي لم تكتمل بعد، ينبغي أن تكون قادرة على الحفاظ على نسقها في الشكل النهائي مستوعبةً ما يدور حولها في العالم. ومع ذلك، قد ينسى المرء أو يتجاهل أن الرواية يجب أن تحتوي على هيكلها السردي النهائي، حتى حين لمْ تُكتملْ بعد).
 
  • أ.م. بهاء محمود علوان أستاذ الأدب الحديث/ كلية اللغات/ جامعة بغداد/ مترجم خبير
 
الهوامش
  1. Literaturen II, 2003, S.10.
  2. Ebda II, 39.
  3. Franz Kafka, Die Verwandlung, Frankfurt am Main, 1986, S.10. (im Folgenden wird der Titel als Kafka, Verwandlung zitiert)
  4. Kafka, Verwandlung, S.10.
  5. Beißner, Friedrich: Der Erzähler Kafka und andere Vorträge, Frankfurt am Main, 1983, S.42.(im Folgenden wird der Titel, als Beißner, Erzähler zitiert)
  6.   Kafka, Verwandlung, S. 23. - Meisel, Gerhard. Türen. Zu Texten von Franz Kafka. In: Manfred Voigts (Hrsg.)
  7. Franz Kafka Vor dem Gesetz“. Aufsätze und Materialien. Königshause & Neumann: Würzburg 1994. S. 46.
  8. Binder, Hartmut, Motiv und Gestaltung bei Kafka, Bonn, 1966,S.266.(im Folgenden wird der Titel mit Binder, Motiv zitiert)
  9. Kafka, Verwandlung, S.55
  10. Ebda , 5510-
  11. Binder, Motiv, S.268,f
  12. Fingerhut, Karl-Heinz, Die Verwandlung, Stuttgart, 1994, S.47(im Folgenden wird der Titel mit Fingerhut, Verwandlung zitiert)
  13. Fingerhut, Verwandlung, S.49
  14. Kafka, Verwandlung, S.26
  15. Ebda ، 40
  16. Ebda, S. 41
  17. Kafka, Verwandlung, S.53
  18. Ebda, S. 55
  19. Ebdam S. 59
  20. Franz Kafka, Tagebücher, Hrsg.: Koch / Müller / Pasley,, S. 318. (Im Folgenden mit Kafka, Tagebücher zitiert)
  21. Sokel, Walter, Kafkas >Verwandlung<: Auflehnung und Bestrafung, 1956,S.277. (im Folgenden wird der Titel mit Sokel, Auflehnung zitert)
  22. Sokel, Auflehnung, S. 270
  23. Michel, Gabriele: „Die Verwandlung“ von Franz Kafka – psychopathologisch gelesen, S.69.