الايزيديون.. أسطرة مقلوبة

عالمنا الحضاري للشعوب اليوم، تهيأ بوجدان إنساني محلي وعالمي ليكون منصفا ـ الى حد ما ـ مع قضية سبي وإبادة منتسبي قومية و(طائفة) الإيزيديين في العراق وأطراف سوريا، من قبل داعش التي سيطرت على الموصل العراقية بالكامل عام 2014. ومن نتائج الوعي بهذه القضية دخولها ثيمة وقيمة وفكرا مؤججا للأدب كالرواية. تجيء بموازاة هذا الوعي رواية "سبايا سنجار" للكاتب السوري سليم بركات الصادرة 2016*. أي صارت كأنها فعل محاذ ومحتج على ذلك الجرم اللانساني. وقد يتساءل القارئ؛ كيف ولماذا حدث سبي وبيع وقتل أبناء وبنات أقدم قومية (طائفة) استوطنت العراق؟ وجواب ذلك هو "مؤامرة دولية ـ محلية" لجعل البلدان فارغة من الأصول وغير منتمية لهوية مستقلة. ما يهمنا ـ هنا ـ ان العمل الروائي "سبايا سنجار" لسليم بركات هو واحد من الأعمال المهمة التي نقل الكاتب عبرها قضية سبايا الايزيديين الى أوربا؛ السويد تحديداً. وملخص ثوابت الرواية هو؛ ان الكاتب خلق (14) شخصية رئيسة، تتحرك ضمن أماكن عديدة؛ أهمها جبل سنجار في العراق ووادي لالش في العراق ـ كردستان، وبحيرة أودن في السويد، وخانه صور قرية الصبيات السبايا بسنجار. يلحق بهم ستة شخوص ثانويون. يعتمد الأساس الفكري للرواية على ثقافة وتاريخ الايزيديين في (مصحف رش، وعدي بن مسافر، وطاووس مَلَك). لنتابع.
أولاً: عموم
بعموم عملنا في مرحلة البدء؛ سنفترض ان المتابعة لهذه الرواية تتضمن خطوطاً عامة واسعة تنسحب على عموم الاتساق والتناسق بين رؤى الكاتب ورؤيتنا؛ من زوايا فوقية لا تدخل في المحور العميق لفن وأغراض رواية سبايا سنجار. بمغنى لن نخوض الآن في نصيات الرواية، انما سنتماشى مع شكلها وطبيعتها الأُفقية؛ واضحة المعالم، التي لا تتحمل كشوفات احتمالية او تأويلية بعيدة. سنكتفي بتشخيص بعض مظاهر الرواية على وفق الآتي:
أ ـ بعض التفاصيل
1ـ محاور الأحداث: هي ثلاثة محاور؛ المحور الأول منها يعتمد محاولةَ رسامٍ كردي مهاجر من سوريا الى السويد لرسم لوحة عالمية تجسد مأساة السبايا الشهيدات. والمحور الثاني يعتمد على أحياء أرواح خمس فتيات من ضحايا سنجار ليقمن مع الرسام بتنفيذ اللوحة. أما المحور الثالث فيعتمد على إعادة إنتاج مجرمي داعش الذين قُتلوا في معارك الإرهاب للدولة الإسلامية، قتلوا بأيدي جماعتهم بتهم شتى.
2ـ محاور التقنيات: وفيه يحاول الكاتب استثمار طاقة الفكر الايزيدي، وتقنيات الألوان، ومشاركة عناصر البيئة، فضلا عن انه يؤسطر الحدث الايزيدي بجعل الأرواح مجسدات، ثم يؤسطر (البطل الراوي) لحد ان يمشي على الماء. اما تقنية سبك الجملة فهي تتماسك بأداء (سردي ـ فلسفي ـ شعري) دون تعقيد في القواعد او البلاغة او الصرف.

ب ـ تنويع قوى السرد
في هذا الوجه من الفعل الروائي يستثمر الكاتب قوة الحدث في سنجار وقوة أثر المكان في السويد، وقوة الإعلام المتعاطف مع القضية ، خاصة وان حضارة وفكر ما بعد الحداثة تنصف الأقليات العرقية والدينية واللغوية الصغيرة كونها تمثل مستقبل الإرث الإنساني، فهي الأقرب للفطرة الحرة التي ستوسم حضارة المستقبل، مثلما يتوقع جمهور الفلسفة الجديدة في العالم الآن، فمنطق استحضار أرواح الشهيدات ومقابلتها بأرواح المنبوذين من الدواعش، بتركيبة عجائبية ولغة متحررة من المنطق ، ودمج ذلك كله بسلسلة من الأحداث الصغيرة غير المعقولة مادياً ، المحفزة المقنعة فنياً . مثل هذا ينوع السرد فيجعل الماضي حاضراً مثلاً، ويتحول جبل سنجار الحزين في نينوى الى بحيرة أودن المبهجة في السويد. وتستعيض الأجساد بالأرواح، ويتم انتقال السرد بين الأسطوري الخرافي والفكر البدائي، وفكر ما بعد حداثي.. كل هذا يجعل لقوى السرد حيوية متنوعة بين (اللون في الرسم، والروي بالجملة القصصية، والشعر الفلسفي للكلام والحوار). هذا التوجه في الرواية تتضمنه صفحات الرواية كلها. أي على مدى443 صفحة.
ثانياً: سنجار الحزين
ان فكرة الحزن ـ بفلسفة الكاتب ـ هي فكرة الفقدان الذي لا يعوض، مثلما يتم فقدان القلب وأعضاء الجسد.. هذا الحزن ان تغلب على الموجودات ستكون بهشاشة الهواء ولكون الحزن متقارباً بين سنجار ومواطنيه، وبين مواطنيه وأكراد سوريا صار حزن سنجار قيمة الفقدان المشترك بين سوريا ـ قلب الراوي الرسام، وسنجار ـ رمز الأسى الايزيدي. لقد جعل الروائي سليم بركات المحنتين محنة واحدة، وصار على بطل الرواية ان يرسم قلبه وحزنه وحزن جبله سنجار بلوحة واحدة.. ها هو يقلب الفكرة على النحو الانشائي الروائي في المقطعين الآتيين:
1ـ (لقد آمنتُ، كل يوم من أيام العضِّ بالصور المحنةَ على كياني، ان أعضائي بلا حصر... كقلوبي التي ظننتها بلا حصر... انتهت أعضائي أيضاً كقلوبي تَجَرَدَ منها عنقودُها اللا موصوف. لا أعضاء لي؛ بل لي أعضاء هواء) ـ الرواية ص15
2 ـ (منذ نكبة الايزيديين في جبل سنجار، جمعت خيالي على تسديد ضرورة عنيفة الى رسم ذلك الجبل)
يمكننا ان نلاحظ الآتي:
ـ ان المقطعين لم يصرحا بهول الأسي بين سوريا وسنجار.
ـ ان المقطعين دخلا القولَ الروائي من الباب الفلسفي الشعري.
ـ كلا المقطعين يرشحان بالحزن الكارثي.
ـ وان نهاية فكرة المقطع الأول تستجلب حلاً في المقطع الثاني.
ـ كلاهما لم يحسمها طبيعة قوى الصراع، التي لن يحلَها رسمُ جبل حزين، إنما حلها يستقى من قوة جبل عنيف ؛ حتى لو كان رسماً.
ثالثاً: مركزية الندرة
مركزية الندرة هذه تأتى من ندرة التحول من مركز الأرض بسنجار الى مركز بحيرة أودن في السويد.. يقررهما حوار بين السبية الشهيدة هاشيكا والرسام المهاجر سَارات من سوريا، لنتبصر بخلاصة الحوار الذي يبقيه بمسارات مفتوحة على التأويل: (سكبت ـ هاشيكا ـ امامي وجود بحيرة أودن... تحت الطبقة الغمام من اسم وادي لالش هناك في منبع العمران الأقدم لسلالات التاريخ..
"حلت لوحة أحد الرسامين على جلدي. نسخت نفسها من رسم على قماش الى رسم على جلد. كل شيء يتناسخ وتحلُّ الأرواح، والأمكنة والغيوم؛ بعضها في بعض " قلت تعقيباً مزاحاً على زعمها الفكه؛ أن بحيرة اودن مسخت فغدتْ، في كيانها الجديد، وادياً هو وادي لالش المستقر مركزاً للأرض، يسند السماء بالقباب المخروطية لمراقد الأولياء الايزيديين من وحي الولوج بالأشكال المسنونة في الجسوم. قباب نصال هي بلوغاً الى الخرق. كل شيء قدسي هو خرق. كل معجزة خرق).
ومن يتتبع الأفكار الأساسية المنتخبة من الفكر الموجهة للرواية سيتوصل ـ بحسب توقعنا ـ الى:
1ـ ان شيفرة المركزية تدور حول موضوعين فقط؛ هما: التناسخ والخرق. 2 ـ ان النوادر تتعدد بكثرة متزايدة كلما توغلنا بُعيد نسيج الرواية أفقياً وعمودياً. وبهذا المقطع يمكن التيقن بوجود النوادر تلك:
ـ ندرة تغير او منع حدوث فعلي التناسخ والخرق، كونهما سيحدثان لاحقاً بصفة مستحيلة هي استعادة تجسيد الأرواح للشهيدات ومغتصبيهن او قاتليهن. ويحدثان مرة اخرى في تحول الرسام الراوي الى أسطورة في الصفحتين الأخيرتين من الرواية. سنوضح ذلك بدقة لاحقاً.
ـ ندرة استحداث لالش جديد، ومن المستحيل ان يصير لالش المنبع الأزلي الوحيد لعمران أقدم سلالات التاريخ على الأرض.
ـ ندرة شبه مستحيلة؛ ان تنسخ اللوحة نفسها بالانقلاب من الخشب الى الجلد. ـ الخرق والمعجزة يحدثان ولكنهما نادران جداً، عدا الأحداث الكارثية للطبيعة وللصدف الحضارية التي ترفع قوماً وتغمر آخرين.
رابعاً: شعرية المثالية الايزيدية
نرى ان هذه الشعرية تحقق إزاحتها عبر عقائد مثالية لصيغ غياب الواقع وتوسع الرمز على حساب الحدث. لنتابع على النحو الآتي:
1ـ شعرية مثالية دينية: وقد أتمت شعريتها بفكرة مثالية لنموذج عقائدي يقول: (لقد قاد طاووس مِلِك، بعد انبثاق الوجود من الدرة البيضاء المتفجرة، آدم وحواء الى مسكنهما في الجنة، بكلمات كردية ترحيبا)
2ـ شعرية انتماء: وقد خصصت للأصل المتخيل الرمزي في مثاليات التفكير الايزيدي بحسب فهم بطل الراوي سارات الرسام السوري المهاجر للسويد: (ملة شاهيكا هي نسل ولدي ادم من رحم جرنه الفخار، لا من رحم حواء)
3ـ شعرية بدئيات الوجود الايزيدي: هي مثالية أسبغها عليها العمل الروائي، اذ تخيل الكاتبُ العقلَ البدئي للاحتجاج على المضطهدين للايزيديين، على النحو الآتي: (ربما يحب الازيديون الجلوس تحت الرذاذ مبتلين، ذلك سيبدد قليلاً من ذاكرة المحنة في أيام من تاريخهم ؛ جفاف الغبار الحارق، وسحل الأحصنة للأجساد تحت شمس صحارى العراق)
4ـ نبوءة الزمن: وقد تقيدت بالمزج الوجداني الشعري بين المعتقد والوجود المادي المتخيل لسرمدية لالش. استقامت تلك عند الكاتب على هيئة نبوءة هي: ( لشاهيكا الايزيدية مهديها، الذي سيسير بملتها، بعد نصبه ميزان النور العادل ، الى أرض لالش الأخرى غير الارضية).

سليم بركات
خامسا: تجسيد الأسى
يمتزج جسد وروح الكاتب بمتخيله عن جسد وروح الايزيدي ؛ فيضع نفسه تجسيدا خليط الماهية بين الفني والفكري . يناوب بخلق هذا بين الهيئات الآتية بحسب ما نرى:
1ـ جسده تفاح للأسى: في هذا النمط أولية لثيمة تقول؛ جميع المجودات تفهم وتتكلم. وكون أصل الوجود هو الايزيدين ـ بحسب رواية سبايا سنجار، فأن الراوي الرسام قد اختار لنفسه جسد وروح وتفكير التفاح الذي هو عند الايزيدي رمزا للخير والعطاء، الذي يعتدى عليه كل يوم بالقطف والقطع وتشويه قيمة وجوده. لنقرأ :
(لا أعرف كيف أضع جسدي، الذي يفكر كشجرة تفاح)
2 ـ جسده فصول ايزيدية: يصنع الراوي؛ متخيلا صورته النفسية والروحية جسداً بيئياً يحس ويفكر ببداهة الخلق الأولى التي تتساوى فيها الخلائق من جنبة الفهم وحدود الانتماء وتخمين ما حصل وما سيحصل، بأن يركن كل حدث إلى فاعل قدير، ولا حاجة لجهد التفكير لوضع الإشكاليات ثم حلًها. يمكننا الركون الى المقطع القصير الآتي، للتيقن من جدوى هذا التجسيد الفني والقيمي. لنقرأ:
(لقد باتت الفصول على قرب كبير من فكرة الايزيديين عن أقطابهم.. علماء... النشوء الأول.. يسمونهم "أئمة الفصول")
3ـ جسده حياء ايزيدي ساخر: في الفترة الأخيرة التي تزامنت مع سبي الأيزيديين من قبل داعش تقوت العلاقات بين اوربا وايران وانتشرت افكار الحجاب، وضرورة الابتعاد عن كل ما يخدش الحياء الى حد التضحية بمباهج الحياة كلها؛ لذا رسم الروائي سليم بركات هذا التراجع الحضاري بأن جعل نفسه جسداً ايزيدياً شاكياً ظلم هذه النظرة، كونها فتحت بابا للسبي الايزيدي باتفاق بين الشرق المتزمت والغرب المنفلت. لنقرأ:
("حقوق الحياء" محفوظة في كل خطوة من سيرة الشرق: الحياء من الحرية. الحياء من اللذة. الحياء من نظر أنثى الى ذكر، وذكر الى أنثى. الحياء من الثياب. الحياء من الكلمات. الحياء من الرسم والموسيقى. الحياء من الذات. الحياء من الحياة) ـ الرواية ص310، ص311
4ـ تغريب الجسد نكاية بالانتهاك: من غرائب ما صنع الروائي جسداً من كائن لكلب له رأس ووجه سمكة، وتبرير وجود هذا المخلوق ـبرأيناـ لأجل ان يقول بأن التطرف يشوه خلق الطبيعة لتكون غير صالحة للانسجام، ومبرر هذا فنيا هو التماهي مع التجسيد الفطري للمثالية الأُسطورية عند الايزيديين. لنقرأ:
("كلب سمكة" تمتمت ـ يادا ذات الكدمات حول عينيها ـ بنبر فيه سخرية)
سادسا: أسطرة مقلوبة
ان الأسطرة اشتغال روائي استثنائي في تقنيات بُنى "المروية". يبنى على أساس أعمام الحدث وتضخيمه وإعطائه صبغة جماعية. بمثل هذا الحال سنتعرف على مفهوم الاسطرة بكونه "أسطرة واقع". وسليم بركات قلب الفهم والمفهوم، اذ قام بثلاث خطوات مستحيلة ماديا، ومقبولة تقنياً وثيمياً، فهو/
ـ قد استحضر أرواح المغدورات السبيات الايزيديات في سنجار ووضعهن قرب بحيرة أودن في السويد.
ـ قام بتجسيد الشهيدات وأعطاهن طبيعة أجساد إنسانية لها قدرات خارقة.
ـ أ سطر الراوي نفسه بحيث صارت له خوارق بضمنها انشطاره الى عدد كثير من الرسامين، مع انه لم يفلح برسم أي لوحة للسبايا. للمقاطع المنتخبة من الصفحة 440 للرواية ما يوضح هذا المنعرج الفني الذي أسميناه اسطرة مقلوبة. لنقرأ:
(وضعت قدمي اليمنى في الماء مثل الفتيات الأربع. لم تغص قدمي فيه. ظننت أني وطئت حجرا ربما. نقلت قدمي اليسرى أماما فاستقرت على الماء لا تغوص فيه... مَدّ من الخيام. سيل من الخيام.
"ما هذا يا شاهيكا" تساءلت بصوت مستنزف ذهولاً.
"لاجئون" ردت شاهيكا ...
كان أمام كل خيمة شخص جالس على كرسي، وأمامه لوحة مثبتة على قاعدة، معلق فوقها مصباح لم أعرف من أين يتدلى. كل شخص.. كان منكبّاً على رسم الخيمة وقاطنيها)
هذه الرواية جربت تقنيات دقيقية؛ عمادها اللغة الصادمة واللقطة المُحَفِّزة للمتابعة والتشويق، واللغة هذه محتفظة بقيمتها البلاغية بشرطيها الروائي واللغوي، فضلاً عن ان للتفكير الثقافي أخذ حصة واسعة من نسيجها. وفي الرواية تراكيب لشخوص جدليين على مستوى؛ الظالمين والمظلومات. وبذات الإتمام يحذر الكاتب عن أسوأ ما سيواجه الحضارة في المستقبل القريب. اي يحذر من التجهيل العمدي للشرق، وتوجه الشرق (العمدي) لتدجين الغرب وختان مجتمعاتهم لتفريغهم من سعادة ورقي الإنسان عبر الفن والرفاهية المادية. ويضع أسلوبين لتخطي مشاكل العالم؛ هما:
ـ تغليب الفن على نمطية الحياة وبيئتها المادية النفعية.
ـ والعودة الى الفطرة الطيبة لبدئيات ما جبل عليه الإنسان، في تفسير الظواهر والقيم والمعتقدات؛ وبنظره؛ ان المجتمع الايزيدي يصلح أنموذجا لمستقبل المجتمعات الإنسانية كلها.
سليم بركات
-
سليم بركات، رواية سبايا سنجار، اصدار دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2016.