
خلال التراب الأحمر تسكعت الثيران، حشدا وحشيا من التلال، وهي لا تزال قلقة وخائفة. جون غري في المؤخرة مع آرا، والصبي معه مثل ظله، وونجانا على الميمنة مع زوجته روز، وفرانك، الهجين، على الميسرة مع ميني.
انفصل عجل من القطيع أمام روز فاستدارت ذاهبة خلفه. تبعتها صرخة واهنة منتحبة كما لو حصانها داس وحطم مخلوقا صغيرا. غير أن العجل كان يمضي مبتعدا. ذهب آرا خلفه منحنيا على طول رقبة حصانه، دار حول الحيوان وساقه راجعا به الى الحشد وهو عابس يثرثر. تمايل الحشد. لقد تشتت ثلاث مرات ذلك اليوم.
نادى جون غري: "أنتِ أيتها المغفلة اللعينة، روزي، عودي!".
شدت المرأة عابسةً لجام حصانها النحيل خشن الشعر. قال جون غري: "قولي للسيدة، بعد ثلاثين ميلا، غدا، لا، مع بداية الشهر".
أبطأت روز حصانها مبتعدة عن حشد الرجال والماشية، فيما تحرك معها ذلك النحيب الرقيق والثقيل كالشَعْر المغزول.
صاح جون "ميني!"، وأشار لها برأسه بعنف تجاه روز. نخس كعبا ميني العاريان بطن الحصان، وبدورة من المعصم مرقت به خارج الحشد، واستدارت، منحنية الى الأمام، رافعة نفسها، والتحقت بروز. غير أنها حين أصبحت معها أبعدت نظرها عن التوهج والإضطراب في عيني روز. انطلقت المرأتان، شكلين نحيفين قاتمين، على حصانيهما النحيلين القويين، المولدين في المحطة، في غلالة غروب الشمس نحو التلال، اللون الأزرق الباهت الوسخ لبنطاليهما اللذين يلفان ساقيهما كانا ممزقان، وشعرهما القصير والحسن بعض الشيء تشعثه الريح. عندما أصبحتا على مبعدة وصار الرجال والماشية غيمة متحركة من التراب الأسود انفجرت روز بغضب ضار: "اللعنة عليكم!"
حلق تعليقها الأخير كصيحة صقر ساخر ومتحدٍّ. تداعت قعقعة ضحكة الرجال عابرة المسافة البرية نحوهما. لوحدهما، كانت المرأتان خائفتين، فيما كان الظلام الذي لحقهما يحوم حولهما، متسترا بين الأشجار والأكمات المضفورة، خائفتين من الأرواح الشريرة التي تجول في السهول والتلال الحجرية عندما كان ينسحب ضوء النهار. غير أنهما باجتماعهما ليستا خائفتين جدا. على مبعدة عشرين ميلا من مكانهما، تحت الغور في التلال حيث صنع نهر نييدي لنفسه قاعا رمليا بين أشجار الصمغ البيض، يقع مسكن مورندوو وما حوله ومخيم قومهما.
لم يكن هناك درب يستدل به، وفي أول الظلام، الكثيف كالصوف بعد أن تلاشى وهج غروب الشمس، لا شيء سوى غريزتهما تجعلهما تواصلان التحرك باتجاه المسكن وباتجاه كوخيهما المدورين المعمولين من الصفيح الصدئ المعبأ والأغصان الميتة. كلاهما كانتا من نساء قبيلة وونغانا. روز طويلة نحيلة وبارعة أما ميني فأصغر، وسمينة، ومرحة. كانت روز مربية ماشية جيدة في شبابها، واحدة من أفضل مربي الماشية. لم تمتط ميني الخيل أو تتعقب الأثر تقريبا كروز، ومع ذلك، فيما هما تسيران بحصانيهما، ثرثرت ميني برضا عن عملها الجيد في ذلك اليوم، وكيف انبرت هنا وهناك موجهة الثيران التي تخرج من القطيع، واندفعت بسرعة خلفها، لتعيدها الى القطيع ببراعة بحيث أن جون قال: "أنتِ رجل بحق يا ميني!". كان هناك الثور الأبيض، لقد اندفع قرب الزرائب. ألم تر روز الفرس الكستنائية تعثر بحفرة سلطعون وتقذف آرا في الهواء؟ طاردت ميني الثور الأبيض، طاردته لبضعة أميال، وأعادته الى الزرائب. ستكون لها بلا شك جائزة وثوب حين يعود الرجال من التجميع.
سحبت غليونا من حزامها، نفضته لتخرج الرماد منه، وقد لفت العنان على ذراعها، ملأت الغليون بالتبغ من علبة مربوطة الى حزامها. قدحت وهي منحنية عود ثقاب بحديد الركاب، قربت اللهب وهي تحافظ عليه من الهواء بين يديها من الغليون الذي بين أسنانها القصيرة البيضاء، ودخنت برضا.
تعمق العبوس على وجه روز وأصبح قاتما، تناهى العويل المهتاج من صدرها. نزعت من رقبتها الحبل البالي الذي كان يحفظ الطفل الرضيع لصق جسدها، ثم أعطته ثديا مرتخيا ليرضع. سارت بحصانها ببطء وهي تسند طفلها بأحد ذراعيها. اختار حصانها طريقه عبر الأرض الحجرية الخشنة. كان اليوم شاقا عليها. كانت المرأتان تجمعان الماشية مع الرجال عند بزوغ الشمس، عسكروا عند بئر نييدي الليلة السابقة، ولكي يبدأوا بداية جيدة كان عليهم السير طوال الصباح بأحصنتهم خلال التلال المغطاة بالغابات، حيث أحاطوا بالبقر الوحشي، والعجول، والثيران الشابة، وساقوها نزولا الى الزرائب في نييدي حيث عزل جون غري السمينة، وترك العجوز جيمي وبعض الصبيان يسِمون العجول، وأعاد الأبقار والعجول الى التلال فيما أخذ التي للنقل الى ميكاتارا. كانت الثيران بوحشية الطيور وبها حاجة الى أن تُراقب طوال اليوم، وقد عرقلت تلك الصرة الصغيرة التي تنشج لصق صدرها حركاتها طوال الوقت.
لم يكن يوجد شيء تحبه النساء أكثر من التجميع، وركوب الخيل خلف الماشية. كن أكثر سرعة في حركاتهن، وأكثر انتباها من الرجال، وأكثر انضباطا في اختيار المسالك، ولكنهن لم يعدن يذهبن للتجميع هذه الأيام.
منذ أن تزوج جون غري، وصارت له امرأة هناك في موورندو، وجدت الكثير من أعمال الغسل، والمسح، والكنس، لتقوم النساء به لها، ولم يبق لهن غالبا مجال للذهاب خلف الماشية. غير أن جون كان يعوزه العمال وقال بأنه يجب أن يأخذ روز وميني للتجميع في نييدي، وطوال اليوم أزعج روز بكاء طفلها الذي ظل يبكي ويبكي فيما هي تحمله معها على الحصان مربوطا الى جسدها. لقد كان الطفل مسؤولا عن الأخطاء التي ارتكبتها طوال اليوم، أشياء غبية، وقد صاح الرجال بها، وزوجها وونجانا، تكلم عنها بلسان بذيء أمام الجميع، ووصفها ﺒـ "دجاجة لا تعرف أين تضع بيضها"، ومعه جون غري "أيتها الغبية الملعونة يا روزي" وها قد أرسلها مع ميني كما يطرد طفلا سيء السلوك. والآن ميني التي تثرثر وهي تدخن ستحصل على هدية والثوب الجديد. كيف سيكون وونجانا مرتاحا معها! والطفل الرضيع يعول ويعول. أخذ يعول فيما هو يمضغ ثديها الخالي، ويتلوى لصقها، يعول ويقرض بثديها.
بكت متألمة وفاقدة للصبر، وتصاعد غضبها حد الجنون، وانسكبت دموعها مندفعة مثل مياه تجري في قيعان غدران جافة بعد هطول مطر غزير. انتزعت روز الطفل من صدرها ورمته بعنف الى الأرض. صدرت أصوات تكسر أغصان. نظرت ميني جانبا. شهقت قائلة "لا!" بعيون جاحظة. لكن روز استمرت في طريقها، محدقة بعيدا أمامها عبر السهول الوردية المبهرجة، وجدار التلال التي تقتم من الأزرق الى الأرجواني الى النيلي.
عندما وصلت المرأتان الى مطبخ المحطة كان الظلام قد خيم على الأرض والتلال والأشجار، والسماء مكتظة بالنجوم. أبلغت ميني زوجة جون رسالته بأنه سيكون في البيت مع أول الشهر.
إن السيدة كما يدعو السود السيدة جون غراي لم تستطع أن تتبين لماذا المرأتان خاملتان وجافتان في أسلوبيهما، لماذا روز جافة وعابسة ومقطبة، تلاقت عينا روز المتجهمتان بعينيها وابتعدتا عنهما مجددا. أرادت السيدة أن تسأل عن تجميع الماشية، كيف كانت الثيران، كم منها على الطريق، وإذا كان العديد من العجول قد وسمت في نييدي، الا انها تعرف كلتا المرأتين جيدا الى درجة تفضل عدم سؤالهما وهما على هذه الحال، فقط عندما أعطتهما الخبز وعلبة مربى وقطعت لهما قطعتين كبيرتين من لحم البقر المقدد وملأت إنائيهما بالشاي الأسود القوي، ووضعت سكرا لهما في علبتيهما الفارغتين، وفيما كانت المرأتان عازمتين على الذهاب الى المخيم أدركت بأن روز لا تحمل طفلها كالمعتاد. رفعت صوتها قائلة: "لماذا يا روز؟ أين الطفل؟". سارت روز خارجة في الليل. نظرت ميني خلفها بعيون خائفة وتبعتها.
عند الفجر، عندما تناهى خلال الهواء الصافي، بكاء، ناء، متألم ألما مبرحا، تساءلت السيدة من مات في المخيم بجانب الغدير. تذكرت كيف بدت روز في الليلة الماضية عندما سألتها عن الطفل الرضيع. الآن، عرفت بأن الطفل مات، وروز تنوح عليه في الفجر، مقطعة جسدها بالحجر حتى نزف دما، وراحت تصرخ بضراوة ...
المصدر:
happiness, selected short stories by Katharine Susannah Prichard. 1967
معاني الكلمات المحلية (للسكان الأصليين الأستراليين) الواردة في القصة:
Cooboo الطفل الرضيع، curari شائك، gin امرأة، زوجة، meetchie السيدة، miah لا، woo صيحة تحد، uloo مخيم، معسكر، nammery جائزة، gina-gina ثوب،