آذار/مارس 26
   
 
 
أقيم أول عرض لمسرحية تشيخوف (طائر النورس) على مسرح الفن في 17 كانون الاول عام 1898.  وعُد ذلك حدثا تاريخيا في حياة المسرح. وحقق العرض نجاحا باهرا. ومنذ ذلك الوقت أصبحت صورة النورس الطائر ماثلة على ستار مسرح موسكو للفن والى يومنا هذا. 
قبل ذلك لم تنل هذه المسرحية النجاح لدى عرضها على خشبة مسرح (الكساندرنسكي) في بطرسبرغ وكاد تشيخوف يتخلى عن كتابة المسرحيات.
لقد ولد ثمة تعاون مثمر بين تشيخوف، بوصفه كاتبا مسرحيا ومجددا وبين مسرح موسكو التجديدي للفن. هذا التعاون عاد بالفائدة على المسرح والكاتب المسرحي على حد سواء. قال ن. د. تيليشوف: "أنه لأمر حسن... لقد جعل المسرح الفني من تيشخوف كاتباً مسرحيا، وجعل تشيخوف من المسرح الفني".
فمسرحية "النورس" تشذ عن أعمال تشيخوف المسرحية السابقة بعاطفيتها المفرطة ورمزيتها وبالصراع الجلي لمفاهيم الفن المختلفة ومفاهيم الحياة.
 إن الاحساس بالحب، الذي غمر شخصيات المسرحية أجمع، كان مفعما بدوافع شاعرية ودرامية وشكّل النابض الرئيسي لمشاهد أحداث (طائر النورس.
ألا أن أعظم ما هو موجود في مسرحية "النورس" هو إخلاص أبطالها للفن، وربما أن هذا الشعور يرتقي فوق الاحساس بالحب، ويبدو أنه الحافز الأكبر لسلوكيات الشخصيات في المسرحية.
فهل كان تشيخوف يسعى الى مناقشة مشاكل الفن وحقيقته والغاية منه وتقاليده وتجديداته في مسرحيته هذه؟ أنه يسعى. ولكن ليس بشكل تجريدي، وإنما في طبائع الناس المخلصين للفن، فمناقشة الفن ليست حكرا على من يمثله: الكاتبين والممثلتين فحسب، وإنما الانسان المادي دكتور دورن، والحاكم شامرايف، الملازم الاول المتقاعد، الذي وقع لبعض الوقت أسيرا في المقاطعة بأيدي الفنانين والذاكرة التي يحتفظ بها، ويتحدث بشيء ما عن المسرح (سورين) والعناصر الفعالة – سواء كانوا ممثلين أم متفرجين، بل حتى ياكوف، والعامل كانوا جميعهم منشغلين بنصب المسرح، الذي ستعرض عليه مسرحية (تريبليف في الحديقة).
لدى كل واحد منهم عمل ما محدد يقوم به ووضع ورقي (سورين) الى رتبة مستشار، والان فقط بعد التقاعد، بدأ الاشتياق الى التسكع في القرية، لان دورن ــ طبيب، وميديفنكا ــ مدرس. وكذلك العمال والطهاة والخدم – الجميع منخرط في العمل. ومن بينهم اثنان من المشاهير هما – أركادينا وتريغورين..  تريبليف وحده –  تائه"صعلوك" و"يعيش عالة على غيره". هذا يعطي انطباعا بأن انتحار تريبليف هو النهاية الطبيعية لحياة بلا هدف.
إذا دققنا النظر في الخصائص الذاتية للابطال وفكرنا في مسار الاشياء في مسرحية (طائر النورس)، يمكننا أن نرى لدى تشيخوف بعض التفضيل لمكانة الحياة التي يشغلها (تريبليف). وتيشخوف يعلم بأن حياة (تريبليف) كانت أكثر ثراء واثارة للاهتمام من تلك الحياة الروتينية التي يعيشها الابطال الاخرون، بل وحتى من أركادينا وتريغورين اللذين كانا أكثرهم روحانية.
تتعرض مكانة تريبليف في بداية المسرحية الى السخرية من والدته. يبدو لـ (أركادينا) أن مسرحية كوستيا مبالغ فيها، "انها شيء منحط". إن نينا، التي تؤدي الدور الرئيسي فيها تلقي باللوم على المؤلف. وفي ذروة حالة الاهتمام العاطفي المتبادل بينهما فإنه من الصعب تمثل في المسرحية "ليس ثمة أًناسٌ أحياء فيها"، "قليل من الاداء"، "فقط قراءة واحدة"، وأما في المسرحية "لا بد أن يكون هناك حب بالتأكيد...". وبدلا عن الحب، يوجد مونولوج رمزي فيه كثير من الاسهاب: "الناس، والأسود، والنسور والحجل، الغزلان ذات القرون، الإوز، العناكب..." -  "باختصار، كل هذه الحيوانات "قد أكملت بالفعل دورة حزينة حزينة، لقد مرت مائتي ألف سنة. والأرض فارغة بشكل رهيب.
"روح العالم المشترك"، بعد صراع قاسي وعنيد مع الشيطان، انتصرت وحلت "السيادة العالمية" مع بداية القوى المادية هذه. أن مسرحية تريبليف في المشهد الذي تم تقديمه لنا هو في الحقيقة شيء رمزي وضعيف من وجهة نظر الاداء المسرحي. فهي إلى جانب الرمزية، تتضمن تقنيات طبيعية مباشرة: فـالديكورات نصبت بشكل لا تشعر معه أن هنالك خلفية على المسرح، وما ان يُفتتح الستار، حتى يرى المشاهد بحيرة حقيقية تتلألأ بعيد. تريبليف يأمر برفع الستار في موعد لا يتجاوز الساعة الثامنة والنصف، عندما يبزغ القمر؛ ومن بين المشاهد يجب أن تظهر بعد ذلك بعض العيون الحمراء الناريّة المخيفة، ومن ثم يجب أن تكون هناك رائحة الكبريت التي تم تحضير الكحول والكبريت لها خصيصًا.
بالطبع، هناك شيء من التذمر في تصريح غريبليف بأن مسرحيته تعرضت لصيحات الاستهجان لأنه "كسر الاحتكار"، أي أنه ابتكر مسرحية لم تكن تشبه تلك التي اعتاد أركادين على أدائها. لم يبرهن تريبليف ابتكاره بعد. مسرحيته ضعيفة، ليس فيها أشخاص أحياء، مجرد ديكورات. يقول غريغورين باستخفاف: "لم أفهم شيئًا. ومع ذلك، كنت اتفرج بسرور." ثم أثنى على نينا: "لقد مثلت بإخلاص جدا"، لكن أركادي فهم فكرة تريبليف: "أراد أن يعلمنا كيف نكتب وماذا نمثل".
وبعيدًا عن الفن، يدافع دورن بشكل غير متوقع عن مسرحية تريبليف. يقول دورن: "لا أعرف، ربما لا أفهم شيئًا أو أنني مجنون، لقد أحببت المسرحية". فيها شيء ما فيها". يحاول دورن مساندة تريبليف، ويصافحه بقوة ويعانقه باندفاع. ولا ينزعج دورن من حقيقة أنها مأخوذة من عالم الأفكار المجردة: "هذا ما ينبغي أن يكون، لأن العمل الفني يجب بالتأكيد أن يعبر عن فكرة كبيرة".  
إن تريبليف يتجرأ في الفن، فهو يقول قبل عرض مسرحيته: "نحن بنا حاجة إلى صيغ جديدة، فإن لم تكن موجودة، فمن الأفضل ألا نحتاج إلى أي شيء".
أن تريبليف وحسب الرأي السائد عمومًا يخسر المعركة مع تريغورين على جميع الجبهات: كشخص لم ينجح، تركته نينا زاريشنايا، وتعرض في بحثه عن أشكال جديدة للسخرية بوصفها هابطة، ويقول دورن عنه: "إنه يفكر في الصور، قصصه نابضة بالألوان، ومشرقة وأشعر بها بقوة. الشيء المؤسف الوحيد هو أنه ليس لديه مهام محددة. إنه يترك انطباعًا، ولا شيء أكثر من ذلك، لكن لا يمكنك المضي قدمًا بالانطباعات وحدها.
يقول تريبليف لنينا: "لقد وجدت طريقك، وأنت تعرفين إلى أين أنت ذاهبة، أما أنا ما زلت أركض في فوضى الأحلام والصور، ولا أعرف لماذا ومن يحتاج إليها". يقول عن نفسه: "أنا لا أصدق ولا أعرف ما هي رسالتي". يقول هذا لنينا، التي، حسب رأيه، وجدت طريقها. هذه الكلمات تسبق انتحار تريبليف مباشرة.
اتضح أن الممثلة المتوسطة أركادينا هي من تنتصر، وفي نهاية المسرحية، ومنتشية بذكريات نجاحاتها الأخيرة في خاركوف، وكيف تم استقبالها هناك، وكيف رحب الطلاب بها ترحيبا حارا، وقدموا ثلاث سلال مع أكاليل الزهور وقدموا حساء البورش بقيمة خمسين روبل. إنها تتذكر: "كان العفن رائعا... حسنا!! أنا لست غبية أن أرتدي ملابسي".
ولكن ليس عبثا أن تدرك نينا كيف أن "الحياة الوقحة" وتذكر برقة الدور الاول في مسرحية تريبليف وتقتبس من مونولوجها "الناس والاسود والنسور وطيور الحجل" هذه الكلمات المظلمة آنذاك تبدو الآن مختلفة تمامًا: إنه الخداع الذي يرفع من شأننا، وهو ظلام الدناءة.
 المسرحية تعلنا كيف نفكر بشكل حاذق في الحياة الحقيقية وغير الواقعية في الفن والحياة بشكل عام.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ليلى مراد: مترجمة عن اللغة الروسية، تعمل لدى دار المأمون للترجمة والنشر