شعوب تواجه المحن، وتلقى الكثير من العقبات في مسيرتها..
من دون ان تجد سبيلاً لحل مشكلاتها وازماتها واضطهادها.
شعوب واجهت العسف والاضطهاد على مدى سنوات عصيبة.
هنا نقدم ذاكرة واحدة لهذه الشعوب المعذبة والمقهورة.
محرر أدب وفن
رواية صدرت حديثا للكاتب راسم الحديثي في 115 صفحة من القطع المتوسط يقدم عملا كبيرا جديدا بضمير وفكر متنور قصة في عشرة فصول. تبدأ بسرد لقصة حياة الجدة المسلمة الحاجة سمر، الصبية الأرمنية التي تم اختطافها اثناء مسيرة وتعيش لاحقا ضمن عائلة اسلامية مؤمنة.. وفي اخر ايامها وهي راقدة في مستشفى الموصل تدرك انها راحلة وعليها الاعلان عن اسرار عاشت معها طوال عمرها.. مأساة لواحدة من الالاف بل عشرات الالاف من المآسي المشابهة التي تعرضت لها الصبيات الارمنيات اثناء التهجير من اختطاف واعتداء جنسي.
عانت لأيام في مستشفى الموصل وهي مدركة انها راحلة وبجعبتها اسرار يستوجب عليها افراغها هنا قبل رحيلها الى العالم الآخر.. الامر ضروري قبل الرحيل الابدي كي لا يسدل التراب على ما تبقى من جذور الواقع، ذلك الواقع الذي استبدل معظمه بحقائق ورقية مفبركة. وعلى الرغم من سعادتها بجمع الابناء والاحفاد لكنها وجدت من الممرضة المسؤولة عنها الملاذ والحضن الدافئ لنهايتها القريبة. اهتز كيان الجدة حين سمعت باسم الممرضة (هيرانوش) وراحت في خيال بعيد وتدحرجت الدموع من مقلتيها لتستقر في ثنايا صدرها باحثة عما في اغوار وزوايا قلبها.. خيط سري يربطهما وعزمت على ما تريد: سأطلب منك امرا ستجدينه صعبا عليك؟ ردت هيرانوش: وجدتك مثل امي، احكي براحتك.. ولكنه سيكون سر بيننا، ان تأخذيني الى كنيستك، ما رأيك؟ عجيب! انت مسلمة يا حجية سمر وقد تحصل لك ولي مشكلة، اعذريني.. لا يهمك اية مشكلة سأتحملها انا لوحدي، لدي شيء مهم ستكونين شاهدة عليه امام القس هناك، ونعود وكأن شيئا لم يحصل.. اتمنى ان تستجيبي.. هزت رأسها بالإيجاب وبابتسامة الاندهاش وبقليل من القلق من هذا الطلب وهذه الرغبة الجارفة.. بعد انتهاء الدوام اجرت الممرضة اللازم ونقلتها بسيارة المستشفى الى الجانب الايسر للمدينة الى كنيسة اجميادزين الواقعة في الجانب الايمن وتوجهت السيارة باتجاه كنيسة تاريخية مقدسة للأرمن.. رحب بهما الشماس آرا محييا بانحناءة بسيطة " تفضلي اختنا هيرانوش وامنا المحترمة.. اهلا بكما". ويقدم الكاتب وصفا تفصيليا لمحتويات الكنيسة وأبرزها خارطة ارمينيا. امسكتها الممرضة بيدها وسارت بها لمقابلة القس.. بدأت سمر حكايتها الاولى من حكايات طمر معظمها بأياد هكذا ارادت: حضرة ابونا المحترم للاعتراف قدسية كي نتخلص من عقدة الذنب والخوف.. راحلين الى العالم الرباني بحلة نظيفة وبشهادتكم وقرأ الشماس رسالة الاعتراف.. ردد القس مغفورة لك خطاياك وطلب منها ان تحكي ما لديها.. انا الان امامك المسلمة سمر ولكن وانا صغيرة في الصف الثالث الابتدائي وفي ليلة باردة جدا فوجئنا بمداهمة البيت. وسحبنا كقطيع الأغنام الى ساحة قريبة قالوا لنا لتدقيق بعض المعلومات لذا بدأنا بالهرولة لنعود بسرعة لدارنا ولكننا وجدنا أنفسنا في بناية اضحت فيما بعد مقرا لجمعية الاتحاد والترقي.. عوائل تدخل وتقف مرتجفة بصرخات الاطفال وأنين العجزة ويحيطهم عسكر مسلح بحدقات عيون مندهشة فرحة بهذه اللمة. هذه العوائل كانت جميعها ارمنية، لا يوجد مذنب ولا تحقيق، ارمن فقط لا غيرهم لهذا أدرك الجميع ان امرا سيئا ينتظرهم لكنه مجهول حتى اللحظة. تم اخراج الرجال جميعا خارج سياج البناية بالقوة والعصي وسمعنا بعد لحظات صراخ رجالنا، تسلقت شابة عمود كهرباء محاذي لسياج البناية لتنزل منزلقة صارخة برعب مخبرة الجميع ان رجالنا يذبحون. وعلا صراخ الاطفال ليختلط برعب الكبار من دون فهم ما يجري، هو الرعب من المجهول. سمر كانت شاهدة على ذلك العصر الذي سمعنا وقرأنا عنه والقس ثابت في مكانه منصت وكأنه يرى فلما تراجيديا، واجبه يحتم عليه ان يكوم شديد المراس وصعب المزاج.
وتستمر بالسرد: فتحت ابواب سياج البناية وزعق كبيرهم الجميع يخرج من هنا وبسرعة وتحركنا بمسيرة قسرية لعلنا سنعود الى بيوتنا، لكن عصيهم ساقتنا الى اتجاه اخر، سرنا طويلا واجهدنا وحجم المجهول في دواخلنا جعلنا ننسى ذبح رجالنا، كنا ننتظر ما سيحل بنا في قادم الساعات.. طريق طويل غير معبد ولا مستقيم تحيطنا الكلاب عاوية مستأنسة حالمة بلحمنا الطري، يراها القس متعبة من مرضها وذكرياتها يطلب منها للاستراحة لتعود لاكمال اعترافها وحين الاسترخاء وغمضة العين راحت تجوب في دروب ذكريات الطفولة قبل مجيء هؤلاء قساة القلب. افاقت والقس يتأملها بوحه مليء بالألم والحزن وهو ينصت لما حصل في تلك الايام العنيفة المفعمة بكره الآخر المختلف. تكمل روايتها.. ونحن في مسيرتنا تساقط الكثير من كبار السن ومن الاطفال، من يسقط يترك في مكانه ليكون طعما شهيا للضواري الجائعة حتى وصلنا معسكرا في عمق الصحراء وابلغونا سنبقى هنا لفترة من الزمن غير معلومة في خيم وزعونا حسب رغبتهم ورحنا جميعا بنوم اقرب الى الموت منه الى الحياة . وكل يوم نرى الجديد من العنف والاغتصاب فعلانية ومن دون خجل يتم شد الفتيات من ضفائرهن وتقييد اياديهن وسوقهم الى جهات مجهولة والجميع يرقب عودتهن بأمل ولكن طال الغياب.. وبعد مدة من الزمن عدن بحال يرثى له سقطن بيننا ينتحبن صامتات عما حصل لهن حاولت النساء الكبيرات لململت ملابسهن واستبدالها بغيرها من ملابس العسكر والحفاظ على ما تبقى من احساسهن بإنسانيتهن.

لم يدم الحال طويلا ففي صباح شديد البرودة بنثيث مطر غزير بدت بدأت المسيرة الثانية وعاد هؤلاء القساة انفسهم كما كانوا يسوقوننا بعصيتهم الغليظة كالمتعاد ونقول لعل هذه المسيرة تكاد تكون الاخيرة في امكانية تحملها من قبلنا وعزيمة الجميع قد انهارت حد الصفر سقط منا الكثير واكلت الكلاب منا الكثير واغتصبت الكثير فانهار الجميع وقتلت عواطفهم ودواخلهم جميعا .بعد المسير وصلنا مدينة تقع على نهر واسع يحدها جبل شاهق مخضر من الجهة الثانية ادخلونا سوقها المكتظ بالناس وبزعيق الباعة المتجولين والعربات المسحوبة بالخيول والحمير فالتف جمع غفير منهم حولنا فأحاطونا بنظرات الدهشة والعجب وكأننا مسرح لسرك العجائب والغرائب ، هناك من تعاطف معنا وهم الاغلبية وهناك من كان يسخر منا ويرانا نستحق الموت ، بدأ البعض يود امتلاكنا على وفق رغباته .. تقدم رجل عسكري باتجاهنا واقترب من ماما وبدأ يساومها، رفضت ماما رفضا قاطعا اية محاولة لأخذي من قبله.. حاول بعض النسوة اقناعها بان هذا لصالحها كي تعيش البنت في بيت خيرا من المجهول البعيد حتى بدا للجميع ان لا قوة تستطيع سلبي منها وحتى الموت ولكن العسكري تقدم باتجاهي واحتضنني بقوة فصرت في حضنه وعلى ظهر فرسه وصرخت امي بصوت شق عنان السماء والارض معا. "اتركها.. لن تأخذها وانا حية " ولكنه انطلق بسرعة بفرسه امتلكني بالقوة ولا أدرى ما سيحصل لي يمر على الكثير من الناس ويرحبون به ويدعونه العريف حسين حتى وصلنا بيته فانزلني من على ظهر فرسه واستقبلتني زوجته وحاولت جاهدة اسكاتي وانا على ذات النغمة " ماما.. ماما.. ماما" سوف ترينها قريبا لكن عليك الان ان تأكلي وبعدها نستبدل ملابسك هذه. بالفعل قدموا لي الطعام وملابس جديدة تحميني من البرد. وفي صباح اليوم التالي اضطر العريف حسين لأخذي الى ماما. لم نجد احدا قد رحلوا ولا أحد يدري الى اين مما اضطره الى اعادتي بعد ان وعدني بالبحث عنها وجدت نفسي مضطرة للصمت والعودة معه. احتضنني حسين وزوجته بلهفة كونهم يعيشون من دون اطفال لهذا كنت الطفلة المدللة. ولكن مرت الايام والسنين وكبرت وشبت الغيرة النسائية قلب امي الثانية حين رأت العريف حسين يدللني كثيرا ويهتم بي. وابلغت معارفها انني الخادمة لديهم. وقبلت الحال. الخادمة سمر هكذا كان اسمي عندهم فنسيت اسمي الحقيقي عندما كنت في احضان امي.
كنا في هذه المدينة الصغيرة حوالي ثمان فتيات من المهجرات والمسلوبات الارادة عنوة من مسيرة الموت وعلى مر الايام والاشهر والسنين كنا نلتقي احيانا في السوق حين نكلف بالتسوق من قبل العوائل التي نعيش فيها كخدم. بيننا واحدة اسمها شاكي تحولت الى ناشطة فاعلة لا تهاب الموت وتتواصل معنا محاولة جمعنا وشدنا الى بعضنا كحزمة واحدة رافضة وليست مستسلمة كالغالبية منا حذرتها يوما ان تهدأ ولكنها اجابت بصلابة " أكرههم جميعا ولا استثني منهم احدا". "لم يعد لدي شيء اخسره يا هيرانوش اخذوا الغالي والنفيس، جسدي الذي احببته واحتفظت به لمن اود، جسدي المقدس لوثوه برائحتهم النتنة بحقدهم وبغيظهم" وليس من السهل تغيير ما تراه شاكي فلذلك استطاعت ان تصنع من طبيعة تواصلنا ببعضنا تنظيما معارضا رافضا تقوده هي هذا نتيجة لما عمله الساديون بها لكل فعل رد فعل قاسي وشديد. التقيتها يوما احتضنتني بقوة وهي تقبلني بحرارة أدهشتني وأفزعتني فسألتها ما بك ياشاكي؟ رأيت كرابيت.. رأت اخي في السوق واخبرته عني وعن مسكني واسمي الجديد وقالت بألم هو الان يعمل راعي غنم لدى مالكيها وباسم احمد هو (الراعي احمد) وكان يدور بخلدي سألتقيه يوما في السوق ونهرب معا.. والتقيته امام البيت شاب بملابس رثة يرقبني ورميت ما بيدي وصرخت من دون وعي كرابيت هنا.. جلسنا على الارض نرمق بعضنا بعجب ودهشة.. خرجت الست سلمى تبحث عني فاستغربت من هذا المشهد وصرخت بي، افترقنا بعد ان قال كلمة واحدة سنلتقي. حين التقي مع شاكي والاخريات تصلنا اخبار ان امرا صدر بمنع القتل وتهجيرهم الى حلب او الموصل، أي ان اهلنا هناك ان كانوا احياء؟ وأصبحت لقاءاتنا مستمرة مع الجميع وكأننا ننتمي لتنظيم سري للأرمن من المهجرين وخاصة بعد ان شعرنا بضعف العيون التي تراقبنا وتعاطف البعض مع قضيتنا.. قام اخي بالتواصل مع مهرب بمبلغ مالي بسيط للبحث عن عائلتنا.. وصدق المهرب واستلمنا رسالة من الجد الذي لم يذبح وقتها لكبر سنه.. اننا الان في حلب ولكننا سنرحل الى الموصل قريبا ننتظركم اشتياق لا حدود له. وأخبرنا اصحابنا بمضمون الرسالة لتشجيعهم الى الرحيل كل على وفق رغبته. اما انا وكرابيت فيقينا ننتظر ساعة الانطلاق والرحيل عبر الصحراء باتجاه ولاية الموصل.. بدأ هؤلاء بالبحث والتفتيش عن بعضهم بلملمة حالهم، حب البقاء وهو مبرر للوجود مهما كانت المصاعب وبدأت تنبلج قوى غيرمحسوبة من دواخل هؤلاء المظلومين بسبب دينهم وقوميتهم وانسانيتهم قوى تعمل على بقاء هذا المكون على الرغم من الفرق الهائل بين قوة الظالم والمظلوم.. وفي مخيماتنا الجديدة ليس من السهل ضبطها ياحضرة القس الطيب، لا الاكل ولا الشرب ولا النوم عوائل مكتظة بالأطفال والكبار والمرضى.. يرد القس: " بالتأكيد يا امي هل كنت تعتقدين انكم ستسكنون في بيوت فارهة. هي عملية ترحيل قسري من مكان سيء الى مكان سيء اخر اسوء، اصبحتم عبئا وهما عليهم يتمنون عدم وجودكم في عالمهم البتة "لك الحق فيما قلته يا ابانا لكننا بعد مدة من الزمن وجدنا هناك من هو أفضل حال من الاخرين مدلل نسبيا في كل امور حياته ونحن حائرون مستغربون عن اسباب هذا التفضيل ونسمع كلمة مهتدي ومهتدين اعتقدنا ان هناك حزبا اسلاميا وعلى مر الايام تأكد لنا ان البعض قد غادر معتقده الديني وأسلم فتحسنت حياته قليلا. "بالتأكيد هو سلاح يستخدمه الاقوى في النزاعات وما يسمى في السياسة فرق تسد، الاقوى يتحكم بخارطة الواقع امامه ويرسمه بما يخدم مصالحه واستمراره". الجندرمة عثمان يا ابانا يقترب مني ومن دواخلنا كثيرا ويعشق التواجد في خيمتنا ويسهل بعض امورنا، نرتاح حين نراه ونغبط أنفسنا على ابتسامته الهادئة وكلامه الطيب معنا ومع جدي. حتى فاجأنا بخبر حير الجميع هو يود الزواج مني وظل يلح ويضغط على ماما وجدي حتى وجدا ان هذا الحال قد ينقذهم من مجهول يهدد بقاءهم فوجدت نفسي بين مجموعة متكاملة ترغب في ذلك وكنت محاصرة بحلقة مغلقة لا تقبل الحوار، فهو قوي كونه مسلما ومسؤولا وله كلمة تسمع فلا خيار لي غير الموافقة وبالفعل حصل هذا بسرعة وباوراق ثبوتية تحمل اسمي سمر محمد المهتدية. ولست انا وحدي ولكننا جميعا امتلكنا اسماء جديدة، الكل حالهم مهتدين. تقام دورات دينية للصغار والكبار وجدوا أنفسهم مهتدين بالضرورة يرغبون او لا يرغبون في المخيم اقيم مصلى صغير وعدوهم بعودتهم الى بيوتهم الاولى. الغريب في الامر حصل تعاطف معنا نحن المهتدين واضح المعالم والتوجهات ويتسرب الى مسامعنا ان هناك محاكمات حصلت وستحصل لمن هجرنا وقتلنا كما ان هناك اعلاما عالميا تقف ضد ما حصل.
وتعلن الكنيسة في مكبرات الصوت وفاة المسلمة المهتدية سمر ـ هيرانوش المسلمة الارمنية واضطراب يعم المدينة وخوف من عودة الماضي المرعب. ابنها وزوجها والقس يديرون المفاجأة بصبر ويهدؤون الجميع.