سأذكرُ صباحَ هذا اليوم ما حييْتُ، في الساعةِ التاسعةِ تجمَّعنا في قلبِ المدينةِ، تسعةُ أنفارٍ مع امرأةٍ وطفلٍ بعمرِ الزهورِ اسمهُ سمير، حين رأيتُهُ اشتعلتْ في داخلي جذوةُ الحسدِ وقلتُ لنفسي، سيدخلُ حدائقَ الضوءِ وعمرهُ خمسُ سنواتٍ وسأدخلُها وعمريَ خمسين سنةً وهمْهمْتُ مع نفسي: تُرى هلْ سأقاومُ الغربةَ التي تنتظرُني وأنا بخريفِ العمرِ؟
رئيسُ الفريقِ صبحي الصادق يجلسُ في صدرِ سيارةِ الأجرةِ التي تسيرُ بنا مسرعةً إِلى المطارِ، ونحنُ توزَّعنا خلفهُ، هذا الرجلُ هو مَنْ عقدَ الصفقة مع المهرِّبِ وهو الذي أكَّد لنا نجاحَ عمليةِ عبورنا إِلى أوربا عبْرَ إسبانيا، لقد أخبرَنا بثقةٍ أنَّ المهرِّبَ ومعهُ شخصية جيدة سيكونان في استقبالِنا عندَ بوّابةِ مطار العاصمة، امرأةٌ في الستينِ ودعتْنا بالدعاءِ والدموعِ والتضرّعِ إِلى اللهِ وهيَ جدَّةُ أحدِ الحالمين معنا بالخلاصِ؛ اسمهُ زياد شابٌ في الثلاثينِ أبيض الوجهِ ممْتلئ الجسدِ واسع العينينِ ستهواهُ البناتُ كثيراً لحسنهِ واتساقِ جسدهِ وجرأتهِ المحبَّبةِ، تسارعتْ السيّارةُ باتجاهِ المطارِ، في الطريقِ سيلتحقُ بنا رجلٌ جاوزَ الثلاثين قالوا أنَّهُ أحدَ أقارب المهرِّب حسّون بطَّة الذي سينقلُنا حسبَ صفقةِ التهريبِ إِلى الخمائلِ الأوربيةِ، كنتُ أظنُّ أنَّ القلقَ الذي نهشَ قلبي سَينتهي الآن ونحنُ نغادرُ نقطةَ الشروعِ إِلى أوربا وأنَّ روحيَ ستهدأُ وشكّي سينطفئُ وبعثرةُ الأفكارِ ستتوقَّفُ والخوفُ الذي يأكلُ ويشربُ معي سيزولُ، لكنْ وأنا أطلُّ على شجرِ النخيلِ الذي طفقَ يتراجعُ أمامَ بصري مسرعاً إِلى الوراءِ، بدأَ نوعٌ جديدٌ منَ القلقِ والشكِّ والرهْبةِ، نوعٌ لم أجرّبْهُ سابقاً لا يأكلُ القلبَ فقط بلْ الجسدَ برمَّتهِ، ألفَ دولارٍ سلَّمتُها كباقي أعضاءِ الفريقِ إِلى الرئيسِ صبحي الصادق وألفاً آخرى ثمن تذكرةِ الطيرانِ Two ways، ألفا دولارٍ أمريكيٍّ فرَّتْ منْ جيبي خلالَ لحظاتٍ منْ مبلغِ التهريبِ الكلّي وأنا لا أزالُ داخلَ الأرضِ القلقةِ، بدا ليَ هذا التسرّب الماليّ السريع بدايةً مخيفةً لكنْ لا سبيلا آخرَ إِلى خمائلِ الغربِ.
إِلى جانبي كانَ يجلسُ صديقي الشاعر الذي ظلَّ يركضُ وراءَ الشِعرِ طوالَ حياتهِ كما لو أنَّهُ أبوهُ، قطعْنا نصفَ الطريقِ إلى المطارِ حين فاجأني الشابُّ العشرينيّ الذي يجلسُ خلفي، كنتُ قدْ لمحتُ حزنَهُ الثقيل في مرآةِ السائقِ وعجبتُ كيفَ يمكنُ لشابٍّ بعمرهِ وهو في طريقهِ إِلى الجنَّة أن يحزنَ كلّ هذا الحزن، ثم لمحتُ الطفلَ (سمير)، فقرأتُ الحزنَ ذاته يتفجَّرُ في عينيهِ مسربلاً بذهولٍ طفوليّ منطفئ، وحين نظرتُ للشاعرِ الذي ما عرفهُ الحزنُ إلاّ لماماً، صدمَني الحزنُ نفسهُ في عينيهِ وحين أبصرتُ نفسيَ وجدْتُني حزيناً بالطريقةِ ذاتها، أمّا المرأةُ الوحيدةُ التي كانتْ مَعنا في قائمةِ النزوحِ وهي أمّ الطفلِ صاحب السنواتِ الخمسِ، فقَدْ بانَ عليها شحوبُ النساءِ المعذَّبات واسودَّت أخاديدُ الإرهاقِ تحتَ عينيْها، في هذهِ اللحظاتِ هجمتْ على خيالي النساءُ الأوربيات وتذكّرتُ القائلَ الذي أكَّد أنَّ نسبةَ النساءِ إِلى الرجالِ في السويد مثلاً بمعدّل ثلاثِ نساءٍ إِلى رجلٍ واحدٍ، وأنَّ ذوي الشعر الأسودِ مفضَّلونَ عندَ الأوربيات، قلتُ لنفسي إنَّ الجوعَ الجنسيّ في طريقهِ إِلى الزوالِ، وانتبهتُ إِلى صبحي الصادق رئيس الوفدِ الذي تربَّع في المقعدِ الأماميّ للسيارةِ، كان الوحيدُ الذي ينمُّ وجههُ عن فرحٍ وحبورٍ ويخلو منْ القلقِ، ربما لأنهُ الوسيطُ بيننا وبينَ المهرِّبِ في عقْدِ هذهِ الصفقةِ وربما يكونُ عبورهُ مجاناً، هكذا فكرتُ مع نفسي، تذكَّرتُ تأكيداتِ صبحي الصادق عنْ حتميةِ النجاحِ بالعبورِ إِلى أوربا ونسبةَ الفشلِ التي قال عنها أنَّها لا تتعدَّى الواحدَ بالمليونِ وفي حالةِ حدوثِ ذلك فإنَّ المهرِّبَ حسّون بطّة سيُعيدُ المبلغَ كاملاً لمَنْ يفشل بالعبورِ، وفجأةً لمحتُ عينيّ الشابّ ابن الحاديةِ والعشرينِ عبْرَ مرآةِ السائقِ والتفتُّ وسألتهُ عن اسمهِ، ولمْ أستغربْ حينَ قالَ ليَ أنَّ اسمَهُ (جمال الرسام) وقلتُ لنفسي أنَّ هذا الشابَ سيكونُ عوناً لي في أُتوِ الغربةِ، ثمَّ دهمتْني نسمةٌ عذبةٌ من جهةِ النخيلِ الباسقِ الذي أخذَ يتجمَّلُ ويتغنَّجُ أمامَ عيني، أسندتُ رأسيَ إِلى الخلفِ قليلاً وأغمضتُ عينيّ فاقتربتْ منيَ حسناءٌ هيفاءٌ سامقةٌ، قلتُ لها إنَّكِ حتما من نساءِ حدائقِ الضوءِ، ردَّتْ بكلماتٍ لمْ أفهمْها لكنَّها تبسَّمتْ ورذاذُ العسلِ يتدفَّقُ منْ فمِها على أنفاسي وشفتيّ، بدتْ طويلةً ممتلئةً، ساقاها ناعمتان ملساوان والحريرُ يلتصقُ عليهم، بينما كانَ وجهُها وردياً وصدرهاً نافراً إِلى أمام، ساحتْ أصابعي فوقَ هضابِ جسدِها، لمست الجمالَ كلَّهُ في روحِها، لمْلَمْتُ نهديْها الفائضينِ بأصابعي، امتعضتُ بشدّةٍ (لقد أفسدوا حلميَ) عندما سمعتُ جمالَ الرسامِ يقولُ لصديقي الشاعرِ بأنّهُ يمتلكُ وثائقَ تهديدٍ مؤكَّدةٍ بالقتلِ، وسوفَ يحصلُ على اللجوءِ فورَ عرضِها على منظمةِ اللاجئين، ورأيتُ الشاعرَ يُبرزُ وثيقةً مختومةً بالختمِ الأحمرِ، خطيرة ًكما يقول هو، وأنَّ هذهِ الوثيقةِ كفيلةٌ بحصولهِ على اللجوءِ الإنسانيّ أو السياسيّ في أوربا، وتذكَّرتُ أنّني لا أمتلكُ وثيقةَ تهديدٍ، لكنّيَ كنتُ مهدَّداً من قبلِ كثيرينَ، أولُهم، بيتيَ، والدوائرُ المغلقةِ، الجدرانُ المستديرة، القحطُ والجدبُ والجفافُ، زوجتي، عملي وأصدقائي، كلُّهم هدَّدوني بالقتلِ، لكنْ منْ دونِ وثائقَ، فكيفَ سأحصلُ على اللجوءِ؟!
غابتْ أحلامي حين رأيتُ كلباً أمريكياً في سيطرةِ التفتيشِ التي تسبقُ الدخولَ إِلى المطارِ بربعِ ساعةٍ مِنَ السيرِ بالسيارةِ، أنا أخشى الكلابَ العجفاء فكيفَ بكلبٍ غربيّ معافى، كانتْ عيناهُ حادّتانِ حمراوان، توقَّفتْ سيارتُنا، نزلنا منها وأنزلْنا أمتعتَنا، تشمَّمتْها الكلابُ المدربةُ وهي تنظرُ إليْنا بتوجسٍ ورقابةٍ مخيفةٍ، اقتربَ منيَ لاهثاً كلبٌ ضخمٌ، حامَ حولَ جسدي، تشمَّمَني فشعرتُ بالخوفِ والتقززِ، هذهِ بدايةُ رحلةِ التهريبِ، يا الله، ودخلْنا واحداً بعدَ آخر عبرَ جهازِ الكشفِ عنِ المتفجراتِ والممنوعاتِ بأنواعِها، في تلكَ اللحظةِ تضاعفَ شعوري بالغربةِ وراودني خاطرٌ مؤلمٌ أنَّني ليس في بلدي وأصابَني الرعبُ عندما نظرَ إليّ جنديّ أمريكيّ بطريقة غامضة، شعرتُ بأنَّني سأفقدُ جنَّةَ الأرضِ وأنَّ فرصةَ الهربِ إلى أوربا ستطيرُ مني إِلى الأبدِ بسببِ هذا الجنديّ العدائيّ الشكّاك، عبرْنا حاجزَ الكشفِ والفحصِ المستفِّز كأنَّنا سندخلُ أمريكا بعدَ هذهِ السيطرةِ مباشرةً، لقدْ فتَّشونا عندَ خروجِنا من بلدِنا بأحدثِ الأجهزةِ وأدقّها كما لوْ كنّا محمَّلينَ بأطنانٍ منَ المتفجراتِ التي سنُدْخِلُها إِلى أمريكا ولا أعرفُ هل يخافونَ الشخصَ الخارج من البلدِ أمْ الداخل إليهِ؟!
بعدَ نقطةِ تفتيشِ الكلابِ وصلْنا بوابةَ المطارِ لنبدأَ رحلةَ تفتيشٍ جديدةٍ أقلّ أذى منْ تفتيشِ الكلابِ، حملتُ حقيبتي على كتفي، كانَ الشابُّ العشريني جمال الرسام يمشي إِلى جانبي حينَ سمِعنا صوتَ انفجارٍ قريب، توالى الصوتُ، عرفتُ منْ خبرتي في الحروبِ أنَّها قذائفَ هاون أُطلِقتْ على المطارِ، قالَ أحدُهم هذا أمرٌ عاديّ يحصلُ دائماً، عليكَ أنْ تتوقَّع - طالما أنتَ في هذا المكان- قذيفةً هنا وأخرى هناك وقدْ تسقطُ واحدةٌ فوقَ رأسِكَ، تذكَّرتُ أنّنا لا زلْنا في الأرضِ الحرجةِ واسترجعتُ المفخَّخاتِ والفوضى المدمِّرةِ التي تصولُ وتجولُ في بلدي، وتراءتْ ليَ فجأةً تلكَ السيارة التي كادتْ أنْ تأخذَ روحي عندما انفجرتْ على بعدِ مئة مترٍ مني، نظرَ جمالُ الرسام إليّ، لمْ يكنْ خائفاً لكنَّه كانَ واضح الحزنِ، حملَ عنّي حقيبتي منْ دونِ أنْ أطلبَ منهُ ذلك، تضاعفَ الحزنُ في عينيْهِ، قلتُ لهُ لا عليك سنصلُ قريباً إِلى حدائق الضوءِ، لا تحزنْ أيُّها الرسام المغامر، ألمْ تسمعْ سابقاً بأنَّ الأجرَ على قدرِ المشقَّة، فكلَّما زادتْ آلامُنا زادَ أجرُنا وتذكّر أيُّها الشاب الطموح إنَّ الجنَّةَ لا يدخلُها إلاّ المعذَّبون!