تشرين1/أكتوير 11

الشِّعْرُ كتزاوج خبرتيْن: حسية وميتافيزيقية

 

             

مَنْ يشتهِ ولا يفعلْ يكون وباءً

                                           وليم بليك

 

                  سنةٌ مرّت... والدنيا صارت غير الدنيا

                  أقلع (مكطوفُ) عن السُكْرِ

                  اصطادت (حوريّة) زوجاً من دائرة الطابو

                  والرجل الماكر ذو اللحية راح إلى الشطرةِ

                 تتبعُهُ اللعناتْ

                                         كزار حنتوش

 

                     وليام بليك          

    منذُ أن قرأتُ - بين كتب عديدة له - كتاب الموسوعي الراحل جاكوب برونوفسكي Jacob Bronowski عن الشاعر والرائي الصوفي البريطاني وليام بليك William Blake وأنا مسكون بهاجس التجربة الميتافيزيقية لدى هذا الشاعر الاستثنائي. لننظرْ ملياً في عبارته الشعرية الواردة أعلاه: منْ يشتهِ ولا يفعلْ يكون وباءً. هذه العبارة تصلح مفتاحاً لفهم كلّ علم النفس الفرويدي!! يحارُ المرء في الكيفية التي استطاعت بها عبارة واحدة أن تختزن هذا الكمّ الهائل من طاقة الخبرة التي تتعالى على مُحدّدات الزمان والمكان والبيئة الجغرافية والاعتبارات العرقية والاثنية. أظنّني كنتُ ذا حظّ طيب إذْ كانت إطلالتي الاولى على عالم هذا الشاعر الاستثنائي قد جاءتني من بوّابة كتاب كتبه أحد المختصين الكبار في الرياضيات والفيزياء والفلسفة وتاريخ الافكار والادب: جاكوب برونوفسكي. لديّ قناعة -تأصّلت بفعل خبرة متواترة- مفادُها أنّ من يكتبون عن الشعر والشعراء ممّن هم ليسوا منتمين إلى طائفة الشعراء المكرّسين غالباً ما تكون كتاباتهم أفضل من الشعراء المطوّبين بتاج الشعر وإكليل غاره وصولجانه المذهّب.

 

    الشعر: تطهّرٌ وخبرة

   ما الشعرُ؟ هو في أعلى أشكاله المثالية، وكأي اشتغال إبداعي سواه، قيمةٌ تطهّرية تسعى لنقل خبرة إلى الطرف المقابل. التطهّرُ والخبرة هما الجناحان اللذان يحلقُ بهما الشعر. التطهّرُ بوساطة النار الشعرية خصيصة عرفناها منذ أن كتب عنها أوائل فلاسفة الاغريق؛ أما الخبرة الشعرية (سمّها رؤية vision. لا فرق. سنفترض هنا تعادلاً موضوعياً بين الخبرة والرؤية) فتلك تفصيلة تحتاجُ حفراً دقيقاً في تضاريس الشعر.

   يمثّلُ الشعر في بعض جوانبه بقية صوت الخليقة الاولى فينا. هو أشبه بما يسمّى في الكوسمولوجيا إشعاعُ الخلفية الكونية المايكرويCosmic Microwave Background Radiation الذي نجم عن لحظة التشكّل الاولى للكون في الانفجار الكبير The Big Bang. لا يهمُّ كثيراً كيف نرى الكيفية التي نشأ بها الانسان في الكون، وليست بذات شأن عظيم رؤيتُنا المسايرةُ للرؤية الدينية(اللاهوتية) أو تغوّلنا العلموي. في الحاليْن يبدو أنّ القوة الحيوية الخالقة شاءت أن تمدّ الانسان بجعبة من الخبرات الاولية التي هي أقربُ لسوفتوير Software يحتوي على الاقلّ الضروري غير القابل للإختزال من الخبرات اللازمة لإدامة الوجود البيولوجي. يحصل التطوّر الثقافي أو البيولوجي (بنسخته الداروينية) عندما يتفاعل سوفتوير التشكّل الاوّل مع اشتراطات المعيش غير المسبوقة للبيئة الجديدة بكلّ متطلباتها الضاغطة.

  جاكوب برونوفسكي

النسر: الخبرة الميتافيزيقية في الشعر

  الخبرة الاولى البدائية (خبرة لحظة التشكّل الاوّل) خبرة شديدة الاهمية، وليس من العقلنة تجاهلُها أو التغافل عنها. نحن في العادة ككائنات بشرية نميل إلى هذا النسيان أو التغافل لأنّ بيئة عيشنا وأنماطها التفاعلية تتمايز نوعياً عن بيئة التشكّل الاوّل، ولو أننا تماديْنا في النسيان والتغافل فلربما تطوّر الامر لدينا إلى حالات إضرابية ذهانية شديدة الوطأة. بعضُ وظيفة الشعر الجيّد هو تذكيرنا بمحدّدات الضبط (المصنعي) التي نشأنا عليها لكي لا نتقاطع معها إلى حدود مَرَضية.

   هذا النمط من الخبرة الشعرية يمكن وصفه بالخبرة الميتافيزيقية لأنّه يختصُّ بنطاق مفارق لنطاق الخبرة اليومية. إنه صوتٌ يأتينا من دواخلنا من غير أن تستثيره أيُّ محفّزات مرئية مادية مشخّصة. اللغة الشعرية لهذا اللون من الخبرة الميتافيزيقية هي في العادة لغة مواضعاتية شبيهة بلغة الوصايا العشر في العهد القديم أو بالتطويبات الواردة في موعظة يسوع على الجبل مثلاً. لغةٌ فيها نفاذ القول وإلزاميته وإطلاقتيه -العابرة للزمان والمكان والبيئات- لأنها قيلت على لسان مَنْ نعتقدُ فيه كلية العلم والقدرة والمعرفة والرؤية والشمول الادراكي. الخبرة الميتافيزيقية هنا شبيهة برؤية النسر المحلّق في الاجواء الشاهقة: رؤية تهتمّ بالقوانين العامة للحركة، وبالمخطّط العام للتضاريس المكانية، ولا تنقادُ للتفاصيل الصغيرة التي تحصل هنا أو هناك. اللغة مقتصدة متقشفة، تبتعدُ عن الحسّ الدرامي أو الموسقة البلاغية الناجمة عن ترتيب قصدي للكلمات. موضوعة التقشف اللغوي وفقر الحس الدرامي في هذه اللغة الشعرية ليست خياراً كيفياً بقدر ما هي إحالة إلى الخلفية التطوّرية للإنسان. اللغة والملاعبة الدرامية جوانب تطوّرت مع التطور البيولوجي للإنسان؛ ولمّا كنّا في الخبرة الميتافيزيقية الشعرية نسعى للإطلالة على مشهد التشكّل الاوّل فنحن نبتغي استخدام الوسائط التواصلية في ذلك المشهد (البدائي) من غير اتكاء على أي عنصر تطوّري لاحق في اللغة أو الملاعبة الدرامية أو سواهما.

   لو أردتُ مثالاً للشعر الذي ينقلُ خبرة ميتافيزيقية خالصة فاظنّني سأختارُ وليام بليك حصرياً. هذا خيار شخصي، ولكلّ منّا خياراته المتاحة.

  لا يمكن بالطبع حصرُ شعرنا الانساني في نطاق الخبرة الميتافيزيقية لأنّه سيبدو حينئذ صنيعةَ إلهٍ وليس خلق كائن بشري يعاني شتى المؤثرات اليومية التي تعدّلُ سلوكه وتعيدُ تشكيل رؤاه في سياق ما يسمّى بالخبرة المستجدّة. لا يمكن للكائن البشري أن يكون كائناً ميتافيزيقياً خالصاً إلا في نطاقات محدّدة (حالة تصوفية مثلاً).

دودة الارض: الخبرة الحسية (اليومية) في الشعر

  يحتاجُ المرء لجرعة كبيرة من الجرأة لكي يقول بصحّة المقايسة التالية بغضّ النظر عن مدياته الاكاديمية المحلّقة وغنى قراءاته الشعرية وتعاظم أشكال ومناسيب خبراته: كلّ شعرٍ لا ينقل خبرة ميتافيزيقية هو شعرٌ يمرّرُ خبرة حسية (يومية) للآخرين حتى لو اقتصر على كتابة تصويرية خالصة (تقرير حالة Case Study). هذا النمط من الشعر هو النقيض الضدّي لشعر الخبرة الميتافيزيقية؛ فهو لعوبٌ، لزج، رجراج، يتناغم مع وقع خطى الخبرات اليومية المدفوعة بوقائع مادية مشخّصة تشخيصاً صارماً (حب، كراهية، موت، ولادة، نجاح، فشل، إخلاص، خيانة). اللغة الشعرية في هذا النمط حسية تستثيرُ العاطفة السائلة، وهي نتاجٌ مباشر للعلاقة التفاعلية الآنية بين الكائن البشري وبيئته، وتتحلّلُ من ضغط قيود الخبرة الميتافيزيقية. يسعى العقل البشري في هذا اللون من الشعر للتخفف من أسر الضواغط المسبقة؛ فكأنه يريد الرقص الحر تحت أشعة الشمس بما يسمح لأعلى مناسيب الأدرينالين من التسلل إلى دورته الدموية.

   ربما كان مثال دودة الارض يصلح شبيهاً قياسياً لمن يكتبُ هذا اللون من الشعر؛ فهو يتحرّكُ مثلها بهدوء غائصاً في طبقات الارض، وتستوقفه وقائعُ هو يراها مثابات ولعلّها لا تمثّلُ شيئاً يعتدُّ به لدى آخرين سواه. الدهشة الآنية المصحوبة بردة فعل درامية هي خصائص نوعية لدى كَتَبَة هذا الشعر.

  كلما فكرتُ بهذا اللون من الشعر حضر أمامي الراحل كزار حنتوش بكل حمولته الحسية الشعرية المباشرة. ما الذي يعنيه(مكطوف) لنا -في النص الشعري الذي أوردته في مفتتح الموضوع- سواءٌ أقلع عن السكر أم لم يفعلْ؟ ومن تكون (حورية) التي اصطادت زوجاً لها من دائرة الطابو في الشطرة أو سواها؟ الشاعر يريد هنا رفع هذه الشخوص إلى مرتبة الرموز الكونية. هو له أن يفعل هذا. نحن قد نفعل، وأظنّ معظمنا لن يفعل.

   على خلاف الشعر الميتافيزيقي، يمكن للمرء أن يكتفي بكتابة شعر حسي له حمولته المحسوبة من خبرة المعيش اليومي؛ لكنّ الكتابة في نطاق هذا اللون حصرياً سيخلع على الشعر طابع الآنية والظرفية والتحدّد في نطاق الخبرة المحلية زماناً ومكاناً وبيئة صغيرة.

 

فلاح حكمت إسحق كاتب ومهندس عراقي