تشرين1/أكتوير 11

   استطاع اتحاد كريم عن طريق بنيته الاسلوبية في الخطاب الجمالي، ان يقدم لنا سرداً بصريا نستطيع تأويله تبعا للتاريخ والجذور التي ينتمي اليها الفنان نفسه، انه صراع الذات مع الحياة والطبيعة والمجتمع والبيئة التاريخية التي ترتبط بمرجعيات الحضارة السومرية والبابلية والاشورية والحضرية وغيرها. وهذا ما يؤكد العلاقة القوية ما بين التأويل بوصفه عملية تاريخية تهتم بفهم النسق الخطابي البصري تحديداً، ومنح المتلقي مقدرة عالية في تلقي الخطاب وفهمه وإدراكه، مما يعطي للفهم مقدرة على خلق وإنتاج معاني جديدة من خلال الخطاب البصري. كما إن ارتباط التأويل كعملية تاريخية في الخطاب البصري، تعد فلسفة خاصة ذات مفاهيم ترتبط بطبيعة التشكيل التاريخي ضمن فضاء الخطاب البصري وآليات حركته في ذلك الفضاء مما يشكل نوعاً من التأثير الواضح في تلقي الخطاب.

فالتأويل والتاريخ في اعمال اتحاد كريم تعد جدلية تحتاج إلى تحليل وتفسير منطقي مرتبط بتوالي الأحداث التاريخية واليات تفاعلها في الخطاب الجمالي ولاسيما النحتي. إذ يؤكد الفيلسوف الالماني (هانز جورج غادامير) إلى إن الزمانية والتاريخية هي جزء لا يتجزأ من كينونة أي تكوين أو خلق، وان فهم أي شيء ينطوي لا محالة على عملية تأويلية.

أما التراث فهو جانب آخر ومهم من جوانب التاريخ ولاسيما في اعمال اتحاد كريم ليست النحتية حسب بل الخزفية التي برع في تمثيله للتراث براعة كبيرة. إذ يتعلق الأمر بتمديد آفاق التأويل كمنعطف حاسم في التراث الإنساني، للوصول الى عالمية التجربة تعني والتي تشكل التجربة الإنسانية في فضاء التأويل، أي التأويل بوصفه الحقل أو الفضاء أو البعد الفني والتاريخي. إنها إشارة واضحة إلى ارتباط التأويل بالتاريخ والتراث في الخطاب الفني فهي علاقة متوازية طردياً مع الشعور بالزمن وتحولاته، من حيث كونهما يسيران جنباً إلى جنب لفهم وإيضاح القيمة التاريخية والتراثية للحدث والموضوع المطروح في الخطاب الفني عند اتحاد كريم، فالخطاب الفني الخزفي لاتحاد كريم يشعرنا بروح الانتماء للمكان من خلال التكوينات الادمية لوجوه عراقية تعيد الى الاذهان وجوه التماثيل الرافدينية القديمة من خلال طبيعة التكوين والبناء الفني، وكأن حوار العيون وقوتها التعبيرية جاءت متحكمة في قوة التعبير التراتاريخي عند اتحاد كريم، بل انها تؤكد بقوة ان الفنان لن ولم يغادر مساحته التاريخية ومرجعياته البيئية الاصيلة. التي تكشف بما لا يقبل الشك ان تأويلات اتحاد كريم كانت مرتبطة بالتاريخ والتراث وروح الانتماء للمكان الحضاري بشكل كبير وترصين للهوية التاريخية الرافدينية بقراءة معاصرة.  

وقد كانت تأثيرات التراث ومحاكاته واضحة عند اتحاد كريم من خلال الاقنعة ولاسيما اقنعة النساء التي نفذها بأعمال خزفية اتسمت بترسيخ ذلك التناص الحضاري ما بين الماضي والحاضر- التاريخ والتراث والمعاصرة.    

   

 انها المحاكاة الحقيقية للتاريخ والتراث التي توطدت بشكل خارج عن قوى الوعي في اعمال اتحاد كريم ولاسيما الاقنعة واشكال رؤوس النساء التي تميز في مقدرته التعبيرية الهائلة. وقد أكد ذلك في احدى مقابلاته الصحفية قائلاً "أني أؤمن بالمستقبل انطلاقا من النحت العراقي القديم منذ سومر وبابل وآشور"، وهي تجربة تشبه الى حد كبير تجربة الفنان التكعيبي (بابلو بيكاسو) في تعايش ومحاكاة الفنان للبيئة التاريخية في تمثيله لأعمال اقنعة افريقية تميز بها، اذ كانت تجربة مهمة في حياته. وكانت لاتحاد كريم آراء مهمة في هذا الميدان ولاسيما في تجربة (بيكاسو) فقد وصف نفسه بالباحث والمستقصي من خلال واعجابه الشديد بتجربة (بيكاسو) التي يصف نفسه بانه المكتشف، وبحسب تأويلات اتحاد كريم بانه يقصد الرمز بهذا القول، فالفنان يبحث ويبحث ليؤسس رؤيته وانطباعاته عن العالم كما يشير الفنان. ويأتي ذلك كما ذهب اليه (ريكور) على تلك الحالة المهمة التي تخضع للتأويل قائلاً: "نحن نكاد لا نجد مجتمعاً غير ذي علاقة بمجموعة من الأحداث التاريخية المنظور إليها على أنها أصل ومنشأ الجماعة نفسها، وينتج عن ذلك أن الحدث لا يمكن أن يعاش من جديد وان يمارس فعلاً راهناً إلا عبر التأويل، بما هو إحياء متواصل للمعنى، بمعنى أن الحدث لا يمثل للوعي إلا إيديولوجيا، وهنا يصبح التأويل ضرباً من الايديولوجيا والعكس صحيح".

 

وهذا ما يثير المتذوق للخطاب الفني عند قيام المؤول بالكشف عن قيم التراث والتاريخ من خلال التشابه والتناقض أو الاتفاق ضمن ذاتية واضحة تشوب عملية تأويل الخطاب وبحسب رؤية المؤول. لذلك فان عملية التأويل في الخطاب غير منفصلة عن الوضع التاريخي الذي يرهن بإطاره وهذا ما يعزز فكرة ارتباط التأويل بايدولوجيا التاريخ وتحولاته في الخطاب الجمالي الفني لاتحاد كريم.

إن قراءة التراث وتأويله في ضوء مشكلات الواقع الراهن وهمومه إحدى الهموم الفلسفية في الفكر الإنساني المعاصر، فالحديث عن التراث وإشكالية تفسيره وتأويله حديث سيظل ماثلاً في أفق همومنا الثقافية والفكرية. وهذا ما أكده (غادامير) أيضاً في وجود آصرة مهمة وواضحة في تأويل التراث لاسيما تمثلاته في الخطاب الفني، بوجود ظاهرة (الانتماء)، بمعنى أن التراث هنا يسلك سلوكاً تاريخياً/ تأويلياً ومن هنا أصبح التأويل قاعدة لكل العلوم الإنسانية والتاريخية. وان التاريخ في الفن العراقي ولاسيما النحت هو امتداد تاريخي متحول ومتجدد في استعمال الرمز التاريخي والتراثي معاً، ويؤكد ذلك اتحاد كريم في قوله "نحن امتداد للرواد ولكننا تأثرنا بالنحت المعاصر وحاولنا وضع المفاهيم بأطر مختلفة بعض الشيء هكذا كنا نجرب واليوم ترى ثمة نهضة كبيرة في النحت من خلال اقامة مئات الانصاب والتماثيل وبأيد عراقية بل بصناعة عراقية أيضا". من خلال ما تقدم فإن فهم التاريخ / الماضي، يستلزم وصل الآفاق وتجسيرها ما بين الخطاب الجمالي بوصفه تجسيداً لتجارب الماضي واهتمامات مؤوله في الحاضر والذي يثبت حضور الفنان بنفسه وذاته المبدعة، مع إدراك حقيقي لردة فعل المتلقي الجمالي ولاسيما العراقي.

كما ويمكن ان يعد اتحاد كريم فنانا شعبيا تمسك بتراثه وتاريخه ومرجعياته المكانية والحضارية، انه الباحث عن تمثيل واضح للتراث وتأويله من خلال الثقافة الشعبية المحلية التي ينتمي اليها، فالفنان المنتمي لشعبية مكانه لا يجسد الطبيعة امامه كما هي، بل يجسد مفهوم الحياة.. نفسها التي تعيش في ظل تلك الطبيعة التي تتحدد ملامحها من خلال سماتها وخصائصها وحتى الوانها. فالفنان الشعبي كما يصفه الفنان والناقد شاكر حسن ال سعيد بانه

فلاح، او جندي او محترف يبلور انطباعه العام عن الحياة، فلا يجسد اشجارا او اشخاصا او حيوانات معينة بالذات بل يجسد لنا كائنا نهائيا يجمع ما بين صفات عدة كائنات في وقت واحد وتجسيدها جماليا وتعبيريا من خلال قوة التشكيل وانتماء التكوين للمكان والحياة الشعبية.

 

فالبحث الجمالي عند اتحاد كريم لم يتناول محاكاة التاريخ والتراث وتأويله حسب بل تطور وتعدد شعاع امتداده الابداعي ليكون اداة تأثير مهم للجمهور والتأثير في الذوق وتربيته الجمالية والفنية. وهذا ما يرتبط بالقدرة الابداعية للفنان اتحاد كريم من حيث الادراك والاسلوب وطبيعة التجربة الجمالية لديه. فالإدراك لديه مرحلة من مراحل الوعي مثلها مثل مراحل الإحساس والخبرة والمعيار والسلوك التربوي والجمالي الذي يقود إلى التذوق. والإدراك هو الخطوة التي تلي الإحساس، إذ يحتاج شيئاً من الوعي والتميز الذي لا يمكن أن يتم دون الإحساس، في جميع أنواعه لاسيما الإحساس البصري للكتلة النحتية الصماء التي يصنعها. اذ يشير الفنان اتحاد كريم الى ذلك قائلاً "إني ابحث في الاشكال واحاول اختزال الشكل البشري وتخليصه من الزوائد، وقد تقول اني كالمعماري اسعى للشكل الجمالي... نعم اني ابحث عن الجمال الخالص أي القيمة الخالصة، والجمال هو المضمون". اذ تخضع عملية الادراك لديه في خضم هذه التجربة الجمالية الطويلة إلى نوعين من العوامل الذاتية والموضوعية. فالموضوعية تتعلق بالمنبهات أو المثيرات الموجودة في البيئة الخارجية، والذاتية هي خاصة بالفرد ذاته، وتتفاعل هذه الطريقتين معاً لتشكل وحدة وبنية متكاملة من الناحية الوظيفية. ويشير الفيلسوف الالماني (ادموند هوسرل) إلى مصطلح (الانطباع) الذي قد يتولد من الإدراك والقناعة بالفكرة أو الشيء، والانطباع هو غير الصورة الحسية من حيث أن الأول هو أصلي، والثانية ليست بأصلية، وان الانطباع الباطني هو إحضار كما كان الإدراك أيضاً هو إحضاراً في الاظهارات المختلفة، وهي وحدات تنشأ في الوعي الباطني. وعلى هذا الأساس فان الإدراك كعملية عقلية لدى الفنان اتحاد كريم هو الجسر الموصل إلى تحقيق وظيفة العمل النحتي وحتى الخزفي بصورة موضوعية وواقعية تؤدي حضورها المهم جماليا ووظيفيا. إذ تتوقف قيمة ونوعية الاستجابة البصرية لمكونات العمل الفني لديه على مقدرتنا لإدراك وتأويل وإعطاء الحكم على أهمية ذلك الخطاب وما يمتلكه من مكونات بصرية تثري المتلقي وتشعره متوائماً ومنجذباً لمكوناته، مفعماً بطاقة من الإحساس العالي في فهم العمل الفني والاستجابة إليه والتأثير في المجتمع العراقي اولا والعالمي ثانيا. وقد اشار الناقد عادل كامل في تحليله لأعمال اتحاد كريم ومديات الادراك والتجربة والجمالية وتشكيل الاسلوب واصفا ذلك بانها تجربة تنحو نحو الابتعاد عن التعقيد لصالح الشكل الهندسي – الانساني وتقديم النحت كشكل متكامل، كبعد جمالي يتضمن داخليا موضوعه الذي يتمثل بالمرأة، الام، والايحاء برمز الخصب هذا البعد المتجذر والمنحدر من اقدم اثار النحت عند الانسان، فالشكل الانثوي الرشيق والرمزي هنا يعتمد تمثل الجمال الانساني وسط المدينة .. ذلك لان النحات يصمم نماذجه للساحات، وعلى نحو ادق انه لا يتجاهل اشكالات العمارة المعاصرة.   

استطاع الفنان اتحاد كريم من خلال اعماله النحتية والخزفية ان يؤكد على وجود روح حقيقية للمكان ومحاولة لإيجاد حوارية متجانسة مع التاريخ والتراث باستعارات رمزية تشكلت على وجه امرأة او مجموعة رجال او حتى شكل قناع ... ان حوارية وتأويل استعاراته تثير العديد من التساؤلات التي تجعلنا في استرخاء تام واستمتاع جميل للمعنى المطروح في جل خطاباته الجمالية. إن توظيف الاستعارة كان وما يزال يكشف قدرة الانعكاسات بدءاً من نزوعها العفوي إلى توجهها الفني لغرض إظهار الشيء بما هو مجسد للفكرة في تصويره البليغ من خلال تحويل العالم الواقعي إلى عالم متخيل، أي من واقعية الشكل إلى افتراضية المشهد العام للخطاب. من هنا يكون التأويل أوسع من التفسير من الناحية العقلية، إذ لا يصل المتذوق إلى الكشف عن المعاني إلا إذا فك تشفير الخطاب وتفسيره، من خلال الارتباط بما يمكن أن يصطلح عليها بالرموز التأويلية وهي رموز بصرية توقظ الأحاسيس وتستثير الانفعالات، والتي استطاع ان يؤكد عليها اتحاد كريم من خلال اعماله النحتية والخزفية كاستعارات المرأة وتحولاتها فضلا عن تخطيطاته المتميزة.