مثلما الحرب كطرف مقابل ومتضاد مع السلام له القابلية التي تدفعنا باتجاه فهم ومعرفة دالة السلام كذلك يعدّ السلام طرفا في التدليل على نفسه والذي يساعدنا على معرفة وفهم كنه السلام من ذات السلام. إن السلام يعرّف نفسه بنفسه من دون وسيط خارجي ومن دون الحاجة الى تدخل يمنحه وجوده في التصور والعمل وهذا نستوضحه عن طريق:
أ – الاتفاق: ليس في هذا العالم ما يمكن أن يقال له أنه الأعم في حضوره كالاختلاف. ولمّا كان العالم قائما على الاختلاف كضرورة وجود اولاً، وضرورة اغناء واشباع ثانيا، وضرورة تجنب الوقوع في شرك التكرار المؤدي الى موات هذا العالم ثالثا، كان لزاما أن يفترق هذا العالم في كل صغيرة او كبيرة وكان لزاما بمثل ما ينهض الاختلاف بالبقاء ينهض أيضا بالفناء إذ من طبيعة المختلف التنافر والقطيعة وهي سمة من سمات ناموسية توافر ذلك الاختلاف بالقوة.
من هنا تطلب دخول عامل خارجي يحقق الوجود السهل والسلمي بين المختلف في ذاته والمختلف مع بقية الاشياء او العناصر في السلسلة والنسق. ولمّا كان السلام ومن طبيعة أشراطه تحقيق اتفاق بين المختلف والمختلف إذ يتوجب ايجاد عامل التشارك الفعال والايجابي الذي من شأنه ابقاء الحياة مستمرة والحفاظ على ذلك الاستمرار وايجاد عامل تجنب وقوع التنافر الذي يؤدي الى انتهاك الراحة والأمن وايجاد ما يخفف من السجية المتنافرة في المختلف ويجعله وإن كان مختلفا ميالا نحو المؤتلف.
هكذا صارت الحاجة الى توافق بين المختلف والمختلف. وهذا التوافق لابد له من وضع سلسلة من الاتفاقات المضمرة كقيم عليا او المعلنة كمصالح تسلك الحياة بين الاطراف المختلفة على نحو الفائدة والبقاء. وهذه الحاجة وإن كانت تبدو خارجية إلا أنها متضمنة داخل مبدأ السلام نفسه. إن كلّ سلام سيكون مشروطا بكل اتفاق يلزم او يمهد بالأسباب الذاتية والموضوعية الى تحقيقه. من هنا يكون الاتفاق صيغة من صيغ السلام التي تعبّر عنه بالممارسة المختلفة. أي بكل العناصر المختلفة والتي خضعت الى نموذج اتفاقي تصير عناصر مسالمة موضوعيا.
الاتفاق هو سلام تركيبي. سلام جمع الاختلاف في بنيته الداخلية والخارجية. سلام استطاع تحويل القطائعي بذاته الى تسالمي بموضوعه، وهذا يعدّ الهدف الأسمى الذي يجاهد الانسان لبلوغه إذ يكون ذلك البلوغ بمثابة نجاح ارادة السلام وبمثابة نجاح لترويض المختلف ذاتيا بدالة متخارجة عنه تجعله مؤتلفا موضوعيا وهو مائزة الانسان العظمى عمّا تكون عليه الكائنات الأخرى.
ب – الانسجام: بكثير من التنازل من جهة، وبكثير من التداخل من جهة أخرى. يمكن أن تلتقي العناصر المختلفة في مجرى الائتلاف. إن قدرة الانسان في تعزيز المركبات المختلفة بوحدة الانسجام هي القدرة التي تعينه على صناعة سلام نفسي او أسرى او مخلوقاتي او جماعاتي او محلي او عالمي.. هذا بمثل ما يعني الحاجة الى الاختلاف بذات الاختلاف بمثل ما يعني الحاجة الى تمكين الانسجام بذات صناعته بين ما اختلف من عناصر في هذا العالم.
إن في قلب المختلف أيضا تتجلى روح المؤتلف إذ لا يمكن ان يسمح لنفسه المختلف بالفناء طالما استقل بنفسه و ترابط مع غيره في آن واحد. إن استقلاليته لا تعني له القطيعة المغلقة إذ أن تلك القطيعة هي نهاية وجوده. امحاء لكينوناته وصفاته. وهذا ما يجعله ومن داخل نفسه تواقا الى ذلك الآخر ليتشاكل معه وليؤمن أيضا أنه دور في هذا العالم يمثل على خشبة مسرح الحياة ليكون مفيدا وايجابيا لا مضرا وسلبيا. وعلى أقل تقدير أن الكشف بأشعة الانسجام عن ذلك المؤتلف والتعايش معه يشكل ضرورة بقاء.
ت – الوئام: لا سلام من غير محبة: بهذا القول نعاين تحقيق الاتفاق بين الاشياء كشرط تنظيمي للميل نحو نزعة السلام، وكذلك توفير مناخات تداخلية بين الاشياء المختلفة وترويضها تحت عنوان الانسجام لا يعدّ أمرا كافيا مالم يعزز بوئام يجمع الاطراف المتفارقة والمتباينة في لحظات من التقبّل المريح والرغبة المستمرة في التواصل بين كلّ العناصر المختلفة. مالم يكن ذلك فأمر الاتفاق والانسجام إنما يكون اشتغاله على نحو آلي مغرّب سرعان ما ينقلب ليعيد المختلف الى سلطته المغلقة التي ترفض الآخر.
يمكن أن أشبه ذلك في العلاقات وفي أيّ حقل او قطاع حيواتي بدهان المشاعر الذي يرطب الروح الجوانية للعناصر المختلفة ويجعلها اضافة الى تقبل غيرها في لحظة شوق وتودد إليه. لحظة تعاطف متبادلة. وهكذا يمكن ان نزيد من عمر الانسجام بين كل العناصر المتباينة، المستقلة بذاتها ولكنها وبضرورة السلام اصبحت منسجمة بدورها في الآخر وفي السلسلة والنسق.
ث – الهدوء: إن امتلاء الشيء - أيّما شيء - بطاقة ذاتية تتسيج به حصرا وطاقة علاقاتية متنوعة لا حدّ لها في المعلوم ابتداءً تؤصل فيه نزعة التباين المغلق. ولكنه وعبر تنظيم توافقات معينة وتغليب الروح المنسجمة المتوالدة من بطن الاختلاف ومعدته يكثر من مفاعلات الترويض وللحاجة والمصير يقوي روح التعاطف المتبادل. > الغالي جدا: يقوي النزعة التكاملية في تحقيق الأدوار في الأطوار والضرورات المتعددة.
لهذا سنلحظ هدوءً مفتعلا ومتجاوزا لخصوص الشيء بذاته. هدوءً موضوعيا يترجى الشيء منه أن يوضع في مأمن دوره البناء. في الاكتفاء الخارجي الذي يمنحه دفء البقاء والتواصل. إن هذا الهدوء في كبد المنفعل من كل مختلف هو الصفة المضافة التي يتشرط السلام تواجدها ليكتمل بدره ساعة عمل ومصير او ساعة وجود وحضور.
بالهدوء ينتشر السلام عضويا في كل العناصر وتصير لازمته لازمة وجود ذلك السلام ووجود الحاضن الوجودي له ومحط تحقيق أهدافه بل محط مستقبله على ظهر هذا الكوكب الجريح بفوضى الكره والعنف والارهاب.
ج - الصفة الموجبة: في ذات الاشياء جميعها تسكن الصفة الموجبة. هي الصفة التي تعنون وتجنس الاشياء وتصنف اهميتها او وظيفتها او فوائدها او محلها من الواقع مع بقية الاشياء عموما. تلك الصفة تؤثر في الشيء بذاته وتؤثر بما يحيط تلك الاشياء وبنفس القابلية والامكان. إن الأثر الذاتي للشيء يطابق الأثر الخارجي له.
إن مجرد وجود تلك الصفة الموجبة يشكل دافعا لأريحية المعاملة او ترسيم حدود العلاقة على نحو أفضل بين كل شيء. إذ بمقدار ما تحسنه الصفة موضعيا تحسنه عضويا مع الآخرين، وهذا التحسين المعنوي والعملي يتجلى بالنتيجة على شكل سلام تستظل به الاشياء جميعا. إن وراء كل صفة محمودة سلام او على أقل تقدير وجود دوافع للسلام يمكن أن تحققها إرادة الصفات المتلازمة مع ذوات الاشياء خاصة اذا كانت تلك الصفات موجبة.
ولمّا لا يجري تفريقنا بين الصفة والذات من جهة، والصفة وماهية تلك الذات من جهة ثانية. بدا السلام محمولا في موضع الراحة والقبول. محمولا على استقرار ذاته من استقرار صفاته فيه. وهذا ما سوف ينعكس على تعظيم ارادة السلام في الواقع عموما. بل أن تلك الارادة ستقبل استمرارها وديمومتها من حيث ديمومة واستمرار تلك الصفات في عملها الداخلي. وإن أيّ توقف لتلك الصفات سيقوّض ذلك التوقف ارادة السلام في الشيء وفي الأشياء المحيطة به بذات الوقت والقدر.
ح – التواصل: يوجد في الشيء محرك داخلي، دينامي. يريد تبادل الادوار والمنفعة ويريد تحقيق الغرض الكلي للشيء اضافة الى تحقيق غرضه الجزئي، وان هذا المحرك من شأنه أيضا تسديد فاتورة حاجته بالبقاء عن طريق ارتضاء العمل مع الآخر المختلف وأن ذلك العمل يقتضي الاتصال به. يقتضي التواصل لا مظهريا وحسب بل جوهريا أيضا، وأن المزيد من التواصل سيفضي بالضرورة الى مزيد من السلام.
إن التواصل هنا يعدّ وظيفة عضوية للسلام من حيث أن التواصل هو هدف عضوي بين الشيء والشيء الآخر في السلسلة والنسق. من هنا يجد الانسان ضالته في تعزيز العلاقة والفهم من حيث تعزيز التواصل سواء كان ذلك في الانسان عبر جوانياته الخاصة او أسريا او اجتماعيا او دولتيا. الانسان والسلام يعبران خط التواصل لكي يعبران خط البقاء والأمان.
وبعبارة: إن الانسان كائن تواصلي، يمكننا القول بالترادف: إن الانسان كائن بالسلام. إن العلاقة طردية تسير بخط مواز بين الطرفين. إذ تعظيم السلام يعدّ تعظيما لآليات التواصل فيه او عنه وتحقير التواصل سيؤدي الى نتيجة واضحة تقديرها تدمير ارادة السلام وانتهاك كرامة الخلق والمخلوقات في آن واحد. إن التواصل والسلام صورتان لفكرتين غير متشابهتين لكنهما الفكرتان المحوجتان لبعضهما على نحو أن تركيبهما ينتج أمانا عاما للخلائق كلها.
إذن، أن نحفظ او نحتفظ بكينونتنا في هذا العالم المضطرب هي أن نحفظ ونحتفظ بقدر واسع من التواصل مع بعضنا. إن ذلك التواصل من شأنه فك طلاسم المختلف من جهة، وفك نزعة العداء المتلازمة فيه نتيجة قطائعه بالاختلاف عمّن سواه من جهة ثانية. التواصل شرط البقاء: بقاء الكينونة متزمنة مع الحدث من غير تدمير. وهذا ما تصبو اليه البشرية. إن المجهول والغامض وانقطاع الحدّ في أي شيء يثير الخوف وأن وراء كل خوف كراهية وانسحاب وفي هذا مؤدى الى تدمير العالم، ولرفع ذلك العداء المستعصي، هو الآخر، كصفة من صفات الاختلاف يتوجب تدعيم مبدأ وآليات التواصل لأنها الأسباب التي تكفل رفع الجهالة والغموض ومحق الخوف والكراهة، وبدلا من اللالقاء بدواعي العداء يصير اللقاء بدواعي الصداقة والمنفعة وضرورة الوجود بالبقاء.
خ – الاستقرار: إن تقرّ في القبول بما أنت عليه وبموضع التقدير بما يناسبك لا لشيء الا لأجل ادامة السلام كليا ذلك آخر ما يقدمه الانسان في هذا العصر المزدحم بمشكلات الكراهية والعنف. وذلك أدعى للحفاظ على مسير ارادة السلام في المجتمعات على نحو متزن وثابت لا تشوبها الاخطاء او الانحرافات التي تقوض السلام في هذا العالم.
إن استقرارنا داخليا هو استقرارنا خارجيا. إن العامل النفسي يلعب دورا أصيلا في تعزيز الاستقرار إذ كل انحراف يتمظهر تجد أسّه في منحرف الرغبات او الميولات في دخيلة الانسان وأن عامل الاستقرار لكل شيء هو عامل استقرار الذات من حيث استقرار داخلها ابتداء.
إن الاستقرار هو حراك أشدّ تكلفة من أيّما حراك آخر في السلسة والنسق. الحراك الذي يجعلنا على حبل هذا العالم المهتز والمعلق بطرف قشة نكابد مرارا وكل ساعة من أجل تثبيت عامل الاستقرار. فلولا ذلك العامل المتحرك بالثانية لما بقي سلام ولتم تقويض إرادته فينا وما يحلّ من بعد مجاهدة حراك الاستقرار إلا الدمار وفقدان ألأمن والحياة.
د – التوازن: كل شيء يدرك موضعه بقدر معلوم. وإن ذلك الادراك بقدرٍ ما ثابت ومتزن، من شأنه الاضفاء للحراك الدينامي لهذا العالم طابع السلام. إن الشيء يحفظ نفسه طالما حافظ على اتزانه في العلاقة مع بقية الاشياء وأن ذلك الحفظ سيكون مصحوبا بتعزيز ارادة السلام في فعلها وتفاعلها. الاتزان في الشيء وعلاقاته يؤكد سيرورة السلام بما يليق وكرامة او كينونة الانسان ومعتقداته.
إن الحياة داخل الدور وفي طور المرحلة بما يتماشى مع الظرفية الآن هي الحياة في تمثل الاتزان معيارا لتحقيق او تفعيل ارادة السلام. وبالتالي هي الحياة التي هي السلام. إننا – هكذا - نعيش في ظل مبدأ لا غالب ولا مغلوب. انما الطور والدور في حياد ما نحن عليه وما نتقدم به من خدمات في ظل حركة من العمل والعوامل داخل هذه الحياة.
إن المبدأ: لا غالب ولا مغلوب هو مبدأ انتصار البقاء على الفناء. هو الحفظ المستمر لتواصل الكائن بالحضور والفعل من غير ما يعكّر الخطى. هو نحن في ظل رفاه الوجود الذي ينزع عنه ثياب القلق او التوتر او الخوف والعداء. هو ابقاء شرط السلام من ابقاء شرط التوازن في تقدير ما نحن عليه او ما نحن نعمله او ما نحن نتعالق به.
ذ – الصحة: غالبا ما يتكلم الجسد وبشكل ممتلئ بالعنف حين يقهر ذلك الجسد او يتعرض الى نوبات من الاضطهاد او التجويع. إن قمع الجسد ينتج عنه قمعا كبيرا للحرية والسلام. صحة الجسد تتناسب وصحة السلام اذ كلّما سقط جسدنا في كلّ امراض القهر او القمع او الجوع او الحرمان كلما توغل ذلك الكبت فيه وازدادت التعبيرات عن العقد بتعبيرات من الانتقام والكراهية مما يضطرب الجسد بذاته ويضطرب كل محيط خارجي بذلك الجسد.
ر – النماء: وجود الكائن في لحظة او فكرة معافاة هي وجوده بما نمى. إنه كائن بالتغيير وكلّما بلغ مراتب التغيير والتغاير كلّما عزز عنده عقيدة الخروج من الراكد، وكلّما اتصل بالحاضر والمستقبل أكثر. إن العنف والكراهية تجليات من صور الماضي السيئة. إن ثباتنا فيما نعتقد من أفكار راسبة في قاع نفوسنا هو شكل من اشكال ديمومة الكراهية والعنف او الارهاب. لذلك نحن مجرى دائم من التفكير لا مستنقع دائم من الافكار. ان انعدام النمو فيما نفهم مؤداه انعدام السلام حضورا واعتبارا وممارسة. وهذا المؤدى يسلب فينا كل راحة ويجعلنا نعيش بوادي الجهل والخوف والسبات. وهذا المعيش لا يجعلنا بعيدين عن القتل او التدمير والهلاك بل أن ذلك من نواتج حفظ الأفكار وعدم النمو عن طريق الحفظ بالتفكير وما بين الاثنين تفارق ملحوظ: الأول مفاده الحرب والثاني مفاده السلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جبار صبري: باحث وناقد مسرحي اكاديمي عراقي