أيلول/سبتمبر 12
   
 
 تقديم:
 
    يعد "شارل نوديي "واحدا من الكُتَّاب الفرنسيين الذين جمعوا بين الأدب والسياسة في مسار حياتهم؛ فقد كان في الآن نفسه من أشد المعارضين لحكم "نابوليون بونابرت". كما كان قاصا وروائيا ذا توجهات رومانسية في البداية، ثم غرائبية فيما بعد.
ولد عام 1780 ببيزانسون بفرنسا. انتقل إلى باريس سنة 1800، غير أنه عانى فيها كثيرا بسبب مواقفه وآرائه السياسية. يتم تعيينه محافظا بمكتبة الأرسنال؛ وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى حين وفاته عام 1844. خلال هذه الفترة، أسس "نُودْيِي" صالونا أدبيا كان قبلة لأدباء عصره، ومقصدا لأوائل الرومانسيين الفرنسيين. تميز "شارل نوديي" بالبساطة والوضوح، وبأسلوبه الأنيق، وبجمله التي تحمل أحاسيس تصل أحيانا حد التناقض؛ فهو تارة يمزج بين السخرية والتهكم من ناحية والجدية من ناحية أخرى، وتارة تراه يُعبِّر عن قلقه الوجودي المرضي في قالب من الغرائبية المرعبة التي تغذيها قصص مصاصي الدماء والأشباح والشياطين والهوام... حتى إن المتلقي يظل متأرجحا على طول السرد بين الواقع والخيال.
 
القصة:
 
 يُحكى أن شبحا كان يتردَّد على "قصر لينديمبيرغ"، حتى أحاله إلى مكان غير قابل للسكن. وبفضل أحد القديسين، انحصرت المساحة التي يسيطر عليها الشبح في حجرة واحدة، تُركت على الدوام مغلقة. غير أن الشبح دَرَج على الخروج من منفاه على رأس كل خمس سنوات، في الخامس من مايو، وفي ساعة محددة من الصباح. كان هذا الشبح راهبة تسدل على رأسها حجابا وتلبس فستانا ملطخا بالدماء. كانت تمسك في إحدى يديها خنجرا، وفي الأخرى مصباحا منيرا وهي نازلة على الدُّرج الكبير، وعابرة للسَّاحات قبل أن تخرج من الباب الكبير، الذي يُحرَص على تركه مفتوحا، وتختفي. أوشك موعد الظهور الغامض للرَّاهبة أن يحين، عندما تلقى "ريموند" المتوَلِّه الأمر بأن يترك يد "أَنْيِيسْ" التي يغرق حتى أذنيه في بحر هواها. طلب منها موعدا جديدا، فحصل عليه بعد أن اقترحت عليه أن يختطفها. كانت "أَنْيِيسْ" على دراية بمقدار نُبل حبيبها؛ مما سيحول بينه وبين تنفيذ مخطَّطها؛ فقالت له: "ستقوم الرَّاهبة الدَّامية بجولتها المعتادة في غضون خمسة أيام؛ لذلك ستكون الأبواب مُشْرعة، ولن يجرؤ مخلوق على اعتراض طريقها. سأحصل بطريقة ما على ملابس مناسبة لكي أخرج من دون أن يعرفني أحد؛ كن مستعدا على مقربة من هنا...". في هذه الأثناء، دخل أحدهم وأجبرهما على الافتراق بالقوة. في اليوم الموعود، الخامس من مايو، في منتصف الليل كان "ريموند" بالقرب من أبواب القصر، بينما تنتظره عربة بحصانين في مغارة مجاورة.
انطفأت الأضواء، وسكنت الأجواء. دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ففتح البواب الباب الرئيس تبعا للعادة القديمة المتَّبَعة. فجأة، ظهر ضوء في أحد الأبراج، أخذ [هذا الضوء] يعبر قسما من القصر، ثم ينزل السلالم... لمح "ريموند" " أَنْيِيسْ"، فتعرّف على الملابس والمصباح والدم والخنجر. اقترب منها، فرمت نفسها بين دراعيه. فحملها وهي بين الوعي واللاوعي إلى العربة، وانطلقا معا على جناح السرعة.
لم تنبس "أَنْيِيسْ" ببنت شفة.
انقطعت أنفاس الحصانين من أثر الرَّكض؛ حتى إن شدقيهما سال لُعابهما على الرغم من محاولتهما الإحجام عن ذلك. في هذه اللحظة، هبَّت عاصفة مرعبة: رياح عاتية تصفر، ورعد يدوي وسط برق يخطف الأبصار... انكسرت العربة... وغاب "ريموند" عن الوعي. بعد طلوع الشمس، وجد "ريموند" نفسه مُحاطا بمزارعين كانوا يحاولون إنعاشه. أخبرهم عن كل شيء: عن "أَنْيِيسْ"، والعربة، والعاصفة. غير أنهم كانوا يجهلون كل شيء، كما أنهم لم يروا أي شيء؛ هذا فضلا عن أنه كان يوجد على بعد عشرة فراسخ من "قصر لينديمبيرغ".
نقله المزارعون إلى "راتيسبون"؛ حيث ضمَّد طبيب جراحه، وأوصاه بالخلود إلى الراحة. حاول الْمُحِبُّ الشاب أن يبحث في الموضوع بشتى الوسائل بدون جدوى، كما طرح العديد من الأسئلة التي بقيت معلقة بلا جواب؛ حتى إن الكل بات مقتنعا بأنه فقد عقله.
مع انقضاء اليوم، استسلم "ريموند" للنوم تَعِبا منهك القُوى. كان يغُط بهدوء في نومه إلى أن شقَّ صمتَ الليل صوتُ جرس دير على مقربة منه، فاستيقظ والساعة تشير إلى الواحدة صباحا. انتابه هلع غامض سيطر على جوارحه برمتها، حتى إن شعر رأسه انتصب وتجمد الدم في عروقه. فجأة فُتح باب الغرفة بعنف، وعلى بصيص الضوء المنبعث من مصباح موضوع على المدفأة لمح شخصا ما يقترب؛ إنها الرّاهبة الدّامية. اقتربت منه من دون أن تتحوَّل عيناها عنه، ثم جلست لمدة ساعة كاملة على طرف فراشه. ومع دقَّات الساعة معلنة الثانية صباحا، انتصبت الرَّاهبة واقفة، ثم أمسكت بيد "ريموند" وقالت له: "ريموند، أنا لك وأنت لي إلى الأبد"، قبل أن تخرج على عجل وينغلق الباب وراءها.
بعد أن شعر "ريموند" بشيء من الأمان، ملأ الدُّنيا بالصراخ والمناداة على من كانوا يَأْوُونه؛ فترسَّخ لديهم أكثر من أي وقت مضى أنه على شفا حُفْرة من الجنون وأن حالته تزداد سوءا دون أن ينفع معها علاج طبِّي معروف.
في الليلة الموالية عادت الراهبة مرة أخرى، وقد تكرر الأمر لأسابيع عدة. وحده "ريموند" كان يراها، أما من كان يجعلهم ينامون معه في غرفته فلم يُبْصروا أيَّ شيء.
فيما بعد، سيعلم "ريموند" أن "أَنْيِيسْ" تأخَّرت في تلك الليلة عن الخروج لملاقاته، فبحثت عنه في نواحي القصر وجنباته من دون أية نتيجة؛ فاستنتج أنه في الحقيقة إنما اختطف خطأً الرّاهبة الدّامية. وقد سقط هذا الخبر على والدَيْ "أَنْيِيسْ" - اللذين لم يكونا يستسيغان "ريموند" - بردا وسلاما؛ فاستغلا تأثير الحدث على نفسية ابنتهما وفكرها للتعجيل بدفعها في سلك الرَّهْبَنَة. أخيرا تخلص "ريموند" من رفيقته المرعبة؛ فقد حدث أنْ مرَّ شخص غامض بـ "راتيسبون"، فأدخلوه عليه في غرفته في الساعة التي من المفترض أن تظهر فيها الرّاهبة الدّامية؛ وما إن رأته حتى ارتعدت فرائصها، وطفقت تشرح قصتها تنفيذا لأمر ذلك الشخص: لقد كانت في الماضي راهبة إسبَّانية، تركت الدِّير لتعيش حياة الخلاعة والمجون مع سيد "قصر لينديمبيرغ". ومثلما خانت رَبَّها، خانت أيضا حبيبها بطعنه حتى الموت. بعد ذلك هي نفسها سيقتلها الشخص الذي تواطأت معه على قتل حبيبها، والذي كانت تُمنِّي نفسها بالزواج به. بقيت جثتها بلا دفن وظلت روحها هائمة منذ قرن من الزمان.
طلبت الرّاهبة الدّامية بعضا من التُّراب لمواراة جثتها الثَّرى، وقليلا من الحجارة لتسكن روحها. وعدها "ريموند" بتحقيق طلبها، ولم يرها منذ ذلك الحين.
 
مصدر النص الْمُترجَم:
 « La Nonne Sanglante », Charles Nodier, in Histoires de Vampires, Ed: Maxi-Livre, 2005, pp 65-69.