
صوت الظلام
ظلام، صوت فتاة،
يأتي من بعيد
الصوت : خلات ..
صوت خلات : آه هذه عيشة .
الصوت : خلات .. خلات ..
صوت خلات : " يتمتم " عيشة .
خلات في شبه ظلام ،
تسلط عليه مجموعة صور
خلات : شنكال .. الربيع والسلام .. دماء .. دماء
.. قتل .. وانتهاك .. وتخريب .. رجال ..
ونساء .. وأطفال .. فتيات .. نساء ..
أمهات .. شنكال .. شنكال .. شنكال .. "
صمت " عيشة ..
.. قتل .. وانتهاك .. وتخريب .. رجال ..
ونساء .. وأطفال .. فتيات .. نساء ..
أمهات .. شنكال .. شنكال .. شنكال .. "
صمت " عيشة ..
بقعة ضوء على خلات ،
وهو يتقدم إلى وسط المسرح
خلات: عيشة ، وأنا بعيد عنكِ ، في اربيل ،
سمعت بما يجري في شنكال ، تركت كلّ
شيء يعود لي ، وأسرعت إلى دهوك ، لم
أمرّ بالموصل ، فالغربان كانت تحتلها
، ويحتلون أهلَ الموصل ، ومن هناك ،
من دهوك تسللت عبر جبل شنكال ، أريد
أن أصل إليكِ ، قبل أن ينشبوا مخالبهم
فيكِ ، لم أصل شنكال ، فأهل شنكال ، وأهالي
القرى المجاورة ، كانوا يتسلقون الجبل
من كلّ مكان ، هرباً من الإعصار الأسود
، هرباً من داعش ، وداعش كانوا في كلّ
شنكال ..
سمعت بما يجري في شنكال ، تركت كلّ
شيء يعود لي ، وأسرعت إلى دهوك ، لم
أمرّ بالموصل ، فالغربان كانت تحتلها
، ويحتلون أهلَ الموصل ، ومن هناك ،
من دهوك تسللت عبر جبل شنكال ، أريد
أن أصل إليكِ ، قبل أن ينشبوا مخالبهم
فيكِ ، لم أصل شنكال ، فأهل شنكال ، وأهالي
القرى المجاورة ، كانوا يتسلقون الجبل
من كلّ مكان ، هرباً من الإعصار الأسود
، هرباً من داعش ، وداعش كانوا في كلّ
شنكال ..
خلات يتوقف ، الآلاف
يتسقون أطراف الجبل
خلات : كالمجنون رحت أبحث عنكِ .. عيشة ..
عيشة .. أهل عيشة .. أخوها وأبوها أمها
.. ومن هنا وهناك .. وصلتني مزق
الحقيقة .. قتل أبوها .. قال لي رجل متقدم
في السن .. رأيتهم يذبحونه في الساحة ..
قلت له تعال اهرب معنا .. فقال عيشة ..
وأم عيشة و .. وقال لي شاب .. مصاب
باطلاقة في يده .. اخذوا أخو عيشة ..
وبعد أن هربت من شنكال ، عرفت أنهم
قتلوه ، لأنه رفض أن يرضخ لهم "
يصيح " وعيشة .. عيشة .. عيشة ؟
عيشة .. أهل عيشة .. أخوها وأبوها أمها
.. ومن هنا وهناك .. وصلتني مزق
الحقيقة .. قتل أبوها .. قال لي رجل متقدم
في السن .. رأيتهم يذبحونه في الساحة ..
قلت له تعال اهرب معنا .. فقال عيشة ..
وأم عيشة و .. وقال لي شاب .. مصاب
باطلاقة في يده .. اخذوا أخو عيشة ..
وبعد أن هربت من شنكال ، عرفت أنهم
قتلوه ، لأنه رفض أن يرضخ لهم "
يصيح " وعيشة .. عيشة .. عيشة ؟
تسلط عليه بقعة الضوء ، فوقه
، وعلى الشاشة ، صورة عيشة
خلات: وأخيراً .. جاءتني الحقيقة .. الحقيقة
كاملة .. وما أبشع الحقيقة .. لكن الحقيقة
حقيقة .. ولابدّ لي أن أتعامل معها .. "
يصمت " قالت لي امرأة مسنة ، لكنها
قوية .. ومعروفة بجسارتها .. قالت لي ..
إن أم عيشة وقعت في أيديهم .. تكلمي ..
ولأنها ليست شابة ، أخذوها معهم ، ومن
يدري أين تخدم الآن .. في أي بيت ،
وزوجة أو زوجات أي أمير " يصيح "
أخبريني .. أخبريني .. وعيشة ؟ حاولت
المرأة المسنة أن تتهرب ، لكني ألححت
عليها .. عيشة .. عيشة .. فقالت لي ..
عيشة كانت مع أمها ، أخذوا أمها للعمل كخادمة ، أما عيشة .. فقد أخذوها ..
أخذوها .." يدور حول نفسه "عيشة ..
عيشة .. عيشة " يتوقف " جنّ جنوني،
ورحت أتنقل بين الهاربين من شنكال،
وخاصة بين النساء .. عيشة .. عيشة ..
بعضهن ما كنّ حتى يتوقفن .. بعضهن ما كنّ يردنّ عليّ .. فلأغلبهن عيشة .. في
عمر عيشة .. أكبر من عيشة .. أصغر
من عيشة .. بل حتى رضع .. امتدت
إليهنّ مخالب الظلام .. نشبت أظفار
الظلام في لحمهن الطفل البريء .. ومع
ذلك .. كانت بعض النسوة يتجاوبن معي
.. ويتحدثن عن عيشة .. عيشة وردة ..
عيشة خشف .. عيشة حمل .. عيشة .. لا
تبحث عنها .. فقد أخذها الظلام الأسود ..
ومن يأخذه الظلام الأسود .. لا جدوى من البحث عنه .. توقف .. وإلا لحقت بأخيها وأبيها وبالرجال الآخرين .. الذين ذبحوا لسبب أو لآخر ..
حقيقة .. ولابدّ لي أن أتعامل معها .. "
يصمت " قالت لي امرأة مسنة ، لكنها
قوية .. ومعروفة بجسارتها .. قالت لي ..
إن أم عيشة وقعت في أيديهم .. تكلمي ..
ولأنها ليست شابة ، أخذوها معهم ، ومن
يدري أين تخدم الآن .. في أي بيت ،
وزوجة أو زوجات أي أمير " يصيح "
أخبريني .. أخبريني .. وعيشة ؟ حاولت
المرأة المسنة أن تتهرب ، لكني ألححت
عليها .. عيشة .. عيشة .. فقالت لي ..
عيشة كانت مع أمها ، أخذوا أمها للعمل كخادمة ، أما عيشة .. فقد أخذوها ..
أخذوها .." يدور حول نفسه "عيشة ..
عيشة .. عيشة " يتوقف " جنّ جنوني،
ورحت أتنقل بين الهاربين من شنكال،
وخاصة بين النساء .. عيشة .. عيشة ..
بعضهن ما كنّ حتى يتوقفن .. بعضهن ما كنّ يردنّ عليّ .. فلأغلبهن عيشة .. في
عمر عيشة .. أكبر من عيشة .. أصغر
من عيشة .. بل حتى رضع .. امتدت
إليهنّ مخالب الظلام .. نشبت أظفار
الظلام في لحمهن الطفل البريء .. ومع
ذلك .. كانت بعض النسوة يتجاوبن معي
.. ويتحدثن عن عيشة .. عيشة وردة ..
عيشة خشف .. عيشة حمل .. عيشة .. لا
تبحث عنها .. فقد أخذها الظلام الأسود ..
ومن يأخذه الظلام الأسود .. لا جدوى من البحث عنه .. توقف .. وإلا لحقت بأخيها وأبيها وبالرجال الآخرين .. الذين ذبحوا لسبب أو لآخر ..
خلات يتوقف متلفتاً، على
الشاشة صور لمدينة شنكال
وأكثر من مرة ، ورغم الموت المنتشر في كلّ مكان ، تسللت إلى شنكال ، وتجولت متخفياً في أزقتها وبعض بيوتها ، القريبة من بيت عيشة ، وكأني أبحث فيها عن عيشة ، وأنا أعرف أن عيشة الحلم ، يمكن أن تكون في أي مكان إلا في بيتها ، أو في شنكال كلها "يصمت فترة" عبدول "صورة لعبدول على الشاشة" هذا الثعلب الضبع ، عمل معهم ، رغم أنه ليس منهم ، ولن يكون منهم ، ولن يكون مع أحد ، وهو مع أي واحد واقف، تفوح منه رائحة الذهب، آه عبدول " يسير" حاولت أن أتصل بكَ ، فأنتَ وحدكَ ممن أعرف، يمكن أن يصل إلى عيشة، لكن عبدول، حين احتجت إليه ، صار ملحاً وذاب ، عبدول الملح المسموم طريقي الوحيد إلى عيشة ، ولكن عبدول غير موجود ، ولا طريق إليه ، في وقت كانت الطرق كلها مسدودة ، أو ملغومة ، ولا تؤدي إلا إلى الموت ..
خلات يتوقف، يرن
الموبايل، فيفتحه وينظر فيه
ورنّ جرس الموبايل يوماً، وكنت في جبل شنكال، بين اللاجئين، الذين يواجهون الموت جوعاً أو عطشاً أو بالرصاص والقنابل والصواريخ، فتحت الموبايل، رقم مجهول لا أعرفه، ألو، تفضل، من أنت ؟ حسن، لا عليّ ، تفضل ، إنني أسمعك ، عيشة عندكم ؟ عيشة مازالت حية؟ حمدا لله، نعم أسمعكّ، إذا كنتم تريدون مالاً لقاء إطلاق سراحها ، فأنا معدم ، نعم أنا أفديها بحياتي ، إنها ابنة عمي ، ولم يعد لديها أحد في الحياة غيري ، لا تريدون مالاً ؟ هذا خير ، إنها صبية بريئة ، أطلقوا سراحها ، لن تطلقوها إلا بشرط ؟ حسن، سأنفذه مهما كان ، حسن إ إنني أسمعك جيداً ، عبدول ؟ نعم، إنني أعرفه ، إنه معكم ، ماذا ؟ لم يعد معكم؟ مجرم وخائن و .. ؟ أنتم أدرى ، ماذا ! أقتله ! لن تطلقوا سراح عيشة إلا إذا قتلته ؟ " يصمت " ألو .. الو .. وأغلق الموبايل ..
خلات يغلق الموبايل ،
ويعيده إلى جيبه
يا طاووس ملك ، أنا لم أقتل إنساناً ، لكن عبدول ، أهو إنسان ؟ هذا الذئب الضبع ، تعاون معهم ، باع أهله وناسه ، ثم خانهم ، إنه يخون أمه التي أرضعته ، من أجل الذهب ، عبدول يستحق الموت ، يستحق القتل ، ومن أجل عيشة ، أقتله وأقتل أي مجرم مثله ، عيشة بين أيديهم ، وهو على قيد الحياة ، هذا حرام " صمت " خلات ، أنت لم تقتل من قبل ، صحيح أنك تعاركت ، أنك سرقت ، أنك .. لكنك لم تقتل ، لم تقتل إنساناً ، قتل الإنسان ليس أمراً هيناً ، لكن عيشة بين أيديهم ، ومن يدري ، لعل عبدول نفسه هو من باعهم ، هو من سلمهم للقتلة ، هو .. الموت لعبدول " صمت " عيشة ، ابنة عمي وحياتي عيشة ، رفضني أبوها لكنها لم ترفضني ، كرهتني أمها لكنه أحبتني ، وأخوها لم يكن إلى جانبي ، لكنها أصرت ، ومهما كانت الظروف ، أن تكون لي ، لي وحدي " صمت " في تلك الليلة ، رنّ الموبايل..
خلات يفتح الموبايل ،
ويحدق فيه ملياً
إنه الرقم المجهول نفسه ، وفحّ في أذني كأنه أفعى ، عيشة مقابل عبدول ، نمهلك أسبوعاً واحداً ، عبدول في أربيل ، أقتله وسنطلق سراح عيشة ، كن شجاعاً ، نحن ننتظر ، وأغلق الموبايل " صمت " وانطلقت أشق طريقي في جبل سنجار ، نحو دهوك ، مشياً على الأقدام ، متخللاً أكداس الناس من أهالي شنكال والقرى المحيطة بها ، ورغم المكالمتين ، ورغم كل ما عرفته عما جرى ، رحت أسأل كلّ من أعرفه عن عيشة وأهلها ، وكان الذين يعرفونهم من جيرانهم وأهلهم ، يقولون الشيء نفسه ، عن أبيها وأخيها وأمها ، وعنها هي بالذات ، عيشة أخذوها ، عيشة بين أيديهم ، إلى أن التقيت بامرأة من أقاربها ، سألتها كالعادة عنها ، فصمتت دامعة العينين ، وقالت : اذهب واسأل نادية ، وسألتها وقلبي منقبض ، ولماذا أسأل نادية ؟ أنت تعرفين شيئاً ، قوليه ، فصاحت باكية ، نادية تسير على مسافة ليست بعيدة ، اذهب واسألها ، وجنّ جنوني ، لابد أن لدى نادية خبراً عن عيشة ، ولابدّ أن الخبر .. الويل .. الويل .. ها هي نادية ، إنها إحدى صديقات عيشة المقربات ، وأسرعت نحو نادية ، ووقفت أمامها ، فتوقفت ، وعيناها تتسعان .. وتدمعان .. قلت لها ، نادية ، عيشة بين أيديهم ، وقد وعدوني أن يطلقوا سراحها إذا .. وقاطعتني نادية وهي تجهش بالبكاء ، عيشة تحررت منهم .. حررت نفسها بنفسها .. لم تحتمل أن يلمس أحدهم شعرة منها .. وصرخت .. ماذا تعنين؟ تكلمي ، يا نادية ، ماذا تعنين ؟ قالت نادية من بين دموعها .. عيشة انتحرت .. " صمت " وسارت نادية مبتعدة ، دون أن تتوقف عن البكاء ، ووقفت في مكاني كالصخرة الميتة ، عيشة انتحرت " صمت ، يخرج المسدس ويتأمله " لم أقتل إنساناً ، وها هي عيشة قد رحلت ، تركت شبابها ورحلت ، تركتني ورحلت ، لن أقتل إنساناً ، يا عيشة ، لم أقتل ولن أقتل ، لكن .. هل عبدول إنسان ؟ هل قاتل عيشة إنسان ؟ " يسير والمسدس في يده " عبدول ، إنني قادم .
إظلام
الموصل
صمت تام ، ظلام ، بقعة ضوء ،
تتنقل بين شخوص موصلية شتى
أصوات تراتيل توراتية، ثم تختلط
بأصوات النواقيس، ثم أصوات المآذن
صوت انفجار، يعقبه أزيز رصاص،
وأصوات طائرات وقنابل وصواريخ،
أصوات صراخ واستغاثة وانهيار مبانٍ
شارع مخرب ، حوله بيوت
مهدمة، القمر يطل من السماء ،
يدخل رجل في ثياب موصلية
قديمة ، ويتوقف وسط الشارع
الرجل: "يتلفت حوله " يبدو أنني تهتُ ، رغم أنني مشيت هذا الطريق آلاف المرات " يصمت " هذه هي محلة الساعة ، وفيها كنيسة الساعة " يلتفت " وهذه هي الحدباء ، منارة الجامع الكبير ، ويفترض أنني في شارع الفاروق الجديد ، الذي يؤدي إلى المستشفى ، وفي منطقة رأس الكور ، إلى يسار الشارع ، شارع فرعيّ يؤدي إلى حيّنا ، حي اليهود ، ويضم هذا الحيّ معظم التهود ، الذين يعيشون في الموصل ، وهذا ما نفعله في معظم المدن التي نعيش فيها في العالم ، نحن نعيش في جيتو خاص بنا " يصمت " وعلى مسافة من هذا الحيّ أسسنا مدرسة كبيرة خاصة بنا ، وكنّا ، نحن والمسيحيين في المدينة ، من أوائل الذين أسسوا المدارس المختلفة لأطفالهم ، ثم تبعنا المسلمون ، الذين كانوا يرسلون أبناءهم إلى الكتّاب ، عشنا هكذا ، قبل أن تصيبنا حمى الهجرة ، وقد سألتني جارتنا المسلمة العجوز ، لماذا تهاجر يا " حزيط ؟ " ، فتنهدت من أعماقي ، وقلت لها ، قيل للمسمار لماذا ، فقال من الطخماغ الذي على رأسي ، سيهاجر الأهل والأقارب والكثير منّا بسبب الطخماغ الذي على رؤوسهم ، ومن جهتي ، فإنني على ما يبدو لن أهاجر ، فعمري ، وأمراضي ، وفقري ، وحبي للحي الذي ولدت فيه ، كلّ هذا سيمنعني من الهجرة ، والبقاء في التربة التي ولدت فيها ،ومن التراب إلى التراب أعود ، ولكن التراب الذي ولدتُ عليه " كأنما يخاطب مجموعة من الناس " ستظلموننا إذا أخليتم هذه المدينة منّا ، فنحن أقدم جالية على هذه الأرض ، جيئا بنا ، وأسكنّا في الشمال والجنوب ، قبل أكثر من ثلاث آلاف سنة ، والآن وكما في الأمس القريب والبعيد ، بيننا الصناع والحرفيين والصاغة والتجار والمعلمين والأطباء ، بل وحتى الأدباء والموسيقيين ، بل إن صالح الكويتي ، هو أبو الأغنية العراقية ، ولديه المئات من الأغاني والألحان ، التي تردد حتى الآن " يتلفت حوله حزيناً " لو رأتني جارتنا العجوز ، في هذا الليل الموحش ، أقف هنا حزيناً محبطاً ، لقالت لي ، ماذا تفعل هنا ، يا حزيط ؟ ، سأجيباه بصوت أقرب إلى النحيب ، إنني كما ترين ، أزور جنتي القديمة ، مدينتي ، الموصل ، اسمعي ، أيتها الجدة ، أنت تعرفين تلك النكتة ، التي ألصقت بنا ، ربما هي صحيحة ، فقد سأل أحدهم ، واحداً منّا نحن اليهود ، الجنة لمن ؟ فأجابه قائلاً ، إنها لنا نحن اليهود ، فنحن شعب الله المختار ، فسأله ، والمسيحيون ؟ فأجابه اليهودي ، المسيحيون لهم أطراف الجنة ، وسأله مرة أخرى ، وربما ليحرجه ، حسناً ، والمسلمون وهم الأكثرية ؟ فأجابه اليهودي ، المسلمون ! إنها جنة يا حبيبي ، وليس خان جغان " يصمت " تراتيلنا التوراتية الجميلة صامتة ، ونواقيس كنيسة الساعة صامتة ، والساعة نفسها صامتة ، والليل رغم القمر ظلام وصمت : يصمت " لا فائدة ، آن لي أن أعود من حيث أتيت ، حينا ، حي اليهود ، بما فيه من يهود ، بقيوا أكثر من ثلاث آلاف سنة ، يعيشون على هذه الأرض ، يأكلون من خيراتها ، ويشاركون الآخرين السراء والضراء ، نحن اليهود أيضاً انتهينا ، ولم يبقّ في أعماقنا ، نحن شعب الله المختار ، غير ذكريات ثلاث آلاف سنة عشناها هنا ، خرج ما تبقى من هذا الشعب ، وبقي الملايين ، تحت الأرض التي ولدوا عليها " يسير ببطء منكسراً متجهاً إلى الخارج " من التراب إلى التراب نعود ، وها أنا أعود إلى المقبرة ، ما يسمونه في هذه المدينة ، مقبرة اليهود ، التي ماتزال موجودة قرب رأس الجادة .
يخرج ، يسود الصمت ، يدخل
الرجل نفسه ، بزي موصلي آخر
الرجل: ليل الموصل ، لم يعد ليل الموصل ، وقمر الموصل ، لم يعد قمر الموصل ، ولم يعد صباحها صباحاً ، ولا مساؤها مساء ، أعياد الميلاد ، والكنائس تضج بالأضواء والألوان والفرح والمصلين ، عيد الصليب وألعابه النارية الجميلة البهيجة ، يحييها المسلمون أكثر من منّا نحن المسيحيين ، بل إن أعيادنا ، عيد مار كوركيس وعيد مار ميخائيل ، يحضرها المسلمون ربيعاً ، مع عوائلهم وسلال طعامهم وقواري الشاي ، أكثر منّا نحن أصحاب العيد المسيحيين ، ماذا يجري ؟ لم تكن سماؤنا زرقاء دائماً ، ولطالما عكرتها بعض الخلافات والصراعات العابرة ، لكن سرعان ما كانت الغيوم تنقشع ، وتعود السماء زرقاء كما كانت ، وكما ينبغي أن تكون " يصمت ويتلفت حوله " الساعة صامتة ، وأجراس الكنيسة صامتة ، وحتى المآذن معظمها صامتة ، هذا زمان الصمت ، والصمت موت ، والموصل لا يليق بها الصمت، كركرات ربيعها ، وأغاني ملا عثمان الموصلي ، وقصائد شاعرها الشعبي الكبير عبو المحمد علي ، ومآثر رجالها ونسائها ، كلها كانت تهتف للحياة وباسم الحية، لا تصمتي أيتها الموصل ، لا تصمتي أيتها العنقاء ، ومهما يكن ، فإنكِ ستنهضين من رمادكِ منيرة متألقة بكلل أهلكِ ، ومن أجل كلّ أهلك ، فأنت موصل ـ نينوى الآشوريين ، أنت الموصل التي وقفت ضد المغول ، واكتويتِ بهمجيتهم ، وصمدتِ لحصار الصفويين ، ولم تستسلمي لطغيانهم ، وواجهت الكثير من الطغاة ، وبقيت ، بقيت لتاريخك الناصع ، وبقيت لكل أهلك الخيرين " صمت " الموصل موصلنا كلنا ، وكلنا ساهمنا ببناء مجدها ، ومعاً اكتوينا بالنيرا الحاقدة ، التي سلطت عليها عبر تاريخها الطويل ، نحن ، وبعد عهود الظلام ، ومن خلال كنائسنا ، أسسنا للتعليم ، وجئنا بأول مطبعة إلى المدينة ، وأارسينا لأول مرة في العراق أسس المسرح العراقي ، الذي إمتد إلى جميع المدن ، وحقق مكانة مرموقة في تاريخ المسرح العربي ، وكان منّا أول المحامين والأطباء والصيادلة والصحفيين ، ولكن لأسباب لا يد لنا فيها ، وربما لأخطاء فردية هنا وهناك ، وفي مرحلة سوداء من تاريخ الموصل والعراق ، انهالت الضغوط علينا ، واغتيل العديد من الأبرياء لأسباب واهية ، ما جعل العديد منّا أن يؤثر السلامة له ولعائلته وأطفاله ، وبدأت هجرة شملت الكثيرين ، حتى لقد أفرغت بعض الأزقة ، في منطقة الساعة مثلاً من ساكنيها ، وخيم الإرهاب على المدين ، حتى غدت مدينة الخوف والصمت والموت ، نعم ، مدينة الموصل غدت مدينة أشباح " صوت ناقوس كنيسة " اسمعوا ، ناقوس كنيسة يدق في هدأة هذا الليل ، لا تنخدعوا، أنتم لا تسمعونه ، أنا وحدي أسمعه ، فهو يدق في داخل ، ويقول لي ، تعال .. تعال .. سيبدأ القداس .. وسيتلو راعي الكنيسة .. أبانا الذي في السماوات .. ليتمجد اسمك .. ليأتِ ملكوتك " يسير ببطء " أبانا الذي في السماء "
نازك
ظلام ، تضاء نازك ،
واقفة وسط المسرح
نازك : " واضح أنها كفيفة " اسمي نازك "
تبتسم " قال لي صلاح مرة ، في إحدى
لقاءاتنا الأولى " يضاء صلاح ، كفيف هو
الآخر " أنتِ نازك فعلاً ، لذت بالصمت ،
ولابد أن وجنتيّ قد توردتا ، فقال صلاح
، أعتقد أن من رآك أول مرة ، هو من
أطلق عليك هذا الاسم الدال ، وعلى
استحياء قلتُ له ، المولدة أسمتني نازك ،
فقال ، لقد خمنتُ ذلك ، وأضفتُ مترددة ،
قبل أن تعرف أنني كفيفة ، فقال بصوت
مؤثر ، أنتِ نازك .
تبتسم " قال لي صلاح مرة ، في إحدى
لقاءاتنا الأولى " يضاء صلاح ، كفيف هو
الآخر " أنتِ نازك فعلاً ، لذت بالصمت ،
ولابد أن وجنتيّ قد توردتا ، فقال صلاح
، أعتقد أن من رآك أول مرة ، هو من
أطلق عليك هذا الاسم الدال ، وعلى
استحياء قلتُ له ، المولدة أسمتني نازك ،
فقال ، لقد خمنتُ ذلك ، وأضفتُ مترددة ،
قبل أن تعرف أنني كفيفة ، فقال بصوت
مؤثر ، أنتِ نازك .
يُطفأ الضوء عن
صلاح ، نازك وحدها
نازك : كان هو أيضاً كفيفاً ، وقد سمعتُ عنه
قبل أن أعرفه ، فنحن البنات في الميتم ،
وكان مجاوراً لميتم البنين ، كنّا نتناقل
، ولو وكأن الأمر عرضاً ، أخبار
الفتيان ، البارزين منهم خاصة ، لسبب
من الأسباب ، وتعرفتُ عليه ، أي صلاح
، في حفل خيريّ ، جمع الأيتام البنين
والبنات ، وقد سمعته يلقي قصيدة مؤثرة
في الحفل ، مازلتُ أذكر بيتها الأول "
تنشد " مشتْ والفقر يثقل ممشاها " ،
وأثناء الحفل سمعته يتحدث وسط
مجموعة من البنين والبنات ، فاقتربت من
المجموعة ، وقلتُ له ، قصيدتك كانت
مؤثرة جداً ، وقد زاد من تأثيرها ، صوتك
المتهدج ، كأنه مبلل بالدموع ، سمعته
يتمتم ، مبلل بالدموع ! هذا تعبير جميل
نازك ، ضحكت صديقة لي ، وقالت له ،
واسمها نازك ، وتمتم ثانية كأنه يحدث
نفسه ، نازك ! " تصمت " كبرنا مع
الأيام ، وما أثقلها تلك الأيام ، وتفرقنا ،
ذهب هو للتعليم في مدرسة ابتدائية للبنين
، وذهبت أنا للتعليم في مدرسة ابتدائية
للبنات ، لم أنسه ، ويبدو أنه هو الآخر لم
ينسني ، وعلمتُ ذات يوم ، بأنه أصيب
بحروق بليغة ، في حريق نشب في البيت
الذي استأجر فيه غرفة ، وأنه يرقد في
المستشفى ، ذهبت إليه ، واستقبلني
بصوت واهن ، فرح ، دامع ، وسألني إذا
كنّا وحدنا في الغرفة ، قلت له ، نعم ،
فالممرضة خرجت قبل قليل ، فمدّ يده ،
وأمسك إحدى يديّ ، وقال بصوته الواهن
، نازك ، قيل لي أن الحريق شوه وجهي ،
فقلتُ له ، لا عليك ، ربما هي مبالغة ،
والمهم أنك حيّ ، وما أصابك من حروق
ستزول آثارها مع الأيام ، ربت على يدي
، وقال : تصوري ، يا نازك ، قبل أن
يشوهني الحريق ، كان في نيتي أن أتقدم
إليكِ ، كنت أحلم دوماً أن تكوني إلى
جانبي ، زوجة ، فأخذتُ يده بكلتا يديّ ،
وقلتُ له ، لم يتغير شيء ، أنا موجودة ،
وأنت موجود ، أنا لك ، يا صلاح "
تصمت " وقبل أن أخطب لصلاح ،
ببضعة أيام ، تقدم لخطبتي فارس ، وهو
شاب قريب ، ولم يكن كفيفاً مثلي أو مثل
صلاح ، لكني اعتذرت ، وقد أحزنني هذا
، لأني فارس كان شاباً رقيقاً مهذباً ،
وخشيت أن لا يتفهم اعتذاري ، ويزعل
مني " تصمت " اقترنا ، أنا وصلاح ،
وعشنا الجنة ، كان صلاح ، كما عهدته ،
ملاكاً ، يغمرني برعايته دوماً ، سواء
كان معي ، أو بعيداً عني ، وكان أملي ،
كما هو أمله ، أن يكون لنا ولد ، رغم أن
الجحيم كان حولنا ، وحملت ، وحين
أردتُ أن أبلغه الخبر ، كان في باب
الطوب ، هو الذي قلما يتواجد في مثل
هذه المنطقة المزدحمة بالناس ، وبدل أن
أبلغه الخبر ، جاءني خبره المفجع ،
انفجار عبوة ناسفة في باب الطوب ، راح
ضحيته أكثر مت عشرة أشخاص ، كان
صلاح واحداً منهم " تنهنه باكية " .
قبل أن أعرفه ، فنحن البنات في الميتم ،
وكان مجاوراً لميتم البنين ، كنّا نتناقل
، ولو وكأن الأمر عرضاً ، أخبار
الفتيان ، البارزين منهم خاصة ، لسبب
من الأسباب ، وتعرفتُ عليه ، أي صلاح
، في حفل خيريّ ، جمع الأيتام البنين
والبنات ، وقد سمعته يلقي قصيدة مؤثرة
في الحفل ، مازلتُ أذكر بيتها الأول "
تنشد " مشتْ والفقر يثقل ممشاها " ،
وأثناء الحفل سمعته يتحدث وسط
مجموعة من البنين والبنات ، فاقتربت من
المجموعة ، وقلتُ له ، قصيدتك كانت
مؤثرة جداً ، وقد زاد من تأثيرها ، صوتك
المتهدج ، كأنه مبلل بالدموع ، سمعته
يتمتم ، مبلل بالدموع ! هذا تعبير جميل
نازك ، ضحكت صديقة لي ، وقالت له ،
واسمها نازك ، وتمتم ثانية كأنه يحدث
نفسه ، نازك ! " تصمت " كبرنا مع
الأيام ، وما أثقلها تلك الأيام ، وتفرقنا ،
ذهب هو للتعليم في مدرسة ابتدائية للبنين
، وذهبت أنا للتعليم في مدرسة ابتدائية
للبنات ، لم أنسه ، ويبدو أنه هو الآخر لم
ينسني ، وعلمتُ ذات يوم ، بأنه أصيب
بحروق بليغة ، في حريق نشب في البيت
الذي استأجر فيه غرفة ، وأنه يرقد في
المستشفى ، ذهبت إليه ، واستقبلني
بصوت واهن ، فرح ، دامع ، وسألني إذا
كنّا وحدنا في الغرفة ، قلت له ، نعم ،
فالممرضة خرجت قبل قليل ، فمدّ يده ،
وأمسك إحدى يديّ ، وقال بصوته الواهن
، نازك ، قيل لي أن الحريق شوه وجهي ،
فقلتُ له ، لا عليك ، ربما هي مبالغة ،
والمهم أنك حيّ ، وما أصابك من حروق
ستزول آثارها مع الأيام ، ربت على يدي
، وقال : تصوري ، يا نازك ، قبل أن
يشوهني الحريق ، كان في نيتي أن أتقدم
إليكِ ، كنت أحلم دوماً أن تكوني إلى
جانبي ، زوجة ، فأخذتُ يده بكلتا يديّ ،
وقلتُ له ، لم يتغير شيء ، أنا موجودة ،
وأنت موجود ، أنا لك ، يا صلاح "
تصمت " وقبل أن أخطب لصلاح ،
ببضعة أيام ، تقدم لخطبتي فارس ، وهو
شاب قريب ، ولم يكن كفيفاً مثلي أو مثل
صلاح ، لكني اعتذرت ، وقد أحزنني هذا
، لأني فارس كان شاباً رقيقاً مهذباً ،
وخشيت أن لا يتفهم اعتذاري ، ويزعل
مني " تصمت " اقترنا ، أنا وصلاح ،
وعشنا الجنة ، كان صلاح ، كما عهدته ،
ملاكاً ، يغمرني برعايته دوماً ، سواء
كان معي ، أو بعيداً عني ، وكان أملي ،
كما هو أمله ، أن يكون لنا ولد ، رغم أن
الجحيم كان حولنا ، وحملت ، وحين
أردتُ أن أبلغه الخبر ، كان في باب
الطوب ، هو الذي قلما يتواجد في مثل
هذه المنطقة المزدحمة بالناس ، وبدل أن
أبلغه الخبر ، جاءني خبره المفجع ،
انفجار عبوة ناسفة في باب الطوب ، راح
ضحيته أكثر مت عشرة أشخاص ، كان
صلاح واحداً منهم " تنهنه باكية " .
تصمت فترة ، ثم
تمسح الدموع عن خديها
وضعت وليدي ، وسمعتً صيحاته وسط
دموعي ، آه صلاح ، وأسميته ، كما أراد
صلاح أن نسميه ، نعم ، أسميته صباح ،
وكنا نتمنى أن يكون صباحاً مشرقاً لنا ،
ولكن .. مهما يكن ، فهو صباحنا ، آه
صلاح ، وبعد أشهر ، جاءني فارس ،
وكان غالباً ما يأتيني ، ومعه هدايا
لصغيري صباح ، وطلبني ثانية ، وقال
لي ، إنه يريد أن يرعاني ، ويرعى ابني
صباح ، يا لطيبته ، ويا لنبله ، لكني ثانية
اعتذرت ، وقلت له ، صباح ابني وابن
صلاح ، وأنا أرعاه ، ويرعاه معي أبوه ..
صلاح .
تصمت نازك ، تجمد في
مكانها ، إظلام تدريجي
ستار
2 / 11 / 2019
هذه اخر النصوص المسرحية التي كتبها الأديب التقدمي الراحل طلال حسن 1939. وكان الفقيد قد أصدر 51 كتابا في القصة والمسرح وأدب الاطفال. وترجمت أعماله إلى عدة لغات، ونال العديد من الجوائز العراقية والعربية. لروحه السلام والطمأنينة.