
بيت مهجور مهدم لم يبق منه إلا باب مشرعة وغرفة تطل على الزقاق، بقبرين هما بقايا حب جارف، ودهشة ساهمت بقلع (طوفان) من مسكنه العائم على حضارة أصيلة قديمة، لتلقي به وسط مدينة تقبع على حضارة مماثلة. غادر هذا الريفي بلاد الماء التي تنفست فيها الحياة الاولى مودعا بيته القصبي الذي أكلته النار، حصل على إمكانية القراءة في تلك الأصقاع النائية فأخذت سوسة التناقضات والأفكار تفعل مفعولها وتنخب في نفسه وفي عقله، واختار العيش في المدينة مثل تلك الكائنات القديمة التي عاشت منذ آلاف السنين، مقلدا انتقالاتهم من الحياة البدائية إلى دولة المدينة، حيث اختار مهنة البناء، ثم سنحت له الفرصة في البحث عن الجذور المخبأة بين الرمال التي خلبت روحه وزلزلت كيانه ومعتقداته. اختار الكاتب لحياة (طوفان) منطقة جغرافية عريقة تقع بين الاهوار ومدينة بابل، وكان قاصدا من سير الرواية عرض حضارة وادي الرافدين طيلة أربعة آلاف سنة بشكل مقتضب، واستكشاف مكنونات هذه الأرض المتربعة على كنوز حضارية لم نعرف لحد الآن معظم أسرارها، ولم تكن حاضرة لابنائها الذي عاشوا عليها منذ سقوط تلك الحضارات منذ آلاف السنين، فهي كنوز معرفية خلقتها هذه الارض، ويبدو ان الكاتب كان قد جمع منها غزارة تغذي القارئ بمعلومات قد يسمعها للمرة الاولى، فيتولد فيه فضول للمشي على هذه الأرض مفكرا وئيدا فوق النبع الذي الهم كافة الحضارات والأديان كافة .
اختار الكاتب اسماء ابطال الرواية من معاني الأدوار التي عكستها، وهي في الوقت نفسه متشابكة متصارعة لاتركن الى الهدوء…
(صبرية) تلك الريفية الذائبة في مجتمع ريفي عريق، حيث جسدت معاني الصبر في هجرتها من عائلتها وانتزاعها من أرضها، وصبرها على عدم الانجاب، واكراهها على العيش بين حيطان اربعة مع (الطوفان العرم) الذي مر بها وقلب حياتها راسا على عقب، لتنتهي وسط عزلة باردة غريبة في قبر وسط تلك الدار الخربة، حيث انتهى الصبر بوفاتها عام 1991 لكنه ظل محصورا داخل البيت لم يسمع به أحد إلا بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 . (
(خالد) الذي أخذ على عاتقه استكشاف الدهشة وتلك الأسرار ليقلب التصور عن الجن والخرافة في ذلك البيت إلى حقائق موجودة تستطيع الحفر في تلك الأرض أمتار لتعرف كنوزها، ومجرد ان تحفر في هذا الجب المظلم وتضيؤه تختفي تلك المخاوف الطفولية عن الخرافات والجن، وحاول خالد بعد اعجابه بتلك السيرة الغامضة ادامة ثقافتها وتخليدها عن طريق الحديث عن سيرة (طوفان) لأصدقائه الذين باشروا في زرع مقبرة (طوفان) بالورد والشموع لتخليد ذلك الماضي التليد.
رسم الكاتب صورة خالد بطريقة تشبه زجاج السيارات ايام الحصار، حيث أثار الحصى والشقوق تزينها من الجوانب كافة، او ربما خوذه جندي قادم من حرب طويلة، خرج خالد سالما من كل التجارب المرة والحروب التي مرت بالعراق، وهي تعكس سيرة ذاتية للكاتب نفسه، وعن طريق جلسة خمر وسكرة ليلية واتكاء غير مقصود على باب (طوفان) يكتشف تلك الليالي السبع اللاتي والغموض الذي تشكلت الرواية منه.
بدأت الرواية بمكان لتنتهي فيه لكنها تنافست بين قصة خالد وهي قصة حكت تراجيديا الواقع الذي مر بالعراق خلال نصف قرن لتنتهي بقصة ذات إطار أكبر هي قصة حياة (طوفان) التي تربعت على قرن كامل من تاريخ العراق الحديث والتي تحكي عن الينابيع المعرفية الهائلة روت ارض العراق.
وعلى الرغم من صيغ التفاخر والاعتزاز بذلك التاريخ المجيد فإن الرواية تخفي خيبة أمل كبرى بشعوب هذه المنطقة، وادانة لسيرتها التي ابتعدت عن الطرق العلمية والعملية في تفكير الأقوام الاولى وانقطعت عنها ، فقد تضمنت الرواية زيف الأفكار اللاحقة، والتزوير العمد الذي مارسته الديانات المختلفة التي أخذت من تلك الحضارات عقائدها وطقوسها كافة، حيث تنكرت لها بل كفرتها، ومازالت قوى التكفير قوية تركن المجتمع في زاوية بعيدة عن المنهج الذي قدحته الشعوب الأولى وأنارت به كامل المنطقة والعالم، فحول (خالد) قبر (طوفان) الى رمز يجتمع فيه الموت والحياة والدعوة الى عالم افضل، لكن تلك الدعوة ظلت معزولة نظرا لتركيز الرواية على رمزية عدم الإنجاب التي تكررت بأسلوب حزين عدمي، وظلت حلوله محصورة بينه وبين اصدقائه في المقهى، ولم تستطع الورود ولا الشموع المبثوثة حول قبر (طوفان) في انارة المجتمع القابع في الجهل والتكفير. وبسبب عدم ايمان طوفان تم طرده من قريته الأولى، ثم استقال من عمله، وظلت عوامل حصاره وابتعاده عن الحياة ماثلة في نصف القرن الأخير من حياته، حيث صور الخرافة والجن والغرابة تلاحقه لغاية وفاته معزولا في محلة الوردية في بيت مهجور أظلم، وودع (طوفان) حياته بعد (احتلال مدينة بابل من الغزاة، حيث الفوضى تضرب أطنابها في كل مكان، والشارع تحكمه العصابات وقطاع الطرق وادعياء الفضيلة الجدد). الرواية جميلة تحتوي على مواقف بديعة للاستراحة من خضم التفكير في كثافة أحداث الرواية، وقد بنيت ظلالها من تعابير انيقة تكتنز قدرة في الوصف والسياحة في عالم الكلمات، ولا يستطيع القارئ تركها لغاية إكمال قراءتها، حيث تدفعه للتفكير العميق بحلول ربما تعيد الحياة والضوء الى ذلك البيت المهجور، والرواية بها حاجة الى التأني في المرور باحداث غزيرة خلال قرن كامل هو عمر (طوفان)، كذلك تبرير انتقالات طوفان الفكرية السريعة، فقد تكلم في الريف بأسلوب المتعلم المديني العارف لمفردات وطرق لاتعرفها تلك الاصقاع البعيدة .
-
سلام حربة، بيت الطوفان، رواية، دار أهوار للنشر والتوزيع، بغداد، 2024.