تحظى العلاقة بين الأدب والمجتمع باهتمام كبير من لدن الدارسين والمفكرين والنقاد والفلاسفة أيضا. وقد بحثت هذه الموضوعة مرات عديدة للإجابة على سؤال: ما طبيعة هذه العلاقة وكيف نشأت وما مستقبلها وهل فعلا أن النص الأدبي بما فيه من مشاعر وتجارب ذاتية ووجدانية وأفكار ووجهات نظر لا يعدو عن كونه فعالية إنسانية ذات سمات فردية وانعكاسا عن معاناة الكاتب شخصيا وبالتالي لا ينبغي التعويل على إيجاد صلات بين هذه النصوص وبين المجتمعات التي ولدت فيها؟
كما أننا نجد في الطرف الآخر مواقف مغايرة. فهي ترى أن النصوص الأدبية، وكل نشاط فني وفكري، بما في ذلك الفلسفية منها إنما هي وليدة مجتمعاتها وتأثيراتها الثقافية، وبالتالي هي مرايا لواقعها وصورة تحاكي حقيقة المجتمع مهما اختفت تفاصيله واندست بين طيّات عوالمه الخفية.
بل هناك من المدرسة الثانية من يبسّط الأمور ولا يعطي للنصوص الأدبية مكانةً أكثر من كونها تعبيرا عن تطلعات المجتمع وغاياته وأهدافه. هذا التسطيح والمباشرة في النظر إلى النص الأدبي يفقده هويته الفنية والأدبية فيحوله إلى ما يشبه المقال الصحفي المتابع لأحداث يومية جارية، ملغياً تماماً العالم الفني الغني للنصوص، ومتجاوزا للتجارب الشعورية العميقة التي أودعها الكاتب في كتاباته وأفكاره ورؤاه.
نحن حين نكون إزاء النص نكون في مواجهة عالم عميق ومتشعب ومتواصل مع عوالم أخرى من نصوص ومتداخل معها في تناص واسع يضفي على النص آفاقا بعيدة ومساحات شاسعة. ومناهج النقد تتسع لتشمل عدا جانب العلاقات الاجتماعية أبعادا فكرية عديدة أخرى: النفسي والفلسفي مثلاً وغيرها ويبقى أهمها في رأيي البعد الفني.
وفي ظني أن أصحاب نظرية (الفن للمجتمع) هم ومتلقيهم من بعض كتابنا العرب بحاجة ماسة إلى مراجعة فهمهم لنظرية (الفن للمجتمع) التي تحولت النصوص جراءها إلى وليد سلبي ومشوه للواقع القائم قبل أية قيمة أدبية وفنية حقيقية أخرى. كما أن نظرية محاكاة المجتمع هذه هي الأخرى فهم مبسط لنظرية المحاكاة الاغريقية. لذلك بنا حاجة هنا إلى بسط هذه النظرية هذه بقدر تعلقها بالأدب والفن لنستخلص منها ما هو مفيد بشأن العلاقة أخيرا بين الأدب والمجتمع.
المحاكاة:
إن أرسطوطاليس هو الأقرب الى الواقع وحتى المنطق من سابقيه سقراط وأفلاطون فيما يتعلق بالنظر إلى الشعر والفن. ففي رأي سقراط وأفلاطون نجد أن الفن والشعر تقليد، وهنا يكمن جوهر فلسفتيهما المثالي أو الميتافيزيقي. والتقليد في الحقيقة هو أساس النظام الفلسفي لهما ومجمل هذا الأساس أن الوجود ينقسم في ثلاث دوائر: الأولى، المثل، والثانية، عالم الحس، وهو صورة للأول، والثالثة، عالم الظلال والصور والأعمال الفنية. بمعنى أن الفنان سيكون بعيدا عن الحقيقة بثلاث خطوات أو كما قال أفلاطون: "الشاعر التراجيدي محاكٍ وهو كغيره من المقلدين يبتعد ثلاث مرات عن الملك وعن الحقيقة". (احسان عباس- فن الشعر-17.). وأرسطو نفسه يستعمل مصطلح المحاكاة أيضا لكنه يبتعد تماما عن عالم المثل حين يتحدث عن الشعر والفن قائلا إنه "يعد نوعا من أنواع المحاكاة". والقصيدة عنده محاكاة إذا كانت كلا محسوسا إذا استطاعت ان تثير العواطف.
ومن الواضح أن أرسطو حين يستبعد عالم المثل ويبقي على مبدأ المحاكاة أنه يقصد محاكاة الحالة الشعورية لدى الشاعر نفسه. وفي الحقيقة فإن أرسطو يضع أفكارا هنا كبذور ستتسع وتنمو في المستقبل لتغدو على يد: ت س أليوت نظريةً لما سمّي بـ (المعادل الموضوعي) حين يشترط قدرة الشاعر على رسم الصورة التي تحمل مشاعره ومن تتمكن هذه الصورة من إيصال هذه المشاعر أو لنقل التجربة الشعورية إلى القارئ. والمحاكاة عند أرسطو تنقسم على قسمين إما مثالية بمعنى أنها تصوير الشيء كما ينبغي أن يكون، أو واقعية بمعنى أن تقوم بتصوير الشيء كما هو قائم. لكننا من هذين النوعين نستطيع أن نفهم ماذا يقصد أرسطو بـ (المحاكاة) إذن؟ والصياغة الأصح للسؤال هي ماذا يحاكي الشاعر؟ وفي أي عالم يقع هذا الشيء الذي يحاول الشاعر محاكاته؟ إنه يحاكي الواقع، إما المحيط به أو الكامن في داخله، لأن ما في داخله هو جزءٌ من الواقع وامتدادٌ له. ومهما يكن من شيء فإنه سيلجأ الى التصوير، والتصوير نفسه فن جميل وراقٍ في الوقت نفسه. قال الجاحظ "أن الشعر صياغة وضرب من التصوير" وفي نظرية هوراس عن الشعر نقرأ أن الشعر كالرسم، وهناك من يقول: الرسم شعر صامت والشعر صورة ناطقة. إذن الشعر فن يعتمد على ملكة الفنان وقدرته على أن ينقل الواقع بواسطة الكلمات إلى مبنى القصيدة وبواسطة التصوير تنتقل إلينا تجربة الشاعر وأحاسيسه وأفكاره فتؤثر فينا. وبهذا يكون الشاعر قد نجح في تحقيق ما أراد. ويضيف يونج نوعا آخر دون أن يعلنه رسميا لكنه في معرض كلامه يقول إن المحاكاة نوعان؛ محاكاة الطبيعة ومحاكاة للمؤلفين الآخرين. ثم يقول إن الأولين هم الأصلاء. لكنه لا يقول إن الثانين هم المقلدون وهم يبتعدون في هذا عن الأصالة ويتقربون من موقع الببغاوات.
محاكاة الطبيعة بكل عوالمها الخارجية والداخلية، محيط الإنسان وما يكمن في داخله، في داخل الإنسان نفسه، هكذا ينبغي أن نفهم الطبيعة. فالإنسان بتمامه وكماله جزء من الطبيعة ولا يمكن فصله عنها.
صحيح أن أرسطو حين تحدث عن المحاكاة كان يقصد الطبيعة لكنه لم يذكر، ولا من جاء بعده، هل التعبير عن الانفعالات الداخلية للشاعر نفسه وعن كيانه الداخلي هو أيضا محاكاة أم ماذا؟
ويبدو لي أن السبب في ذلك يعود إلى أن الشعر المعروف في محيط أرسطو آنذاك لم يتعد الأنواع الاتية: التراجيديا والكوميديا والملحمة والاستعراضات المسرحية الدينية الغنائية الباخوسية. لكن مع تطور استخدام هذه النظرية عند النقاد وعلى مر العصور ظهرت مواقف متنوعة منها. في الغرب نجد أنها أسهمت بدور فاعل في "تحديد النظرية الشعرية". (عباس 19).
لكننا لا نعدم أن نجد من أراد للنظرية أن تشمل الشعر الغنائي الأمر الذي تحفظ حوله إحسان عباس في حين نجد إن الغنائية هي وليدة الوجدان المتكون من المشاعر والعواطف وتلك تأتي عن فعاليات غدد يتكون منها جسم الإنسان الذي هو جزء من الطبيعة، لذلك فإن القصيدة تحاكي الإنسان ودواخله كما تحاكي الطبيعة وهي خارجه. ويمكننا هنا توظيف قول (باتو) الذي استخدمه عباس لدعم رأيه.
إن المحاكاة ليست محاكاة للحقائق اليومية وإنما هي محاكاة للطبيعة الجميلة أي بجمع خصائص المفردات وتكوين نموذج يحتوي على كل ما في الأجزاء من كمال. ولا أظن أن (باتو) كان يفصل بين الإنسان والطبيعة لاسيما إن الإنسان ليس هو الشاعر فقط وإنما الإنسان كله كنوع بشري.
في حين يفترض أن يكون لذاتية الشاعر أو الفنان أثر في العمل الفني.
إن كل انفعالات الإنسان هي وليدة تظافر عوامل عدة لعل أهمها أو ما يشكل جزءاً فاعلا منها هو الواقع المحيط بالإنسان وعلاقاته، بكلمة واحدة البيئة الشاملة للطبيعة والمجتمع في آن.
ولقد ماتت فكرة تقسيم فرضيات العمل الفني إلى أربعة اعتبارات: "العمل الفني نفسه والفنان والجمهور والطبيعة أو الكون الذي يستمد منه الفنان". هذه الفرضية تفصل قسرا بين الإنسان الفنان والطبيعة والجمهور. وكأن الفنان والجمهور ليسا من الطبيعة. والفرضية هذه كان يراد لها أن تكون ردّاً على رأي أرسطو الذي اكتفى بثلاث فرضيات منها فقط (ولم يعر الفنان اهتماماً واضحاً). اننا ننظر إلى الفنان بوصفه جزءاً من الكون ولعله العنصر الأهم في كل هذه المعادلة.
والنص الأدبي، ومثله العمل الفني، وكل نص آخر بما في ذلك النصوص الرسمية والقانونية والفلسفية والمقدسة، إنما هو يضم في طياته مؤشرات وقائع وثقافة المحيط الذي يولد فيه. لذلك سميت هذه الحقيقة في الفكر الإغريقي بالمرآة. وكان افلاطون أول من ربط بين الشعر والمرآة بمعنى أن النص (الشعري هنا) هو مرآة ينعكس فيها الواقع المحيط وليس كما فسرها إحسان عباس من أنها (فكرة المرآة) التي كانت تخدم غرض افلاطون في تصور الشعر نوعا من الظل أو الانعكاس. ان مفكري عصر النهضة فهموها كما ينبغي. يقول ليوناردو: " أن عقل الفنان لا بد أن يكون كالمرآة، التي تعكس وتمتلئ بالصور بمقدار ما يكون أمامها من أجسام". وعن شكسبير يقول د. جونسون: "إنه يحمل لقرائه مرآةً صادقة للحياة والطبيعة".
في الفهم الماركسي نجد أن الواقع الاقتصادي للمجتمع يتكون من كل العلاقات الإنتاجية لكن هذه العلاقات ستفرز وليدها الأوضح على السطح متمثلا بالثقافة العامة بما في ذلك الأدب والفن والسياسة وشتى أنواع النشاط الفكري. والتغيير الذي يجري في الواقع الاقتصادي (التحتي)، وسينعكس مباشرة على (الواقع الفوقي) من ثقافة وأدب وفن وعموم الأشكال الإبداعية ألأخرى. وهذا يعني أن الأدب لا ينفصل عن "العلاقات المحسوسة الملموسة أبدا".
وفي موقف ماركس نجد أن الفن قد يتطور في بعض العهود والفترات بمعزل عن القاعدة المادية فيسبق تطور المجتمع وقد يتجاوز القاعدة المادية فيه. ومثال ذلك أدب اليونان إذا ما قارناه بأدب الشعوب المعاصرة. وفي البحث عن سر عبقرية الفنون والآداب الخالدة والتي لا تزال تهيئ لنا اليوم متعة جمالية. فما سر بقاء قيمة الأثر الفني فيها واستمرارها؟ يجيب ماركس:
- أن هذا الفن قائم على الميثولوجيا وفي صياغة هذه الميثولوجيا وإعدادها تدخلت حياة جماهير الفلاحين وتدخل نضالهم الطبقي ضد طبقات الملاك والأمراء والملوك،
- من هنا نشأت مفاهيم العدالة والقصاص والقدر والبطولة وكلها ماثلة بصورة حية في أساطير هرقل وبروميثيوس وغيرهما،
- وهذه الأساطير قد انتحلت معنى كونيا شاملا،
- الإنسان يبتهج بسذاجة الطفولة، فلماذا لا يبتهج بسذاجة الطفولة الإنسانية" (عباس 105).
لذلك فإن انفصال الآثار الفنية -أحياناً- عن إطارها التاريخي لا يعد في نظر ماركس منافيا للمفهوم المادي والتاريخي.
ويطرح إحسان عباس سؤالاً محيراً فيقول كيف ولماذا تفرد الإغريق عن غيرهم من الشعوب في هذه الناحية؟
- أولا أن الإغريق لم ينفردوا عن غيرهم من الشعوب في إبداع نصوص خالدة مثل الإلياذة والأوديسة التي ينسبها المؤرخون إلى هوميروس، فلقد أبدعت الشعوب الشرقية نصوصا مماثلة لا تقل عنها جودة وما زالت خالدة للأسباب ذاتها.
- من ناحية ثانية كانت اليونان آنذاك مركزا حضاريا عالمياً مشعاً شكل قبلة للدارسين والباحثين لاسيما في ميدان الفلسفة والفنون والعلوم الأخرى ناهيك عن المستوى الحضاري المتقدم والذي نلمس انعكاسه في فلسفة افلاطون وأرسطو وقبلهما طاليس وسقراط وليست مصر القديمة وفراعنتها وفكرها الديني ومعابدها وأناشيدها ببعيدة عن اليونان.
لكن تفسير ماركس حول سبب خلود نصوص الإغريق واستمرارية تأثيرها فينا إلى اليوم يمكننا أن نسحبه على نصوصنا العربية القديمة وعلى النصوص الدينية المقدسة كذلك للأسباب نفسها والتي رآها ماركس وراء خلود النص اليوناني. فالمعلقات وأدب الصعاليك في عصر ما قبل الإسلام ما زالت تحتفظ بقيمتها الفنية المتقدمة وبقدرتها على إثارة المتعة والشعور بجمالها.
إن اغتراب الشعراء العرب القدامى وعنصر الرحيل والصراع متنوع الأسباب والأشكال والأساليب وكيان المرأة وجمال الطبيعة والتعبير بالصورة وبالمشهد والفروسية والبطولة وشهامة البطل فضلاً عن كثير من التصورات الذهنية، كلها عوامل دفعت بهذه النصوص إلى أن تكون في صدارة الذاكرة الجمعية العربية محتفظةً في الوقت نفسه بمكانتها الفنية وبقدرتها على إثارة المتعة واللذة الفنية.
ولو أخذنا النصوص المقدسة التي جاءت بها الأديان السماوية والوضعية لوجدنا أن خلودها واحتفاظها بقيمتها الفكرية والروحية والأخلاقية يأتي نتيجة لشموليتها الإنسانية وكونيتها وصلاح كثير من مكوناتها لأزماننا هذه التي نحن فيها. كما ان الخلود في الأدب يتأتى من عظمة النص الرؤيوي، فمن هذه النصوص ما هو خارق أو عابر للأمكنة والأجيال ومنها النصوص المقدسة ومنها أيضا النصوص الأدبية العملاقة كالإلياذة ومسرح هوميروس والمعلقات وأدب المتنبي وأبي تمام وأبي العلاء وشكسبير وغيرهم كثير.
لكن هناك إشكالية خطيرة في هذا الشأن هي إن هذه النصوص الخالدة استمرت وبقيت على قيمتها الفنية والفكرية، لأنها استطاعت أيضا أن تحتوي العنصر الإنساني الخالد والمتكرر في كل الظروف والمجتمعات أو في أغلبها على الأقل. فالحب والعدالة والجمال والحرية والإنسانية ورفض الظلم والموسيقى والثورة على القيود والفروسية والشجاعة والتطلع نحو آفاق أرحب وغيرها كثير من قيم تتكرر في كل مراحل تطور المجتمعات والإنسان بل تكاد تكون جوهرية في صلب الهم الإنساني. هذه القيم الكبرى دعت مفكرا معاصرا كبيرا (جان بول سارتر) إلى تبني قضية الإلتزام في الأدب والاصطفاف إلى جانبها بغض النظر عن مكان مولد النص وزمانه. من هنا كان الانتشار الواسع لفلسفة سارتر الوجودية في مختلف بلدان العالم حيث التقت بتطلعات الشباب والأدباء النازعين نحو هذه المبادئ والقيم. لكن السارترية أخلت المكان لمذهب أدبي كان أكثر ملاصقة لهموم الناس اليومية وتطلعاتهم وأحلامهم وحتى مشاعرهم وهناك الواقعية وبعدها الواقعية الاشتراكية التي هي الأخرى اضطرت للعودة إلى تفاصيل الواقعية دونما التزام أيديولوجي إنما اكتفت بالتمسك بعوالم الواقع وحيثياته بصورة فنية وراقية.
وكذلك الحال بالنسبة للأساطير والرموز التي استخدمت في الأدب القديم اليوناني والصيني والشرقي كله ولدى شعراء العرب القدامى نلمس عودتها لتجد لها مكانا في يومنا هذا لدى شعراء الغرب والعرب على حد سواء: انظر مثلا فيكتور هوجو جون ريد وبريشت ونجيب محفوظ في رواياته ... وصورة البطل في أدب غسان كنفاني ومطولات السياب واغتراب البياتي والبحث عن المرأة لدى حسب الشيخ جعفر. وما احتفاظ هذه الأساطير بقيمتها الفنية والرمزية إلا لأنها تماثلت آنذاك، ومازالت، مع نفسية الشاعر ومع حاجته الفنية للتعبير عنها ومع الواقع الاجتماعي مهما اختفت في ثناياه عناصر الشبه بين تشكيلات هذا الواقع وما يماثلها من صور وتعابير في أحضان النص ألشعري أو العمل الفني.
والخيال سمة إنسانية ترافق البشر في حلِّهم وترحالهم وفيها يجدون حلّاً لحاجات نفسية وقد تكون فكرية. ولا أدري إن كان افلاطون هو فعلا أول من بدأ في استخدام الأساطير لإيصال أفكاره ونظرياته أم سبقه أحد من قبل لكننا نجده قد استعان بها وقد تلاءمت مع غاياته التي أراد إيصالها أنظر مثلا أساطيره الثلاث. لكن انظر اسطورة كلكامش وصديقه أنكيدو. واستمر استخدام الأسطورة حتى في الشرح الفلسفي وفي بناء القصيدة إلى يومنا هذا. ومما ينتمي لعالم الخيال أيضا الأحلام والرؤى عند النوم. وكم من فيلسوف ومفكر انطلقت منظوماتهم الفكرية من الأحلام. وما تشكلت على أثره مصائر أمم وشعوب وأديان وتحولت مضامينها إلى مقدسات، راجع مثلا حلم النبي إبراهيم الذي رأى فيه أنه يذبح ابنه إسماعيل ففداه الله بخروف، فتحول هذا الى عنصر طقسي مقدس لدى المسلمين. ومنذ لك الحين يلتزم المسلمون بتقديم أضحية في كل سنة في مطلع عيد سمي بالأضحى تمسكا بالتقليد الديني وصار جزءاً من الثقافة الإسلامية عامة والعربية خاصة. ومثله حلم يوسف الذي بنيت عليه سورة يوسف القرآنية كلها وقبلها قصته في التوراة. ومن ذلك حلم المأمون الذي بسببه قرر ترجمة كل المكتبة الفلسفية من اللاتينية إلى العربية فانتعش هذا المجال الفكري الهائل في ثقافتنا العربية والإسلامية ونهض من خلالها فلاسفة ومفكرون ومفسرون عرب ومسلمون ومنهم انتقلت الى الاندلس (أعمال أرسطو وشروح ابن رشد وترجمته لها وتعليقاته) ومنها إلى أوروبا التي استعادت عن هذا الطريق بضاعتها وتكونت من هناك حتى غدت مناهج ومفاهيم ومنظومات عملاقة.
ولا تفوتنا أحلام ديكارت الثلاثة التي بسببها كما يدعي قرر المضي في التفكير الفلسفي وبناء أضخم برنامج فلسفي في الشك والمنهج والتأملات. والحقيقة منذ مطلع تاريخ البشرية نجد أن الرؤى في المنام قد شغلت حيزا كبيرا في الثقافات الإنسانية.
ومهما كان من أمر الأساطير والرموز والأحلام وهي وليدة الخيال كلها فأنها لا تقلل من حقيقة أن النص هو ابن مجتمعه وأنها لا تعدو أن تكون عناصر محفزة من جهة ومفيدة في البناء الفني من جهة أخرى. لأنها كلها هي الأخرى من بنات الحالة الاجتماعية التي ولدت فيها.
ففي محيط كل هؤلاء أصحاب الرؤى والأحلام عوامل وأسباب عديدة دفعت بأفكار حادة وعميقة إلى أذهانهم ودواخلهم فتمثلت لهم بما احتوت عليه احلامهم ورؤاهم، ولأهمية مكاناتهم التاريخية والاجتماعية احتلت هذه الأحلام هذه المكانة. هذا إذا افترضنا أنهم كلهم كانوا صادقين فيما تحدثوا عنه من شأن أحلامهم إذ في الحقيقة يراودني كثير من الشك في مصداقية ديكارت حول رؤاه الثلاث!
إن المتتبع لتاريخ الفن والأدب سيجد أن الفن والنص الأدبي كانا ملازمين للطقوس الدينية في الثقافات الأولية للمجتمعات البدائية وحتى لفترات طويلة لاحقة تصل إلى أيامنا هذه. فالرقص والغناء وقراءة الأناشيد كانت من مكونات الطقوس العبادية. في تاريخ الفكر الديني عن العرب حيث نجد القبائل العربية التي تأتي مع موسم الحج لزيارة الكعبة وتأدية الفروض تقوم بترديد أناشيد التعظيم والتقديس. وكان لكل قبيلة نصوصها التي قد تختلف بهذا القدر أو ذاك عن غيرها، ولها منشدوها وتقدم هذه الطقوس في أداء فنيٍّ جميل. وما زالت هذه الممارسات الدينية تزاول أثناء مواسم الحج ومثلها تقريبا أثناء عبادات أخرى من بينها الآذان.
الحال نفسه يمكن ملاحظته لدى المسيحيين أثناء تواجدهم في الكنائس. وفي اليونان القديمة كانت هناك الأناشيد الدينية التي كانت تردد أثناء احتفالات تمجيد باخوس إله الكرم والخمر في دياناتهم آنذاك أثناء موسم جني العنب وتقديم الشكر والامتنان إليه. وحين يأتي موسم الشتاء وذبول الأشجار تكون الأناشيد حزينة. وكذلك نجد الأناشيد الدينية مصحوبة بالموسيقى في ديانة مصر القديمة حيث كهنة الآلهة وفي صدارتهم آمون يقومون باستعراضات سنوية أو أثناء الأعياد يرددون أشعارا مغناة تمدح جبروت آمون وقدراته غير المحدودة.
وفي بلاد الرافدين كانت تتكرر مشاهد كهنة الآلهة الكبار ولاسيما إنليل التي تعظم مكانته ودوره في خلق الكون والإنسان وتسيير أمور الطبيعة والمجتمع.
وكلها كانت مؤشرات لبداية المسرح الشعري والغنائي الذي تطور تدريجيا حتى وصلنا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فتحولت النصوص إلى نثرية وراحت تعالج مواضيع متنوعة أخرى إلى جانب الدينية. وعلى الرغم من هذا لم ينقطع نهائيا المسرح الشعري عن التواجد في ثقافات مختلف الشعوب.
وفي طروحاتنا هذه نبتعد عن التقديم البسيط الذي يعتمده بعض النقاد والمؤرخين من أن الفنان والشاعر والأديب لا يكتب إلا ليوصل آراءه ومشاعره إلى الجماعة حتى ترى ما يراه على طريقة لا أريكم إلا ما أرى. وهو لا يحس بالراحة والطمأنينة إلا إذا وجد أن المجتمع قد تقبل واستساغ أدبه. وهكذا نرى أن الأديب لا يكتب لنفسه.
ومن الطبيعي أن الفنان أو الأديب لا يعيش بمفرده في هذا الكون بل هو في الأساس نتيجة علاقاته الاجتماعية سواء من الناحية البيولوجية أو النفسية أو الثقافية لكن من غير المعقول أن الانسان يكتب ويبدع كي ينال رضا المجتمع.
نحن نذهب إلى ان النص والعمل الفني تتسرب إليه ثقافة المجتمع وتقاليده ومشاكله بعد أن تكون قد استقرت في العقل الباطن للمبدع، فردا كان أو جماعة، وتراكمت هناك وغدت جزءاً من وعيه العميق ومن عناصر شخصيته الفكرية والنفسية والثقافية بحيث عندما يكتب أو يرسم تروح هي الأخرى تتسرب من أعماقه نحو النص أو العمل الفني. ومهمة الناقد الحصيف الكشف عنها بدءاً من النص وصولا إلى ما يعادلها في الواقع الاجتماعي. فالمسار في النقد هنا يبدأ من النص ليصل، ولا ينتهي، عند المجتمع، إذ أن هناك رحلة أخرى معاكسة من الواقع إلى النص للكشف عن كيفية انعكاس هذه العناصر في النص، وهل تمكن المبدع بقدراته الفنية إيصال تجربته الشعورية المتولدة أصلا من تفاعله الذاتي مع الموضوع وهل تمكن من رسم ما يعادلها فنيّاً، كي تتمكن هي الأخرى من الولوج إلى نفس وعقل المتلقي. صحيح إن المبدع ملتزم لكنه ليس مصلحا اجتماعياً. وهذا لا ينفي إمكانية أداء دوره في الإصلاح الاجتماعي بشكل عام، إلا انه في اللحظة التي يتبنى النص مشكلة اجتماعية معينة يكون قد تخلى عن، أو جازف على الأقل بمستواه الفني وشروطه الأدبية. وهنا نعود إلى فكرة المحاكاة ونقول إن المحاكاة لا تعني أبدا تقليد الواقع إنما احتواؤه وتمثله ذاتيا ثم تروح التجارب وحدها تبحث عن منافذ لها على أن يتمكن المبدع من إيجاد الأدوات والآليات المناسبة فنيا والمعادلة للتجربة الشعورية. وفي هذا المضمار لا يمكننا ان نعد ما اصطلح على تسميته (الشعر التعليمي) شعرا لأنه يخلو تماما من المشاعر والتجارب الروحية إنما نجد العكس تماما إذ ما المادة التعليمية وظفت بعض مستلزمات القصيدة مثل الوزن لإيصال فكرتها ومضامينها إلى المتلقي. من ذلك مثلا ألفية ابن مالك النحوية وبعض دروس النحو الأخرى والبلاغة وغيرها. لكننا نجد أن الجانب الجمالي متوفر في الملاحم الشعرية الطويلة التي وظفت الأسطورة وكثيراً من الخيال وإسقاطهما على الحدث التاريخي الحقيقي وعلى البطل الذي تحول إلى ما يشبه الأسطوري، الأمر الذي حافظ إلى جانب الحدث التاريخي على حيوية القصيدة وبقائها في عالم الذاكرة الإنسانية. وملحمة الإلياذة ومثلها الأوديسة اللتان تنسبان إلى الشاعر هوميروس، تحويان الحدث التاريخي والواقع الاجتماعي، محاطان بكثير من المبالغة والتغليف الأسطوري.
والنقد قد رافق النص الأدبي منذ ولادته. قد يكون النص سابقا على النقد. لكن ما أن صار النص كيانا يتلقاه الناس حتى أطل النقد بملاحظاته الأولية. ولدينا في تاريخ الأدب العربي شواهد كثيرة تحققت على يد الشعراء أنفسهم ومن ثم على أيدي عارفي الأدب المعترف لهم بالمكانة المتميزة. (سوق عكاظ – تاريخ النقد – اليونان). كما يجب الاعتراف أن الشعر سبق النقد في التبلور والتشكل وقدم النماذج التي في ضوئها تم تمييز الشعر الجيد عن غيره. مع الزمن تداخل النقد الأدبي مع علوم عديدة وإن كان أولها الفلسفة على يد طلائع الفلاسفة اليونان سقراط وافلاطون وأرسطو ثم راح ينفصل عنها تدريجيا ليغدو علما قائما بذاته. لكنه في الوقت نفسه تداخل مع العلوم الأخرى مستفيدا من كشوفاتها حتى صارت لدينا مناهج نقدية متميزة تستخدم أدوات ومنجزات علومها مثل المنهج الاجتماعي والنفسي والأيديولوجي والفني وغيرها.
ومما لا شك فيه أن العلوم الاجتماعية وعلوم التاريخ أيضا كانت هي الأقرب إلى النقد الأدبي. لقد نهضت دراسات كثيرة استفادت من شعر أبي تمام للكشف عن احداث تاريخية وقعت أثناء حياته وكان شعره أحد مصادر هذه الدراسات وكذلك الحال مع شعر المتنبي، وهنا يتردد صدى الواقع القائم الذي في ظله جاءت القصائد. ومن يقف عند الملاحم الطوال الغربية أو العربية يجد فيها الواقع الاجتماعي والحدث التاريخي معاً وإن كانت بعضها قد اختلطت فيها مع الحدث التاريخي عناصر اسطورية، لكنها جاءت مكونات بنائية داعمة للنص ورافعة له وأسهمت في خلوده للأسباب المذكورة في الصفحات السابقة. وقد حاول بعض الباحثين اختزال المنهج التاريخي في النقد بالبحث عن الأحداث التاريخية المذكورة في النص، في حين ينبغي أن يشمل هذا المنهج، ولكي يكون فعلا نقديا أدبيا، تتبع تطور النص الأدبي من داخله لدى الشاعر المعين مثل كيف تطورت نصوص حسب الشيخ جعفر من قصيدة العبارات الشعرية إلى قصيدة المشاهد ومنها إلى القصيدة المدورة، وكذلك ينبغي أن يشمل هذا المنهج تطور الشاعر نفسه فنيا وفكريا ومدى انعكاس ذلك كله على بناء قصيدته وفي هذا نختلف عن المنهج التاريخي الذي اتبعه كبار نقاد النصف الأول من القرن العشرين أمثال أنيس المقدسي ولويس شيخو وطه حسين ومحمد النويهي.
ونحن عندما نشير إلى الترابط بين النص والمجتمع فنحن نقصد العلاقة بين النص والواقع القائم بكل مكوناته. لكننا نسلط الضوء هنا مركّزاً على هذه العلاقة بين النص ومكونات الواقع الاجتماعي المعين كلها، وأولها الثقافة السائدة أو المهيمنة وبكل معانيها وتفاصيلها من لغة وعادات وأفكار وعقيدة وسلوك وأوهام وعلاقات وغيرها.