أيلول/سبتمبر 12
   
 
تَلسعُني زَحمَةُ الغياب..!
لو أَني صَمَتتُ الساعةَ..
حَبَستُ أَنفاسَ الكلمات، سَمّرتُها على الحائط.. أَتَمَلاّها،
رُبما كُنتُ صَيّرتُ حُزني وصَمتي، أَبلَغَ ممّا أَقول!
ليسَ لأنَّ الكلامَ قد انتهى..
بل إنما أخشى أَنْ أُناديه.. فلا يُجيبْ!!
رُبما..!
مَنْ يدري..؟!
 
 
لكنْ.. للضروراتِ أَحكام، على ما يُقال!!
* * *
ليسَ نَعياً ولا رِثاءً! إنّه نَصٌّ..
قَسَمُ وفاءٍ لصاحبي!
نصٌ للعين! [عَلّي أفلَحُ في تطويعَه للأذن! فمَنْ يسمعُ ليس كمَنْ يرى! بالتالي هو نصٌ   
منثور فيه استعارات ومَجازاتٌ وإحالاتٌ.. قد لا تلتقطُها الأذن، في حين يمكن للعين التوقف
 عندها أو استعادتها.. إلخ، نصٌّ لا يتسربل بجِلباب الشعر ولا بمعطف القصة..]
                                                                                                                                                                               
لستُ شاعراً، لا ناقداً، ولا مؤرخاً.. إنما " أنا مواطنٌ عاديٌ في جمهورية الفكر " - تعبيرٌ أستعيره من الراحل العفيف الأخضر - ولستُ مِمّن يُحسن الرثاءَ، فقد كَفَفتُ عنه لكثرةِ ما فَقدتُ من أَحبَّةٍ وأصدقاء..
أقفُ اليومَ بكامل عَجْزي.. مُتلعثِماً بغَصّتي وبحروفي،
فأنا " مريضٌ " أَتعلَّقُ بها مثلما يتعلَّقُ طفلٌ بثوبِ أُمّه..
  أكتُبُ لأنني لا أَستطيعُ فِعلاً غيرَ ذلك!
أَكتُبُ تفادياً لنسيانٍ قد يتَسلَّلُ مثلَ اللصِّ!
فاللغةُ وسيلَتي الوحيدة في هذا العالم!
  لكن ماذا أقول؟!
وكيف يمكن لفرد، مثلي، أنْ يَرثي جزءاً منه، إنسلَّ، دون ضجيجٍ، هادئاً كما كان.. "هامساً، لا مؤَذِّناً "؟![نصٌ كتبتُه بهذا العنوان لميلاده الثمانين]
كأنّي به إنكمَشَ تحتَ جِلدِه مُرتدياً قِفطانَ الخَجَلِ، لأنه تَرَكَنا بلا وداع!!
تخذلُني أصابعي وأنا أخطُّ هذه الحروف، فتقفزُ، دونَ استدعاء، قَولَةُ مَعَنْ بن زائدة: "إنْ لم تكتبُ اليدُ، فهيَ رِجْلٌ!"
فتَتَزاحمُ بالوناتُ الذكريات ملوَّنةً..
** *
أعرفُ أنها "سُنّة " الحياة ...! فلا يُتعِبَنَّ أحدٌ نفسَه بتذكيري بها!!
قد يَتَهياُ لي أَنَّنا لا نحزنُ لفُقدانِ أحدٍ لرحيله فقط! فحزنُنا هو تعبيرٌ عن محاولتنا لتزييف / وقمعِ اللاوعي، كونه يذكرنا " شرطياً " بمآلنا أيضاً...!
إلاّ مَنْ تَوَهَّمَ أو إستسلَمَ أنه قدْ حقَّقَ كلَّ مُرادِه!! وفي ذلكَ لم يَعُدْ له
"مبَرِّرٌ " كافٍ للبقاء عليها...!!          
لكنْ، مَنْ مِنّا مُحصَّنٌ أو مُلقَّحٌ ضد الحزن إزاءَ فَقْدِ عزيز؟! خاصةً مَنْ مَلأَ مُلتقَياتِنا بحضوره الشفيف، حتى وإنْ كانَ صامتاً.. إذْ ما رَفَعَ صوته قَطْ! خلافاً للحضور الفاقِعِ للبعض أينما حَلّوا!!
سأحاولُ، ما استطعت، سَدَّ بابَ فِعلِ الماضي الناقصِ، كي لا تنهالَ مدائحُ   لا قيمةَ لها الآن.. فلن يَسمعْها هو أو يعترضَ عليها..!
رَحلَ ممتاز، الممتازُ بكل المعايير الإنسانية والفكريَّة والأخلاقية – أعرف جيداً إشكاليةَ مصطلح "الأخلاق"، الذي تختلف حولَه الرؤى!!
يَلسعُني غيابُه الحاضِرَ فيَّ، لأنني لم أُتقِن فَنَّ التعبيرِ عن الوفاءِ.. ومحبتي له. لهذا سيظلُّ قلبي مُبعثرَ الإيقاعِ!
لنْ يُصَبِّحَ، ممتازُ، على أحدٍ بالخير، بعدَ اليوم!
ولن يُهديه أَحدٌ صباحاً مُجرَّداً من الخير!!
لكنّي سَأدرأُ عنه الكلمات " المُعلّبةَ "، التي انقضت مدَّةُ صلاحيّتِها!
وأَحسدُه لأنه تحرَّرَ من كمائنِ اللُغةِ، من معانيَ الأسماء!
ستُغطّيه الغيومُ بقُطنِها في مكانٍ هاربٍ من صِفاتِهِ..
*    *     *
كنّا نَنْشَغِلُ حين نَلتقي، بأمورٍ فكرية وحياتية.. وليس نادراً ما كنا فيه
نختلف، لتَبايُن رُؤانا.. ونَتنَاكَدُ معَ بعضٍ، دونَ إسفافٍ أو ضَغينة..!
وا أسفاه!! أنْ تأتي الكلماتُ الآنَ تَلهَثُ مُتأخّرةً، فَهو لا يسمعُها ولا يكترثُ
بما نقوله عنه.. فقد رَحَلْ.. " كأنْ لم يَسْمُرْ بمكّةَ سامرٌ"!
*      *       *
لمْ يُدَّلّلْه أَباه ، كي لا يرميه أُخوَتُه في" جُبِّ الحكاية !" . مُقابلَ ذلك ، دَلَّلَتْه أُمُّه .. فقد كان " آخرَ العنقود "، بعد نادر وفاهم ! ولمّا لاحَظتْ، بفِعلِ إحساسِ الأمِّ الفِطريِّ، اشتدادَ عودِ الصَبِيِّ ونُهوضَ شَقاوَتِهِ .. راحتْ تُفَتِّشُ في ملابسه الداخلية بَحثاً عن غَجرياتٍ ونساءٍ "غريبات "!! لكنها لم تَلحظْ كيفَ أَنَّ " شقاوَتَه " المبكِّرة وخُروجَه على" أقانيم " العائلة، قادته منذ بواكيرِ وعيه إلى النشاط الاجتماعي، ليُكملَها، بعدَ ذلك ، بالعمل السياسي والحزبي المُنَظَّم ، حتى صارَ "مُتَزمّتاً"! ، في رَفْضِ "الخَلاصِ الفردي"..!  وغدا "فينيقاً" آخرَ، يَنفِضُ عن جناحيه رَمادَ الوهم.. مُتَمَسِّكاً، حتى آخر يوم من حياته، بحُلُمه في "الخَلاصِ الجَمْعي"!
*  *   *
ها أنذا أَتَمَترسُ بالذاكرة هَرَباً من حاضرٍ مُوجع !
نكايةً بنِسيانٍ يُراهِنُ على الفوز ، أتذكَّرُ كيفَ وقَعنا ، فأنكَسَرَ خَزَفُ الأمسِ فوقَ بلاطِ الدنيا شظاياً استعصَتْ لَمْلَمَتُها ، حتى على أمهَرِ "خَيَّاطِ فَرفوري "!
 
أتذكّرُ جيداً يومَ التقينا على قارعة الدنيا .. في مهرجان روستوك – شمال ألمانيا - لجمعيات وروابط الطلاب العراقيينَ في الخارج عام 1970 .. مُذّاك انعقَدَ " ثالوثُنا "، الذي ضَمّه وصادق البلادي مع كاتب السطور. استمرَّ ذلك الثالوثُ لأزيدِ من نصف قرن .. رَحلَ صادق، وها هو ممتاز يَفْرِطُ ما تبقّى من الديو، لأبقى وحيداً فينهدمَ "ثالوثُ الأثافي"!!
ستحمِلُكَ الفَراشاتُ، يا صاحبي، على مدارجِ الضياء.. خفيفاً، نحيلاً مثل فكرةٍ عابرةٍ، لتَعبُرَ المسافَةَ بين "اللامكان" الواسع إلى "مكانٍ" ضيِّقٍ .. تَتخلَّصَ فيه من فِقهِ العُزلَة .. فِقْهِ الاستغرابِ والغَرابة والغُربة !!
كمْ أنتَ الآنَ حُرُّ ..!
لا أَحدٌ يرى أَثرَ النايَ فيك ..
نصفُ كأسكَ كانَ مَلياناً، والشمسُ تملأُ نِصفَه الآخر..
فما دُمتَ قد أَتمَمْتَ كُلَّ التَرتيباتِ ..
دفَعتَ ديونَ الغد، ضريبَةَ الظلِّ، أَجرَ الهواء ..
وملأتَ القنديلَ بزيتِ الحكاية ..
تركتَ الفضاءَ يُحملِقُ في الشُبّاك ..
فأصنعْ بنفسِكَ ما تشاء،
من دون احتساب ..
فكُنْ وحيداً، وواحدا!
متحداً، عديداً وواحدا ..
اخلَعْ قميصَكَ أو حذاءكَ أو ما تَشاءْ!
لَنْ تَتَشهّى بعد اليوم لَدغَةَ الشمس، تَنسجُ للدفءِ الوشاحا ..
كي تَفرحْ ..!!
 
لا عدوَّ لكَ الآنَ، ولا صديقَ يتلصَّصُ على ذكرياتٍ حَبِستَها،
كَمْ أنتَ حرٌّ في خيالك، بعد الآنْ!
فالموتُ لا يعني شيئاً آخرَ ..
"نكونُ .. فلا يكون ! أو يكونُ .. فلا نَكونْ"..!!
أم تُراهُ واحداً من استعارات الحياةِ .. وعلينا ترجمةَ المَجازِ إلى حقيقة ..؟!
 
لنْ تحتاجَ، بعد اليومِ، إلى حلاقةِ ذِقنِكَ كلَّ يومٍ أو يومين!
ولنْ تحتاجَ منذُ الآنَ، أَنْ تُحدّقَ بوَجهكَ في المرآة.. فقد نَجَوْتَ من سَليقَةِ تَتَبُّعِ ما يفعلُه الزمان بنا.. أخاديدَ وأجفانٍ تَتَهدّلْ، أُنوفٌ تكبُرْ، وتجاعيدَ تصلُ ما فوقَ الحاجبين! 
لا عدوَّ لنا إلاّ الزمان، ولا خصمَ أنبَلَ من المرآةِ، لأنها لا تكذبْ ولا تُنافِقْ!
لم تُخبرني، يا ... أَنتَ، إذا ما كُنتَ ستَلتقي "هناك" بهولاكو، الذي شَبِعَ موتاً، لكنه ما زالَ يواصلُ، من قبرِه، حَربَه لاستئصالنا ..!
فقد كُنّا نقولُ له : "خُذ ما شئتَ من ذهبٍ وفِضّة، وإترك لنا ظِلَّنا ..!"
*  *   *
فلتَأذَنَ لي، أُخَيَّ، أَنْ أُخرجَكَ منّي كي أراكَ في بَعثرةِ كلماتي، خاليةً من عثورِ
 الاستعارات على مصادرِها .. حينَ يَمنعُنا القلبُ المَكلومُ عن مُداواةِ أوجاعِ المفاصل بذكرى التَمَدُّدِ فوقَ العُشبِ ، عند شطِّ الحلّة .. في "الوردية" أو"القاضيّة"، "گريطْعَهْ" أو "السَدِيرِ"، في مقهى عبد الحسَنْ غَلْوَه عند الجِسر الجديد ..! نَتَطلَّعُ إلى قمرٍ يُحملِقُ في صورته على صفحةِ الماء، التي
لن يَلتقي بها أبداً!
نَرنُوْ إلى نُجيماتٍ مرتَعِشة، مهجورةً فوقَ السطوح ..
هكذا يركضُ الزمانُ في العراقِ مُسرعاً بينَ لحظةِ فَرَحٍ عابرة وأنهارٍ من بناتِ العين – الدموع! ويهروِلُ الغَدُ كالسرابِ الراقصِ، ماضياً دون أَنْ نُدرِكَه.. الشطُّ هو الآخر ما زالَ يُهرولُ.. يجرفُ معه ماضينا حثيثاً إلى ما لا نَدري! 
*      *       *
افترَقنا .. ذهبتُ إلى كردستانْ، وذهبَ هو إلى اليونانْ.
لكنْ ما انقطعَ الوَصْلُ ولا التواصل بيننا، رغمَ "محظورات "الصيانة" !!" 
كُنّا مُسافِريْنِ إثنَيْنِ، لم يفْتَرِقا ، إلاّ لاختبار الاشتياقِ لبعضٍ .. وجَلوِ ما ترَهَّلَ من ذُؤاباته! نُدافِعُ عن حقِّ الزهرة في اصطياد ضوء الشمس، وحقِّ النافذةِ في أنْ تَتَطلّعَ بالعابرين طويلاً .. !
لمْ نفترقْ .. لكننا لن نلتقي بعد اليوم ..!!
*       *       *
إذاً، اسمَحْ لي يا ممتاز ، ونحن نفترقُ الآنَ، أنْ أَفسَخَ العَقدَ المُبرمَ بينَ عبَثٍ وعبَثْ.. فلا نَعلمُ مَنْ انتصرَ مِنّا ومَنْ انكَسَرْ ..
أنتَ .. أم أنا .. أم الموت ..؟!!
ستذهبُ أنتَ إلى "حيثٍ" آخر ، وأنا إلى "موعدٍ " أرجأتُه ، غير مرّةٍ ، مُراوغاً  مع موتٍ، خفيفٍ، لا يُطيلُ عذابي، كما وَعَدْ !
فهل تُراهُ سيَفي ؟!
تأكَّدْ أنكَ ستكونَ معي في طريقٍ سَلَكناه، على غيرِ هُدىً .. بلا رغبةٍ في الوصول!
فالطريقُ أجملُ من الهدف !!
كمْ من مرّةٍ سافَرنا أو هاجرنا، ثمَّ عُدنا - وما كانَ العَوْدُ "أَحمَدَا !"- فارتحلنا ، دون أنْ يتّضِحَ الفارقُ في مصائرِنا بين السفَر والهجرة والعودة ثم الرحيلْ، من كثرة ما تَتَسعُ المُفرداتُ لوَهمِ المُترادفات!! ومن فَرطِ ما تتعرّضُ الاستعاراتُ إلى تحوُّلاتٍ ..!
فمنذ وقتٍ بعيد أدركْنا أنَّ الكلماتَ هي وحدَها المؤهّلَةْ لترميمِ ما انكسَرَ من زمانٍ ومكان .. هي المادة الأولية لبناءِ "بيتٍ".. الكلماتُ تصيرُ وطناً، يا ممتاز ، فلماذا بَخَلْتَ بها ؟!! كلماتٌ نَصقُلُها بكفاءةِ المُحترِفِ الماهر .. لا بهَشاشَةِ المُشتاقِ والمُريدِ الحائرِ .. نُرَوِّضُ الهائجَ منها، فلا تعود  لُعبَةً، كما يظنُّ البعض ! بل هي تحديقُ الباطنِ في الظاهر، وتَجلّي الباطنِ في الظاهر، فتكونُها وتكونَكَ، حتى تروحَ "تُسمّي البئرَ جرّةً لحِفظِ الصوتِ من عَبَثِ الريح"، وتُسَمّي السماءَ بحراً مُعلَّقاً فوقَ الغيم ...!
 
*    *     *
أتُراكَ تَسبَحُ الآنَ في حُلُمِكَ ..؟! 
وهلْ أَخرجتَ المفتاحَ من قُفلِ الباب، كي لا تُكرِّرْ ما دهى مُعين بسيسو بفندقٍ لندنيٍّ، كي لا تبقى أنتَ والموت وحدَكُما في الغرفة ؟!
أمْ تُراكَ نائماً الآن دونَ أَنْ تعرِفَ من أينَ أتيتَ وإلى أَينَ أنت ذاهبٌ؟! غيرَ آبهٍ بصَخَبِ الشارع، ولا بخيطِ ضياءٍ نحيلٍ مِلحاحٍ، ينسلُّ عَبرَ الستارة .. فالنومُ لا يُصغي ولا يُبصرْ ..!
فَنَمْ هادئاً قُربَ نفسِك!
نَمْ!
ففيكَ من عُمُرِ تَعبِ المنفى، أكثرَ مما فيكَ من عُمُرٍ في وطنٍ ضاعَ .. ضاع، ضــــــــــــــــاع !!
لنْ تحتاجَ إلى مصباحٍ يَدَويٍّ أو عودِ كبريت. فأنت موغِلٌ في سَفَرٍ، بلا طُرُقٍ وخرائطَ أو عناوين.. في رِحلَةٍ مُنزَّهةٍ من أية غاية !! لا يُعكِّرُ نومتَكَ رَنينُ هاتفٍ أو جَرَسُ الباب، ولا يُزعجُ نومَكَ شخيرُك فيوقِظُك ..!
تَنامُ خالياً من الماضي، خاوياً من الحاضر، مُفرَغاً من الزمن والعاطفة..
فقد طَويتَ كلَّ شيءٍ خَلفَكْ وسَدَدْتَ النوافِذَ عمّا سيكونْ..
تتَحسّرُ على "قرار" المقامْ ومواويلِ الريفِ الحزين،
على نكهةِ خُبزِ التنّور،
والحنينِ .. المُخبَّأ بين الضلوع،
لمْ تَعُدْ بحاجةٍ إلى القلقِ على ما ستأتي به الأيام!!
لأنَّ رَحى الزمانِ ستظلُّ على سَجِيَّتها تدورُ، تدورْ..
تطحنُ الأَعمارَ والدهورْ ..!!
 
ستعودُ إلى أوَّلِكَ، نَوماً بلا حُلُمٍ يُسامِرُكَ أو يُضايُقُكَ!!
لا غَدٌ تَنتظرْ، ولا ماضٍ يأتيكَ مُوَدِّعاً .. لا ذكرياتْ !! 
ستَمضي كأنّكَ وُلِدتَ توَّاً بلا ذاكرةٍ .. بلا حنينْ ! فالحنينُ يكذِبُ، يا صديقي، ولا يَمِلُّ من الكَذِب.. ببساطة، لأنه يكذبُ بصدقٍ ..! وهو اختصاصُ الذاكرةِ في تجميلِ ما احتَجَبَ من المشهد!!  
ستبقى شِباكُكَ، منذ الآنَ، فارغةً.. كنتَ تَنصِبُ بها فِخاخاً لصيدِ حَجَلِ الأفكار والمفردات الحلوة، وإنْ عَلقَتْ بها غَيرُها أحياناً!!  
 
ستكون قد تَحَرّرْتَ، وانتصرتَ، هذه المرّةِ، على أَرَقٍ لئيمٍ، طالما داهمَكَ وأرهقَكْ.. كانَ يحرِمُكَ من النومِ واليقظة معاً ..!
لنْ تحتاجُ بعدَ الآن، أن تضغَطَ على زِرِّ المِصباحِ عند السرير ..
بصعوبةٍ تفتحُ كتاباً، وبسهولة تنسى ما قرأتَ !!
هو الأَرَقُ اللعينُ وصَحْبُه من الكوابيس !!
كنتَ تُحبُّ النومَ، وتَمتدحُ هيبنوس، إلهَ النومِ عند الإغريق، ولم تُفكِّرْ بأنه شقيقُ الموت، الذي هو بدوره نَومٌ طويـــــــــــــــــلٌ، طويــــــــــــــلْ.. أَمعنَ في الاسترخاء حتى نَسِيَ أنْ يستيقظ!
 
 
تأخّرتَ وطالتْ نَومَتُكَ، يا ممتاز، فأنهضْ واحكِ لنا ما رأيتْ!
هلْ أنَّ الموتَ جميلٌ ومريحٌ، إلى الحدِّ الذي لا تُريدُ مغادرَتَه؟!
وهل هناكَ كُتُبٌ وموسيقى وشَرابْ ..؟!
أمْ كينونةٌ أُخرى ..؟!
ومنْ أيِّ نوع ..؟!
 
قُمْ الآن! هيّا بنا ..! فلا وقتَ لدينا لنُوَدِّعَ أيَّ شيءٍ أو أحد!
اترُكْ مَنامَكَ نائماً، وافتحِ الشبّاكَ ليلحَقَ بكَ ساعةَ يصحو فجراً ..
لن أدعوكَ إلى الخروجِ في وحشَةِ ليلٍ خالٍ من الرحمة .. حينَ تَفقِدُ الريحُ بيتَها .. تَمْرَضُ، فتَروحُ تُمَشِّطُ هامَ الصَفصافِ بكَسَلْ!
*    *     *
أمضى، ممتاز، سنواته الأخيرة مُتطامناً ومُتصالحاً مع نفسه أولاً!
قبل سبعة أو ثمانية أعوامٍ، حَمَل نفسَه، بتَعَبِ السنينِ وأوجاعِها، عاد إلى تلك الأرض.. إلى الحِلّة و"بِرِسْ"، كأني به أَرادَ أنْ يعتذرَ عن الغيابِ .. ويُلقي عليها تحيَّة الوداع ..!
وَداعُ ما سيكونْ .. وتاريخُ آلافٍ من السنين !!
 مُتَهَجِّسَ الخَطوِ أمسى .. قُلتُ له ماذا  دَهاك ؟!
صَمَتَ بُرهةً كأنه غَسَلَ الكلامَ ، تركه معلَّقاً على حبالِ المجهول .. 
فقال، بعدَ أنْ أطلقَ زفيراً حارّاً مُنْخَلِعاً من نَفْسٍ أَمّارةٍ بالحَيْرة .. أرخى فَكَّه الأسفل، كأَنه يبحثُ في حَلقِه عنْ لِسانٍ ذابَ، لمّا استغلَقَ عليه معنىً أَراده:
[.. وَجدتُني ظلاًّ باهتاً لِما كُنْتُه هناك ، أمشي مُتوَجِّساً  كي أتعلَّمَ المشيَ على طُرِقٍ ، ما عَرِفتُها .. حتى لا أَجرَحَ شَقائقَ نُعمانٍ، طالعةً بعفَويّةٍ، تُسلّي المكانَ المَكسورَ في وحشَته !]
 
ألقى نظرةً على المكان بعينين فاحصتين .. عينٌ يُنقِّبُ بها في قعرِ زمنٍ مضى، ويبحثُ عن مفاصلِ لحظاتٍ غارباتْ ! أما عينه الثانية، وبنظرةٍ خاطفةٍ مَسَحَ بها الأُفقَ كأنه يقيسُ المسافةَ بين النجوم .. فلم ترَ شيئاً غير أُفُقٍ
جامدٍ .. لا ينتهي !
ارتسمتْ على وجهه ابتسامةٌ فاترة وصدَرَت في قعر حُلقومه سَعْلَةٌ ، أَجَّجَها
 الغبار، كأنه أرادَ أن ينفِض هَمّاً أطبَقَ على أفراحه الأولى هناك. أَطبَقَ جفونه، ربما أَحسَّ كطائرِ سنونو قادَته بَوْصَلةُ المأساةِ نحوَ قِبلَةٍ كافِرة ..!       
إذْ وَجدَ المكانَ في غيرِ صورته بخياله المَطعونِ بقرونِ ثيرانٍ، تمضغُ وتَجترُّ عَلَفَ ذكرياته !
حينها، أَدرَكَ عَجزَ التَبَتُّلِ "استسقاءً" لقطرٍ يَمْحِي المَحْلَ !
فقد جَفَّتْ الرغباتُ، وانكسَرِ الهواءُ من الجفاف .. مثلُ قُرصِ رَغيفٍ يابس !
في تلكَ اللحظة، استنشَقَ بلهفَةٍ مُحاولاً الاحتفاظَ بفضاءِ المكان في أعماقه المُرتبكة .. فما عادَ يعرفُ من أينَ تطلَعُ الشمسُ هناك!
 
حكى لي بعد عودته من تلك الرحلة، بما لا يشبه الكَذِبَ أو الصِدقَ .. لا يدري أكانَ حلماً أم كابوساً ..!
في غرفة الفندق الذي سكَنَه بكربلاء كانت ثمةَ لوحةٌ معلّقةً على الحائط المقابل لسريره .. فرسانٌ وخيولٌ جامحاتْ.. كأَنها كانتْ تَهمُّ بالقَفزِ من اللوحة.. فخافَ أنْ تدوسَهُ بحوافرِها، فَزِعَ لذلك، وصارَ يسمعُ خَبطَ قلبِه.. اِستيقظَ مُتَيَبِّسَ الحلقِ عطشاناً، أحسَّ بصداعٍ في الرأس، حاولَ فَركَ صدغيه بكمّاشةٍ من الوسطى والسبّابَة والإبهام.. أرادَ النومَ ثانيةً، بعدَ أَنْ شربَ جرعةً من الماء، فقد كانَ مُتعباً من التَجوال في المدينة، لكنْ هيهات! كانت عيناه ما زالتا تَتَطلعانِ في وجوه الفُرسانِ الغاضبةِ في اللوحة، وأقسَمَ أنه كان  يسمعُ حَمحَمَةَ الصافِنات ..
سألني عن رأيي في تفسير ما رواه!
"لستُ مُفَسِّرَ أحلامٍ .. لكنها، في أغلبِ الظن، كربلاء الرابضة في اللاوعي!"، قُلتُ .
 
*     *     *
أبيَّاً، عزيزَ النفسِ، لمْ يأذَنُ للحاجةِ أو التعبِ أنْ ينطُقَ بالشِكوى، بل بهجاء الزمن، وبالسخريةِ اللاذعة، طوَّعَ بها الشقاءَ على الامتناعِ عن المَذلَّة أو الخنوع !!
لمْ يكشِفُ جُرحَه إلاّ أَمامَ الأقربَينَ إلى روحه!
*     *     *
أُخيَّ، وأنتَ في سَفَرِكَ الأخير .. حافياً كالصلاة،
كنْ سيّدَ أوصافِكَ، كنْ سيَّدَ الحُلُم، اتبَعْهُ بما أُوتيتَ .. واحلمْ ، تَجِد الفردوسَ في موضعِه ..! فما نحنُ سوى أحفادَ " البدايةِ " إيّـــاها !!
لا عليكَ بما قيلَ عن جهنّم! فالبوذيُّ يقول، أنَّ جَهَنّمَ هي المكان الذي يكون فيه الإنسان بلا حرية!
أنتَ الآنَ حرٌّ وحُرُّ!!
تخلّصتَ من كل صنوفِ الابتزازِ والاستبداد !!
كُنْ قوياً، يا صديقي ! وإنْ لمْ تأخذْ معك حاجيّاتِ قلبكَ .. خيمَةَ السطوحِ النجمُ، وسُلَّماً إلى السماء، بلا " مِعراجٍ "..!!
ولا تَخَفْ من الظُلمَةِ.. فما هي إلاّ ملاذَ اللونِ كي يَنْجو من مِحنةِ التأويلِ والتعليلِ والتفسير !!
وإنْ شئتَ، بعبارةٍ أُخرى، هي حِبرُ ريشِ الغُراب، لا غير !
ولا تَجْفَلْ فتَدلُقَ قهوتَكَ، في ساعةِ نَحْسٍ، حينَ يدخُلُ "الماضي"، مثل شَقِيٍّ / قَبَضايٍ/ من البابِ فيهربَ "الحاضرُ" من الشُبّاك!
لا تَستغرب! فقد قَفَزَ الحاضرُ .. صارَ خيالاً! وأمست حياتُنا مَجازاً لحياةٍ لم نَعِشها.. أو عشناها لُحيظاتٍ هارباتٍ، لا يُمكنُ الركونُ إليها أو تَصديقها!
لا تَخَفْ!!
سَتُفَتِّتُ الأرضَ، وتَطلعُ زهراً وريحاناً، يَسحَرُ الفَرَاشَ والصِغار !!
 
سأتلو على مَسامعِ المكانِ اللاهي عنكَ وعنّي، جزءاً من خُطبَتي.. خُطبةٌ أردتُ لها أنْ تكونَ طويلةَ الضفائرِ، لا لشيءٍ .. بل لأنَّ الفراغَ المُحيطَ بنا يحتاجُ إلى
ما يُسلّيه! فلا أحَدٌ يُهدِّدُنا بالمقاطعةِ فَرطَ الضَجَر، ولا أَحَدٌ يُذكِّرُني بأنَّ الرثاءَ مَديحٌ تأخَّرَ عن موعدِه حياةً كاملةً!  
عِشتَ مثلَ مسافرٍ في قاعة انتظارٍ، عابراً بين اختلاطِ الــ "هنا " بــ "هناك ".. مثلَ زائرٍ .. مُتحرِّراً من واجبات التأكُّدِ من أيِّ شيءٍ ..
*     *     *
الهواءُ باردٌ ومُنعِشٌ.. سينصرِفُ الجَمْعُ، ولن يبقى أحَدٌ سوايَ، يُسلّيكَ ويُلهيكَ عن "مِترَيْكَ".. فماذا تُراكَ فاعِلٌ بهما ..؟!
مِترانِ من العَدَمْ .. !! وأنتَ المُصابُ لا بضربَةِ شمسٍ، بل بضربَةِ قمر! أصابتكَ بـ"فوبيا" المكان الضيِّق - المُغلَق، لتُعْلي شأنَ الفضاءَ المَفتوحَ ورَفرَفَةَ عصافيرِ الصدرِ بهواءٍ مُنعِش .. !
إذا كُنتَ قد نسيتَ، فأنني أتَذكّرُ يوم تَعطَّلَ بنا المِصعَدْ وتوقّف بين الطابقين التاسع والعاشر بفندق أوكرانيا في موسكو .. وكيف شعَرتَ باختناقٍ ورُحتَ تنزِفُ عرقَاً.. كنتَ تضربُ البابَ وتصيح ... وبعد نصف ساعة مُرهِقةٍ سحبوا المصعد قريباً من الطابق العاشر، حيث فتحوا البابَ قليلاً لينتشلونا فرداً، فرداً. كنتَ فيها الأول.. ولمّا جاء دوري رأيتُكَ مُنهَكاً مَرمياً على كُرسيِّ
"بابوشكا" الطابق.. امرأةٌ طيبةٌ مثل أُمّهاتنا، خَلَعَتْ عصابةَ رأسها المُزركشةَ، وراحت تَمسحُ بها نزيفَ عَرَقِكَ، وأنت تلهثُ بسرعةٍ كأنّكَ انتهيتَ تَوَّا من سباقِ ماراثونْ ..!!
*     *      *
كمْ من المساميرِ في الحيطان دَقَقْنا، يا ممتاز؟!
لكن غَدَنا الطائشَ أَدبَرَ.. وأمسَتْ العودةُ في ظهرِ الغيبِ!!
... ارتَحَلَ الأمسُ، وهارباً وَلّى الغدُ!! [عطفاً على ترجمته لقصيدة بريشت الشهيرة:
 لا تدقَّ مسماراً في الحائط/ إرمِ معطفَكَ على الكرسي/ فأنتَ عائدٌ غداً!] 
ألهذا بَحثتَ في النساءِ "الغريباتِ" عن فُوضى الجسدِ في شَهوَةِ الغَجريّاتِ الراقصاتِ على حِبال الريح؟! هُنَّ سِربُ خِيامٍ مُهاجراتٍ إلى مغامرةٍ، بحثاً عن كَفافِ عيشٍ! لا يُوَدّعنَ شيئاً كي لا يحْزَنَّ.. فالحُزنُ مهنةٌ لا تليقُ بهِنَّ..
يرقُصنَ كي لا يَمُتْنَ.. يَترُكنَ الأمسَ وراءهُنَّ، حَفنَةً من رمادِ موقدٍ مُؤقّت، لتَبقى النوافذَ مُشرَعَةً على فِتْنَةِ العَفَويّة!!
عاتبني حينَ قرأَ ما كَتَبتُه "أينَ ذهبَ الغجر ؟!" إذ كانَ يرغبُ أنْ يكونَ معنا، خاصةً أنه كان في تلك الفترة موجوداً في سفرة إلى غِرناطة..!
*    *     *
عَشِقَ ممتاز كازانتزاكيس وريتسوس وثيودوراكيس، وترجم لريتسوس ..
يومَ حضَرَ ثيودوراكيس إلى برلين في نيسان/ أبريل من عام 1981 ليقدِّمَ عمله المُبهر "خانتو خنيرال"، الذي مَوْسَقَهُ مُتأثراً بنصوصٍ شعريةٍ من بابلو نيرودا بنفس العنوان ... بمَشَقَّةٍ حَجزتُ بطاقتين.. فرِحَ ممتاز لذلك. لكنه لم يأتِ إلى برلين لحضور العرض. كان قد أُصيبَ يومها بنزلَةِ بردٍ منَعته، فحزِنَ لِفِرصةٍ، فاتَتْ عليه.. قد لا تتكرَّرْ! 
سألته مرَّةً، ضمنَ "مُخابثاتٍ!" نتداولُها في سهراتنا بعد بضعة كؤوس،
حين تَتفتّح القريحةُ لـ"مناكداتٍ"طُفوليّة بريئة": [ماذا يشدُّكَ إلى هذا الثالوث اليوناني، أكثرَ من سواه ؟!]
تمهَّلَ بُرهةً.. جَعَّدَ جبهتَه وحَكَّ بيسراه فروَةَ رأسِه، قال مُتأنياً، كأنَّ الكلمات ترتخي بين شفتيه، ويُقَطِّرُ الكلامَ مثلَ طفلٍ يَتَهجّى أولَ الأبجدية:
[الحضارةُ العربية، التي "صُنِّمَت" بمثالٍ ذَهَبيٍ، تفتَّحتْ وازدهرت في الطور العباسي الأول بالتلاقُحِ مع الحضارة اليونانية/ المشرقية – المتوسطية والفارسية وغيرها.. قد نكونُ وَرَثنا هذا المَيلَ، دون أنْ ندري، ليس بفعلِ التقارب الجغرافي حسب، بل كذلك بفعلِ التقاربِ في الأمزجةِ! لأنهم مثلُنا، فَخَرَتهُم شمسُ المشرق، مما انعكسَ رؤىً وأمزجةً وإيقاعاتٍ متقاربة، فأفضى إلى صياغاتٍ وبُنىً جمالية أقربَ إلى ذائقتنا من سواها من الحضارات.. ذلك ما يَحضُرُني الآن ... فهل يكفيكَ هذا...؟!] ثمَّ لَفظَ زَفرةً ثقيلة، كأنه ألقى عبئاً ثقيلاً عن كَتِفيه!  
*     *      *
جريئاً في الرأي، لكنه هيّاباً من المغامرة كانَ ...! إذْ لمْ يسمحْ لنفسه فرصةَ التجريب وما يمكنُ أنْ يَنْجَلي عنها منْ إمكانيات جديدة، مَخافَةَ أنْ يُفضي ذلك إلى آفاقٍ ورؤىً تَتَخطّى ما أَلِفَه وإعتادَ عليه ...! 
التهم ممتاز الحياةَ بتوأَدةِ فارسٍ حَذِرٍ، يَتلذَّذُ ويكتُمْ.. دون تنَطُّعٍ أو مُباهاة!
فلا وقتَ لديه للخوفِ من المجهول، ما دامت الحياةُ، وهي أنثى، مشغولةً
عن الموت بتَجديدِ صِباها، " فُجورَها وتَقْوَاها.."!
 
علّمَني رحيلُه الحُزنَ.. وعلّمني حزني عليه الرحيلَ عن عالمي!
* * *
أطَلتُ بوقفَتي وخُطبَتي، علَّكَ تَجِدُ في ثناياها، مما أَقصُدُه، فيستفِزَّكَ كي تنهضَ، تَحتجَّ أو تُصَحِّحْ! أو عَساكَ تُغيِّرُ رأيكَ فتقومَ وتعودَ معي إلى "أين!"
ولربما أمضي معكَ إلى لا "أين" في رحلةٍ لا نهايةَ لها، ولا بدايةْ.. حيثُ لا نسمعُ سوى موسيقى الصمتِ أو الصدى إنْ شئت!
فما الصمتُ، في هذه الحال، إلاّ اطمئنان الصاحبِ للصاحب، وثِقةُ الخيالِ بنفسِه!!
أمّا الصدى فهو نَقشُ المفردات في الهواء...!
 
نَمْ، يا صاحبي، مُطمئناً.. فلنْ أخونَ ما أودعتني من أسرار!!
فأنا بئرُ أَسرارِ صَحبي، التي لمْ يرغبوا بتدوينها ...!!
سأنسِفُ هذا اليومَ اللقيطَ، يومَ رَحلتَ،
أهزعُه من التقويم وأدعَسُه..
أسكبُ دمعي في قلبي، عَسَلَ الوفاءِ لكَ، يا صاحبي، ولكل القيَمِ الجميلة، التي آمنّا بها..
ستبقى حياً، أراكَ تُومئُ مُبتسماً من خلف حجاب الغياب..،
وأظلُّ مُضرَّجاً بفَيضٍ من الحنين إليكَ..
 أَفتقِدُكَ ما بقيتُ حيّاً!
 
بطاقة شخصية
* وُلد ممتاز كامل كريدي (العزّاوي) في 3.2.1933 بمدينة الحلة، في عائلة إقطاعية معروفة، لها ممتلكاتٌ وأراضٍ زراعية واسعة، من بين أشهرها حي كبيرٌ مشهورٌ في المدينة اسمه "گاع نادر"- على اسم أخيه الأكبر نادر،
* خرجَ على أقانيم العائلة، شارك منذ ريعان شبابه، في الأربعينات من القرن الفائت، في النشاط الاجتماعي بمدينة الحلّة.. حتى نَضُجَ للعمل السياسي ثم الحزبي،
* انتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي مطلع الخمسينات،
* سافر إلى النمسا لغرض الدراسة عام 1952 ونشط في العمل الطلابي والديمقراطي هناك. شارك في مهرجان الشبيبة الديمقراطية العالمي سنة 1956 في فينا حيث تَعرَّفَ على شخصيات سياسية وحزبية، من بينها القائد الشيوعي محمد صالح العبلّي، ونوري عبد الرزاق وجعفر عبد الغني وجلال الطالباني وغيرهم..،
* انتقل من فينا إلى كولونيا - ألمانيا الغربية آنذاك - فواصل نشاطه متعدّد الأشكال طلابياً وحزبياً، حتى عام 1963، عام انقلاب شباط الأسود. وكان من بين النشطاء في الاحتجاجات ضد الانقلاب الدموي، ما دعا السلطات الألمانية حينها إلى طرده من ألمانيا - بحجة عدم امتلاكه جوازاً نافذاً، لأن السفارة العراقية في بون رفضت تجديد جوازه، سوية مع غيره من النشطاء، كان من بينهم صديقنا الراحل صادق البلادي. استقبلتهم ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) آنذاك، فأمَّنَت لهم الإقامة والدراسة في جامعاتها،
* التحق ممتاز أواسطَ ستينات القرن الفائت بجامعة كارل – ماركس في لايبزك لدراسة الأدب الألماني، إذ تخلّى عن مواصلة ما بدأه بجامعة كولونيا من دراسة الإدارة والاقتصاد، وكان حينها في السنة الدراسية الثالثة.
* مطلع السبعينات، حين صدَرَت ببغداد أسبوعية "الفكر الجديد"، تشكَّل أول مكتب صحفي لها في الخارج بمدينة لايبزك برئاسة الرفيق الراحل د. صفاء الحافظ، إذ ضمَّ المكتب ممتاز كريدي وزهدي الداوودي وكاتب السطور، لرفد مجلة "الثقافة الجديدة" و"الفكر الجديد" بالمواد المترجمة والمقالات. كان، وصفاء الحافظ، الأبرزَ فينا باختيار وإعداد المواد واقتراح الترجمات... وأصبح المكتب إيّاه بعد ذلك من أنشط مكاتب الخارج، وبعد صدور "طريق الشعب" في صيف 1973 وعودتي إلى بغداد للعمل فيها، واصل الكتابة والترجمة لها..
* في عام 1982 حصل ممتاز على شهادة الدكتوراه بدرجة امتياز من جامعة كارل ماركس. ما زلتُ أتذكَّرُ جيداً يوم دفاعه عن أطروحته الموسومة بـ [مشكلاتُ وعوائق تطوير نظرية وطنية تقدمية للنقد الأدبي في العراق]، حين خَلَعَ جاكيته وكفَّ كُمّيْ قميصه إلى المرفقين، في موقفٍ كَسَرَ فيه المألوف بأنْ يلبس طقما غامقا، إما أسود أو نيليٍّ ويكونَ "متزناً!".. خلافاً لذلك، كان كَمَنْ يتأهبُ لنِزال! مع اللجنة، التي تناقش العمل.. كانت تلك الساعات قِمَّةَ تألُّقه، التي لم يُكرّرها بعد ذلك! قال عنها بروفيسور تريگر، المُشرف على الأطروحة [وزّعتَ الكُرات بشكل جيد ورشيق.. كلٌ أرجعتَ له كُرَته!] وهو ما يُعادل القَوْلة العراقية العاميّة (كل واحد إنطيته طينته بخدَّه!).
* اشتركنا معه (صادق البلادي وكاتب السطور) عام 1981 في ترجمة كتاب للبروفيسور بَلْمان عن الوضع الثقافي في العراق.. لكنْ ذهب الكتابُ وكتابٌ آخر "نصوص أدبية" كنتُ ترجمتُه عن الألمانية، دفعَ لي وقتها محمد كِشلي – صاحب دار ابن خلدون -  600 دولار، كان المبلغ حينها محترماً، ما دعا الصديق الراحل فالح عبد الجبار إلى القول "إنك محظوظ مع الكِشلي لأنه لا يدفع عادة...!"، أقولُ ذهب الكتابان عندما أحرق البرابرةُ الإسرائيليون "دار ابن خلدون" أثناء احتلالهم بيروت عام 1982.    
* كان صاحبي متواضعاً، بعيداً عن الأضواء، أرادَ أنْ يكونَ قدوَةً لنفسه أولاً..  مُتسامحاً حتى مع مَنْ فَشِلَ في امتحان "الأمانة"!! وفيّاً وكريماً، يمنحُكَ كلَّ ما يستطيع، إنْ انسَجمَتْ كيمياؤه مع كيميائك!