
منشغلاً بجراحي،
والشظايا ما فتئتْ تطعنُ خوذتي،
وأسمالي؛
فكيف أقتنصُ الرؤى؟
أنا الذي لفظتني دوَّامة الحربِ فجأةً،
ربَّما سهواً من حجابات الجحيم،
ثُم َّقالت:
هذه أرضٌ تسيَّدها الأسى، لو تعتقها؛
قلتُ: فتهرَّب المعنى من الكلام،
ثانيةً قلتُ: فتدفَّقَ الرمادُ من فمي؛
ثالثةً قلتُ ومضيتُ أقول حتى تلاشيتُ في العدم.
انحنيتُ..
نعم انحنيتُ..
على جُثَّةٍ تشظَّى فكرها على الطريق؛
لكنَّ أصابعي خذلتني؛
وراحتْ تتلمَّسُ دموعَ الأمهات على بابِ المزارات؛
والدمُ المتوهِّج في دياجير الملاجئ؛
تلفَّتُّ..
ليس هناك سوى حطام ٍيحاصرني؛
حرَّكتُ بوصلة الروح للنشور،
فتكسَّرتْ أجنحة الأثير.
كانت الحربُ..
تقفُ على دكَّةٍ من جثثِ الجنود؛
وتنحرُ الرؤوس بسيفٍ مثلومٍ؛
ونجيع الدم يجري في مدن البلاد،
ويخضِّبُ قميصَ جنديٍّ خرجَ سهواً،
من دوحةِ النارِ؛
وغدى من دونَ أهلٍ أو صديق،
هائماً في الطرقاتِ يهتفُ:
لا لغةً عندي؛
لا حيلةَ، لا خديعةَ، لا دسائسَ،
لا نفائسَ، لا غنائمَ، لا طعامْ.
لكني أمتلكُ نثراً يربكُ أقلامهم،
ويفسدُ زعافهم،
ويفضحُ مجون العُتاة؛
الأقبية لي.. والسلالم لغيري،
جسدي الطبيعةُ، والأرض خُفايَّ، رأسي البريَّةُ،
وقبعتي السماء؛
هي ذي صفرتهم بوجه البلاد.. نسغ قلبي،
وسندس روحي تدوسهُ شِياه الرعاة؛
هل اسأل إبليس؟ ما جدواه؛ اللعنة زادهُ،
ما جدواي الجوع زادي؛
هم مملكة الحيوان.. هل أعدُّ؟
وأنا مملكة المهابة، المهانة،
هل أوضحُّ الإنسان؟
الغابُ معهم؛
فدلوُّني على أرضٍ لا شجرَ فيها ولا حيوان؛
لكي أعرف جدواي وجدوى السؤال،
دميةٌ صوتي وهم الأصابع والخيوط،
أضعنا قـُبلاتنا، أضاعوا القـِبلة مني،
وأشتمُ الطير لو قال إنَّ السماء مُلكَ جناحي؛
وأباركُ هذي البلاد؛
لو قالت: إنَّ عبرات المعدمين تاجي؛
استغفرُ بالنخلِ وبيوت الطينِ؛
وقصب الأهوار ومسبحة جدي،
ودخان التنانير،
وأعوذُ من غلواء النثرِ وغوايته؛
وأصلّي لربَّةٍ أو تربةٍ بلا فسادٍ؛
وألعنُ شظيةً تصطلي في رأسي؛
أمـَّنْ يجيب الشاعر إذا دعا البلاد؛
وتكشفُ عن رؤاهُ ونجواهُ؛
لا لغة ًعندي، لا حيلة؛
لا قدرة َلي أنْ أشيَّد المنائر،
وأقدامي في الوحلِ تغوصُ؛
أيها النثرُ لماذا أنتَ متخاذلٌ ومرتبكٌ؟
لكنكَّ عنيد؛
هذي بلادٌ مسبيَّة توزّعُ نكبتها على الشعراء؛
فيقتسمونَ عفَّتها بشهوةِ خديعتهم؛
على أسرَّةِ قصائدهم؛
حتى ترجمهم الخيانة بنشَّاب النحيب؛
تلك الرايات عَباء الأمهات،
قمصان الشهداء،
ثياب الطفولة؛
والأهازيج تباريح في الصدور؛
والقصائد؛
لا أقول غير إرثٍ لجوف الطبول،
أي كفِّ تصفعُ وجه البلاد ستزول،
أي إبليس؛ أين أنت الآن تـلهو؟
ما أحوجنا لملاك لم ينحن؛
أيها المُحتل ارفعْ حربتكَ عن ْعنقي،
لنْ أدعْ قلبك الهجين؛
يتسلَّى بصراخي ونزف دمي،
ولأنَّ الشوارع عبراتي،
والأرصفة مناديلي،
صارت حنجرتي تسابيح وصلاة؛
ولأنَّ الهباب الذي أشمُّهُ لم يستعمر سوى رئتي؛
أبقي وحدي أختنق؛
وسهواً هبطت ْبلادٌ مسبيَّة ٌمن فردوس الشاعر؛
إلى أرضٍ صار إرثها الرماد؛
هبط معها الشعرُ، النثر، الدرُّ، التِبرُ، الطيرُ، والأثير ْ،
تنبَّه َالشاعر وحشَّدً ملائكة الغيب وصاح:
لا تتاجروا بدمها؛
وابعدوها عن أنيابِ الغزاة؛
قبلَ أنْ تستباح َعُذريتها؛
فهزيم الرعد قادمٌ؛
وسيهتزُّ خصر الأرض من دم الجوع طرباً؛
البلاد المسبيَّة تقف أمام القصور وتذكـّر ساكنيها؛
اخشوشنوا فإنَّ الترف يزيل النعم،
وتعودُ تقتسمُ الحرمان والغبار والنحيب؛
في أرضٍ منكوبةٍ اسمها نحنُ؛
قصر الولاية يعضُّ أثداء جواريه حنقاً عليها،
دخلتْ أوَّل َسجنٍ للولاية؛
انتحرَ آخرُ سجَّانٍ فيه،
وقفتْ في سوقِ النخاسةِ،
ركعَ آخرُ مرابٍ فيهِ وتابْ؛
الغيبُ والملائكةُ تبحثُ عن خطاها؛
والغزاة يتنكَّرونَ بزي الفقراء،
هلعاً من مقدمها؛
وبلا تباريح، بلا تباريح؛
يدخلُ رجلُ البلاغة والشجاعة يتوضأُ بدمع ِالحنقِ،
ويصلّي معها في محراب الغيبِ؛
ويتبعهُ سيد الظمأ يودعها كوز الصبر،
ويمضي،
والجندي المكلوم في تنور وحشتها يُلقي عوسج النثر؛
ويفتحُ نافذةً بسعةِ الجرحِ،
فتطلُّ البلادُ بحسامٍ مجبول بجراح الأنبياء؛
وملائكة تتبعها،
والأسماء الحُسنى تسوّرها؛
تهتفُ: أيها البرقُ لا تتبختر أنَّ وميضكَ مني؛
ترتقي هضاب طهارتها،
لترقب من ثقبٍ في خيمتها؛
بساتين تستحم ُّبالنار ومواكب سبايا؛
تباريح، تباريح.. تهبطُ تباعاً من السماء،
تستغيثُ:
أيها الشعراء،
احتفظوا بحرف الراء من اسم البلاد،
فإذا سقطَ من اسم العراق،
نصبحُ عِهناً في الوهاد؛
واسم البلاد يصبح العاقْ؛
فانتبهوا أيها الشعراء.