حزيران/يونيو 13
   
 
     ينتمي الفنان غازي السعودي (1935 – 2013) الى جيل ما بعد الريادات الفنية، مسهماً مع الجميع في البحث عن ملامح هوية تشكيلية عراقية، أو ظلال هوية، انطلاقاً من البنيات الاجتماعية والمرموزات المحلية، وتوطين تلك الهوية في ضوء المزاوجة بين تقانات الآخر التي تعلمها أثناء دراسته في إيطاليا والنظر إلى تراثه الشرقي والإسلامي والعربي بعين فاحصة ومتأملة لكل ما يأتي من هناك، ليستطيع توطين هوية هذا الفن (الجداري) على الأقل، انطلاقاً من تلك الرؤية والمساحة التي تسمح بها الظروف المحيطة. ولتعدد مسارات الرؤية ومنابع المرجعيات، فقد تعددت مناخاته وطرق تعبيره عن الواقع. فالتراث العراقي والميثولوجيا والأُسطورة وحكايات ألف ليلة وليلة البغدادية، والحياة الشعبية كلها مصادر للخطاب البصري الذي اتخذه طريقاً لتحقيق علاقته بأسئلة الوجود، وممثلاً لحضوره الإنطولوجي. فكمنت خصوصيته ووجوده من خلال تلك التمثلات الجمالية التي أنجزها عبر مسيرته الفنية التي قاربت نصف قرن وأكثر من ذلك.
  غازي السعودي
كان (السعودي) شاهداً على العصر يروي ما يراه، ويستوقفه، وما يمر به الوطن والناس ضمن هذا الصراع وخضم هذه التناقضات والأحداث التي سجلت سيرة الوطن الحافل بالحروب، والثورات، والتبدلات الاجتماعية. لذلك لا بدّ أن يختار جنسه الفني الممثل لتلك السيرورات وتجسيدها، ولأنه درس (الفن الجداري) بشكل علمي وحصل فيه على شهادته العليا وقام بتدريسه في (معهد وكلية الفنون الجميلة) فقد اتخذ منه أساساً في الغواية والممارسة العملية، خصوصاً وأنه جاء مع بداية اللحظة الحداثية التي رافقت الفن العراقي والبحث عن هوية جمعية وهويات خاصة تأصيلاً وتوطيناً، لكي تكون حداثة مستوية (لا مقعرة، أو محدبة) انطلاقاً من مرجعيات الموروث المتعددة وخصائصه المنشطرة الى (عربي، واسلامي، وعراقي وبغدادي وشعبي) مما يلقي بظلاله بكل تأكيد على تجربته الخاصة والمميزة، إذ ما زالت فضاءات بغداد الداخلية والخارجية تتزين بمشغولاته الجدارية المقاومة للظروف المناخية، ويتردد صدى أسمه وأعماله المنجزة في كل حديث عن الفن الجداري.
 
  
وفي مشيداته الجدارية لجأ الى موضوعات قصصية في مضامينها وتكويناتها الظاهرية التي تتمثل بتفكيك الواقعة المحلية، بوصفها خطاباً اجتماعياً، واستنطاق أعماق الحكاية ومدلولاتها بكل ما تحمله من غرائبية، محققاً بذلك بنيات قصصية قائمة على ما هو مستلهم من ثوابت (المأثور الشعبي، والتراث العربي والاسلامي، والموروث الحضاري) بيد أن خصوصية هذا الإستلهام يكمن في أُسلوبه ونزعته الذاتية التي تؤدي في النهاية الى خلاصة جمالية عن طريق صياغات متفردة لوحداته الشكلية، حتى تجلى أُسلوبه الخاص الذي يتخذ من مشاهد الحياة اليومية منهلاً يغرف منه ما يريد، ومشيدات معمارية تراثية ومنمنمات إسلامية مروراً بمصورات الواسطي وتجليات (مدرسة بغداد للتصوير). اعتمد في ذلك الأُسلوب تقسيم المساحة الخلفية والأرضيات هندسياً، وتشييد الكتل المتنوعة في بنية واحدة مع إمكانية التلاعب بالمنظور من أجل الحصول على بنيات متغايرة.
   يختزن في ذاكرته ممارسات طقوسية وشعائرية وأعراف ثقافية يستحضرها لحظة الولوج الى الممارسة الفنية والتماهي معها بما يخدم الأغراض الفنية والوظائفية، فتتحول الجدارية عنده الى مرجع يستلهم هذه الموروثات كلها، موضوعاته تجسيد الحكايات الشعبية والميثولوجيا الروحية واستحضار مناخات الفنون العباسية التي جسدتها مدرسة بغداد للتصوير الإسلامي عبر مصورات الواسطي ومقامات الحريري، وحكايات ألف ليلة وليلة وغيرها من موضوعات ميثولوجية ترسم خطاباً يتسم بالغرائبية وتداعياتها الوجدانية ويحمل الشيء الكثير منها، فضلاً عما جسده من مشاهدات حية لأزقة بغداد الحديثة وحاراتها وأنساقها الاجتماعية والثقافية على السواء.
    وعلى الرغم من دراسته فن الخزفة، إلاّ أنه وجد في الفن الجداري غوايته وتطلعاته التي تُعبر عن هواجسه الداخلية، ليخلق منها بانوراما تتداخل فيها الموضوعات والتقنيات والأجناس، فمن آليات الخزف المعتادة الى التمبرا، والرسم بالألوان الزيتية والمائية لتجتمع كلها في جدارية واحدة، فضلاً عن تنوع الموضوعات والرموز الدينية، والشعبية، تماثلاً مع غنى الحياة وثراء موجوداتها التي ستكون منهلاً يأخذ منه ما يشاء ويستلهمه، ولذلك فإن ما أنجزه من جداريات خلال فترة عطائه الفني لم يصل إليه أي فنان آخر، إذ أنجز (44) جدارية في أماكن مختلفة من الوطن، وضمن تخصصات تتواءم مع طبيعة الأمكنة سواء كانت عامة أو خاصة (متنزهات، متاحف، مطارات، كنائس، جامعات، بيوت خاصة، فنادق، قصور، ساحات عامة).
جدارياته في مداخل متنزه الزوراء الثلاثة تتضمن موضوعات تتشاكل في العلاقة مع المهمة لوظائفية المكان، حيث أمكنة اللهو واللعب البريء والطفولة ونوازعها التي تقترن بالطبيعة ومكوناتها، الشمس والمآذن والقباب والبساط السحري، علاء الدين والمصباح السحري، ورحلة السندباد، والمبادئ الأُسطورية التي تتيحها الحكايا البغدادية، وما تتضمنه من رموز أُسطورية أشاعتها الثقافة الشفاهية في حكايات الآباء والأجداد، بوصفها جزءاً من أحلام ضائعة تحاول سلطة الخيال استعادتها والتطويح بها مرة ثانية الى الفضاء الإنساني الاستهلاكي، أو إعادة صياغة الواقع المعيش والمعاصر على أساس الحلم. لذلك ستكون سيرة المدينة هذه ماثلة أمام كل من يمر أمام الجداريات، أو يدخل من بواباتها الواسعة.
   وتعد جداريات بوابات متنزه الزوراء الثلاث من أهم الأعمال الماثلة أمام الجمهور من خلال بنية التواصل مع المكان بشكل يومي، وطبقات اجتماعية متباينة التلقي. وهنا تُصبح الجدارية وثيقةً تاريخية تسجل صلة المكان بالناس والإرث المجتمعي انطلاقاً من فاعلية المكان نفسه وتموضع الخطاب. وقد نُفذت هذه الجداريات على وفق نظام التقابل البنائي لكل مدخل ضمن فرضيات الفضاء والحيز المعماري بتقنية الرسم على الخزف، ما حقق تقابلاً تقنياً وأدائياً لمستويات التشكيل والفضاء المعماري المحيط، فضلاً عن البعد المفاهيمي الذي يُميز جدارياته وتحقيق التكامل الشكلي فيها الذي ينشده. ولذلك فـ (السعودي) لا يتخذ منهجاً واحداً في التعبير، أو الرمزيات المحدودة، فهو متعدد التصورات والرؤى والأساليب والإنتقال من التشخيص في رسم الخيول والمفردات الأُخرى الى التجريد، فضلاً عن تفرده في استخدام اللون الأحمر في أعماله الخزفية، لصعوبته، وقد حاول التعبير به دلالياً في لوحة الفاكهة (اللقاح الأحمر) ولوحة (أكلة المسكوف).
   واستطاع أن يوظف في جدارية البوابة الثالثة حكايات الحضارة العراقية العميقة والمُشفرة في ضوء استحضار مفردات حضارية شغلت المدونات البصرية ووثائق التراث مثل (مفردات الفلك، والزقورات، وبوابة عشتار، وغزوات الملوك، وترويض الحيوانات)، ومشاهد مصورة لمرموزات حققت حضورها الحكائي في متن الجدارية لتعزيز الإنتماء الحضاري، تقابلها في الجدارية الأُخرى تجسيدات حكائية ترتبط بخطاب سياسي لاستعراض عسكري بابلي تم تنفيذه ضمن سياقات البيئة باستحضار بنيتي الزمان والمكان، ومشاهد استعراضات الرياضيين، فضلاً عن مشاهد العزف الموسيقي المرافق دوماً للحدث الحكائي.
     وانطلاقاً من تكريس قيم المكان ووظائفية الفن، حاول في جدارية المتحف البغدادي استلهام الموضوعات المحلية الباحثة عن الروح السرمدية ومفهوم الخلود المقرونة بالنزعة الطفولية واليقين الشعبي مكوناً وحدات بصرية تعكس طبيعة الواقع المحلي البغدادي في مجموع تجلياته وآثاره المرئية التي حاول جمعها في جداريته الواحدة، الآثار المائلة في الذاكرة وإن تمت إزالتها من أماكنها المعروفة مثل (نصب الجندي المجهول، والأسواق الشعبية، واحتفالات الأعياد الشعبية) في محاولة لترميم الذاكرة وإعادة الصالح إليها، ليعيد رسم خارطة الأمكنة والمدينة من جديد، بما يتلاءم والأثر الرمزي الكامن في الوجدان. مفردات من حياتنا اليومية اعتاد الناس على مشاهدتها والتعايش معها، ليعيدها مرة أُخرى بعد استجلابها من ذاكرته الصورية، بوصفها بديلاً عن الذاكرة الجمعية التي تحقق بحثه عن الهوية الذاتية.
 
    
وإن هذا حتماً سيختلف عن جدارية الطب التي تم إنشاؤها في كلية طب بغداد، أو المؤسسات العلمية، إذ أن (السعودي) ستكون حاضرة في ذهنه موضوعاتها بما يتلاءم مع المكان المقترح لها، إذ ستكون موضوعاتها طبية استناداً للموروث العربي في هذا المجال، حيث تظهر الدوارق، والأواني المستطرقة، وألوان المحاليل الكيماوية الذي انتشر ذكرها في المخطوطات الطبية، وترجمتها المناهج الدراسية، لتكون جزءاً من وظائفية المكان ودلالة على المدلول الكامن في ماهية المضامين وجوهرها.
    يقوم نسقه التصميمي على أفاريز هندسية تحقق توافقاً والنسق المعماري للمكان، فضلاً عن فاعلية الفضاء المنفتح على قراءة تأويلية مشهده المرئي من قبل المتلقي الذي غالباً ما كان امتداداً لتعزيز قيمة المكان، لمنح هذه المداخل ممكنات القراءة من خلال خصائص تشخيصية بروح معاصرة تمثل الهوية. وإن ثيمة موضوعاته الشكلية قائمة على مفردات معمارية تتسم بالمنظور الكلاسيكي مع توظيف لأنماط وعناصر معمارية تنتمي للطراز الإسلامي في المباني أحياناً، كالمآذن، والقباب، والعقود، والأبواب، والأهلة أنجزها بما يماثل الأقواس والعقود المنحنية مُشيدة على وفق محددات هندسية تحيلنا الى سمات المدرسة التكعيبية في بنيتها العامة.
   وفي حالة لجوئه الى المنظور السطحي الجانبي تداخلت الخطوط ضمن وحدات شكلية تفرضها إنشائية مشهده البصري، فضلاً عن توظيف الحروف العربية في محاولة لتحويل اللساني الى صوري، والزخارف النباتية، والمفردات الحيوانية، والأجساد البشرية، والخيول، والفيلة والطيور الهجينة، والأسماك وشباكها، والبنى المعمارية من قباب ومآذن ومساجد وعقود، فضلاً عن موضوعات بغدادية تمثل نبض الحياة اليومية والواقع المعيش. إن (السعودي) عندما يلتقط هذا كله من نبض الحياة، فأنه يكتب سطراً خزفياً من الحياة البغدادية يماثل ما كتبه (جواد سليم) نحتياً في نصب الحرية، إذ أنه (السعودي) تتبع ذلك الأثر واستطاع أن يكتب سطراً بالخزف الملون عبر جدارياته لتمثل حياة العراقيين والمضامين البغدادية، وتصوير المشاهدات التي مرت من أمامه، فضلاً عن مخزونات الذاكرة من صور تمثل اليقين الشعبي وذاكرته الجمعية في حياته وتصوراته.
    إن الطبيعة والبيئة والثقافة تعد بلا أدنى شك من أهم الضواغط المرجعية على ذات الفنان المبدعة عبر حوار ثقافي بين العناصر ورؤيته الذاتية للتراث والمعاصرة وتشييد العلاقة بينهما، بما يُثري النص ويدفع به الى الأمام، مُحصناً بحجة الدلالة الرمزية الظاهرة في البنية الشكلية. إن هذا الاستدعاء للوحدات البصرية جعل من جدارياته، أو خطابه حقلاً استعارياً عندما يستلهمها ويوظفها كشكل رمزي يحقق انتماءه البيئي عن طريق الأثر ذاته، متجاوزاً حدود البنية الزمكانية المتعينة، عندما يتحرك مفهوم الزمان والمكان لديه عبر تضايفهما معاً، إذ أن فكرة التزامن قائمة على ترحيل الزمن في حقبه المختلفة، أو عند استبدال المكان أيضاً.
    
وقد أفادته دراسته التخصصية، وخبرته المتراكمة الارتقاء بالتقنيات الخاصة وتوسيع مداها الجمالي مستثمراً الخصائص الفنية للمادة نفسها لكل من (الرسم والفريسكو والتمبرا والسيكوفيتوا والخزف والموزائيك والصوف والرسم على الجص) وغيرها التي أتاحت له المناورة في إنجاز الخطاب الجمالي، فضلاً عن الخامات التكميلية الملحقة بما تقدم من أجل إيجاد تعالقات بين هذه المواد لإنتاج خطاب فني له خصائصه المفارقة، والذي سيفضي في النهاية الى أُسلوب فردي خاص به. وتبعاً لهذا كله فأنه يصطفي منظومته اللونية لتتطابق مع دلالة الأشياء القابعة في الذاكرة الجمعية لتكون أكثر تعبيراً. فيستعين أحياناً بالصبغات اللونية الجاهزة، ومعادن (الذهب، والفضة، والبلاتين) ضمن اشتراطات التقنية لتحقيق قيمة لونية يفرضها المشهد التصويري المقترن بالواقع والحياة. ولم يكتفِ بهذا، بل لجأ الى استمكان الطاقة التعبيرية الكامنة في تلك الخامات، فضلاً عن نماذجه الجدارية الأُخرى القائمة على توظيف خامات تقنية تنتمي للرسم، حيث نفذ بعضها بالألوان المائية والزيتية والسكرافيتو، مستعيناً بخامات تكميلية متعددة (الأسلاك الحديدية والصمغ العربي والخشب والجنفاص والشاش والقماش والصوف) لكشف القدرات الأدائية لكل خامة من هذه الخامات، بما يخدم الأغراض الجمالية والتعبيرية في البنى الكلية التي تشكل خلاصاته النهائية.