حزيران/يونيو 13
   

ما المقصود بمفهوم (فتنة الجسد) هنا.. وكيف نفرق بينه وبين مفهوم آخر، هو عشق ام حب الجسد؟ الثاني يهتم به علم جمال الجسد(1) متناولاً قيمه الجمالية وآثاره الجانبية على الجسد، ففي ظاهره تبدو سمات  العشق و الوله وعلل الهيمان، ويعد علم جمال الجسد مصنفاً  حسب الجنس، جسد الانثى  وجسد الذكر وجسد الحيوان وجسد النبات، إلى الجماد،  ويمكننا ان ندرك العشق او علامات الحب و شدته ووطأته  في ما يصيب الجسد من أسقام ونزعة قنوط وسرحان، وعشق الجسد مرض قديم أشار إليه جميع الكتاب والفلاسفة منذ عرف الإنسان الكتابة، فأول الكتابة كان نصاً في عشق الجسد كما في (ملحمة جلجامش)(2) الشهيرة التي ذكرت بأن عشق الجسد له عواقب وخيمة على من يقع في عشقه، لكن ثمة درجة أشد من هذا اللون من العشق، يطلق عليه بـ (فتنة الجسد). بمعنى إن الفتنة هي الأشد إيلاماً والأعمق ضراوة بما يتعرض له الجسد في العشق، للتمييز الدقيق بين مغزى المفهومين، وما يشكله كل منهما على حدة على الجسد تقول الملحمة  بما ملخصه: فلما برمت الآلهة السومرية القديمة من عبث و طيش جلجامش، وما ظل يعبث فيه من نزق  وتخريب في البلاد، بعثت إليه نداً قوياً يكسر من شوكته يخرج من رحم الطبيعة، ونقاوة الفطرة، في عيش رغيد مع الحيوانات البرية الضارية، عبر تلوثه بدنس الرذيلة، والوقوع في (فتنة الجسد) المدنس، لامرأة غانية، فكانت تلك الفتنة هي التي عادلت بطش وشراسة جلجامش ونزوته وبطشه، واستبداده، وتهوره أمام قوى الجسد المدنس سقط غريمه (انكيدو) ونشب الصراع بين عشق الجسد و فتنة الجسد، ووقع العالم  الإنساني بين العشق المترفع عن الشهوة المدنسة ، وبين الفتنة المتهاوية في احبولة الرذيلة، واشتهرت ملحمة جلجامش منذ ما يقارب من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد بوصفها اقدم نص بشري سجل مشاهد الحياة المحملة على جسد معذب جراء العشق المدنس له. هذه الفكرة كانت تمثل ما يجري على حياتنا في طريق الآلام تظهر في الجسد، لهذا تجاذب علم الاجتماع مع علم الجمال إشكال الجسد عبر منفذ الفتنة، فاستغل مفهوم الجسد أبشع استغلال منذ تاريخه القديم الحافل بالجمال والقسوة.

كرس شلنج في كتابه (الجسد و النظرية الاجتماعية)(3) أقر بأهمية الجسد في مختلف طبائعه، وعرف شلنج الجسد الطبائعي "حيث تقر الرؤى الطبائعية إن قدرات الأجساد البشرية وحدودها تعرف الافراد وتنتج العلاقات الاجتماعية والسياسية، لهذا بدت تلك الأجساد قادرة على صنع العالم وتفكيكه"(4) بما يمكننا ادراك عمق الفرق بين الفتنة والعشق من خلال الجسد المتألم في لحظة فارقة، لحظة الانتقال من الاستغراق في الجسد المدنس كما وقع (انكيدو) مع الغانية، وجلجامش حين ادرك موت انكيدو لما فارق جسد الغانية، هنا الجسد يصيبه المرض ثم الفناء والموت إذا ما لامس الجسد المدنس او نهل من مفاتنه المحرمة، وفي المظهر الجسدي المدنس تبدو الفتنة إثماً عظيماً يهز كيان عاشق الجمال الجسدي وتجعله هلعاً باحثاً عن كنه الدنس وباعث تحريمه، وإن كان سفاحاً، لأن الإثم الذي ينجم عن ارتكاب الخطيئة بواسطة فتنة الجسد تعكس بشاعة انحراف الفتنة نحو مجرى غير مسبوق، ولا مراد له، لأن (الآلهة) عزمت على كبح جماح (جلجامش) وكان عليها توظيف الفتنة لمخلوق صنعته بيديها كي ينافس نزق جلجامش في غلوائه في العبث في الفطرة السليمة لمجتمعه الصادح بآثامه، خلقت (انكيدو) من إيروس الحب، وزرعته في لوغوس البرية، يصاحب الحيوانات في حياتها على الفطرة، بيد إن تلك الآلهة زعمت أن تمادي جلجامش في غيه العبثي لا بد أن يقابله جسد متألم، منزوع الفطرة، مدنس بجسد الفتنة التي تحملها الغانية في عطف جسدها، بمعنى إن الآلهة تعي معنى الصراع بين مفهومي المقدس والمدنس اللذين يقلقان الإنسان، فعمدت إلى إضرام  القتال والحرب بينهما، يقول روجيه كايوا في كتابه (الإنسان و المقدس)(5) إن أي تصور ديني للعالم يفترض التمييز  بين المقدس الدنيوي على قاعدة التعارض القائم بين عالم يتفرغ فيه المؤمن لأعماله بحرية ويمارس نشاطاً لا تأثير له على خلاصه الأبدي لهذا لما عرف جلجامش إن موت صاحبه وخله انكيدو، وقد فارق الحياة جراء تطهره من وباء فتنة جسد الغانية كان مقصوداً من قبل الآلهة، تفهم أن غضبها أدى إلى خلق ند له، كي يكسر شوكته، ويفل من عضده، بوصف جلجامش مفسداً في الأرض، وإنها قد خلقت الفضيلة للبشر، فعاش جلجامش صدمة الفقد وتأسى في اللواذ في المقدس، وراح يبحث عن مقصد الآلهة من ضريبة الموت، عندما نظر نحو انكيدو وقد تحول إلى جسد متألم وهامد، أهكذا هو الموت؟ جسد فتن بجسد، ثم انطرح على آلامه المبرحة، فأفزعه هول الموت في جسد صاحبه، فهرع إلى المقدس الخلاص الذي اختصت به الآلهة، واحتكرته لنفسها، فكان لها الخلود السرمدي، تقول (ألين سكاري) في كتابها الضخم(6) (جسد متألم) ناقشت بإفاضة تامة ما وظيفة الجسد الحي، كيف يتلقى ضربات العيش وسط آلالام التي يتكبدها، لأن ما نفهمه من وظائف الجسد تتمركز في أن الحياة هي عبارة عن جسد مثخن بالجراحات، ويفتن في صنع عالم يهبه الألم كذا مرة، لذا قد فهم الإنسان مذ القدم الفرق بين الفتنة والعشق، مثلما في ملحمة جلجامش، حيث وضع الجسد بين الفتنة التي تؤدي إلى عواقب لا تحمد عقباها، في آخر يهبها الهلاك المحتم، والحب والعشق الذي لا يأخذ المرء نحو حافة الهاوية، والشواهد كثيرة في تاريخ البشر، في قصص الحب والغرام، وهي تتحدث عن عالم مجنون، عالم الفتنة التي يستذوقها أغلب العشاق، ويستطعونها، بل يحاول البعض منهم بتحريض إيروس شديد ولوج عالم المحرمات في أبواب فتنة الجسد، ووصول أولئك العشاق  إلى حدود غابة المحرمات التي تفتن بلذتها المحرمة أضعفهم شهوة وفتنة للجسد، لهذا يجب أن نميز في ثقافتنا بين العشق والفتنة، وأن لا نرهق أجسادنا، ففتنة الجسد تعمل على إرهاق الجسد، وأما عشق الجسد فيعني تأمله استطيقياً، لأن العشق يتغلغل إلى ثنايا الروح ويتسامي بالكائن في نشوة القداسة الروحية، بينما يثبت فعل الفتنة في تضاعيف الجسد، لأن غايته إنهاك الجسد بالدنس والمحرمات من فعل الامتلاك المادي له، فالأجساد تشقى بالفتنة، وفي واقع الأمر  يتحمل الجسد وزر الدنس، وآثار الخطيئة، ليصبح طريق الفتنة الجسد المنهك الشقي، وكانت ملحمة جلجامش قد عرضت مبكراً في أوائل الثقافة الإنسانية تلك الظاهرة المتحصلة في التفريق بين المفهومين السابقين الفتنة والعشق، ما جعلها، أي الملحمة تعطي مقداراً ناضجاً في تحليل صورة البناء القيمي للجسد، وتظل الفتنة مفهوماً شاملاً لكل الأجساد البشرية، سواء أكانت أنثوية أم ذكرية، فالفتنة واحدة، تسري على كلا الجنسين، لكن المتعارف عليه أن الفتنة تهتم بالجسد الأنثوي، وفي ملحمة جلجامش، الفتنة هو مفهوم إغوائي، فلولا الغانية، بما تمتلكه من قدرة على إثارة الرغبة عند النظر لجسدها ما كان بمقدور انكيدو ان يتخلى عن فطرته، وينفصل عن معاشرة الحيوانات في البرية، فجسد الغانية يمتلك جنسانية مثلية تدعو للفتنة، وجنسانية غيرية تهم بالإغواء، لكن الملحمة لم تعرفنا على حيلة الإغواء التي نصبتها مكيدة الآلهة لجذب انكيدو نحو الخطيئة، إلا لما حسبت إن الإثم هو معادل دنيوي للجسد الماليخولي الذي يراهن الجنس في إشعال الرغبة في جوانح جسد الغانية كي تغرز ازاحات الاثم على إيقاعات فرضية التخلي عن فطرة البرية، بمعنى إن الجنس باعتقاد الآلهة في الثقافة الملحمية هو المدخل لخلق معادل العنف الذي يركب في جسد انكيدو، وهي فكرة متقدمة في فهم الإنسان الرافديني المبكر في إن التحريض على فصل الجنس عن الفطرة تخلقه الثقافة، من هنا تبدو الملحمة في إشارتها لدور العامل الثقافي في تدنيس الفطرة فكرة قديمة، وإن الوقوع على أن يكون  للفتنة الجسدية دور في خلق ثقافة العنف، بينما لم تتطرق الملحمة إلى حب الجسد إلا لما مات انكيدو، وأيقن جلجامش خسارة انكيدو، أي ضياع الفتنة في ثقافة العنف، وإن ما نطقت به صاحبة الحانة (سيدوري) وهي تعنفه في رحلة بحثه عن الخلود، مبينة أن وظيفة الجسد هي فقط للمتعة غير المحرمة (لدى الزوجة) وقد كانت هي في خطابها له تطلق العنان للفكرة الخلقية السائدة لحد الآن، وهي إن التلاعب بشكل الجسد الأنثوي ودفعه نحو القيم اللامشروعة يجر نحو الخطيئة، وإن الحذر من إهدار ذلك الجسد في منزلق الفتنة، وهذا الخطاب الأخلاقي الذي أطلقته صاحبة الحانة إنما هو الرأي المميز لرؤية الآلهة من منظور العرف الذي سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل.

إنّ فتنة الجسد الأنثوي خاصة تعني الإمعان في الاثم الصارخ، فالمرأة يستطيع جسدها الأنثوي  أن يخلب لب الذكر، تطلق عليه (جوديت بتلر) في (قلق الحالة النسوية وتخريب الهوية)(7) دراستها لفلسفة الكاتبة النسوية (جوليا كريستيفا) حول الجسد بـ(سياسة الجسد حسب كريستيفا) في علاقة شائكة وهي تتعرض لنظريتي فرويد ولاكان في مسألة أوديب الأسطورة الشهيرة، ومدى ما استنتجت من العلاقات الجنسية المحرمة، إذ كيف استساغت تلك الاسطورة أن تسمح  لسفاح القربى ان يهلك الجسد بوصفها علاقات شائنة غير مسموح بها تسبق القانون الأبوي؟ وتخترق الطبيعة الجنسية التي لا تغفل عن هكذا خروقات، لولا إن الفتنة بمفهومها الجنسي والثقافي معاً فوض لها أن يتعامل أوديب الأبن مع جيوكندا الأم بعلاقات محرمة، لكنها غير خالية من الفتنة، ونحن نعرف أن الأساطير والأحلام تعمل على معالجة كسر المحرمات وتطويع كل الاعتبارات الواعية التي تحتفظ بالرغبة المكبوتة في الوعي او الأنا الجسدى نحو اللاوعي عبر تسريبها بعملية مشتركة بين الجنسانية والجنس والرغبة، من هنا يمكننا فهم التداخل بين المفهومين في وضع العلاقات بين حركية الجسد الأنثوي ثقافياً، بعد أن تتم صياغته جنسياً وبين فكرة الازاحات الاستعارية لفاعلية الفتنة، لان الفتنة في الجسد تبدأ أولاً بإزاحات العشق للجسد ثقافياً، والاكتفاء برشف الجسد جنسياً، ولنجد تلك الفكرة في كتابات كريستيفا وفيتيغ وفوكو واريغاري وغيرهم عن طريق التدليل بالأخطاء المنهجية الفادحة في رؤية فرويد ولاكان حول تحليلهما لأسطورة اوديب، لأن ملحمة جلجامش وهي اقدم نص بشري على ما اعتقد يعارض فرضيات العلاقات المحرمة التي تقيمها اسطورة اوديب حول سفاح القربى، على إنها ألوان من طبائعية اللاوعي البشري في كسر القانون الأبوي بدون الفتنة التي يساهم بها الوعي، ففتنة الجسد هي إشارة أولية عن الرغبة المضمرة في تدنيس الجسد الذي يخلق مع الفطرة. 

 

هوامش:

  1. علم جمال الجسد المغاير، ابراهيم محمود، دار الحوار، ط1، 2015.
  2. ملحمة جلجامش، ترجمها عن الألمانية عبد الغفار مكاوي، راجعها عن الاكدية: عوني عبد الرؤوف، الهيئة العامة لقصور الثقافة.
  3. الجسد والنظرية الاجتماعية، كرس شلنج، دار العين، 2009
  4. الإنسان والمقدس، روجيه كايوا، ترجمة: سميرة ريشا، منظمة العربية للترجمة، 2010
  5. المصدر السابق.
  6. جسد متألم، ألين سكاري، ترجمة: حسام نايل، المركز القومي للترجمة، ط1، 2018.
  7. قلق الجندر النسوية وتخريب الهوية، جوديت بتلر، ترجمة: فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2022.