العراقيون يرفضون التوزيع الاثني للسلطة
بسبب تكريسه منظور ما بعد الاستعمار
منذ أن برز محمد عطوان كاتباً في تسعينيات القرن الماضي كانت له لمسة خاصة في دراساته التي اهتمت بالمجتمع العراقي وقراءة بنياته الخاصة، والعلاقات بين مكوناته ثقافياً ومعرفياً وعرقياً، فقد حاول عطوان أن يفهم هذا المجتمع من خلال الدراسات الحديثة التي حاولت تحليل فكرة الوطن والمواطنة والعلائقية التي تنبع بينهما.
عطوان عمل في أكثر من منظمة مجتمع مدني تدافع عن المرأة وتنبذ العنف، كما انه اهتم بمحاولات إعادة قراءة العقل السياسي العراقي والعربي في رسالة الماجستير ومن ثم أطروحة الدكتوراه اللتين حصل عليهما بدرجة امتياز من جامعة بغداد (كلية العلوم السياسية).. الدراسة الاكاديمية أعطته دفعاً جديداً للبحث والتقصّي، وإيجاد بدائل للمناهج التي يقرأ في ضوئها طبيعة المواطنة، والمفاهيم الثقافية التي تؤثر فيها، وتتأثر بها في الوقت نفسه..
في هذه المناسبة نود محاورة الدكتور محمد عطوان حول بعض القضايا المتعلقة بالعنف المادي والرمزي الذي تمارسه كانت تمارسه أجهزة الدولة ومن بعد عصبويات متمددة في إطار الدولة نفسها (التكوينات الأقل من الدولة)، وكذلك نحاوره حول حضور الهويات الفرعية مقابل غياب التصور الوطني الجامع لها، وعلاقة الفضاء المديني بفكرة التعدد، وأسباب غياب التعدد أيضا.. وطبيعة الطقوس ذات الطابع الاجتماعي الهيجاني وعلاقتها بما هو ديني وروحي صرف.. هذه الموضوعات سيجيب عنها الدكتور محمد عطوان في هذا الحوار الحصري لمجلة الثقافة الجديدة.
السلطان: في مقولته عن العنف الفيزيائي والرمزي ــ المُمارَس من قبل الدولة ــ يؤكد (بيار بورديو) بأن العنف الفيزيائي للدولة منّوط بما يوّصف بالعنف الشرعي الذي تطبقه المؤسسات الشرطية والأمنية والعسكرية. لكن في بلدان ما يُسمى بالربيع العربي، من ضمنها العراق طبعاً، صارت الجماعات العصبوية المُهيمنة والمُسلّحة وحدها المُمارِس لذلك العنف. وعليه هل تعتقد ــ من الناحية البحثية الموضوعية ــ بأن المُجتمع العراقي الراهن، بكُل مكوناته وأطيافه، هو مُجتمع ما قبل الدولة؟
عطوان: ابتداءً نقول إنه مهما كانت طبيعة المُجتمع، حداثية أو ما قبل حداثية فإن البُنى الطبقية والثقافية لهذا المُجتمع - على تنوعها - لا بد لها من التدافع والحركة فيه، مقابل ذلك تُمارس مؤسسات الإكراه ــ التي ذكرتها في سؤالك ــ احتكار مهمة تمثيل الكُل داخل هذا المُجتمع، عبر صُنع "المشروعية" التي يقترحها جهازها الأيديولوجي الأدبي، ليعيد بناء نسخة مُمكنة عن الواقع عبر مذهبته بإحكام. فيجري هُنا ضبط المُمارسات المادية، والأعراف، والعادات، وأساليب الحياة المُتداخلة التي في ضمنها المُمارسات السياسية والاقتصادية المُتحكمة في توصيف المِلكية والتملُّك وتقسيم العمل الاجتماعي داخل علاقات الإنتاج.
وحتى لو عوينت مؤسسات أو أجهزة الضبط والرقابة الأدبية بوصفها مؤسسات حديثة، فأنها لم ترق لتكون جزءاً من الدولة الحديثة في بلداننا، لأن مستوى أداءها لم يكن ليعطي النتائج التي تنسجم مع مرام الدولة الحديثة؛ لذلك كانت هذه الأجهزة تستجيب لفاعلية ونمو الانقسامات الاجتماعية كما هي، بصورها الفرعية العصبوية الاثنوطائفية.. ما يعني أن الجهاز الأدبي - الذي من مهامه رعاية التنوع العام - مُنقسم على نفسه طائفياً وعِرقياً.. والعقلُ الحاكم الذي يُدير هذا الجهاز (فرداً كان أو حزباً)، يُديم حضوره في السُلطة باستلاب جوهر العقل الجمعي عبر تمثيله بصيغٍ بدائية، ليصبح هذا الأخير منسوخاً طائفياً، ومشدوداً إلى خطاب مُتخارج على ما هو وطني.. فلا غرابة في أن يكون العقل الجمعي متحفزاً للصِدام في الأزمات لمضارعة عدو متوقع.. وهكذا ينقسم مبنى العقل الكُلي الحاكم نفسه إلى مباني هوية فرعية؛ فالقيم التي يصدرها [هذا العقل] تتوجه صوب بُنى مُجتمعية منشطرة هي الأخرى إلى هُويات فرعية لا يزدهي حضور أفرادها إلا بالتماثل فيما بينهم.
ولأن طبيعة المُجتمع العراقي محكومة بمواريث انشقاقية تاريخية فإن العنف الدولاني المُمارس منذ النصف الأول من ثلاثينيات القرن العشرين لم يفلح بغير اللجوء إلى القوة لتحقيق فرضية الإدماج.. فلم تلجأ الدولة سوى إلى الإدماج، ما يعني أن مطلب الاندماج الذي كان قد تعسَّر بلوغه فيما مضى بقي يبحث عن سبل إمكان تحققه. وبالنتيجة غاب المعيار الفلسفي والسياسي الضروري لإدارة التنوع الاجتماعي في ذلك الحين، وظل غائباً حتى إلى ما بعد العام 2003. على ذلك يقول أدورنو: تُثار الأسئلة في الأحايين التي تكفُ فيها المعاييرُ عن أن تكون بيّنة. لذلك يصبح ضرورياً بحسب فوكو: البحث عما هو مُضمر ضمن علاقات السُلطة، وتَقصّي ذلك إلى حدود البنيات التحتية/الاقتصادية التي أفرزت مثل هذا العَرض الثقافي، ثم تتبع هذه العلاقات لا في أشكالها المُتعلقة بجهاز الدولة فحسب، إنما في واقعها المادي؛ أي، فيما هو كامن تحت جهاز الدولة.
السلطان: هل تتفق مع من يقول إن تفتيت المُجتمع الوطني إلى مكوناتٍ أثنية وطائفية، وبحجة اختلاف الهُويات الإنسانية وضرورة دمجها في هُوية جامعة، سيؤدي بالضرورة ليس إلى محو الهُوية الوطنية، بل إلى محو الجغرافيا الوطنية. وفي ضوء مشروع (سايكس بيكو 2)، إلا تعتقد بأن معظم الحكومات في البلدان العربية، جمهورية أو ملكية أو أميرية مجرد إدارات محلية للإدارات المركزية الغربية؟
عطوان: اسمح لي أن أبدأ معك من حيث ما انتهيت إليه في سؤالك.. شخصياً أرى أن الباعث الرئيس على رفض العراقيين لما جرى معهم في غضون العام 2003، هو تطبيق الأمريكان تقنيات التوزيع الإثني للسُلطة في العراق، أي اعتمادهم على منظور ما بعد استعماري، أو ما بعد استشراقي لرسم خريطة البلاد.. هذا المنظور يعمل على تأليب الطائفية باستثمار قاعدة الأغلبية في الحُكم، وتمكين حضور ما هو هامشي بإعادة ترتيب مواقع الهُويات الفرعية على قاعدة من التوافقية المُتضمنة في طياتها نسباً واستحقاقات أو محاصصات قائمة على معايير طائفية.
هكذا تشكل العراق في ضوء المعمار التمثيلي الأمريكي الجديد على صورة يقوم فيها نظام التمثيل السياسي على معيار الاستئثار الطائفي بالسُلطة من منظور أغلبوي طائفي، لا من منظور الأغلبية السياسية، الأمر الذي جعل من الطائفية أساساً لترتيب خطوط التعارض والتضاد ما بين الهُويات بعيداً عن أية أسس إيديولوجية أو برنامجية سياسية، لينتقل العراق نتيجة لذلك من مشروع نظام حكم يُراد له أن يكون نظاماً مدنياً عَلمانياً إلى نظام يقوم على توافقية طائفية مُغلَّفة بتعددية تمثيلية "زائفة"، قائمة على مرتكزات فئوية تستبطن تذرُّر الجسد السياسي العراقي ــ جغرافياً ــ إلى أجزاء انثروبولوجية بدائية؛ مذهبية وعرقية ودينية. من ذلك كان العامل الأبرز ما بعد العام 2003 هو رفض المشروع الأمريكي وصوره في بناء المصائر السياسية والاجتماعية ما بعد الاستعمارية.
السلطان: في أغلب المُجتمعات كان للمدينة تأثيرها التغييري في البُنى المُجتمعية الريفية والقروية وبالتزامن طبعاً مع التطورات التقنية والعمرانية... الخ. أي أن المُدن ساهمت في تمدّين الأرياف وتحويل مُجتمعاتها الراكدة إلى فاعلة. في حين نجد العكس في الدولة العراقية، التي تم ترييف مدنها قيمياً ومُجتمعياً، بدلالة تنامي المُهيمنات العشائرية والعرفية وتغليب ثقافة "المضّيف/الديوان المشايخي" على المأسسة الدينية والحقوقية. وعليه هل يُمكن الحديث اليوم عن مدينة أو مدن عراقية خاضعة لمنظومة القيم التي تشد المُجتمع بسهم نازل باتجاه هوة الرجوعية والتخلف؟
عطوان: إن الحديث عن إشكالية بناء المدينة العراقية دائماً ما يكونُ موصولاً بالحديث عن إشكالية فرضية بناء الدولة؛ وإذا ما أردنا معيارياً تحديد سمات هذه المدينة، فأن صعوبة ما ستكتنف إمكان تحديد فضاءها. فما يُميّز المدينة بصيغتها المعيارية: اشتمالها على تراتب قيمي يحدد شكل العلاقات الإنتاجية بإطار طبقي مؤهل ذاتياً للتحول البنيوي وتثوير القوى المُنتِجة فيه.. ومثل هذا التوصيف يسعى بصورة دائمة لبلوغ ذروته في التدافع والتمايز، ما يصنع تفاوتاً بين الطبقات، وشكلاً مُمكناً من بنيان المدينة القائمة على التنوع.
واقعياً الدولة العراقية التي أُنشِئت في العشرينيات لم تنشأ على التراكم التاريخي السليم، الأمر الذي بقيت فيه إلى اليوم غير مُتشيدة على بنية اجتماعية معيارية تطورية.. وأن أي توصيف طبقي معياري لتراكيبها الداخلية ينطوي على عسف منهجي ــ إذا ما أردنا مقارنته بالمُجتمعات الطبقية المتقدمة اقتصادياً واجتماعياً. فالطبقية تغيب داخل هذه المدينة بسبب غياب التعارض الطبقي بالمعنى الحرفي المميَّز للطبقات والفئات، لأن حدة الاغتراب التي تترافق مع الاقتصاد الحِرفي تنشأ بصيغ واهنة، وتنشط بقوة في المُجتمعات الاقتصادية الصناعية.. هذا يعني غياباً للقطائع في مسار تطور المدينة العراقية، وبسبب هذا الغياب تختفي حدود الصراع التي تسبِغ على العلاقات ما بين الجماعات طابعاً عدائياً صارماً.
وهكذا غياب القطائع يُمهد لغياب نمط مديني عياني واضح داخل المدينة العراقية، فالصراع الذي دارت رحاه تاريخاً بين الريف والحضر لم يُشكِّل لدى الأطراف المتعارضة وعياً بمصالحهم، ولم يُظهِر تفوق طبقة اجتماعية على غيرها، إنما أظهرَ عصبويات للهيمنة الاجتماعية حسب.. إن ما حصل هو مجرد تحول قبيلة أو إثنية إلى طبقة في إطار أمة جديدة، والواقع ألا أصل للطبقة في ظل وجود القبيلة والعشيرة والإثنية.. فلا معنى لصراع تدور رحاه ما بين قبيلة وأخرى ليكون مصدراً للصراع الطبقي. وهذا معناه أن المدينة العراقية التي نتحدث عنها ما كانت لتكون إلا مركزاً إدارياً وسوقاً لتبادل المنتجات الزراعية والحرفية فقط، وإنها إضافة إلى ذلك لم تكن مركزاً اقتصادياً بالمعنى القياسي الذي يمتح من الريف ويعطيه، بل إنها نفسها معتاشة على الريف، ولا تملك نمط إنتاج يميزها.
السلطان: من البديهي إن وضع الدساتير الدائمة يستدعي بدءاً استقراراً قاراً بين مكونات مُجتمع هذه الدولة أو تلك، واتفاقاً صميمي بين تلك المكونات على إنجاز عقدها الاجتماعي أو قانونها الأساس، في ضوء مديات تاريخية أو زمنية يحددها الإجماع أو الاتفاق. في حين نجد أن وضع الدستور العراقي الدائم في العام (2005) تم في ضوء وجود المحتل الأمريكي وبإشرافه وفي ظل صراعات عنيفة وخلافية بين مكونات الشعب العراقي. وعليه إلا تعتقد بضرورة إنتاج دستور دائم جديد، بعيداً عن الطروحات البرلمانية الشعاراتية الهادفة إلى إجراء ترقيعات على نص الدستور الراهن، وبالتالي أين دور النخب المثقفة في هذا الإشكال؟
عطوان: الحقيقة ما يُشجع في هذا السؤال هو الحديث عن دور المثقف بدرجة كبيرة، أكثر من الحديث عن إمكانية تغيير دستور أو تعديل قانون ما في العراق.. ربما كان القانون الأساسي العراقي في العام 1925 يتسم بالمدنية والليبرالية والنضج أكثر من الدستور الحالي، من ثم فأن الأخير، وفي ضوء النتائج المأساوية، جاء مستعجلاً، ولم تحظ المصادقة عليه ــ ابتداءً ــ برضا وقبول شرائح عريضة وكبيرة من العراقيين.. وسؤالك حول إمكانية تغييره! أقول لك رأيي صراحة؛ أنني أذهب إلى التغيير المُمكن وليس إلى التغيير الجذري له، خاصة نحن نتعاطى مع موضوع تشريعي ووظيفي، العملُ فيه يشبه السير في حقل ألغام.
إذن دعني أتحدث عن حضور المثقف العراقي، وسأتبنى قراءة ذاتية قي هذا الشأن: إذ أرى أن أغلب المثقفين يعتقد بأن برامج السُلطة السياسية (بما فيها التشريعية) هي موضوعات العالم الاجتماعي بكُلياته، تلك التي تُلامس أبعد نقطة مُمكنة من كتاب الحياة. على حين يتغافل أغلبهم عن حجم الشِقة بين هذه الموضوعات. فَهُم يُوسِعون من دائرة السياسي ويُضيقون من دائرة المدني الفسيحة. فيجعلون عنوان السياسة طاغياً في الخطاب الحياتي العام مقارنة بالعنوانات الأخرى.. لكننا نرى أن الموضوعات العابرة من الكثرة الكاثرة ما يُمكنها من أن تبتلع شواغل السياسة برمتها، لذلك ما يزال مثقفنا يعتقد بأن معاركه حامية الوطيس ــ حول وظائف المثقف ــ هي المعارك ذاتها التي كانت تدور رحاها في أوروبا في الثلاثينيات من القرن الماضي، وتشغل اهتمامات جوليان بيندا وغرامشي.
بديهي أن يعنى المثقف بنشدان المعنى الإنساني الأوسع ــ بما هو معنى جوهري طبيعي ــ ما وجِد منه وما لم يوجَد، ما حُد منه وما لم يُحَد، لكن نشدانه، بلا شك، ليس يتم من زاوية سياسية هي الأضيق بالقياس إلى المدى الوظيفي الثقافي الأوسع المفترض تصوره عن تفصيلات المشهد الاجتماعي العام. انهمام المثقف الحالي بـ"تصويب" أو لعن برنامج سياسي حكومي عابر يعميه عن معاينة المُشكِل الحقيقي داخل المَشغَل الحياتي الفسيح. ومثل هذا الانهمام هو ما يجعل رجل السياسة ذاته يتحايل ــ ضمن استراتيجياته ــ على تسفيه وإيهام أو إرضاء المثقفين رسمياً بكرنفالات كاريكاتورية (المربد، كلاويز، الجواهري، الحبوبي، المتنبي...الخ) باحتسابها مجالات فارهة. والواقع أنها لا تعدو أن تكون سوى واجهات ثقافية يجري عبرها تصريف أحوال الانفعال والتأزم. وإذا سوغ لها أن تُملأ بما هو فعّال، فهي ــ بلا شك ــ ليست القنوات المُقترحة الفريدة وحدها.
لذلك علينا أن نتنبه إلى معنى تساؤلاتنا البائسة؛ عن السبب الذي يجعل من حال ثقافتنا كارثياً حين يعيد المثقفون إنتاج ضروب من التابعية للحكومة؛ فيطالبونها بمزيد من الدعم "المعنوي" للثقافة (وهو في حقيقته دعم مشفوع بغطاء سياسي)، ويُطلِعونها في الوقت ذاته على تفاصيل ما ينوون تنفيذه، أو يُلمِحون من بعيد إلى حدود ما يطمحون إليه معها، كأنهم يكشفون ــ من خلال الطريقة التي يتحركون فيها ــ عن سر دفين أو متاهة، وبالنتيجة يجري بلامبالاة هدر المعنى المُدَّخر للصراع الاجتماعي.
قد يجعل مثل هذا الطرح مثقفين يقولون: ما الذي يُمكن أن يكون مُهما في وظائفنا الصراعية القائمة على التضاد غير مصيرنا المرتبط بتوجيه برامج الحكومة وبنقدها؟ أقول ببساطة: ليست الغاية فيما أذهب إليه وضع مفترق بين ما كان سائداً من القيم النقدية للمثقف وما أصبحت [القيم] عليه الآن، ولست أدعو إلى مهادنة السُلطة أو تبرير نفعية مؤسساتية، ما اعتقد به هو أن مهمة المثقف الصراعية تجاوزت المعنى التثويري في المُجتمع الآن، والذي غالباً ما كان يتشح بعناوين سياسية. ما أعنيه هو محاولة نقل وظائف المثقف إلى مستوى تكتيكي مقاوم آخر أكثر صعوبة وتعرجاً وامتداداً، والغرض من وراء ذلك تُفوّيت الفرص المُتعددة على رجل السياسة لمَّا يحاول تأدية أدوار يعتقد بأن المثقف عاجز عن تأديتها.
السلطان: عَدّ المستشرق (بندلي جوزي) الفكر الشيعي بأنه يسار الإسلام [كذا] وبحث المفكر الإيراني (علي شريعتي) إشكالية اختزال الفكر الشيعي إلى مجرد طقوس شعبوية، في بحثه عن التشيع العلوي والتشيع الصفوي؛ إلام تعزو تغليب هيمنة المقدس على الفكر؟ من ثم كيف يُمكن - ومن أرضية علم الاجتماع السياسي - قراءة الفقهيات والمذاهب الدينية تاريخياً وسياسياً وبالتقاطع مع سطوة المقدس؟
عطوان: في إطار التشيع والطقوسية والمقدس؛ اعتقد بأن ما يعنيه التحضير الجماعاتي للمرموز الديني موسمياً، والتحشيد لوقائع حادثة في الماضي لا صلة له ــ في الجوهر ــ بتحضير ديني خالص، ونحن نُعايش هنا كيفية ترميم فكرة المقدس من خلال إعمال تداخل الشعبي الطقوسي بالديني. وبحسب ما توحي به مراسيم التحضير الديني للمرموز من روحانية؛ فإن طبيعته تتجه إلى ما هو غرضي، لذلك، تتسرب القداسة المزعومة من بين الأصابع فيصعب إخفاء ذلك. فلا يعد الطقس ــ بما يحمله من صور القداسة ــ إلا طقساً شعبوياً بمسحة درامية محلية، ولا يتعدى غرضه شؤون السُلطة المادية وصورها، ولا يقف عند حدودها بقدر ما يتمحور فيها. هكذا فالتحشيد للطقس يفسح المجال لادعاء جهة ما حقها في امتلاك استعماله على ما سواها، فيكون طبعتها الحصرية في الفعاليات الشعبية، أي امتلاك شرعية توظيفه في الواقع، بدعوى إحياء شعيرة مقدسة.
ويتصاعد إحياء مثل هذا الطقس وسواه ضمن مُجتمع مُتعدد، يساعد العمل العفوي على تنشيطه ضمن مجال اجتماعي يتشكل، وفي الغضون تتحفز الجماعات إلى إثبات أحقيتها في إدامة نظامها الرمزي عبر تعمد استحضاره وتكراره، أسوة بأحقية جماعات أخرى تمارس طقوسها المُتنوعة. والواقع إن ما يجري ــ عَملياً ــ أقرب ما يكون إلى نشاطٍ عابر ينفتح بحكم الواقع على تصورات ليس مُستبعداً من بينها تأكيد حضور "أنا" الجماعة الناظمة للطقس حيال جماعات لا تعبأ بإحيائه أو تسيده، أو لا يتصدر جدول أولوياتها، ليتسنى للأولى احتكاره بمجرد أسبقيتها الإجرائية في الاستعمال.
يستبطن توظيف المرموز رغبة مُضمرة تمارسها جماعة تصنع إشهاراً تعبوياً يجري بمقتضاه استنفار الموالين، وإعادة صوغ أيديولوجيتهم، لتتبدى في مستوى عمل عصبوي، فيصبح الحديث عن منقبة مرموز ما، والتذكير بوقائع تاريخية: بياناً حزبوياً حصرياً يعمل على اجتذاب جمهور واسع وعريض، وتجسيد واقعة توصف بالمادية عبر إذكاء عامل السيطرة الرمزي الناظم لسلوك ذلك الجمهور، و"يبارك" ذلك كُله عمل من ينضوي تحت ظلاله، ويوعد بمراتب الرضوان ويمنح مسوح الإهاب؛ ويُفهَم من خلاله مناط الدين والجماعة المؤمنة والدولة المتُخيّلة.
السلطان: تعنى بعض المؤسسات العربية والإقليمية بإقامة مؤتمرات وندوات حول موضوعة الحوار أو التقارب بين الأديان، بخاصة التوحيدية. إلا تعتقد بأن الضرورة تقتضي بدءاً التقارب والحوار بين مذاهب الدين الواحد. من ثم ما الذي يعّوق إنجاز الحوار بين طوائف الدين الإسلامي ومذاهبه اليوم، هل موانع أو محرمات فقهية أم سياسية؟
عطوان: أرى أن استعمال فكرة الحوار الديني نفسها في السياسة الدولية فيها شيء من التضليل أو تغييب لعنصر الدقة في النظر إلى الأشياء.. لذلك يُمكن أن يكون الحوار واقعياً لما ينحصر بين شخصين أو أكثر حول مسألة محددة، أو يدور النقاش بشأنه بين مدرستين فقهيتين فلسفيتين يروم كُل منها التوصل إلى مقاربة وفهم للعالم.. أما العلاقة القائمة بين الحضارات أو الثقافات، أو بين الدول المتعارضة في المصالح فهي ليست تقوم على الحوار (بالمعنى الذي أخذ تعبيرات ثقافية مع برنارد لويس وهنتنغتون)، إنما تقوم على نوع من إدارة المصالح، وهذا النوع اقل من أن يرتقي إلى مستوى الحوار.. وعلى العكس من ذلك في الصراع أيضاً؛ فليس هناك صراع حضاري بين أميركا والعراق أو بين أميركا وإيران أو بينهما وبين أي بلد آخر، إن جوهر الصراع السائد والمتفاقم في عصرنا، صراع مصالح وامتيازات اقتصادية بين البلاد الرأسمالية نفسها بعضها مع بعض، ومن أجل تحقيق مزيد من التوسع والربح والهيمنة وإدارة التعارضات داخل النظام الرأسمالي، التعارضات المتصاعدة اقتصادياً واجتماعياً وقيمياً.
وينسحب الأمر على الهُويات الفرعية أو المذاهب والبُنى الفقهية داخل الثقافة الواحدة أو الدين الواحد أيضاً، فهذه الهُويات على تنوعها من السعة لا يُمكن اختزال محتواها إلى مجرد كتل بشرية متعارضة، ومكونات يفيد توصيفها أغراض السياسة فحسب، إنما هي أوسع من كونها موضوعات للصراع، وأسمى من حسم حدود الصدام بينها داخل قاعات للمباحثة وكتابة بيانات وعظ.. الذي يضمن سوية العلاقة ما بين هذه الهُويات هو إطار دولاني مدني جامع توفره الدول القائمة على التنوع.. لذلك دفعت مشاريع الأمم والدول مُتعددة الثقافات باتجاه تفعيل مقولة الاعتراف، وأظنها أكثر واقعية من مقولة الحوار التي صارت مع الوقت مقولة أدبية ليست إلا.
السلطان: إلاّم تعزو انتشار ظاهرة الإلحاد بين شرائح الشباب في عدة دول عربية؟ وللتدليل تشير الميديا المصرية والمواقع الالكترونية بأن عدد أفراد الشرائح المُلحدة في القاهرة فقط ومن الجنسين تجاوز أكثر من مليوني ملحد.
عطوان: سأرشح سببين أراهما ضروريين لفهم بواعث الإلحاد لدى الشباب العربي، السبب الأول ثقافي/انثروبولوجي؛ لمّا يذهب الشباب إلى أن مسار تطور العقل البشري قد مر بحقبتين تاريخيتين متعاقبتين أسهمتا في تحديد طبيعة العقل نفسه؛ ففي الحقبة الأولى هيمن العقل الديني (بزمنيته الدينية المفارقة) على مواقف الإنسان وفهمه للأشياء.. وسُميت هذه الحقبة ــ وهي حقبة طويلة ــ بـ (طفولة العقل البشري)، والتي كان يُسلّم فيها قياد الفهم إلى الخيال وليس إلى الحس والتجربة والمعاينة.. والحقبة الثانية التي برزت فيها الحاجة إلى إعمال العقل وإعادة الاعتبار إلى مركزية الإنسان، فأصبحت التصورات من صنائع الإنسان نفسه، وأنه هو من يجعلها واقعاً، وأصلاً قبل أي أصل، من ثم، الانسان هو من يعبر عن علاقاته بالعالم الذي يصنعه لنفسه، فيُقال إن نتاج ذهنه خرج عن يده. عليه فقبول مثل هذا البارديغم أخذ يسيطر على أفهام الشباب العربي المنفتح على مستجدات علوم البيولوجيا والإناسة والسنتولوجيا (أو العِلمولوجيا).. الخ.
أما السبب الثاني وهو السبب الأدبي التراثي: والذي يرى إلى أن النسخة النبوية للإسلام هي نسخة السُلطة التي تثبتت دعائمها مع الوقت واكتسبت قداستها بوساطة جهازها الإيديولوجي، ودفاعها عن نص النبوة حيال نصوص أخرى محايثة ناهزت النسخة النبوية وحملت الهدف ذاته.. هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فإن تاريخ الخلفاء والسلاطين لم يكن سوى تاريخ الصراع على السُلطة بصبغة دينية أيضاً، وما الديني المُستعمَل فيه إلا التعبير الإيديولوجي عن صراع المصالح المتعارضة.. امتد هذا الأمر ليشمل اللحظة الراهنة؛ أيضاً، حيث سُلطة رجال الدين المُعظِمين لمصالح وامتيازات من طبيعة مادية في الأصل.. لذلك فإن هذا المُعطى جعل كثيراً من الشباب يتخذ موقفاً تاريخانياً في النظر إلى القوى المحركة للتاريخ، وفي حقيقة ما ينطوي عليه جوهر الدين ومقاربة معنى الإله مفاهيمياً..
السلطان: بوصفك أستاذاً جامعياً، وعلى الرغم من انتفاء التواشج والتضافر بين الجامعات العراقية ومُجتمعاتها المحلية، كيف يُمكن تحرير الدرس الأكاديمي من المنهجيات والمعرفيات التقليدية، ذات الطابع التعلّمي لا البحثي، التي تم تجاوزها بمتواليات هندسية، بل واكسترا هندسية في جامعات البلدان الأخرى، لا أقول الغربية حسب، إنما في سنغافورا وماليزيا ... الخ؟
عطوان: في الحقيقة الجامعة العراقية غافلة الآن عن إدراك حاجات المُجتمع وظيفياً، وأنها داخلة ظلمة يطول أمد انقشاعها، ولن تبصر النور في القريب ما لم تعيد صوغ صلتها بحاجات المُجتمع جدياً، وتدرك أصل مشكلاته، وتضع منظوراً معرفياً عنه بدلاً من الاكتفاء بعلاجات ترقيعية مستعجلة.. إن بلوغ هذا المستوى سيكسبها المنعة من طوارئ الانتهاك السياسي التي تطالها، ويمنحها الاستقلالية حيال تدخُّل غيرها من البُنى الطارئة على ما هو معرفي.. إن ما يميز الجامعة عن غيرها ــ كبنية نعيد بناء تساؤلاتنا بشأنها ــ هو في إجازتها قول ما لا يجاز قوله في غيرها.. وما يميزها؛ هو بنيتها المعرفية لا الإيديولوجية.
للأسف الواقع يشير إلى أن الجامعة بوصفها بنية رمزية ومعنوية مثلَت وتمثل خطاب السُلطة منذ سبعينات القرن الماضي في الأقل.. فكانت الجامعة الجزء المؤسسي المُبتَلع من قبل السُلطة.. وحين يُبتلع الجامعيون بفعل الهيمنة الإيديولوجية، يصبح من الصعب علينا ــ عراقياً ــ تصور ظهور جامعات نقدية من مثل جامعات ماربورغ وفرانكفورت التي أظهرت للعالم نماذجَ عقليةٍ أسهمت في تغيير مسار الفكر السياسي والاجتماعي في حينه. ولهذا السبب تكون جامعاتنا مستهلِكة لا منتِجة يقتصر عملها على ترديد خطاب السُلطة.
السلطان: من المعروف أنك من المُتابعين الجادين للنتاجات الأدبية والفنية، بخاصة في محافظة البصرة. وعليه إلام تعزو غياب الحاضنة الجماهيرية لتلك النتاجات التي لا يعنى بتلقيها سوى المختص بها. فالمعرض التشكيلي لا يرتاده، في الغالب، سوى عدد من التشكيليين، والعرض المسرحي لا يستقطب سوى أقلية من المسرحيين وعدد من طلاب الدراسات المسرحية، والمنجز الأدبي يكاد يكون بضاعةً شبه كاسدة في المكتبات التجارية. وعليه أين يكمن الإشكال أو الخلل، في المنتج أم في المستهلك، أم في المعنى الثقافي للإنتاج والاستهلاك؟
عطوان: إن للتنشئة الاجتماعية (الأسرية والمدرسية) دور كبير وأساس في تهيئة الأفراد لاستيعاب وقبول قيم الفن والجمال، لذلك يصبح التمرن على قبول هذه القيم مدخلاً لتجربة حياتية مادية معيشة، وهو ما أطلقتم عليه مجازاً إمكان بلوغ المعنى الثقافي للإنتاج والاستهلاك.. وهو أمر ناظم للعلاقة ما بين السلع الجمالية المُنتَجة وإمكانية استهلاكها..
الجوهري في مسائل الثقافة؛ إدامة الصلة ما بين البشر ومنتوجاتهم الثقافية.. وبما أن الفني والجمالي من نتاج البشرية عبر التاريخ، فإن تنشئة الأفراد على التواصل ــ اجتماعياً ــ مع هذه القيم يُمكنهم من معاينة وتمثل قطوف ما استنبتته البشرية.. المرير في الأمر أن مُجتمعات العالم الإسلامي ــ مع استثناء بعض منها ــ لا تحتفي بالفني والجمالي احتفاءً وضعياً يساعدها على إعادة تعريف علاقتها بالواقع.. لذلك نلاحظها، وبفعل تأثير أيديولوجيا الدين عليها، تقف موقفاً عدمياً من الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها الفن.. تتنكر له لأنه يتعسر عليها مواجهة سؤاله، أي مواجهة خياراتها في أن تكون حرة..
ولأن الآباء غالباً ما كانوا يخشون في ذلك من الدخول في مواجهة أنفسهم، فإنهم يجعلون مواجهاتنا [نحن الأبناء] للمُشكلات استمراراً لمواجهاتهم المؤجلَة هم، فيمتد العجز إلينا.. وتغدو ثمار الفن مُستفزة لمبانينا، وتتعاظم أكثر فتغدو مستفزة لوجودنا التاريخي في فهم ما هو فني وجمالي.. من هنا نفهم لماذا كانت علاقتنا بالفن والجمال علاقة مثاقفة وليست علاقة حياة معاشة.. اللوحة الفنية والعرض المسرحي والموسيقى السيمفونية لم تكن لتصنف ضمن معايير النخبوي والجماهيري إلا لاحقاً، وأظن أن للأيدولوجيا نصيب مُغرِض في هذا الشأن وهي ترسم حداً فاصلاً حيال ما هو معرفي، ولأن الأيديولوجيا هي أيديولوجيا الطبقة السائدة، فالأخيرة هي من تصنع تمثيلاتها في الواقع لتجعلها عقائد الواقع الشائعة.. بذلك يتحدد الموقف من الفن، وبحسب ما تقرره السُلطة المعرفية للطبقة السائدة.. والواقع لم تكن مجازات الديني والطقوس المرتبطة بالديني وأسئلة الوجود المطروحة في الماضي لتمُثَّل إلا من خلال عروض المسرح وفرق الإنشاد، ولم تكن الفنون التشكيلية إلا تمثيلات لوقائع دينية لحقب طويلة.. باختصار: الأيديولوجيا جعلت من الفن سلعة بغيضة، فما يصنع خارج معاييرها السائدة يعد خروجاً ومعارضة..
السلطان: يقول (أنطونيو غرامشي)، ما معناه، بأن إرهاصات عالم جديد أهم بكثير من حشرجات عالم يحتضر. وعليه إلا تعتقد بأن السياقات والأنساق الثقافية التي كانت سائدة في حقبة النظام السابق ما زالت هي المُهيمنة، حتى بشخوصها، في الساحة الثقافية الراهنة، وأزعم المتشوفة؟
عطوان: أستطيع أن أتخيل حدوث الانتقال من منظور معرفي إلى منظور معرفي آخر بافتراض توفر الآليات الكفيلة بإحداث الانتقال، وتنوجد مثل هذه الآليات من تعارضات البنية الاجتماعية نفسها.. إذ لكُل بنية قانون، ولكُل قانون ما يناقضه في الجوهر.
الحقيقة إن التحول الاجتماعي والسياسي الذي أوهم العراقيين بحقيقة حصوله في العام 2003 كان صورياً، وأنه لم يُلامس جواهر الأشياء، بل أسبغ على سطح الواقعة الاجتماعية ملامح تغيير كاذبة.. والمواقف الحياتية التي كانت تحفظ الامتيازات الاجتماعية والسياسية للناس في الماضي، وتجعلهم متوازنين، بقيت ذاتها الفاعلة والمشتغلة اليوم.. والجسد الثقافي الذي كنا نعتقد باحتضاره لم يتحلل أو يفنى مقابل ولادة متحققة، بل بقي عليلاً ومشدوداً إلى السرير بطريقة إكلينيكية ثقيلة..
إن الانتقال إلى عالم جديد مؤشر تلقائي على الانتقال إلى منظومة قيمية جديدة أيضاً، والتصورات التي اختبرت في الماضي تستدعي بالضرورة بدائل جديدة عنها.. والأشخاص الذين كانوا قد أسهموا في تشكيل خطاب السُلطة في الماضي عليهم أن يخلوا المكان لمجيء من ينيب عنهم في اللحظة الحاضرة.. وأزعم أن هذا يندرج في سياق التأمل النظري للواقعة الاجتماعية والسياسية حسب، أما الجانب العملي فيشير إلى أن كذبة التحول الكبرى والانتقال الناجز أوجدت في الواقع حداً وهمياً فاصلاً ما بين حقبتين تاريخيتين، وفي الحقيقة لا وجود لمثل هذا الحد ولا وجود لمثل هاتين الحقبتين في الأصل.. والماضوي الساكن لا يزال مُمتداً في الزمن ويمارس سطوته في الاستمرار، فيصبح مسوغاً لمن كان يحكم في الماضي الحكم الآن بكُل طبيعية لانتفاء فكرة الانتقال أو حصول البارديغم نفسه.. إن ما نراه على السطح ليس سوى ظلال وصور عن أصول وأسلاف ثقافية لا تفتأ تعيد إنتاج حضورها في المتن مراراً وتكراراً..