هذه الرواية، كما أزعم، رواية مختلفة عما نقرأ في السرد العراقي والعربي، هذه الأيام، فهي رواية محتشدة بالرموز والمرئيات والتأملات، تلامس الجرح العراقي وتحلق بجناحين: جناح نمير بطل الرواية وراويها المركزي الذي يحاول إنجاز اطروحة الدكتوراه في امريكا، وجناح ودود عبد الكريم، بائع الكتب في شارع المتنبي الذي التقاه نمير، وانشغل بحياته وهمومه، وخاصة بعد أن علم بأنه منصرف لانجاز مشروع كبير يوثق فيه وقائع الدقيقة الأولى من الحرب الأخيرة التي احتل فيها الامريكان العراق، وأسماه بالفهرس، وهو كما يتضح لاحقاً تناص مع اسم كتاب "الفهرس" لأبن النديم، والذي كان قد ترك فيه بياضات كثيرة أتمها الوزير المغربي، الا أنها لم تصلنا، وكان الروائي سنان أنطوان يرغب في أن يملأ هذه البياضات بمرويات معاصرة من تاريخ الخراب والموت والمعاناة والوجع في العراق الحديث. وكما قال الكتبي ودود عبد الكريم صاحب مشروع الفهرس أنه "فهرس لكل دقيقة، لكل شيء مات بذيج الدقيقة." (ص 48) وأعلن ودود أنه يريد أن يكتب "كتاباً مفتوحاً" (ص 25) وهو كما يبدو هدف المؤلف من كتابة الرواية هذه. الراوي المركزي نمير، أصيب كما يقول بعدوى مشروع "الفهرس" الذي شرع به بائع الكتب ودود بتدوينه، وبشكل خاص بعد أن ترك له ودود، رفق رسالته، الباب الأول، وهو تاريخ الدقيقة الأولى التي لم تكتمل نهائياً بعد" (ص11)، حيث راح نمير يجمع قصاصات وصوراً من الصحف، يؤرشفها لتضاف الى فهرس ودود. وكان نمير مستغرباً من سلوك ودود وتساءل "ليس مهتماً بالترجمة ولا النشر، فلماذا إذاً يشاركني في مخطوطته وبهذه السرعة" (ص 12).
في هذه الرواية ثمة أكثر من سارد فضلاً عن السارد المركزي نمير. هناك مرويات بائع الكتب ودود، التي هي جزء من مدونة " الفهرس" ومرويات نسائية، ورواة الحبكات الفرعية الثانوية التي تشكل معظم المتن السردي للرواية، مما يجعل من الرواية نصاً بوليفونياً، زاخراً بالاصوات السردية والحوارية المتنوعة. ونظراً لانشغال الراوي المركزي نمير بالكتابة تتحول الرواية تدريجياً الى رواية ميتا سردية، وهو ما صرح به الروائي في الكلمات الختامية للرواية عندما أعلن عن قراره هذا ".. وقررت أن أبدأ بكتابة هذه الرواية. " (ص 283) ويؤدلج الروائي مرويات الكتبي (ودود) تحت عتبة عنوان مركزي هو "منطق" مثل منطق الكاشان، منطق المنضب، منطق الخليفة، منطق الزوراء، منطق السدرة، منطق الألبوم، منطق أبو جنيّه، منطق الجدار، منطق العود، منطق الأسير، منطق الجنين، وغيرها كثير. وقد عمد الراوي في هذه المدونات أن يستنطق هذه الأشياء ويؤنسنها ويدخلها ضمن العتبة السردية الميتاسردية. فسجادة الكاشان، مثلاً، تتحدث عن تاريخ صناعتها وتنقلاتها، وموتها. والعود يتحدث عن كيفية صناعته، ومنطق السدرة تتحدث فيه شجرة السدر عن علاقتها بالإنسان، وحياتها واقتلاعها من جذورها. وبذا يمكن أن نقول إن الرواية تنطوي على خطين سرديين وعدد كبير من الخطوط والحبكات الثانوية الصغيرة، لكن الراوية يظل يتحكم فيها سردان رئيسان، سرد الراوي المركزي نمير ومشروعه الأكاديمي لانجاز أطروحة الدكتوراه في احدى الجامعات الامريكية، وعلاقته بصديقته الامريكية "مرايا"، وهموم الغربة والنوستالجيا والحنين الى الوطن من جهة، ومن جهة ثانية هموم السرد الثاني الذي هو سرد بائع الكتب ودود والذي سيتحول تدريجياً من شتلة الى بستان كما قال ودود: " الفهرست كان شتلة، وأصبح اليوم بستاناً." (ص 185) وتنمو الرواية سردياً، كما هو واضح بين عامي 2006، 2007، ويتضح ذلك من خلال متابعة حياة، بائع الكتب ودود ومأساته، والتي بدأت مع "الاحتلال" الأمريكي عندما عاد من شارع المتنبي الى بيته، فوجد أن صاروخاً أمريكياً كان قد مسح بيته وعائلته من على وجه الأرض. وقد سببت له هذه الفاجعة صدمة نفسية لا زمته لفترة طويلة، وربما لم يسلم من عقابيلها أبداً، مما تطلب ارساله الى مصحة نفسية تلقى فيها العلاج لفترة طويلة، لكنه ظل يحس بالرعب والوحشة والضياع والإحباط. ولأن ودود ظل بلا بيت يأويه، فقد أُضطر الى السكن مع الكتب التي يبيعها، حيث وجد له مكاناً ينام فيه، فأصبحت هذه المكتبة هي مصدر رزقه وبيته الوحيد الذي يأوي إليه. وبسبب هذه التداعيات المؤلمة، بدأ (ودود) يشعر بالتشوش، وبدأت أفكاره تختلط بصور ومرئيات فنطازية ومتخيلة أحياناً، كما تسرب الهذيان والاضطراب الى تفكيره ولغته، والى علاقاته مع الآخرين من الباعة والقراء الذين يبحثون عن عنوانات معينة. ويبدو أن هذه اللحظة الحرجة كانت نقطة فاصلة في رسم مسار حياته اللاحق الذي كرسه لإنجاز موسوعته المفتوحة "الفهرس"، حيث كان يجمع الصور والمقالات والمرويات الشفاهية ويؤرشفها في "فهرست"، يدون فيه تاريخ الدقيقة الأولى من الحرب كما يقول. وتعتمد البنية السردية في الرواية على التناوب بين سردين، سرد (نمير) وسرد (ودود)، وغالباً ما يشتبك السردان، وتذوب الفواصل بينهما ليشكلا في النهاية بنية سردية واحدة هي بنية "الفهرس" المركزية المتحكمة في أطراف الحبكة وتمفضلاتها. فالراوي المركزي نمير، يضيف من خلال مدوناته في دفتره الصغير وذاكرته الكثير من المرويات والحبكات والحكايات حتى يتحول " الفهرس" الى تأليف مشترك بين (نمير) وبائع الكتب (ودود)، ويصبح "الفهرس" هو البنية الاطارية والمكانية المتحكمة في الحدث. و " الفهرس"، بوضعه النهائي، شهادة موجعة عن معاناة الفرد العراقي بعد الاحتلال الامريكي عام 2003، والمآسي التي سببها الاحتلال للحياة الاجتماعية وللقيم الانسانية، وللأمن الاجتماعي بصورة أساسية . لقد قدم ودود من خلال شهادته سلسلة من المرويات والحبكات الفرعية التي كانت تتخذ من مفردة " منطق" عنوناً فرعياً لها مثل: " منطق الكاشان و "منطق شجرة السدرة" و " منطق النباش" و " منطق المنضب" و " منطق الطير" و " منطق الخليفة" و " منطق الالبوم" و " منطق الجدار" و " منطق العود" وغيرها. في هذه الفقرات السردية يؤنسن humanize الروائي الاشياء غير الحية، ويستنطقها، فيتحول كل واحدٍ فيها الى سارد حي، يروي سيرة حياته وسيرورته، وأحياناً موته. وتعتمد هذه التقنية على مبدأ التشخيص. personification حيث تكتسب الاشياء غير الحية، من خلال عملية الانسنة والتشخيص ملامح كائنات ناطقة وساردة ، تروي جانباً دقيقاً من جوانب الوجع العراقي. وعلى الرغم من انشغال بطل الرواية وراويها المركزي (نمير) بالعمل على إنجاز أطروحته في الدكتوراه من احدى الجامعات الأمريكية، الا أنه لم ينقطع عن مراسلة بائع الكتب (ودود)، وأنصرف الى تحرير القسم الاول من مخطوطة "الفهرس" التي سلمها له (ودود) ، في لحظة أريحية، حيث اصبحت في حوزة (نمير) الذي ظل موزعاً بين مهمة تحريرها واستكمالها وبين إنجاز متطلبات شهادة الدكتوراه، والرغبة العارمة التي تدفعه لكتابة رواية عن تجربة ودود وفهرسه والمحنة العراقية المتصاعدة. إذْ يعلن نمير في نهاية الرواية عن عزمه على كتابة رواية عن هذه الوقائع: " مسحت دموعي وطبعت المقالة.. وقررت أن أبدأ بكتابة هذه الرواية؟ (ص 283) وهذا التصريح يؤكد الطبيعة الميتا سردية للرواية، بوصفها تعبر عن رغبة قوية لكتابة هذه الرواية، وربما تحقيق الروائي بعمله هذا رغبة (ودود) في أن يكتب كتاباً مفتوحاً." (25) وتكشف الرواية عن طبيعة حوارية واضحة بين خطابي بطل الرواية (نمير) وبائع الكتب، ما يجعلها رواية بوليفونية محتشدة بالأصوات السردية الغيرية الرئيسة والفرعية. ففضلاً عن الصوتين السرديين المهمين للبطل (نمير) وبائع الكتب (ودود) تعلو أصوات أبطال الحبكات والمرويات الثانوية التي انطوى عليها متن "الفهرس". وعلى الرغم من انشغال بطل الرواية (نمير) بإنجاز متطلبات أطروحة الدكتوراه، الا أنه بقي على اتصال دائم ببائع الكتب (ودود) بصورة مباشرة، من خلال ملاحقة لتطور الأحداث الداخلية في العراق وتداعيات الاحتلال الامريكي بعد عام 2003 . وبينما كان ودود يستمع الى احدى الإذاعات المحلية، ذهل عندما سمع نبأ عن حدوث تفجير إرهابي في شارع المتنبي، حيث التهمت النيران العديد من المحال والسيارات، وكان قلق نمير على مصير ودود كبيراً " وكنت أردد وأنا اقرأ، ودود، ودود، لا ودود.. كأنها تعويذة ستحميه أو صلاة يمكن أن تنقذه " (ص 280).
وبادر (نمير) فوراً للاتصال بصديقه مدحت في بغداد للاطمئنان على سلامة ودود والذي أجابه بعد ساعتين " البقية بحياتك" (ص 281) لقد كان الخبر صادماً مؤلماً على (نمير) بسبب وفاة (ودود) وعشرات الأبرياء من أصحاب المكتبات ومرتادي شارع المتنبي صباح ذلك اليوم من شهر آذار عام 2007، حيث كان تسلسل ودود هو السابع والعشرين على قائمة شهداء شارع المتنبي الثلاثين" (ص 281). وصادف أن نمير بعد أربعة أيام من الانفجار الإرهابي عثر على مقالة قصيرة ترثي الكتبي ودود على موقع الحوار المتمدن، تحدث فيها الكاتب عن علاقته به، وكشف فيها عن تفاصيل دقيقة عن حياته ودراسته في كلية الآداب، ونجاته خلال الحروب الكثيرة، من قصف بينما كان مختبئاً في أحد الخنادق. وبعد أن مسح (نمير) دموعه طبع المقالة وكتب عليها بخط يده " منطق ودود" وأضافها الى الفهرس " (ص 283) وكأن عدوى الفهرس قد انتقلت الى (نمير) نفسه. وهكذا يكتمل " الفهرس" بمدونات ودود ونمير معاً، حيث تختلط الفواصل بين هذه المدونات وتضيع الحدود، لكنها تظل تنتمي الى روح "الفهرس" ، "وأقلب الدفتر، واكتشف ان كلماتي صارت تشبه كلمات (ودود) في كثير من المواضع. هل حدث هذا لأنني نسخت مناطقه ورسائله بخط يدي . " ويختلط الأمر علي.. هذه ليست كلماتي، إنها كلماته، كلماتي التي تسللت الى دقيقته الاولى، وفهرسه." (ص265 ) لقد كان (ودود) يطمح أن يكتب مدونة دائرية في فهرسه ، ولذا وجدناه يستهل سرده بفصل يحمل عنوان "منطق الطير" (ص9) ويختتم الروائي الرواية بفصل ختامي يحمل عنوان "منطق الطير الأخير ايضاً" (ص 270)، وفيه تهويمات فنطازية تربط بين المرة الأولى التي طار فيها، بتشجيع من أبيه الذي قال له بحزم أن يحلق بعيداً (ص9) وبين تحليق الطير الأخير في سماء بغداد، وهو يشعر بالرعب من منظر الطائرات الحربية المخيف" أنا أخاف اسراب الطيور الحديدية الضخمة." (ص 279) ويتذكر (ودود) في تلك اللحظة المصير الفاجع لأسرته التي دمرها صاروخ من احدى الطيور الحديدية الأمريكية: " أين ذهب أبي؟ أين أمي؟ أين أخوتي ما زلت اطير " (ص 279 ) هذه الرواية مدونة من مدونات الوجع العراقي الدائم، وهي تكشف عن معاناة الشعب العراقي في ظل الحكومات الدكتاتورية المتعاقبة، مع تركيز خاص على الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 والجرائم والانتهاكات الفظيعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال ، ولتسجيل شهادة شجاعة وأمينة عن موقف المثقف العراقي تجاه جرائم الاحتلال الأمريكي. وتكشف الرواية من جهة أخرى، عن منحى بيئي يجعلها رواية بيئية، نظراً لانشغالها بمكونات الطبيعة، ومحاولة أنسنتها وتشخيصها. فقد أبدى الروائي شغفاً خاصاً بالطبيعة والبيئة، والطيور ويمكن أن نلتقط إنموذجاً دالاً متمثلاً في مشاعر التعاطف التي ابداها الراوي تجاه شجرة السدر، التي تابع بشغف حياتها وعطاءها وعلاقتها بالانسان، وحزنه الكبير عندما تعرضت للإقتلاع من جذورها عندما توهم الفلاح، أن الأرضة تبني مملكتها تحت جذور شجرة السدر مما يتطلب اقتلاعها من الجذور. (ص61) رواية الفهرس هي رواية عن الانسان والكتاب والطبيعة والحرية ومعاناة الشعب العراقي، عبر رؤية حداثية وفنية، يجعلها تقف في الصف الاول من منجزات السرد الروائي العراقي الحديث.