
(1)
عثرت في مكتبتي المكتنزة بالكتب على رواية " امرأة عند نقطة الصفر" للدكتورة نوال السعداوي، في طبعة قديمة العهد، وقد اشتريتها فيما اشتريت من كتب مطروحة على سور الأزبكية في القاهرة عام 1989، عندما كنت طالباً في مرحلة الماجستير، والرواية لا تحمل اسم الناشر أو المطبعة، ولا تاريخ النشر ومكانه، وكُتب على الغلاف الأخير بعض مقاطع الرواية، وفي الأسفل 100 قرش، أي جنيه مصري أيام كان الجنيه له قيمة شرائية، ويبدو أن لصوص الكتب يطبعون من الكتب الأكثر رواجاً على وفق ما يشاؤون.
(2)
صدرت الرواية عام 1975، وترجمت إلى الإنجليزية عام 1983، وبنيت أحداث الرواية على قصة حقيقية، حيث تقول السارد/ة، ألا وهي المؤلفة نفسها: "هذه المرأة حقيقية من لحم ودم، قابلتها في سجن القناطر منذ بضعة أعوام. كنت أقوم ببحث عن شخصية بعض النساء المتهمات أو المحكوم عليهن في قضايا متنوعة." ص5.
بعد لأي طال انتظاره استطاعت السارد/ة أن تلتقي "فردوس" بطلة الرواية المحكوم عليها بالإعدام، واستطاعت أن تتحدث معها بعد عنت، "إنها ترفض مقابلة أحد، وترفض أن تردّ على أحد. وهي لا تأكل إلا نادراً، ولا تنام إلا عند الفجر. تراها السجانة شاردة محدقة في الفراغ ساعات طويلة. وذات يوم طلبت ورقة وقلماً وقضت ساعات كثيرة منكفئة فوق الورقة، ولم تعرف السجانة إذا كانت تكتب رسالة إلى أحد، أم أنها لم تكتب شيئاً على الاطلاق" ص5.
تأخذ "فردوس" بسرد حكايتها من صفحة 15 إلى صفحة 113، من دون أيّ تدخّل من السارد/ة، وعلى لسان "فردوس": دعيني أتكلم ولا تقاطعيني، فليس عندي وقت لاسمعك. في الساعة السادسة تماماً بعد الظهر سيأتون ويأخذونني، وفي صباح الغد لن أكون هنا، ولن أكون في أي مكان يعرفه أحد" ص15.
وفي آخر صفحتين من الرواية (114،115)، يأتي صوت السارد/ة تصف المشهد لنهاية "فردوس".
يقوم بناء الرواية على تسلسل هرمي، كما فعل الروائي غوستاف فرايتاغ في رواياته الواقعية، وتصور رواية "امرأة عند نقطة الصفر" المجتمع الذكوري الذي ينهش جسد المرأة وروحها، مجتمع مشوّه ومريض، يبحث عن اللذة والمتعة الجسدية، وهذا المجتمع مغلّف ببطانة دينية تنتهك جسد المرأة في الخفاء وفي العلن تدعي التقية والعفّة.
(3)
تنهض ذكورية الأب الفقير الفلاح في بيته. يضرب زوجته، ويبيع ابنته العذراء قبل أن تبور:
".. أب فقير فلاح لم يقرأ ولم يكتب، ولم يعرف من الحياة إلا أن يزرع الأرض، ويبيع الجاموسة المسمومة قبل أن تموت، ويبيع ابنته العذراء قبل أن تبور، ويسرق زراعة جاره قبل أن يسرقه جاره، وينحني على يد العمدة دون أن يقبلها، ويضرب زوجته كل ليلة حتى تعض الأرض. وصباح يوم جمعة يرتدي جلباباً نظيفاً ويذهب ليصلي الجمعة في الجامع، وآراه بعد الصلاة يمشي بين أمثاله من الرجال يتحدثون عن خطبة الجمعة، وكيف أن إمام الجامع كان عظيم البيان والبلاغة وإعجازه ما بعده إعجاز، فالسرقة حرام، والقتل حرام، وسم البهائم حرام، وهتك العرض حرام، والظلم حرام، والضرب حرام، والطاعة واجبة، وحب الوطن واجب، وحب الحاكم من حب الله، حفظ الله الملك أو الرئيس وأدامه ذخراً للوطن والعروبة والإنسانية جمعاء".
"أراهم يسيرون في الحواري، ويهزون رؤوسهم بالإعجاب والإيجاب على كل ما قاله فضيلة الشيخ الإمام، يهزون رؤوسهم، ويمسحون أيديهم، اليد باليد، أو اليد بالجبهة، يبسملون ويحوقلون ويتمتمون ويبسبسون" ص16-17.
"لم يكن أبي ينام بغير عشاء مهما حدث. وأحياناً حين لا يكون بالدار طعام نبيت كلنا بغير عشاء إلا هو. كانت أمي تخفي طعامه منا في فتحة داخل الفرن، ويجلس يأكل وحده ونحن ننظر إليه. وذات مرة مددت يدي داخل صحنه فضربني على يدي" ص23.
(4)
كان السقوط الأول لـ "فردوس"، الطفلة، بلقاء ولد صغير اسمه "محمدين"، لقاء الجسد الذي يتحسس طعم اللذة، ويبقى "محمدين" حلم "فردوس" الذي يطلّ من نافذة حلمها كلّما وقعت فريسة رجل، ويتكرر المشهد في خيالات "فردوس":
"كان يقرصني تحت الماء، ويتبعني داخل الخص، وتحت القش يجعلني أرقد وأرفع جلبابي ونلعب معاً لعبة عريس وعروسة، وأشعر بلذة شديدة تنبعث من مكان فيّ لا أعرفه بالتحديد، وأغمض عيني وأحاول أن أبحث عن هذا المكان حتى أجده، وأدرك أنني كنت أعرفه من قبل. ونلعب مرة أخرى حتى تغيب الشمس ونسمع صوت أبيه ينادي عليه من الحقل المجاور فأمسك به لكنه يجري ويقول أنه سيأتي غداً" ص18.

(5)
كان السقوط الثاني عندما تكتشف عمّها، الذي يكبرها بسنين كثيرة والذي "يسافر وحده إلى مصر ويذهب إلى الأزهر ويتعلم"، يبحث عن ذكوريته في جسد "فردوس":
"أجلس القرفصاء، وبين ساقي ماجور العجين، ألتّ وأعجن، ووهج الفرن في وجهي، يحرق أطراف شعري فلا أعرف أن جلبابي قد انحسر عن فخذي إلا حينما أرى يد عمي تتحرك ببطء، من وراء الكتاب الذي يقرأه، وتلمس ساقي، ثم لا تلبث أن تصعد حذرة مرتعشة متلصصة، تبتعد كلما دبت في داخل الدار قدم، وتلتصق بشدة وبعنف إذا اطبق السكون والصمت، اللهم إلا صوت عود من الحطب أكسره وألقي به في الفرن، أو صوت أنفاسه المنتظمة من وراء الكتاب لا أرى وجهه ولا أعرف إذا ما كان نائماً يشخر أم يقظاً يلهث.
كان يفعل ما فعله "محمدين" وأكثر، لكني لم أعد أشعر بتلك اللذة الشديدة تنبعث من ذلك المجهول والمعلوم من كياني. وأغمض عيني أحاول أن أبحث عن اللذة من دون جدوى. كأنما ضاع المكان، أو كأنما جزء من كياني اختفى مني إلى الأبد" ص18-19.
(6)
كان السقوط الثالث بزواجها من الشيخ محمود، الذي تجاوز الستين من عمره، وهي لم تتم التاسعة عشرة، فبعد أن مات أبواها عاشت "فردوس" في بيت عمّها في مصر، تخدم زوجته وأطفاله، ثم التحقت بالمدرسة الثانوية وتقيم في سكن البنات الداخلي، للحصول على الشهادة الثانوية، وكيلا يتحمّل عمّها مصاريف الجامعة وتخالط الرجال وعمّها شيخ محترم ورجل دين! جاءت فكرة زوجته بزواج "فردوس" من خالها الشيخ محمود، الذي ماتت زوجته ولم ينجب الأولاد ويعيش وحيداً بعد إحالته على (المعاش)، وافقت "فردوس" على زواجها من الشيخ محمود على الرغم من العاهة، "كان الورم في وجهه يعرقل حركة فكيه.."، لتتبيّن بُخله وقسوته:
"ضربني مرة بكعب الحذاء حتى تورم وجهي وجسدي فتركت بيته وذهبت إلى عمي. لكن عمي قال لي أن كل الأزواج يضربون زوجاتهم، وزوجة عمي قالت لي إن عمي يضربها. وقلت لها إن عمي شيخ محترم ورجل يعرف الدين معرفة كاملة ولا يمكن أن يضرب زوجته. وقالت زوجة عمي إن الرجل الذي يعرف الدين معرفة كاملة هو الذي يضرب زوجته لأنه يعرف أن الدين يبيح ضرب الزوجة وليس للزوجة الفاضلة أن تشكو زوجها وواجبها الطاعة الكاملة" ص51.
"وفي مرة أخرى ضربني بعصاه الغليظة حتى نزف الدم من أنفي وأذني، فتركت بيته، ولم أذهب إلى بيت عمي. سرت في الشارع بعيني المتورمتين والكدمات فوق وجهي، لكن أحداً من الناس لم يرني، كانوا يهرولون مسرعين أما راكبين أو سائرين على الأقدام، وجميعهم كالعميان لا يرون، والشارع واسع مزدحم ممتدّ أمام بصري بلا نهاية كالبحر، وأنا قطعة حجر قذفت فيه، تتلاطم أمواجه من كل جانب وتدفعني هنا وهناك، وحيث تدفعني أتدحرج كقطعة حجر" ص52-53.
(7)
كان السقوط الرابع سقوطاً مدوياً لـ "فردوس"، سقوط باحضان الرجال، فما أن تتبيّن أن بعضهم يشفق عليها وينقذها من حالة الضياع في الشارع حتى ينقضّ عليها كوحش يكسر ذكوريته بجسدها، كما فعل "بيومي" صاحب المقهى:
"يأتي في منتصف الليل يشد عني الغطاء ويصفعني ويرقد فوقي"ص58.
فتهرب من البيت بمساعدة إحدى الجارات، لتلتقطها "شريفة صلاح الدين"، ويكون بيتها محطة جديدة في حياة "فردوس"، ومصيدة لرجال كثيرين:
"ولم أكن أخرج من البيت، بل لم أكن أخرج من حجرة النوم، بالنهار وبالليل أظل مصلوبة فوق السرير، وفي كل ساعة يدخل رجل، رجال كثيرون، من أين يأتون وكلهم متزوجون، وكلهم متعلمون، وكلهم يحملون حقائب جلدية ثقيلة، والمحافظ في جيوبهم الداخلية ثقيلة، وأجسادهم ثقيلة بسنين طويلة طول الدهر، وبطونهم ثقيلة بشبع زائد عن الحد، وعرق غزير مختزن يملأ أنفي برائحة عطنة كرائحة الماء الراكد،.." ص65.
تهرب "فردوس من بيت "شريفة" ليلتقطها رجل البوليس ويأخذها لبيته، ثم تجد نفسها مرة أخرى ملقاة في الشارع، ولأول مرة تحصل على عشرة جنيهات من رجل السيارة الفارهة، وهنا تتحول "فردوس" لامرأة تبيع جسدها مقابل المال، فتزيد في السعر وتتخير من الرجال من يعجبها.
تغيّر حال "فردوس" فخياراتها باتت متعددة بعد أن امتلكت بيتاً ورصيداً في البنك:
"كم من عمري مرّ قبل أن أمل نفسي وجسدي؟ كم من العمر راح قبل أن أشدّ نفسي وجسدي من قبضة الآخرين، فأختار طعامي الذي آكله، وأختار بيتي الذي أسكنه، وأرفض الرجل الذي أنفر منه، واختار من الرجال من هو نظيف الأخلاق والجسد. مرّ من عمري ربع قرن وكنت في الخامسة والعشرين حين أصبح لي بيت نظيف، يطل على شارع نظيف، وأصبح لي من يطبخ طعامي الذي اختاره، ومن ينظم لي مواعيد عملي في الأوقات التي أحددها، وبالشروط التي أفرضها، وأصبح لي رصيد في البنك يزيد على الدوام، وأصبح لي أوقات فراغ للراحة والتريض ومشاهدة السينما والمسرح وقراءة الصحف ومناقشة أمور السياسة مع أصدقائي القليلين المقرّبين، اختارهم من بين كثيرين يحومون حولي ينشدون صداقتي" ص77-78.
(8)
"أنت غير محترمة" قالها صديقها ضياء، الصحفي والكاتب والمثقف، الكلمة التي غيّرت مسار حياة "فردوس" كما تظن:
"كلمة واحدة سلطت الضوء على حياتي" فرأيتها على حقيقتها، ومزّقت الغشاوة عن عيني، فكأنما افتحها وأرى حياتي من جديد،.." ص81.
وتقرر "فردوس العمل سكرتيرة بإحدى الشركات الصناعية الكبرى، وتمضي سنوات العمل، فتقع في "حب" إبراهيم زميلها في العمل، ولأول مرة تعرف معنى الحب، لا يختلف إبراهيم عن بقية الرجال في نظر "فردوس، فإبراهيم خطب ابنة رئيس مجلس إدارة الشركة، وتحطم الحلم عادت "فردوس" تذرع الشارع طولاً وعرضاً، فتسقط في شَرك قوّاد خطير متنفّذ، "له صديق في البوليس يحميه من هجمات البوليس، وله صديق في المحاكم يعرّفه بنود القانون التي تحميه ويطوّع القانون لتبرئة أي مومس تُحبس، أو دفع الغرامة في أسرع وقت لتخرج المومس من السجن، ولا تتعطل طويلاً عن عملها وانتاجها" ص104-105.
وفي محاولة للتخلص من هذا القوّاد وسيطرته عليها، وفي حوار صارخ استطاعت أن تغمد السكين، الذي هددها فيه، في عنقه، "وأخرجت السكين من عنقه ثم اغمدته مرة ثانية في صدره، وأخرجته وأغمدته في بطنه. في كل أجزاء جسمه أغمدت السكين..." ص106.
جاءت ساعة الانتقام من كل الرجال، وتسير "فردوس" في الشارع وكأن أمر القتل لم يكن، لتلتقي بأمير عربي يعرض عليها المال الكثير لإشباع رغبته، ويتفاجأ بـ "فردوس" وهي تمزق الأوراق المالية، وتصفعه على وجهه، وهي تقول: "أنت لست إلا بعوضة تنفق الآلاف من أموال شعبك الجائع على المومسات" ص110. وقبل أن تصفعه مرة أخرى أخذ يصرخ مستنجداً بالبوليس، وتنتهي حكايتها وهي تسرد على مسمع الطبيبة السارد/ة:
"وكبلوني بالحديد وساقوني إلى السجن، وأغلقوا عليّ الأبواب والنوافذ. كنت أعرف لماذا يخافون مني إلى هذا الحد. فأنا المرأة الوحيدة التي كشفت النقاب عن حقيقتهم البشعة، وقد حكموا عليّ بالإعدام ليس لأني قتلت، فكم الآلاف يقتلون كل يوم، ولكنهم يحكمون عليّ بالموت لأنهم يخافون من حياتي، ويعلمون أنني لو عشت فسوف أقتلهم" ص110-111.
وترفض "فردوس" أن تلتمس عفو جريمتها من رئيس الدولة، وتفضّل الموت: "كل الناس تموت، والأفضل أن أموت بجريمتي عن أن أموت بجريمتكم" ص111. فيقول أحد رجال البوليس المسلحين وهو يفتح باب السجن: "هيا.. حان موعدك!" ص114. وعلى لسان السارد/ة تنتهي فصول الرواية:
"وركبت عربتي الصغيرة وأنا مطرقة الرأس. أخجل من نفسي وأخجل من حياتي وأخجل من كذبي. وأخجل من خوفي. ورأيت الناس يهرولون في الشوارع إلى كذبهم ونفاقهم، ولمحت الصحف مرفوعة في الأكشاك مليئة بالعناوين الكاذبة، وأعلام الزيف مرفوعة في كل مكان. ودست بقدمي على دواسة البنزين بكل قوتي كأنما أدوس على العالم كله، وأدركت وأنا أوقف العربة فجأة قبل أن تصطدم بالعالم أن فردوس كانت أشجع مني" ص115.
لعل نوال السعداوي أردت في هذه الرواية أن تسجل رأيها في ذكورية الرجل الشرقي وتمرّد الأنثى التي تمتلك جسدها على المجتمع كله، وكثيراً ما نجد في كتاباتها هذا الموقف، وهي تثير جدلاً واسعاً في طرح آرائها، وقد لقيتْ السجنَ مفتاحاً للكتابة عن الظلم الذي تتعرض له المرأة في المجتمعات العربية، وقد سجنت ثلاثة أشهر في سجن النساء بالقناطر، لتخرج منه وتكتب "مذكرات في سجن النساء"، وهو الكتاب الأكثر شهرة من بين مؤلفاتها.
ـــــــ
زياد ابو لبن - اكاديمي، باحث وناقد وقاص اردني