تشرين1/أكتوير 10
   
كلما جاء الخريف وضربت هبّات الرياح وجهي بأوراق الأشجار الصفراء المتساقطة، أتذكر جملة الكاتب العراقي جليل القيسي التي وصف فيها الأشجار الخريفية: "صفراء كما لو أنها مصابة بالتدرن"، والتي جاءت في مسرحيته "وداعًا أيها الشعراء" على لسان شخصية الفنان العظيم فان كوخ في لحظاته الأخيرة قبل انتحاره. إنها مواسم التساقط، مواسم "التدرن والاصفرار" كما تخيلها الكاتب جليل القيسي، وربما هو ذات الخريف الذي قرر فيه فان كوخ الانتحار في حقل قرب شجرة. لكن خريفي هذا له طعم آخر بالتأكيد، حيث أجد نفسي أستقبله بفرح غامر بانقضاء الصيف الساخن المتأثر بالاحتباس الحراري.
صادف كلّ ذلك فرح أطفال الحي الأمريكي الذي أسكنه باحتفالاتهم بأعياد الهالوين. كنّا نشتري أنا وزوجتي المزيد من الحلوى ونضعها بجوار الباب، ونضيء حبات القرع البلاستيكية عند عتبة الدار. وكلما جاء الأطفال حاملين جرادلهم ويطرقون الباب مرددين "trick or treat"، أتذكر أطفالنا في الوطن وهم يرددون بليالي رمضان "ماجينا يا ماجينا. حل الكيس وانطينا". هكذا تتشابه في ذهني بعض الثقافات والأعياد وقد تختلف كخريفي هذا.
تعاودني أيضًا تلك الفكرة السوداء التي طردتها من ذهني عندما تأكدت أنى لن أكمل دراسة الفن في أوروبا بسبب الحرب. أعلم الآن أنني لو نفذتها، فسأتقنها تمامًا بحكم التجربة والمهارات التي اكتسبتها من الحياة. كنت لا أريد الذهاب الى الحرب وكانت الفكرة تكبر في رأسي، وأحتار في كيفية استخدام الأدوات المساعدة. كان فان كوخ رسامًا متقنًاً للوحة الانطباعية، مبتكراً متمرداً، وهائجاً كإعصار، ومع ذلك أخفق في استخدام المسدس وهو يوجهه نحو بطنه بدلاً من رأسه، أو ربما كان ثملاً جدًا بحيث لا يقوى على رفع مسدسه نحو صدغه. بقي يتلوى يومين في المستشفى قبل أن يموت. ليس شرطًا أن يتقن المبدعون موتهم! فهذا الإخفاق لن يعيق خلودهم أبدًا، ولن يتعرض لهم "أنصاف النقاد" بسوء بوصف "الانتحار" مثلبة فنية أو شيئًا من هذا القبيل. بل ربما العكس، حيث تساعد قصص فشل الانتحار أو ما شابه بملء جيوب مقتني أعمالهم العظيمة.
لكن بالنسبة لي، حيث أعمل حارسًا ليليًا في بناية بنك أوف أمريكا في بالتيمور، يكون الاتقان أمرًا ضروريًا لميتة مريحة. فلا أحد يطالب حارساً مهاجراً سوى بليلة آمنة على خزائن المدينة. وفي حال تعرض المبنى لسطو مسلح، فليس مطلوبًا منه إشهار مسدسه بوجه العصابة كما في أفلام رعاة البقر، بل أن يبلغ الشرطة بسرعة. ولو قرر أن يشتبك ويُقتل، فلن يترك شيئًا له معنى، ولن يتعرض له نقاد الفن ولا الصحافة إلا من عنوان صغير بصحيفة بالتيمور صن: "مقتل حارس ليلي مهاجر باشتباك مع عصابة مسلحة". هكذا سأبدو مهاجرًا ميتًا وغبيًا، فلست مطالبًا بالاشتباك وإنما الهرب وسرعة الاتصال بالشرطة أو الضغط على زر الإنذار ليحضر جيش من الشرطة بلمح البصر وهو يتولى معالجة الأمر.
أن إتقان الانتحار بالضرورة سيصنع عنوانًا متقنًا في الصحف مثل: "مهاجرة تعثر على زوجها المديون منتحرًا بحوض الحمام برصاصة في رأسه". عنوان كهذا لن يترك انطباعًا عابرا مثل "مهاجر ميت وغبي"، بل ربما يعكس لدى الناس شعورًا ثوريًا إزاء ما يتعرضون له من ضغوط الديون المتراكمة في هذه البلاد ودفع الفوائد العالية لصالح البنوك ومصلحة الضرائب، التي يذهب قسم منها لشراء السلاح لدعم الدول المتحاربة في الخارج، وهو ما أرفضه بشدة واعد السكوت عنه انصياعاً غير اخلاقي. وربما يثور الناس ويخرجون بمظاهرات واسعة تنطلق من البيت الأبيض ومن ثم الى شارع بنسلفانيا وصولا لمبنى الكونغرس، وقد يغلقون الشوارع الداخلية للعاصمة بعد خبر: "العثور على مهاجر مديون منتحراً بحوض الحمام".
لكن ما أنا متأكد منه هو أن أحدًا لن يكترث بانتحاري إلا إذا خدم الخبر جهة سياسية ما لغرض انتخابي. لذا، من الضروري أن يحفظ عنوان الجريدة موتي بكرامة. فهذا يهم عائلتي. كما أن بعض فوائد الموت هي إعفاء تام من بعض الديون المتعلقة بالبطاقات الائتمانية المتراكمة. وبالتأكيد سيساعد الأبناء أمهم التي تعمل كاشير في Walmart لتسديد قروض البيت للسنوات العشرين المتبقية. لكنني أجزم أن الخبر سيدهش جارتي التسعينية التي تعاني من سرطان الرئة، بعد أن أصيبت بالتدرن هي الأخرى، وهي الآن تتحدى المرض بالجرعات الكيماوية. وحتماً ستقول لنفسها أو لابنتها التي ترعاها باستغراب: لماذا ينتحر الإنسان ورئته سليمة؟!
لا أريد أن أعاني مثل فان كوخ وهو يتلوى ليومين لأن الطلقة لم تكن بالمكان الصحيح. يجب أن يكون الانتحار متقنًا وثابتًا وعقلانيًا، وربما حكيماً أيضًا. وإلا أتسبب بجر الأبناء العاملين بولايات بعيدة ليحضروا معاناتي لأيام طويلة في المشافي، أو يتورطوا بالاهتمام بي حين أصاب بإعاقة أبدية. لديهم ساعات طويلة من العمل ليوفروا متطلباتهم المعيشية، وخصوصًا التزاماتهم بالدفعات الثابتة لفوائد القروض الدراسية. ليس من العدل إذن ألا أتقن انتحاري.
إن استعمال مسدس الشركة الأمنية التي أعمل بها في عملية الانتحار ليس تصرفًا مهنيًا، بل يجب أن يصلهم نظيفًا مع البدلة والشارة والباج. لذا، يجب أن أكون عند حسن ظن المشرف جايكوب، وهو مهاجر صيني اختار لنفسه هذا الاسم (يعقوب) كما أحب أن أسميه، فهو يضحك عندما أناديه ويقول لي: "أقسم أنك لا تشتمني". فهو لا يتخيل حين يسمع (يع/قوب) سوى أنها شتيمة، وأنا أقسم له أنه اسمك هكذا في اللغة العربية. وهو يضحك حتى تختفي عيناه وتبرز خدوده، يضحك لي بود ومحبة. أود أن أحافظ على هذا الود بيني ويعقوب، فلا أرغب أن يكرهني وهو يتسلم مسدس الشركة مغطى بالدم، فهو لا شأن له بهذه الفوضى. لذا، اقتناء مسدس شخصي صار أمرًا ملحًا، وعليّ زيارة Bass Pro Shop المكان المتخصص بكل فنون وأدوات الصيد والتخييم. اعتدت التجوال فيه رغم أنني لا أشتري منه أي شيء، لكني أذهب هناك أحيانًا للاستمتاع بالموقد الكبير في مدخله، والجلوس على مساطب مريحة مقابل أحواض ماء ضخمة تحاكي أعماق المياه، أراقب الأسماك الكبيرة باسترخاء، وهي تتجول باحثة عن الطعام، وهي أيضًا تتفرج على الجالسين عند تلك المساطب، وقد تعتقد أننا نحن الذين تم اصطيادنا ووضعنا في حوض الفراغ الزجاجي.
منذ أن عملت حارسًا ليليًا، لم أعد أشارك غرفة النوم مع زوجتي كي لا أزعجها حين أعود في الخامسة فجراً، ولا تزعجني هي حين تستيقظ في السابعة صباحًا. لكننا نتشارك السرير ليلة يوم الأحد فقط، فهي تعمل السبت أيضًا. في حين أقضي السبت في جزّ الحشائش أو كنس ورق الأشجار المتساقط، أو الذهاب إلى Home Depot لجلب ما أحتاجه من قطع الصيانة في تصليح متطلبات البيت بنفسي، وتجنب تكاليف التصليح الباهظة: قفل مكسور، انسداد المجاري، عطل سيفون التواليت، زر المصباح .... ثم أعود لتنظيف أرضية البيت بعناية. فيوم الأحد هو يوم للاسترخاء بلا أعمال بيتية، نطبخ ونتبادل المكالمات مع الأبناء، ثم نتابع أخبار الوطن المحبطة حتى يغلبنا النعاس.
عادةً أستيقظ في منتصف النهار، لكن اليوم هو نهار مختلف - يجب أن أحسب فيه الزمن بحكمة. لذا استيقظت بعد ثلاث ساعات فقط، وبمجرد سماعي صوت الباب توصده زوجتي وهي تغادر إلى عملها. فتحت عيني بغرفتي الصغيرة المستقلة في الطابق العلوي. وأنا أدخل الحمام بجانب غرفتنا الواسعة، صرت أحسب خطواتي وأنا أنظر إلى الأرض، ثم نظرت من الأعلى نحو الدرج النازل للطابق الأول، فحسبت أنها مسافة بعيدة ومرهقة في حمل جثة من حوض الحمام إلى الأسفل ثم إلى الشارع. ولا ضمان من تناثر قطرات الدم على الدرج حين ترتج أيادي رجال الإطفاء أثناء النزول. أريده انتحارًا وموتًا نظيفًا، لا أرغب أن تقوم زوجتي، وهي تبكي، بمسح قطرات الدم من الدرجات الخشبية. أحاول أن أخفف دراماتيكية المشهد، لا أريد أن ترى كيف تتساقط دموعها وتختلط بدمائي على الأرضية الخشبية، هذا أكثر مما ينبغي.
وقفت تحت الدوش وتابعت المياه المتساقطة من جسدي إلى بالوعة الحوض في (البانيو)، لكني قررت أصلًا أن أنفذ الانتحار بحمام الطابق السفلي، فهو ذو ميزة فريدة، حيث يقع في الجزء الذي أضيف إلى خلف البيت لاحقًا في أواسط التسعينيات، ذو سقف مرتفع يحتوي على شباك سقفي واسع ترى من خلاله زرقة السماء، يمنحني دائمًا شعورًا مريحًا أثناء الاستحمام، عندما أرفع رأسي الى الأعلى، وأحيانًا أرى بعض الطيور تنطلق من عشها المختبئ بمدخنة البيت المتروكة في أعالي السطح بالقرب من تلك النافذة. كما أن المسافة من هذا الحمام إلى الباب الخارجي لا تتعدى بضع خطوات، وهذا هو الجزء الأهم في تحقيق الخطة.
نزلت إلى المطبخ، فتحت الثلاجة وأخرجت منها طعام الغداء الذي تتركه لي زوجتي يوميًا دون اتفاق مسبق ماذا ستطبخ، وكأنها تتعمد أن ترسم على وجهي مفاجأة. فعلاً، إنها مفاجأة: الأرز ومرقة الفاصولياء مع لحم الضأن. ههه، غالبًا ما تطبخ لي طعامًا أرجوه دون أن أخبرها. كيف يحدث ذلك؟ كيف يحدث أن زوجتك تطبخ لك أكلة تشتهيها من دون أن تعلم؟ لكن بالتأكيد هي لا تعلم أنها ستقضي يوم الأحد القادم وحيدة حزينة مصدومة بين أبنائها الذين حضروا من الولايات البعيدة.
وبما أنه يوم غير عادي، لذا قررت أن أتناول الأرز ومرقة الفاصوليا باللحم كوجبة إفطار وليست غداء، وتعمدت أن أترك الصحون على الطاولة ممسوحة بقطعة خبز، ولم أغسلها كعادتي، وهذا جزء من إتقان مشروع الموت كي أترك لها دلالة بالشكر والامتنان بأني أكلت الوجبة بشهية ولم أرم حبة واحدة، هذا ما لم يفكر به قط فان كوخ العظيم ليقدمه لأخيه ثيو، سوى أنه ورطه بانتحار غبي لم يقض عليه مباشرة، بل بقي في حضنه يحتضر ليومين.
قررت أن أزور زوجتي في Walmart لأودعها قبل الذهاب لشراء المسدس. دخلت السوق وصرت أبحث عنها بهدوء، تلك هي التي يقف عندها صف طويل من الزبائن، لا أتمكن من مناداتها أو الحديث معها، لذا تظاهرت كزبون، اشتريت معجون أسنان وقميصًا برتقاليًا رخيصًا وقناعًا مخيفًا من ألعاب الهالوين، ووقفت في آخر الصف مرتديًا قناع طائر مخيف مع القميص. فكرت أن أهديها آخر مقالبي كي تتذكرني وتبتسم بغيابي، وأجزم أن التصرف بسلاسة وخفة دم هو جزء من إتقان الحياة، كما هو مع الموت أيضًا.
اقتربت منها وهي ترسم ابتسامة مصطنعة للزبائن، فأنا أعرف ابتسامتها الحقيقية أكثر من أي أحد في هذا المكان. تأخرت السيدة المسنّة التي أمامي بالدفع، فهي تلح أن تكتب شيكًا بدلاً من أن تدفع بالكاش أو بالكارد. تململ بعض الزبائن من خلفي وهرب البعض إلى كاشير آخر. "سأقتل نفسي " قالت الفتاة التي تقف في آخر الصف مجازا من ملل الانتظار فأدرت لها وجهي المقنع بمنقار طائر فقلت لها: وأنا أيضا" فضحكنا. جاء دوري، وإذا بزوجتي تضحك بوجهي أو بوجه زبونها البالغ الذي يرتدي قناعاً مخيفاً. لم أنبس بكلمة، فهي ستكشفني حتمًا، لكنها قالت: "من فضلك، اخلعه كي آخذ سعره". فقلت لها بلهجتنا “تتدللين"، وأنا أخلع القناع. ضحكنا بشدة وواصلنا الحديث. لماذا استيقظت مبكرًا؟ قلت: "أصابني أرق، فكرت أن أخرج وأراك، فنحن لا نرى بعضنا". قالت: لم يتبق شيء، غدًا هو الجمعة وسنرتاح من بعده، طلبت من مشرفتي أن أعمل ساعات إضافية الجمعة كي لا أعمل السبت، فوافقت: "سيكون لنا يومان استراحة، أليس هذا رائعًا؟". نعم، رائع بالتأكيد قلت.
في هذه الأثناء، تذمرت السيدة التي خلفي في الصف وصارت تنادي: "إنه ليس مكانًا مناسبًا للعشاق يا رفاق، دعونا نحاسب ونمضي". اعتذرت منها وأخبرتها إني أودع زوجتي لأني سأغيب عن البيت ولن يتسنى لي لقائها، ثم انحنيت لزوجتي واحتضنتها بقوة، فتصاعدت صيحات مازحة ودعوات من الزبائن في الصف. حتى المرأة المتذمرة تعاطفت وقالت لي: "خذ وقتك، يبدو أن طريقك فعلاً بعيد. Have a safe trip". غادرت المكان ولم يتسنَّ لزوجتي أن تودعني بنظرة من بعيد، فقد انحنت حتى أصبحت جزءًا من آلة الكاشير.
لا بأس ببعض الكذب الذي يساعد في اتقان لعبة الحياة، هكذا فكرت وأنا أغادر المتجر حين كذبتُ على السيدة السمراء التي تمنت لي السلامة في طريق السفر، فأنا لن أسافر إلى أي مكان.
بعد بضعة أميال، صففت سيارتي المتهرئة أمام متجر Bass Pro Shop لشراء مسدس رخيص لتنفيذ المهمة.
بالتأكيد سيكون استخدامه لمرة واحدة بإطلاقه واحدة لن تكون اثنتين. دخلت باب المتجر ووقفت لحظات أراقب النار في الموقد الضخم الذي أُزدان محيطه بألعاب الهالوين التي ينبغي أن تكون مخيفة، والتي تصدر أصواتًا كأنها تنبعث من جثث الموتى في قبورهم، وساحرات ذوات أنوف طويلة وخفافيش ضخمة تتسلق السقوف العالية. واصلت سيري عبر زوارق الصيد والدراجات الجبلية، ولم أمر على حوض الأسماك كالعادة، بل اختصرت الطريق إلى نهاية المتجر نحو منضدة بيع السلاح.
"أحتاج مسدسًا رخيصًا لو سمحت"، قلت للبائع.
البائع: "لم أفهم ماذا تعني برخيص، قل ما هو استخدامك له وسأقدم لك اقتراحاتي. لدينا العديد من المسدسات". بالتأكيد لن أخبره بماذا أحتاجه، لا أعرف سوى نوع واحد هو GLOCK G43X الذي نستخدمه في الحراسة، وهو سلاح أتوماتيكي صغير، لكن سعره لا يقل عن 400 دولار. قلت للبائع: "دعني أتفرج وسأعود إليك". بادر البائع بالإشارة إلى مكان أكثر المسدسات رخصًا، وإذا بي أمام مسدس مفرد من طراز قديم Heritage Rough ذو البكرة التي تحمل 6 رصاصات، مربوط به تاك بسعر 119.99 دولار، يشبه مسدس فان كوخ إلى حد كبير الذي لم يحسن استخدامه كما يجب.
اشتريت المسدس مع أصغر عبوة لم تقل عن 100 رصاصة بعشرة دولارات. وعدت مسرعًا إلى البيت، ركنت السيارة عند رصيف الشارع مقابل باب الجار كي أترك مساحة كافية لسيارة الإطفاء أو الإسعاف حين يحضروا لانتشال جثتي ولتكون بأقرب نقطة من باب البيت. دخلت البيت ووضعت المفاتيح على طاولة المطبخ قرب صحن الفاصوليا الفارغ إلا من بعض عظام اللحم المتبقية.
فتحت علبة المسدس، سحبت العتلة وضغطت على الزناد بلا رصاص، فتبيّن لي أنه بدائي جدًا، فكلما تريد أن تطلق رصاصة عليك بسحب العتلة. لكن اللطيف في الأمر أن البكرة تدور بسهولة، فهذا المسدس يصلح تمامًا للروليت الروسي، لكني لن أحتاج أن أعرض على رأسي مفاجآت محتملة طالما أردت كل شيء متقناً ومحسوباً. رصاصة واحدة تقابل تجويف المسدس وعتلة المسمار منتصبة ومشدودة، لن تحتاج سوى لمسة ثابتة نحو الزناد.
هكذا فكرت وأنا ممدّد في حوض الحمام أنظر إلى السماء الزرقاء وأتخيل هروب الطيور من أعشاشها حين تنطلق الرصاصة. بأي اتجاه سأضع المسدس دون أن أسمح للدم أن ينتشر خارج الحوض ويلوث أرض الحمام أو أجزاء من التواليت والمغسلة؟ الوسادة قد تكون حلاً رائعًا، حيث أمسكها نحو رأسي بقوة بيدي اليسرى وأضغط الزناد بأصابع يدي اليمنى. حينها لن يتناثر الدم، وستوفر لي المخدة ربما متكأ للحظات قصيرة أودع فيها السماء الزرقاء عبر نافذة الحمام السقفية.
هكذا بدا الأمر، كل شيء متقن، لا شيء ينقص الانتحار سوى التنفيذ. دعني أتفحص خلال اللحظات الأخيرة: الوسادة، المسدس، وبجوفه رصاصة واحدة، الملابس المناسبة التي ارتديتها، وهو سيت رياضي من شورت وتيشرت من  Under Armorأهداه لي صديق عراقي يعمل بمقر الشركة الأصلية ببالتيمور. لكن ربما فاتني أمر ما، الرسالة التي يجب أن أتركها. يا لغبائي، كيف نسيت ذلك؟ حتى فان كوخ المضطرب لم تفته هذه الفكرة.
تركت المسدس والمخدة عند حافة الحوض، وعدت إلى المطبخ أبحث عن قلم وورقة. قصصت قطعة من كارتونة المسدس، وأخذت قلم باركر وكتبت عبارة فان كوخ ذاتها: ايها الأحبة، أترك لكم هذه العبارة المنقولة عن فان كوخ كما تعرفون، انا لا أجيد صياغة العبارات الجادة. "جسدي لي ولدي الحرية في أن أفعل ما أريد به. لا تتهم أحداً، أنا الذي أردت الانتحار". ثم أضفت عبارة خاصة لزوجتي: "كانت رحلة حياة ممتعة وأنت بجانبي، لكن توجب عليَّ النزول مبكراً. سامحيني".
هكذا، بكل بساطة، يتحقق الانتحار المتقن. أخذت قصاصة الورق وتوجهت نحو مرآة المغسلة في الحمام، وحاولت حشرها بفتحة حافة المرآة، إلا أنها سقطت في بحوض المغسلة. مددت يدي، وإذا بقصاصة الكارتون تتبلل قليلاً، يبدو أن الصنبور مفتوح قليلاً منذ البارحة. أعدت القصاصة وثبتها بحافة المرآة بعد أن تأكدت من غلق صنبور الماء الحار، لكن قطرات الماء تتوالى منه بزمن متباعد. ضغطت عتلة الإغلاق بقوة دون جدوى، فأنا أعرف، غالبًا ما تصيب المياه الحارة الأجزاء المطاطية بأضرار. آه، به حاجة إلى التبديل والتصليح.
سيكون من الأنانية واللا مبالاة أن أترك عطل المغسلة وأغادر بلا اكتراث، بل هذا سيخرب كل ما رسمته لأحقق "انتحار مكتمل الأركان". بل بهذه الحالة، لن يتحقق شرط الاتقان طالما بقيت المغسلة تخرخر قطرات الماء وتجعل زوجتي بين حيرتين: إجراءات الدفن ودفع التكاليف وإصلاح المغسلة في وقت واحد. بالتأكيد، أنا أبالغ، فلا يمكن أن يتحقق الكمال، لذا تجاوزت فكرة تصليح المغسلة وذهبت لأستلقي وسط الحوض.
وضعت الوسادة وأعدت رأسي إلى الوراء قليلاً بحيث أنظر إلى السماء بوضع مريح. حملت المسدس لأضعه على رأسي، شغلت شريط الحياة وكأني اشغل عارضة سينمائية 8 ملم وأشاهد ما أتذكره من فصول وتفاصيل لكن عيني ذهبت بعيدًا نحو المغسلة وهي تقطر، حتى صرت أسمع صوت القطرات، إذ بدأت تتضخم أصوات حبات الماء المتساقطة. مع هذا، واصلت تثبيت المسدس ووجهي يتصبب عرقاً وأحدق بعيدًا نحو أعلى غيمة تمر من فوق النافذة السقفية. لكن أصوات قطرات الماء صارت وكأنها سوط ينهال على جسدي بلا رحمة لا أريد لشعور السوط يجلدني وأنا ماض برحلة موت زعمت أنه متقن.
تراخت يدي التي تحمل المسدس، أخذت نفساً عميقاً، مسحت العرق من وجهي بالوسادة واتكأ ساعد اليد التي تحمل المسدس على حافة الحوض دون أن اشعر وتداخل مع صوت قطرات الماء صوت زوجتي "سوف لن أعمل هذا السبت أليس هذا رائعا". لذا، من الحكمة إصلاح المغسلة وقضاء عطلة يومين إضافيين مع زوجتي. ولطالما أتقنت مفردات الخطة، فأني سأنفذها في أي وقت مناسب.
نهضت وأعدت ترتيب المكان. سأصلح هذا الصنبور المزعج في وقت لاحق. أخرجت الرصاصة من المسدس، وأخذت الوسادة وسحبت الورقة من حافة المرآة. جمعت كل شيء وأخفيته تحت فراشي بغرفتي الصغيرة. نزلت وغسلت الصحون، لبست ملابس العمل، حملت المسدس والشارة والباج، وانطلقت بسيارتي بين أكوام ورق الشجر الذي أصابه التدرن كما أصاب كل شيء من حولي.
 
بالتيمور خريف 2024
 
زياد تركي: مصور ومخرج سينمائي عراقي، يعيش الآن في الولايات المتحدة ويعمل منتجا للفيديو في قناة الحرة.