تشرين2/نوفمبر 28
   
  
   تمثّل هذه الاغنية (غريبة الروح) - كنص - الصراع بين النفس وإرادة الوجود، حيث يشعل النص حرائق نفسية وجودية، تعيق بالتفكير وتأجج القلق النفسي والعاطفي؛ ما يثمر عن مكابدات هي أشبه بالبركان الذي ينفجر فجأة؛ فينسف كل شيء يقف في طريقه، إزاء وجوده. وبالتالي تضيع الآمال، وتتشتت الرؤى، وتذبُل الأحلام، ليتيه الإنسان العاقد تلك الآمال كحُلم، وهو يحلم بينبوع من الماء القراح، يسقي به أرض حُلمه العطشى، حلمه الذي كاد أن يقتله الظمأ، بل فعلا قتله بسهم عابر.
 النص، وإن كان تجربة شخصية عاش تفاصيلها الشاعر جبار الغزي، ولكونها تجربة حقيقية، بائت بالفشل وانتهت بنهايات مؤلمة لم يكن يتوقعها الشاعر، إلّا أنها رسمت ملامح وجود، يبحث عنه كل إنسان ولهْ، إنسانٍ غارق في عشق، عشق حقيقي، لا تشوبه شائبة، فهو ليس بنزوة تظهر لتختفي، وتتوارى عن الوجود، أي تنطفئ جذوتها وتصبح ذكريات، كغيرها من الذكريات التي عاشها محب، في فترة محدودة ثم انتهت وطواها النسيان.
 تجربة الشاعر مختلفة عن تلك التجارب، لأنّه ذو احساس مرهف، وقلبه كان نقيا، وفؤاده كان يخفق بحب صادق. والدليل أن قصائده ونصوصه، كانت ترجمة نقية لمشاعر جياشة، وجميع تلك النصوص اصبحت أغاني غناها كبار مطربي العراق، وانشدتها حناجر ساطعة، وادتها أصوات كانت وما تزال خالدة، أصوات نقية، تحمل في طياتها الحزن العراقي، حزن أهل الجنوب المختلف عن بقية مناطق العراق، لأنّ أهل الجنوب لاقوا ما لاقوا: من تعسف وحرمان وعوز ونقص حاجة، أعني أيام الاقطاع الذي سلب ثرواتهم، وهضم حقوقهم وبدد خيراتهم. وربما من هذا الباب ظهرت نكهة الحزن في غناء أهل الجنوب، وهو تعبير صادق عن مأساة الحقيقية، عاشها ذلك المجتمع، فظهر الغناء الشجي كردة فعل، معاكسة مغايرة.
   الشاعر، هنا، يبحث عن الوجود، وجوده هو- ذاته، وسط ضياع له أول وليس له آخر. ولعلّ الأديب الفيلسوف جوته أراد هذا المعنى هذا الكلام يعبر عنه اللسان وتصغي اليه الآذان، ولكن بينه وبين العمل مسافة بعيدة. هل تستطيع أن تحمل عليلا يذويه الداء ويضويه في سرعة وبطء على أن يضع في الحال حدّا لأسقامه وآلامه بطعنة خنجر؟ إن الداء الذي أوضعه وأضرعه قد سلب فيما سلب قوة العزيمة على الخلاص منها(1).
وتمضي الأغنية:
(لا طيفك يمر بيها
ولا ديره تلفيها
غدت وي ميل هجرانك
ترد وتروح
وعذبها الجفا وتاهت
حمامة دوح
آه غريبه الروح(
   بل هو يبحث عن معنى، معنىً فضفاض، في داخل الوجود، كأنه يشعر في سريرته، في دواخله، أن الحياة بلا معنى، الوجود كالسراب.. فلا أصعب من غربة الروح، لأنّ الغربة هذه هي الموت الزؤام، بل هي نهاية الانسان واضمحلاله، من هذا الوجود، بينما هو يبحث عن الوجود، كظامئ ذبحه العطش، فهو هنا كالإنسان المستلب، بتعبير أريك فروم، أي الإنسان الفاقد لكل معنى، ربما حتى نفسه لأنّه ما عاد يمتلك نفسه، فهناك من يتحكم بها، ويملي عليها ما يريده المعني، لا هذا الانسان المُستلب، فروحه صارت رهينة بيّد من يُحب، إذ يشعر في قرارة روحه، ليس له مزيدا من الصبر، وقد نفد آخر معونة من معونات صبره، بمعنى أن الإنسان هذا أصبح محبطا. وربما هذا المعنى نفسه الذي اراده فروم حين يقول: "إن الانسان المحبط يشعر بالفراغ في داخله، وكأنه مكتوف الأيدي، وكأن شيئا ينقصه لكي يصبح نشيطا... فأن الشعور بالفراغ، بالشلل، بالضعف قد يختفي لمدة ما، ويشعر بأنه ذا قيمة، وبأن له شيئا وبأنه ليس عدما. إن المرء يشعر بالأشياء لكي يخفي الفراغ الداخلي"(2).
(عذبها الجفا وتاهت حمامة دوح) وحمام الدوح، طيور برية جميلة، ذات أصوات رائعة – حزينة، ولها قصة ربما هي أسطورة من الأساطير
  استخدم الشاعر مفردة "حمامة دوح" للتعبير عن الحزن الفراق، والغربة، غربة الروح بعد غياب الحبيب.
لكن تشارلز فرنكل له رأي آخر في هذا المعنى، رأي مغاير، اقتضى الحال لننقل هذا الرأي، ولنا أيضا رأي نخالف به فرنكل. يقول: "وهكذا فإن الانسان، كما يراه نيبور، انحرافا فطريا أو نشازا في النفس هو صدى لتنافر اكبر علاقته بالكون. وهذا ينتج غموضا وسخرية أساسيين في التاريخ البشري كله. لأن مصدر جميع الاعمال الباهرة التي اتاها الانسان هي مصدر جميع آثامه وسفهه. ورذائله وفضائله وترجع إلى أصول واحدة... بل هذا هو شيء أصلي، لا يمكن ازالته من الطبيعة البشرية في أي من الأزمان والأحوال"(3).
(تحن مثل العطش للماي
تحن ويلفها المكابر ويطويها
وأنت ولا يجي أبالك تمر مرت غُرب بيها
ولا طيفك!! يوعيها
وأهيسك جرح بجروحي... يمرمرني وترد روحي
تفز أجروح ... محنه تفوح .... غريبه الروح)
   وعندما تصل الآلام إلى نقطة لا يمكن بعدها إعادة الأمور إلى نصابها، يصبح من المحال إعادة الماضي، وهي ترجمة حقيقية لمعاناة قاساها الشاعر بنفسه، وأشرفت عليها مشاعره وعواطفه، وكل مسامة من مسامات وجده واشتياقه، مررت من خلالها تلك الآلام، وبعد الآن لا يحتاج إلى لوم وعتب، حيث وصل السهم إلى مرماه وأصاب الهدف، والكلام بعد هذا لا يحتاج إلى أسئلة من هذا النوع، فقد أنتهى كل شيء، وهنا على الشاعر أن يتقبّل الأمر الواقع.
والعلاج الذي ينصحنا به الفيلسوف ماركوس اوريليوس، ربما هو العلاج الوحيد الذي يجب أن نتطبب به، ولا يوجد غيره بديلا. "كما اردت أن تبهج نفسك استحضر في نفسك فضائل الذين يعيشون معك: نشاط، وتواضع ذاك، وكرم ثالث، ومنقبة أخرى لرابع.. ليس أبهج للنفس من طابع الفضيلة يتجلى في خصال رفاقنا"(4).
   الفيلسوف هذا يريد منّا أن نترك الماضي، ونلتفت إلى الحاضر لنعيش الواقع، وننسى من صحبناهم وعشنا معهم فترة، طالت أم قصرت، لأنه لا طائل من ذلك، والنسيان هو الحل الجلي، كما يعتقد اورليوس.
 لكن كيف لنا أن نقنع هذا الشاعر، ونجرجره إلى طريق معرفتنا وخبرتنا في الحياة، هذا هو السؤال، والاجابة عليه صعبة جدا بالنسبة لشاعرنا الغزي وهو يعيش غربة الروح. وبالتالي يفارق الحياة، وهو خالي الوفاض، مسلوب الارادة، يموت كصعلوك خانته الحياة، ولم يدرك ما معنى الوجود؟
الاغنية، بصورة عامة تأجج المشاعر، وتسلب اللب، وتثير الشجن، لدى المتلقي، خصوصا أن حنجرة الفنان حسين نعمة التي صدحت بها، وزادتها رونقا، وملحنها الكبير الفنان محسن فرحان الذي أعطاها لمسة من روحه.
النص /
غريبه الروح
غريبة الروح.. غريبة الروح
لا طيفك يمر بيها
ولا ديره تلفيها
غدت وي ميل هجرانك
ترد وتروح
وعذبها الجفا وتاهت
حمامة دوح
اه غريبه الروح
 
تحن مثل العطش للماي
تحن ويلفها المكابر ويطويها
وأنت ولا يجي أبالك تمر مرت غُرب بيها
ولا طيفك .. يوعيها
وأهيسك جرح بجروحي... يمرمرني وترد روحي
تفز أجروح ... محنه تفوح .... غريبه الروح
 
جم هلال هَلن .. وأنت ما هَليت
جثير أعياد مرن وأنت ما مريت
سنين الصبر حنن وأنت ما حنيت
ترف ما حسبت بي
وأنه وغربتي وشوكي
نسولف بيك ليليه
نكول يمر.. نكول يحن وتظل عيونه ربيه
يالمامش الك جيه ... الك جيه
تفز جروح.. محنه تفوح
وغريبه الروح ... وغريبه الروح 
 
الهوامش:
(1) جوتة، آلام فارتر، ص 83،
 (2)اريك فروم، الانسان المستلب وآفاق تحرره، ص 63، منشورات نداكوم للطباعة والنشر، ترجمة حميد شلهب، من دون ذكر سنة الطبع.
(3) تشارلز فرنكل، أزمة الانسان الحديث، ص 97، بيروت نيويورك، سنة الطبع 1959، ترجمة الدكتور نيقولا زيادة ومراجعة عبد الحميد ياسين.
(4) ماركوس اورليوس، التأملات، ص 131، منشورات رؤية للنشر والتوزيع، مصر، ترجمة د. عادل مصطفى، مراجعة د. أحمد عثمان
* حمام الدوح / حمام بري يسمى أحيانا بـ(القمري) و(الدوح) هو صوته الرقيق المتميز بحزنه ووفائه لانثاه.