تشرين2/نوفمبر 28
   
 
  • ألا يمكن تعريف المسرح نفسه على أنه فن الوجود؟
      في البدء، لا بد من القول أن راشيل راجالو أستاذة جامعية تقوم بتدريس مادة الفلسفة وعلم الجمال في المدرسة العليا للفنون والتصميم TALM– في مدينة لومان الفرنسية. وتركز أبحاثها في كتابها (المسرح والحياة) على شعرية وأخلاقيات أسلوب الوجود عن طريق الفن، فضلا عن الروابط بين الفن والرعاية والسياسة.
 في هذا الكتاب مقدمة طويلة خصصتها لدراسة المسرح وعلاقته بالفلسفة، ومن فصول ستة وخاتمة كرستهما لمناقشة المشاهد المسرحية المعاصرة انطلاقاً من فرضية مفادها: ألا يمكن تعريف المسرح نفسه على أنه فن الوجود؟ كممارسة تساعد على إعطاء معنى للحياة وتماسكها وإثرائها؟
      في مفترق الطرق بين الفلسفة والدراسات المسرحية، تسعى راجالو لتحقيق هدف مزدوج. ناحية بإظهار كيف يمكن للتأمل في المسرح أن يوسع ويجدد القضايا الجمالية العامة المتعلقة بالوضع الأنطولوجي للفن. ومن ناحية ثانية، تقترح تفسيراً للتجربة الجمالية للمشاهد المسرحية.
     "والعمل على تفسير المسرح كفن للوجود، بعيداً عن كونه مجرد ترفيه أو هواية ثقافية، ويُنظر إلى المشهد المسرحي على أنه تجربة يخلق من خلالها الفنانون والمتفرجون ويبدعون ويتفردون ويوأسلبون أنفسهم. إنها، ان التجربة؛ مساحة أساسية لا غنى عنها من اللعب والمشاركة في حياتنا، مما تسمح لنا باستكشاف واختبار قدراتنا على التخيل والنقد والإبداع، علاوة على ذلك، فإن المسرح هو المكان الذي يمكن فيه ممارسة أخلاقيات الفضيلة وبنائها". بهذه الطريقة، يسعى هذا البحث إلى تحديد شروط التزيين أو التجميل الأخلاقي بصحبة العديد من فناني المسرح المعاصرين الذين لم يتوقفوا أبدا عن التشكيك في ظروف المسرح من خلال تجارب ومقترحات (ستانيسلاس نوردي وكلود ريجي وفرانسوا تانغي وكلايد شابوت، بالإضافة إلى المخرج الشاب سيمون غوشيه). حيث تقول: "في مرحلتنا التاريخية المضطربة، التي تتسم بالقلق والشك، يعد المسرح أكثر من أي وقت مضى مصدرًا ثمينًا للحياة والتجديد".       
       تنطلق المؤلفة من المفهوم البسيط للمسرح كمكان للتفاعل بين المتفرجين والممثلين في حالة من الحضور المادي المشترك. ويتحقق هذا التفاعل "بالوساطة الضرورية للأداء، الذي يُفهم بمعنييه المتمثلين في التنفيذ والمشاركة. ويمكن تصور طبيعة هذا التفاعل في شكل لعب.  وهذا يفترض أن هناك مجموعة من القواعد التي تحكم ممارسة هذا اللعب مع السماح بفتح مساحة محتملة من الحرية والإبداع. في هذا الحيز أو هذه الفجوة نجد الشروط الرمزية والعملية لإمكانية إعادة اختراع أنفسنا والعالم، أي الإمكانات الوجودية والبراغماتية للمسرح".
       تجمع مقاربات راشيل راجالو المنهجية بين إسهامات ظواهر الإدراك للفيلسوف الفرنسي (موريس ميرلو بونتي) (1908-1961) المتأثرً بفينومنولوجيا هوسرل والنظرية الغيشتالية، أي نظرية الشكل التي وضعتها مدرسة برلين، ما دفعه إلى الاهتمام بدور الحواس والجسد في التجربة الإنسانية بشكل عام وفي المعرفة بشكل خاص. والحدث والكينونة والذات والعقل لدى المفكر الفرنسي (كلود رومانو)، وكذلك إسهامات البراغماتية الأنجلو - أمريكية (جون ديوي، ريتشارد شسترمان، ستانلي كافيل) أو الإلهام الأنجلو - أمريكي (مارييل ماسي، ساندرا لوغيه). حيث يلعب المسرح دورًا في عملية إضفاء الطابع الفردي الذي يمكن "أن نفهمه كوسيلة لتنسيق حياتنا. كما أن له أيضًا قوة أخلاقية من حيث إنه يساهم في تطوير مواقف الرعاية لدى الأفراد. لذلك يمكن تعريف المسرح كفن للوجود".
     ما آثار انتباهنا عند قراءة هذا الكتاب، أولا وقبل كل شيء، أنه يسلط الضوء على الممارسة المسرحية بمفهومها الحديث، وليس التجريب الذي صار شائعاً، كلما حاولنا الحديث عن المشاهد المسرحية المعاصرة أو المواكبة لعصرنا، وهذا ما لاحظناه، عند قراءتنا للعديد من البحوث والكتب والدراسات النقدية في هذا المجال.
 إن التجريب لم يعد واردنا فيها، ونادرا ما يذكر كمفهوم قائم بحد ذاته، بل أصبح متجاوزا كمصطلح، ربما لأن التجريب هو شكل من أشكال الفن، وليس كله، والذي يسعى إلى تجاوز الحدود التقليدية للأداء المسرحي. ويتميز عن الأشكال التقليدية للمسرح وذلك لاستكشاف تقنيات وموضوعات جديدة بتحديه للتقاليد الراسخة. وهذا يعني، إذا ما نظرنا إلى المشاهد المسرحية المعاصرة، نرى انه موجود فيها ضمنياً، وليس هناك حاجة لذكره أو التذكير به، ربما لأنه تحصيل حاصل، لا سيما أنه يهدف إلى خلق تجربة فريدة من نوعها مع الجمهور، وغالباً ما يستخدم أساليب غير تقليدية مثل المسرح الجسدي والرقص والوسائط المتعددة والأداء التشاركي. يوفر هذا النهج الفني للفنانين الحرية الإبداعية الكاملة، مما يسمح لهم باستكشاف مجالات جديدة ومشاركة الأفكار المتطورة مع المتفرج.
     الكتاب/ يثير العديد من الأسئلة المتعلقة بالتجربة الجمالية وبالتغيرات في الممارسات الفنية، ولكن ليس في سياق الكتابة النصية المعاصرة أو التأثير بين النصوص المعاصرة والإخراج المسرحي. إنه يكتفي في التركيز على الممارسات المسرحية المعاصرة التي تتسم بالتنوع والتعدد. "إن عدم تجانس الأشكال في الفن اليوم هو سمة مشتركة، ومن وجهة النظر هذه، فإن بعضها ليس معاصرًا إذا فهمنا "المعاصر" كنوع فني، أو حتى كنموذج للفن في حد ذاته""، وليس كنموذج معادل للحاضر. وعلى أساس هذا التمييز، تقوم المؤلفة بتميز ثلاثة عناصر رئيسية لتميز المشهد المعاصر: "انفتاحه على الفنون الأخرى، وعلى التقنيات الجديدة واللغات الأخرى، مما ينتج عن ذلك، إلغاء التسلسل الهرمي لعناصر العرض، و"بفضل ذلك تنشأ ديناميكية حوارية بين الفنون والفنانين من آفاق مختلفة". وهذا ما يتعارض مع المسرح بوصفه تمثيلاً للكتابة النصية التي تجعل من النص الأدبي العنصر الأساسي والجوهري في المسرح، خاصة وأن المسرح اليوم يتسم بالجمع بين أشكال مختلفة من التعبير الفني: الفيديو والصوت والأجهزة السينمائية والفنون الرقمية والفنون البصرية وأداء الممثلين والرقص والموسيقى والنصوص وما إلى ذلك، والتي تتعايش جميعها أثناء العرض.
 ويلعب هذا التهجين "على العلاقات الأفقية أو إعطاء أحد هذه التعبيرات التفوق على التعبيرات الأخرى. هذا التفاعل بين أشكال الوساطة المختلفة هو ما نسميه بالتداخل". وبسبب هذا التمازج بين الفنون، فإن المسرح ليس استثناءً من اتجاه عام في الفن المعاصر، وهو " عدم النقاء التكويني" على حد تعبير ماريان ماسين. "ويفتح عدم النقاء هذا الباب أمام تجارب جمالية مقلقة وغير واضحة يمكن أن تثير مواقف الرفض، أو النفور أو المقاومة أو حتى الفزع".
     وهذا ما سيسلط الضوء عليه الكتاب، عن طريق نماذج وتجارب مسرحية تطبيقية، وليس نظرية فقط. تجارب تنفتح في شكلها ومضمونها على لغات أجنبية من دون ترجمتها، لأن "وجود لغات أجنبية غير مترجمة يشكك أولا في المعنى، ويبعدها عن المفهوم التمثيلي البحت. كما يجعل أنماط الفهم على المحك إشكالية، وذلك بوضعها في سياق تجربة لغة حساسة وعاطفية ووجودية.
وأخيرا، يثير السؤال عن أحد أساسيات المسرح، وهو "موسيقية اللغة". مثلما سيتطرق الكتاب ايضا إلى استخدام الخشبة للتقنيات الجديدة، التي تتطور فوقها كعناصر فاعلة كاملة، وهو موقف تتوقف عنده المؤلفة بتناولها للعلاقات بين المسرح والتكنولوجيا، بتجربة كلايد شابوت في إخراجها لنص "ماكينة هاملت" لهاينر مولر.
وقد أثار هذا العرض اهتماما وفضولا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنه يقترح إعدادًا مسرحيًا رقميًا يدمج المتفرج من خلال دعوته إلى التمثيل فيه، وجزئيًا لأن الاقتراح محفوف بالتناقضات التي ينطوي عليها الجهاز التكنولوجي، خاصة أن إدخال التقنيات الجديدة هذه يشكك أيضا في العلاقة بين المسرح والمتفرجين، لأنه ينشر أشكالا جديدة من التفاعل ويمزج أنظمة مختلفة من الخبرة. فـ "المتفرج الذي يُدفع للخروج من تحفظه، يكشف عن نفسه عن طريق دخوله جسديًا إلى المشهد. ولا يتعلق الأمر بتحول المتفرج إلى موضوع للعرض، بقدر ما يتعلق بكونه أحد أدوات العمل وكيفية عمله. وهذا لا يعني اختزال دوره إلى دور ثانوي أو جعله مجرد إكسسوار مسرحي، لأن اللعب يتطلب منه أن يكون فاعلاً لكي يكون جاهزاً للعمل. بل على العكس من ذلك، المسألة تتعلق باختراع الأشياء وصنعها بهذه الطريقة. ومع ذلك، كل هذه الجوانب وفقا لباتريس بافيس تساهم في "تعميق أزمة التمثيل" وأزمة الإخراج.
        إن هذه التجارب، في تحديها للأشكال التقليدية للمسرح، من قصة وسرد وعرض مسرحي، ومحاولاته في طمس الحدود بين الواقع والأداء، تقترح مسرحة غير خطية ومجزأة، تعتمد على عدة مقتطفات من النصوص كما هو الحال مع تجارب (فرانسوا تانغي) في مسرح الرادو، التي تلجأ إلى تعدد المراجع والاقتباسات المستخدمة في العروض، من مجموعة واسعة من المجالات الثقافية والفنية (الأدب، والسينما، والأوبرا، والرقص، والمسرح، والموسيقى، والتاريخ) ومن عصور مختلفة. ويعد ذلك نوعاً من فوضى الاعتراف والتعرف لدى الجمهور، أو التسبب في نقص المعرفة، وهذه التأثيرات التائهة في الحقيقية مقصودة ومحددة لزعزعة المتفرج، الغرض منها فتح المجال أمام أشكال جديدة من الأدراك والفهم والخيال. ومع ذلك ـ والقول يعود للمؤلفة ـ "يتطلع فرانسوا تانغي إلى الخروج عن هذا النمط. بالنسبة للمشاهد، يعني ذلك سماع النصوص الكلاسيكية بطريقة غير مألوفة، على سبيل المثال، وبالتالي عدم "التعرف عليها". وتضيف: "إذا كان من الممكن أن يصبح تحديدها لعبة من ألعاب التثقيف، فإن الخطر المترتب على ذلك هو عدم السماح للتصورات التي يقدمها العرض بالتطور والبقاء حبيسة الإطار المطمئن للمعروف مسبقًا. ومن ثم، فإن "فيض" المقتطفات غير المتجانسة للنص أو الموسيقى يهدف بوعي إلى فقدان السيطرة من خلال الانخراط في إيقاعات محددة وفقًا لمنطق التوهان أو الاختلال. هذه الإيقاعات هي أدوات الفقدان الرئيسية، وعبرها "يعمل عمل فرانسوا تانغي على تحرير النظرة واستعادة الإصغاء وشحذ الإدراك". لهذا السبب، "ليس من الضروري إتقان النصوص المنطوقة من أجل تجربة مسرح الرادو، أو عندما تكون مألوفة لنا، فمن الأفضل أن نبتعد عنها في حد ذاتها".
      ويعتمد المخرج والممثل ستانيسلاف نوردي على تجارب المسرح الحي، وعلى طريقة تناولها برؤية حالية، وبالتالي، قيامه بتجريب الكتابة الدراماتورجية، التي جعلت منه كاتبًا وبالتالي فتحت له آفاقاً غير مسبوقة مع النص، وتحقيق رغبته في (إعادة) اكتشاف وتفعيل لغة أو قصيدة ما أو تطرقه للقضايا الجمالية والسياسية والأخلاقية التي تنطوي عليها، وبالتالي تجديد الممارسة الفنية. كما هو الحال، مثلاً في إخراجه لمسرحية (العادلون) لألبير كامو، الذي يستحضر فيها سرد تاريخ روسيا في بداية القرن العشرين، وشخصية ألبير كامو والتزاماته السياسية، واهتمامه في المقاومة وإنهاء الاستعمار، وإعادة استرجاع السيادة من قبل البلدان المستعمرة. علاوة على ذلك، فإن الانخراط في العمل الدراماتورجي والتحول فجأة إلى كاتب تكوين يشكل محاولة جديدة للمخرج، فهو لم يعد ينقل أو يترجم نصوصاً تم تأسيسها مسبقاً، بل صار يخلق إطاراً، يجمع فيه عدة نصوص، ويقوم بمنتجتها، وفقاً لرؤيته لها. وهذا ما تكشف عنه تجربته مع المسرح الحي، عندما اعتمد على أربعة كتب لجوليان بيك وجوديث مالينا، وقدم من خلالهم عمل  Living!
     وربما كان المخرج كلود ريجي واحداً من أهم من دفعوا بالصمت في المشاهد المعاصرة إلى أبعد الحدود، فالصمت يضعنا في المسرح وجهاً لوجه مع "ما لا يُقال "أو، على حد تعبير صموئيل بيكيت، "ما لا يمكن تسميته " حيث ، يتم الكشف عن لغة منطوقة وغير منطوقة في آن معًا، ولكن لا يمكن سماعها بهذه الطريقة.
 هذا الصمت الأصلي هو أيضًا نقطة البداية لعمل ريجي التدريبي. وكما هو الحال بالنسبة لإمكانية الصمت، ربما يكون ريجي أكثر المخرجين الذين أخذوا إيقاع البطء في المسرح بعمق. فقد جعل منه عنصراً من عناصر جماليته وذلك بتقديمه فيما يسميه "العمل على "الحركة البطيئة". في المسرح، البطء، حليف الصمت، يضعنا أيضًا في وضع يسمح لنا بالترحيب بما يحدث.
في عامي 2013 و2014، وكجزء من عرضي "القارب في المساء" لتارجي فيساس، و"داخل" لموريس ميترلنك، طلب ريجي من الجمهور التوقف عن الكلام حتى قبل دخول القاعة، ولم يسمح بفتح الأبواب إلا بعد أن حصل على صمتهم.  " كان طلب المخرج توجيهيًا ومقلقًا في الوقت نفسه، خاصة وأن ممرات وقاعات المسرح هي أماكن مؤانسة، أي أماكن للتواصل الاجتماعي.. كان ريجي يتحدى طقوسًا وعادات ورموزًا اجتماعية متجذرة في ممارسات المتفرجين الذين اعتادوا على تبادل بعض المجاملات غير الرسمية في هذه الأماكن. لكن هذا الصمت كان نوعًا من التكييف: ففضلا عن "إسكات" الثرثرة الدنيوية، والدعوة إلى بعض الهدوء والتركيز، كانت المسألة تتعلق بالترحيب بلغة ما وإتاحة النفس لها". وتضيف المؤلفة: "يعمل الصمت بطريقتين: فهو يوفر نسيجًا واستمرارية لظاهرة الكلام، ويعمل كصوت صوتي. إنه يربط الكلمات ببعضها البعض ويوفر لها مساحة تدوي فيها لا تشغلها مسبقاً تمثيلات احادية الصوت. وهنا تكمن قوته الشعرية". وهذا هو الحال مع كلود ريجي. فوفقًا له، يتمثل فن الممثل في إسماع المادة الصامتة التي تختبئ وراء الكلمات، ما تعجز اللغة عن قوله ومع ذلك تحمله، وهو ما أسماه جون فوس "الصوت الصامت" للكتابة.
    يستغل ريجي هنا مرة أخرى، " الإمكانات المسرحية للصوت بهدف الإصغاء إلى الصوت وخلق صوت غير خاضع لنبرات الصوت الاجتماعي، ونبراته، وترنيماته، وإيقاعاته؛ الصمت. نبدأ في العمل مع الصوت من أجل الوصول إلى صوتيات لم تُجرّب بعد. مثل ولادة النص بين يدي الكاتب، الذي يترك شيئًا جديدًا جوهريًا ليُكتب ويُقرأ ويُكتشف، فإن الممثل هو قناة لدلالات جديدة. بالإضافة إلى الصمت والبطء، طور كلود ريجي أحد جوانب الضوء التي تربط الأشياء ببعضها البعض. فالضوء يعتمد على كل شيء، لكن، في الوقت نفسه، كل شيء يعتمد عليه. إنه مرئي وغير مرئي على حد سواء. ومن طبيعته أن يقود إلى ما وراء الحدود. إنه يشارك في الحركة العظيمة للظهور والاختفاء.
    في عرض ريجي، ضباب الله Brume de dieu، يظهر الممثل لوران كازاناف في توهج يجعل من المستحيل على المتفرج تمييز جسده. إنه ظل تمتزج ملامحه بالليل، وليس من الواضح ما إذا كان هذا الظل هو جسد الممثل المادي أو انعكاسه، أو حتى دمية.
لا يظهر الجسد إلا بشكل غير محسوس، ومن دون أي وعي حقيقي باللحظة التي يحدث فيها ذلك. "إن عدم اليقين الإدراكي للرؤية يصرفنا عن دهشتنا الأولية ويغرقنا في تجربة استماع عميقة حيث لا يعود هناك شعور بالتباينات بين الصمت والكلمات. في مسرحية ضباب الله Brume de dieu، التي تستغرق حوالي ساعة وثلاثين دقيقة، "هناك [...] حوالي ساعة من المسرح دون نص. وبالكاد نصف ساعة من النص". لا يدرك المتفرج ذلك: أن التحول قد حدث".
     وهكذا، فنحن في حضرة التجريب واستخداماته للتقنيات الجديدة مثل المسرح الجسدي والرقص والحركة والعروض متعددة الوسائط واستخدام الفضاء بطرق غير تقليدية من دون أن ينسى مشاركة الجمهور الذي يُدعى في الغالب للتفاعل مع الممثلين أو حتى المشاركة في العرض، فهو يسعى إلى إثارة التساؤل والتفكير لدى جمهوره. وهذا يعني أنه يستكشف القضايا المعاصرة ذات الصلة، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو وجودية. لهذا السبب ربما نجد أن هذا الكتاب يذهب إلى قلب الزهرة مباشرة، أي أنه يتوجه مباشرة إلى التجارب المسرحية، وتحليلها فكريا وعمليا، عن طريق نماذج إخراجية مختبرية وبحثية، تشكل في شكلها ومضمونها، عناوين بارزة في مسار المسرح المعاصر الحالي.
 
  د: محمد سيف / باحث ومخرج مسرحي عراقي يقيم حاليا في باريس