تشرين2/نوفمبر 28
   
 
مقدمة:
   في عالمٍ تتقاطع فيه حدود الخيال والواقع، تطالعنا قصة "خالي فؤاد التكرلي" بوصفها خطابًا أدبيًا متشظيًا يقدّم محاكمة رمزية للأدب، وللكاتب، وللسلطة الثقافية. هي قصة تتناص مع قصة أخرى داخلها ("التنور")، وتبني حبكتها على مساءلة الواقع من خلال السرد. القصة – بتقنياتها ما بعد الحداثية – تُسائل المفاهيم السردية الكلاسيكية، وتعيد تشكيل العلاقة بين الكاتب والسارد والمتلقي، وتدمج بين التمثيل الأدبي والعدالة الجنائية والعشائرية. في هذه الدراسة نحلل أهم المحاور التي تجعل من هذه القصة نصًا مركّبًا، يتشابك فيه السرد مع الجريمة، والهوية مع الذاكرة.
ــــ السارد كمجرم: من التمثيل إلى التلبّس تُسائل القصة حدود السرد حين يتحول السارد إلى متّهم. فالمتكلم في القصة ابن القتيلة، ويتهم خاله فؤاد – القاص المعروف – بقتل أمه، لا بفعل مباشر، بل عبر تمثيل الجريمة في قصة "التنور". السرد هنا لا يُعدُّ محايدًا، بل فاعلًا ومحرّضًا. وبهذا، تنتقل الجريمة من حيّز الفعل المادي إلى الفعل السردي، وتصبح الكتابة نفسها أداةً لإعادة إنتاج العنف. ((يقول خالي في قصة التنّور:
سادتي الحكّام، أنّي بريء من هذه التهمة، فقد قتلتُ فرحة زوجة أخي عبد الحمزة لأنها كانت زانية، لقد فاجأتها وهي متلبّسة، لأن الشرف غالٍ، وقد جرت العادة أن يُغسَل بالدم، لذلك حشوت بندقية الصيد المبرزة أمامكم، وأطلقت عليها النار مرة واحدة وهي بحالة تلبّس...)).
لا يدّعي الراوي أن الجريمة حدثت فقط في الواقع، بل يقدّم القصة المنشورة سابقًا بوصفها "اعترافًا" مباشرًا من القاتل/ السارد. وهنا تبرز إشكالية العلاقة بين السارد الضمني (في قصة التنور)، والكاتب الواقعي (فؤاد التكرلي)، والراوي الحالي (ابن الضحية). إنّهم جميعًا يتناوبون الأدوار في محكمة رمزية عنوانها: من يملك سلطة تمثيل الجريمة؟
الميتاسرد ومحاكمة القصة داخل القصة تعتمد القصة على تقنية الميتاسرد، إذ يحكي الراوي محاكمته، لكنه يعود مرارًا إلى قصة "التنور" بوصفها أصل القضية. التكرار السردي المقصود للنص السابق، واستدعاؤه في المحكمة كدليل إثبات، يكشف عن إدراك عميق بأنَّ السرد ليس مجرّد محاكاة للواقع، بل فاعل فيه. وفي هذا السياق، فإنّ إدخال نص أدبي داخل النص يُفجّر علاقة القارئ بالقصة، ويضعه أمام مفارقة أخلاقية: هل يمكن إدانة الكاتب على ما يكتبه؟ وهل يُحاسَب الأدب بوصفه فعلًا واقعيًا؟
هذا التشويش في الحدود بين السردي والحقيقي يمثّل واحدة من أهم سمات ما بعد الحداثة، حيث تنهار الفواصل بين الأجناس، وتتعدى القصة دورها الفني إلى أن تكون حلبة صراع بين الأنا والآخر، وبين الكاتب والقارئ، وبين العدالة والتمثيل.
الجريمة، الشرف، والعرف العشائري من المثير أنْ تُبنى الحبكة السردية على قضية "شرف" في المجتمعات التقليدية، وهي التهمة التي بُني عليها مقتل "فرحة" في القصة الأصلية. ((كيف أنّها رأت القتيلة فرحة نائمة مع شخص غريب، وهي تمارس معه فعل الزنى، فجاءت إليّ توقظني، فارتديت ثيابي وخرجت استطلع الخبر، عندئذ رأيت فرحة تهيئ التنور، هكذا تمّت الأمور فعلا، كانت السماء بيضاء والتنور ثائرا يقذف حممه الحمراء، قالت لي فرحة، دون أن تستدير، شيئا عن الزنى والشرف والانتحار، كنتُ مرتبكا أمام حكاياتها، لكنَّ دمي فار بسرعة، فتناولت البندقية من حليمة ووجهتها نحو فرحة، ثمَّ ضغطت الزناد. أطلقت نحوها طلقة واحدة فقط)). الشرف يتحول إلى مفهوم ثقافي مشحون بالعنف والرمزية، ويتواطأ السارد مع ثقافة غسل العار بالدم، متذرعًا بتقاليد لا تفرّق بين العاطفة والعدالة.
ولكن في القصة الإطارية الجديدة (قصة المحكمة)، يتعرض الشرف ذاته للتشكيك. فالراوي – ابن الضحية – يرى أن والدته كانت تطبخ وتخدم القاتل (خالها) ((قتلها بطلقة واحدة، وهي كانت تخبز له في الفجر الرغيف الحار في قصته الشهيرة ذائعة الصيت "التنّور"))، ويصف قتلها بأنه فعل أدبي شرير لا أكثر، يهدف إلى تعزيز الواقعية السردية. هكذا، تنكشف خطورة استخدام مفاهيم مجتمعية تقليدية (كالزنى والشرف) كذرائع للجريمة، سواء في الواقع أو في الأدب.
ــ الناشر كضحية – تسييس الذاكرة وإشكالية النشر في تطور درامي حاد، يتحول النزاع من الخال القاتل إلى الناشر الذي قرر إعادة نشر قصة "التنور". هنا تطرح القصة إشكالية أخلاقية عميقة: هل يملك الناشر حرية نشر نص يعتقد أحدهم أنه يُهينه شخصيًا أو يعيد نبش ماضٍ مأساوي؟
يُصر الراوي على أن القصة تمسّه وتمسّ عائلته، ويطالب بسحبها أو اقتطاعها، وحين يرفض الناشر، يبدأ التهديد ((الأمر الذي دعاني لتحذيره أكثر من مرة في زياراتي المتكررة لدار النشر، وخيّرته بين سحب الكتاب، تلافيا لاستعادة ذكرى الجريمة بعد ستين سنة مضت، أو اقتطاع القصة من الكتاب، لكنّ الرجل لم يقتنع بكلامي ولا بتحذيري، بحجة أنّني لا املك تخويلا من خالي، حسب اعتقاده.)). يصبح الناشر رمزًا للثقافة المدنية التي لا تخضع للعرف العشائري، وهو ما يفاقم من حدة الصراع بين النظامين: نظام الثقافة والقانون من جهة، ونظام العشيرة والعار من جهة أخرى. ومع تصاعد الأحداث، يُقتل الناشر في ظروف غامضة، وتبقى هوية القاتل معلّقة.
ـــــ البنية السردية كأداة لمحاكمة السرد نفسه تنتهج القصة بنية المحاكمة، بدءًا من قاعة المحكمة، والمرافعات، والشهود، وصولًا إلى الحكم النهائي. لكنها في الحقيقة ليست محاكمة جنائية، بل محاكمة للنص الأدبي نفسه، ومحاكمة لشرعية التمثيل السردي. فحتى القاضي، وهو رمز العدالة، يتورط في لعبة التأويل، ويتأثر بالشهادات الأدبية أكثر من الأدلة المادية.
وتتضاعف السخرية عندما يُبرّأ المتهم الحقيقي، وتُدان شخصية ثانوية بناء على تغيّر في مظهرها الخارجي (شاربه). ((جاء شخص لأول مرة أراه في سوق الكتب، وسألني عن دار حروف للنشر، كما سألني عن المرحوم حسن وأوصافه، ثم غادر المكان، أما أوصافه فلا أتذكّر منها سوى شاربه الطويل الكث.
- كم مرة شاهدته؟
- مرة واحدة.
- إذن أنت القاتل.
قرار:
حكمت المحكمة ببراءة ابن الأخت، وتوجيه الاتهام إلى "علي حديد" الذي قام بحلق شاربه بعد شهر من الحادث الأليم.))  هذا الانقلاب العبثي في الحكم يشير إلى هشاشة العدالة حين تُبنى على رموز أكثر من وقائع، كما هو الحال في قراءة الأدب.
ـــــ التحليل النفسي، يمثل الراوي نموذجًا للذات الجريحة التي لا تنسى. فصوت الرصاصة لا يزال في أذنه، وصورة الأم وهي تخبز في الفجر لا تزال تلاحقه. هذا التوتر بين حبّه لخاله وكراهيته له، بين احترامه للأدب وغضبه منه، ينتج شخصية مشروخة، تتأرجح بين الانتقام والغفران ((ولأنّني ابن أخته المظلومة، سكتُّ في حينها عن جريمته بوصفه الخال، وكما يعرف سيادتكم، الولد -مهما بلغ- له الثلثين من خاله، وعندما كبرتُ وحاولت نسيان الحادثة، رغم أنّ صوت الإطلاقة يطنّ في أذني لغاية اليوم.)) هو لم يقتل الناشر، لكنه تمنى ذلك، وتخيّل نفسه فاعلًا. إنّ الراوي هنا ضحية خطابين: الخطاب الأدبي الذي شوّه ذاكرته، والخطاب الثقافي الذي جرّمه لأنه طالب بصيانة كرامته. وتنعكس هذه الازدواجية على القارئ الذي يجد نفسه حائرًا بين تصديق السرد أو رفضه، بين التعاطف مع الضحية أو الدفاع عن حرية التعبير.
ــــ تُعدُّ قصة "خالي فؤاد التكرلي" نموذجًا بارزًا للسرد ما بعد الحداثي الذي يفكّك الحدود بين النص والواقع، بين الكاتب والسارد والمتهم. إنها قصة عن الجريمة، ولكنها أيضًا قصة عن الكتابة بوصفها جريمة محتملة. تضعنا أمام تساؤلات معقدة حول أخلاق السرد، وحدود حرية التعبير، والسلطة الرمزية للكلمة. إنها دعوة لإعادة التفكير في طبيعة الأدب، ليس فقط كفنّ، بل كقوة تؤثر وتشكّل وتُدان أحيانًا.