
إلى الأستاذة عالية ممدوح المحترمة، محررة صفحة "من بريد القراء" في جريدتكم الغرّاء......
تحيّة طيبة وبعد:
عزيزتي الكاتبة المفضّلة والّتي احرص على اقتناء جريدتها كل يوم أربعاء من بائع الكشك الوحيد في الناحية. بودّي أن اعلمك أنّ هذه الرسالة هي الخامسة على التوالي التي أرسلها لكِ سيدتي، بدا لي أنّ رسائلي الأربع السالفة لم تصل إليك لسبب ما أجهله، وهذه المرّة الخامسة أرسلها لكِ عبر البريد السريع المسجّل، متحمّلًا عبء زيادة مبلغ الإرسال، لكنّه لا يهم. ستخبرني دائرة البريد حتمًا بوصول رسالتي لحضرتك.
سيدتي: ارجوكِ بمحبة بالغة للإصغاء إلى حكايتي وإدراك سرّها الكامن، لتقرري نشرها أو الاعتذار وهذا يكفيني، وهو أفضل لديَّ من الإهمال والصمت المريب، رسالتي خالية -هذه المرة-من كلِّ ما يمت لخدش زجاجة الحياء الهشّة التي تطالبين القرّاء بها دومًا، وفي كلِّ عدد، من الالتزام بالمعايير. حقّا لا اعرف معايير بعينها كي أتفادى الوقوع في فخاخها.
سيدتي الجميلة:
أنا شاب جنوبي ومن أقصاه تحديدًا، من ناحية بعيدة ربّما لم تسمعي بها قطّ، وفيما "ميزة الجنوبي" الخجل والارتباك في علاقاته النسائية وستعرفين ذلك حتمًا من خلال التواصل لاحقًا. أعيش في قرية صغيرة على حافة مدينة المنكوبة بفتكِ رجالها على الدوام. تُدعى مدينة المليون عريف، وفي اغلبهم من الجنود والعرفاء ونواب الضبّاط في أحسن الحالات، من الذين سيقوا إلى "حرب الشمال"، الكلُّ هنا متشابهون بالوجوه يوحّدهم الخجل الجنوبي، فالّذين سيقوا إلى محرقة الحرب لا يشبهون -بالمرّة- الذين عادوا منها منكسرين خائبين. فقدوا جذوة الحماس إلى الأرض والوطن معا. بينما الحزن هو ترنيمة النسوة الأرامل والثكالى من اللائي ينتظرنَّ عودة الأزواج سالمين من الأذى، مع انقطاع شبه تام لأخبار عودتهم. ليس سوى الاخبار المتناقلة من السعاة عن موعد خيالي لعودتهم في يوم ما.
اعمل في مهنة نادرة واكسب منها ما يكفيني. غير متزوّج ولله الحمد. أعمل وما زلت في تصليح زجاج البيوت المهشّم. هي مهنة نادرة تتطلّب الدقة في قصِّ وتركيب الزجاج بمكانه ولصقه بالمعجون، مهنة تعلّمتها من استاذي الذي ذهبَ إلى "حرب الشمال" مثل اقرانه، ولم يعد بعد. ينشط عملي في الشتاء وفي الليالي الباردة، خاصة بعد موجة هبوب رياح تشرين الباردة.
حكايتي وما فيها ذهبت مساء يومٍ ما لأصلح زجاج غرفة نوم لامرأة وحيدة في اقصى غرب جنوب المدينة. كانت امرأة من كرستال لمّاع يُغشي الانظار، لها دربة في غواية أبناء آدم المساكين. اكتشفتُ أنّها تعيش وحدها في بيت واسع من دون أطفال ولا من زوج يحتضنها عندما تشتد الريح وينزل الصقيع ليزيح أثر وحشة الليالي الباردة. شرعتُ في عملي بإصلاح زجاج عدّة نوافذ مطلّة على الشارع العام، يمنع عنها تيارات الرياح الباردة والزمهرير، وعندما أكملت عملي أخبرتني بأنّ البيت مازال باردا، وعليّ اصلاح نوافذ داخليّة أخرى في غرفة نومها. اكتشفتُ نافذة وحيدة كانت السبب في تيارات الهواء البارد. أغلقتها بقوة المتلهف كي تشعر المرأة بالدفء. عندما أتممتُ عملي تنهّدت وهي تشعر بالارتياح قائلة: "كم عظيم انتَ أيّها الدفء؟ سلِمتَ أيّها القروي كنت بحق باسلا في تدفّق الدفء والإخلاص في العمل". لكنّي وبصراحة تامة احسست أنّي قد اقترفت ذنبًا عظيمًا، احسستُ بخيانة الوطن والأرض وخدشت زجاج الإنسانية، كنت أنظر إلى صورة العريف معلّقة على الجدار تهتزُّ من البرد والخذلان. ثلاثة خيوط سود على كتفه تتناغم مع ابتسامته في الصورة المعلّقة. عندها قررت الاستغفار من الذنب العظيم، قررت ألاّ اعود إلى هذا البيت مطلقًا، حتى لو تهشّم كل زجاج نوافذه بل نوافذ المدينة كلّها. سوف يعود زوجها العريف وهو الذي يصلح النوافذ الأخرى المتبقية بنفسه. ارشديني ماذا أفعل سيدة عالية، والمدينة يزداد فيها الهشيم كلّ يوم؟ هل كنت خائنًا لوطني؟ هل اعود لها في الموسم القادم أم اكتفي بالذكريات عن تلك اللحظة؟ هل يا ترى سيعود العريف على صورته المعلّقة. حقًّا لا اعرف، وأحتاج النصيحة من حضرتك.
أقدّم شكري لك سلفًا وإلى ساعي البريد وإلى الأستاذ الصحفي المتدرّب "فاحص بريد القرّاء"، عسى هذه المرة أن تصيبَ الاطلاقة الطائشة هدفها)).
المخلص
ع. ر
*
يجلس حمزة "الصحفي المتدرّب" الشاب الطموح كل صباح وقبل بدء الدوام الرسمي على مكتب سكرتير جريدة (الراصد) وتلك هي أمنيته التي تحقْقت. كان يشعر بلّذة الانتصار على مقولة أبيه بحقّه كونه "الولد الخائب". مقولة يطلقها كلّما تطلّع له، يغرق في قراءة الصحف ويترك واجباته المدرسية.
تنحصر مهمة الشاب حمزة في فرز الرسائل الواردة للست عالية قبيل تحرير صفحة بريد القرّاء من كل اسبوع. يمر ساعي البريد على دراجة شائخة مسلولة ليفرغ جعبته من الرسائل الواردة كلّ صباح. رسائل ملونة ومعطّرة وأخرى كئيبة تنْقط حزنًا دفينًا بين سطورها. تلك المهمّة ليست يسيرة لمراجعة عشرات الرسائل كي يفرز ما يصلح منها للنشر واهمال رسائل الخط الرديء وحزمة أخرى من رسائل الهلوسات والخواطر الشاذة أو تلك الرسائل الجريئة عن تجارب الاغتصاب أو جنس السطوح البريء للمراهقين. يجمع حمزة ما يصلح منها مصنّفا إيّاها على وفق أبواب النشر قبل أن يعرضها على الست عالية. يضع عليها هامشه التقليدي ((لكَ مستقبل باهر في كتابة القصص)) أو يضع الهامش المناسب نحو ((تحتاج وقتًا طويلا كي تصبح شاعرًا))، أو ((عزيزي كنْ صادقًا في الكتابة)).
بعد ساعة وقت؛ تحوم سحابة العطر فوق أنف الصحفي حمزة فيدرك بالإحساس المتكرّر ذاته
ان الست عالية الأنيقة حضرت إلى مكتبها على وفق التوقيت الدقيق لباص الأمانة الأحمر والقادم من جهة الاعظمية إلى باب المُعظّم في ذلك الصباح التشريني البارد.
تجلس على مكتبها تخرج المرآة الصغيرة لتعدّل من تسريحة شعرها الكستنائي وتزم شفتها بعد أن تضع احمر الشفاه. يقدم نحوها حمزة - مصنّف الرسائل الواردة، ينتظر لبرهة من الوقت أمام مكتبها، كي ترتشف قهوتها. يستحمَّ بغمامة العطر التي لحست عقله وجعلته هائمًا بعلاقة حب من طرف واحد. شبح علاقة تكفيه لتنمية خيالاته في حجرته المنزوية تحت سلّم فندق الأمين في شارع الرشيد. كان يدرك تماما الفوارق الكثيرة بينه وبينها وهو المعدم الطموح والحالم الأمين على أحلامه مع تلك الحسناء الأنيقة والمتزوجة من رجل وجيه يدير إدارة الجريدة بخبرة ودراية. لكنّ تلك العلاقة فتحت نافذة أخرى حينما انفرد بمداعبة جسده في الحمّام ليتابع بشغف مسارات أخرى لخيالات جمّة مع عشيقته المنتظرة. فالخيال وحده من يتيح له ان يفعل ما يشاء معها من دون تأنيب ضمير كما حصل للسيد "ع. ر" في حكايته مع امرأة الدفء الحميم. تلك الحكاية التي حولتها السيدة عالية إلى قصة بعنوان "نافذة الدفء"، استفزّت بها حفيظة قرّاء الصفحة لشهور مترادفة من الردود المؤيدة والأخرى المعارضة أو المستنكرة لوقع الخيانة، حتى جاء اليوم الذي حضر فيه إلى مقر الجريدة شاب ملتحٍ يطلب مقابلة السيدة عالية، ويعلن صراحة أنّه هو صاحب رسالة حكاية الزجاج طالبًا النصح في استكمال حكاية الأسرار الدفينة، ليخبرها أنَّ الزوج العريف لم يعد وموسم البرد قادم على الأبواب لا محالة، فماذا يفعل ليتمَّ حكايته؟