لا شيء يحدث فيها، ولا يتوقف قطار، إذ لا يوجد ما يوجب التوقف أو يستحقه، بل يمر القطار نهاراً أو ليلاً، فتدوي صافرته بنغمة متفجعة طويلة يطلقها السائق، إشارةً أو تنبيهاً، فيزيد سماعُها وحشةَ من أضطر للعيش هناك في محطة صغيرة نائية عن أية مدينة أو أي طريق يسلكه البشر تسمى محطة حريج. يسارع الناظر المتوحد، آدم الأعرج، بالاتصال بالمحطة التالية ليبلّغ بمرور القطار. هكذا فقط يعلم أحد ما، شمالا أو جنوبا، أن آدم موجود، ورأى قطاراً، وأبلغ عنه.
هي محطة بعد أن انتهت أهميتها التشغيلية، اقتصرت أهميتها على السياق الشكلي فتسهِّل لعمالٍ يقومون بإدامة السكة في مكان قريب اتصالاتَهم أو استراحتهم وسرعان ما يغادرون، أو تحظى بإطلالة تفقدية لمفرزة تفتيش، أو كما حدث مرة أن توقف قطار الإدارة المكون من قاطرة كندية وعربة استراحة نزل منها مسؤول كبير كان آدم يعرفه منذ سنوات، قبل أن يصبح كبيرا، معرفة لم تكن تخلو من رفع الكلفة. مع ذلك لم يعجب آدم أن يلتقي به هنا حيث يعيش هو أسوأ حياة. ينزل الكبير من العربة يتبعه ثلاثة يرتدون ملابس أقل ما يقال عنها أنها مرتبة بعكس ملابس آدمنا التي لا تلقى إلا اهتماما أقصاه أن يغسلها بيديه، فلديه كل الوقت هنا ليفركها على مهل وهو يدخن، وينشرها لتجف ثم يرتديها غير مكوية.
تبادل التحية معهم كما تقتضي اللياقة، وبعد أسئلة من نوع "كيف الحال؟" و"هل هناك ما يتوجب عمله؟" ابتعد المرافقون الثلاثة وهم يتطلعون الى ما حولهم، فاغتنم آدم الفرصة ليخاطب صاحبه السابق، رافعا الكلفة كالأيام الخوالي، قائلا بصوت خفيض -" ما الذي جعلك يا بصاص تتوقف هنا غير ما يمكن أن تدعيه بأنك تفتش أو مشتاق لرؤيتي. كما ترى، ليس هنا غيري، وكما تعلم لم تُعيَّن معي موظفة فتأتي أنت لتستطلع إذا كانت جميلة وترى إمكانية أن ترتب تنسيبها الى مكتبك". ربما ذكّر أسلوبُ آدم صاحبَه بأيام بطعم اللالنكي الطازج في موسمه فتراءت ابتسامة على شفتيه منعها من التجلي في كلماتٍ اعتدادُه بمنصبه ووجود آخرين معه. أضاف آدم مضيقا عينيه ضاغطا الكلمات -" لماذا لا تلغون هذه المحطة ونِخْلص....."، وسكت لكن الرجل المسؤول الذي كان يرى في آدم منذ تعارفهما شخصا غريب "الطلعات" بين الحين والآخر استعاد وجهه ملامحه الجدية الرسمية وهو يرد بهدوء جاف -" أعرف أن عملك وحدك هنا أتعبك ولكن اصبر قليلا. لقد قدمنا طلبا بإقامة دورات سريعة في المعهد لتدريب شبان يتخرجون بعنوان معاون ناظر سأحرص على أن يعين معك أحدهم..." ثم أضاف بنبرة لا تخلو من مسحة استخفاف:" أنت تعرف يا آدم أنه لا يمكن الإلغاء فستكون المسافة عندها بين المحطة السابقة والمحطة اللاحقة لهذه المحطة أطول مما تنص عليه التعليمات فضلا عن مسائل أخرى منها أن فيها مباني للسكك...."، وشرح ما لا يحتاج آدم الى شرحه ومعرفته ثم استقل ومرافقوه العربة وتحرك السائق نافد الصبر بقطاره الأبتر على السكة نحو الشرق.
حقا إن من ينظر من نافذة القطار المار نهارا يمكنه أن يرى في المكان كل ما يوحي بكونها محطة من محطات السكك الصغيرة القديمة المأهولة التي بناها عمال هنود ذات زمن. المحطة مكونة من ثلاث غرف وخلفها مرفقات متصلة بها. أكبر هذه الغرف لها نوافذ يمكن لناظر المحطة أن يرى منها الى أبعد ما يستطيع من ثلاث جهات، والثانية تضم عُددا لم يعد يوجد من يستخدمها، والثالثة لكادر المحطة الذي ذهب ولم يعد وهي مقفلة منذ زمن بعيد. يقع خلف المحطة بخمسين مترا بيت للناظر وأربعة بيوت صغيرة متلاصقة مبنية على طراز البناء مقبب السقف لمعاون الناظر ومراقب السكة والحارس وموظف البرق وعوائلهم، كما هو مفترض. لكنها كلها فارغة ولا وجود لهؤلاء. ليس الكل تماما، إذا أردنا الدقة، فالحارس، وهو الوحيد الباقي معه، يأتي كل يومين أو ثلاثة بسيارة فيات قديمة جالبا له خبزا من بيته في منطقة ريفية ويشتري في طريقه من سوق أقرب مدينة، بنقود يودعها آدم عنده لهذا الغرض، ما يستعين به على صنع طعام لنفسه فيضع ما يجلبه في ثلاجة روسية من النوع المخصص للمناطق المنقطعة النائية وتعمل بالنفط.
لم يعد يوصيه بأن يجلب بطاريات لراديو اللمبات الإنكليزي الضخم العتيق الذي كان يشتغل ببطارية واحدة كبيرة وعمل أحدهم في زمن سابق لزمن آدم على تحويره ليمكن تشغيله بالبطاريات الحديثة. كان يقضي أوقاتا، وكل أوقاته فراغ، في الاستماع اليه ولكنه أخذ شيئا فشيئا يشعر بأن العالم الذي ينقله الراديو اليه ليس مريحا، ليس عالمه، بل قد يكون العالم الذي ينقل الحارس اليه أخباره هو أقرب اليه. يغادر الرجل العجوز ضحى اليوم التالي تاركا عنده كالعادة بندقية السيمينوف، وهي ليست بندقيته الشخصية على كل حال بل سلمت اليه من مشجب دائرة سكك المنطقة بوصفه حارسا وظلت مركونة في ركن من أركان غرفة الناظر لا يمد أي منهما يده اليها إلا نادرا بدافع الملل ويتفحصها ويمسحها من التراب بقطعة قماش ويركنها من جديد منتصبة على أخمصها في مكانها.
مع ذلك، مر زمن على المحطة لم تكن فيه محطة مهمَلة بناظرٍ مهمَل، بل كانت تضج بالعمال الذين يشرف عليهم مهندسون لإنشاء خط سكة يتفرع من المحطة يوصل غربا الى خط أنبوب النفط حيث كان مهندسون يشرفون على بناء منشأ ما عند الخط. لكن آدم الذي كان يكره أن يكون وحيدا تماما كان يكره أيضا أن يكون محاطا بالآخرين تماما، إحاطة فيها الكثير من الضجيج والمسؤولين غادين رائحين. واتته فرصة أثناء تغييرات إدارية أن يضع اسمه بوساطة صديق في قائمة النقل الى محطة مدينة جنوبية حيث يسكن أهله، وخطّط للزواج والاستقرار تخطيطا لم يُكتب له التحقق.
اندلعت حرب نجا بعرجه من السَوْق اليها. مرت أشهر الحرب بلياليها الظلماء ونهاراتها المليئة بالقلق حتى حلت ليلة فزع فيها آدم فزعا لم يفارقه بعد ذلك أبدا. صحا وأهله في منتصف الليل على صخب وأصوات عويل، فخرجوا ليطلعوا على الأمر فإذا بهم أمام منظر مهول، ثلاث سيارات أجرة في الحي كل واحدة تحمل تابوتا فيه ابن لعائلة من عوائل الحي قُتل في جبهة ما. تملكه الرعب وودّ لو كان وقتها في محطته القصية حيث لا يرى توابيت ولا يسمع عويلا. هكذا قدم بعد بضعة أيام طلبا بالتبادل مع ناظر محطته القديمة الذي تملكه السرور لهذه الفرصة المدهشة فوافق على الفور، وصدر الأمر الإداري.
وجد حركة الإنشاء في محطة حريج قد خفّت وأبهجه ذلك، غير ما لم يكن يتمناه أو يتوقعه هو أن العمل سرعان ما توقف كليا من دون أن يصل فرع السكة الى غايته ومن دون أن يكمل البناء عند خط النفط فالمجهود الحربي برأي الحكومة أصبح أولى بالإنفاق الآن، والحرب بها حاجة الى جنود. تتابعت الأوامر بالالتحاق الى الجيش وكان كل من يُسوَّق من كادر المحطة يخلي بيته ويذهب بعائلته الى مكان يراه أفضل لحياة عائلةٍ ربُّها في الجبهة، ولم يبق من الكادر أحد إلا الحارس العجوز، وحتى هذا، لأن الحارس الآخر الذي يتناوب معه الحراسة سيق الى الجيش أيضا، لم يرغب آدم أن يثقل عليه بواجب الحراسة يوميا فتركه يأتي كل يومين ليرى الوضع وما يحتاجه الناظر الذي أصبح يقضي الوقت وحيدا يقوم في النهار ببعض الاعمال البسيطة ويتجول حول مباني السكك، إلا أنه لا يدخل البيوت التي تفتح هوة في نفسه بفراغها. إنه لا يستطيع بأية حال مغادرة المحطة وترك العمل نهائيا إذ سيجبر بعد فترة، طالت أو قصرت، على العودة أو يلقى القبض عليه ويلصقون به تهمة تخريب أمني.
جلب آدم هذه المرة معه من المتاع واللوازم ما يمكنه من البقاء أطول فترة في المحطة ولا يأخذ إجازة إلا لرؤية الأهل حين يشتد به الشوق اليهم أو لقضاء أمر هام، وكان من بين ما جلب مجلات طفولته التي لا يزال يحتفظ بها وهي في حالة جيدة، سمير وبساط الريح وسوبرمان وميكي ماوس، وترك وراءه ما سواها من المجلات، والكتب، إذ بدا له أنه لم يعد يمتلك الرغبة، أو القابلية الذهنية لقراءتها، حتى لو كانت رواية شيء في صدري أو نحن لا نزرع الشوك، ناهيك عن أنها تثير في نفسه نزوات يفضل أن لا يعرض نفسه لها وهو هنا.
بقيت هذه المجلات هي أنيسه الوحيد، ومن بينها سلسلة قصص رحلات تانتان في أميركا والكونغو والصين ومصر الفراعنة وبحار القراصنة وأصقاع العالم الأخرى ومعه هذه الشخصية أو تلك من الشخصيات التي تشاركه خوض المغامرات برسوم البلجيكي هيرجيه البديعة، وهي مغامرات للدفاع عن الحق والدعوة الى الخير دائما. لم تكن بداعة الرسوم الملونة هي فقط التي تستحوذ على ولعه بمغامرات تانتان التي لم يخفُّ وقعها في نفسه حتى بعد أن قارب الاربعين، بل أن هذه المغامرات التي كانت تمتعه بخيالها المفرط في طفولته ومراهقته تملأ الآن فراغ حياته وتسليه في وحدته، فكما كانت تمثل له انطلاقا الى عوالم ساحرة آسرة هي هذه المرة تعويض عن الانعتاق من هذه الوحدة الموحشة.
الحقيقة أن البرية المحيطة بالمحطة تثير فيه، في الليل خصوصا، مخاوف كمخاوف الطفل الممتزجة بمتعة الإثارة النزاعة الى الاكتشاف، اكتشاف من النوع الذي يكون الخوف هو أحد الدوافع اليه، ويود لو ينطلق في هذه البرية ولكنه لا يجد في نفسه الجرأة، أو ما يسميه هو الدافع. ما الذي يتبقى له بعد أن تختفي الشمس وراء الأفق ساحبة نورها معها بلا مبالاة تاركة المحطة تنأى بعكس نأي النور متحولة الى نجمة بعيدة كابية وسط ظلام الليل. ما الذي يستطيع أن يفعله، وهو الإنسان الوحيد بين جدرانها خلف باب حديدي مقفل تقفيل الليل المحكم، سوى أن يتسلى بقراءة المجلات في غرفة الناظر، حيث فراشه وكل ما يحتاجه حبيس؟
لكن حيز الغرفة المضاءة بفانوس نفطي، إذا انقطعت الكهرباء، إضاءة خافتة، إلا أنها إضاءة قابلة للقراءة، وفضاء الليل المليء بكائناته التي تُرى ولا تُرى، وتُسمع ولا تُسمع، كائنات ماثلة لأحاسيس آدم في كل لحظاته الليلية، قد يتحولان، حيز الغرفة وفضاء الليل، الى صفحتين متقابلتين في القصة المصورة نفسها، وهكذا لم يعد نادرا وهو يقرأ متوغلا مع تانتان في أدغال أفريقيا وموليا أكثر منه اهتماما بالكلب الصغير سنوي ذي الشعر ثلجي اللون، والذي لا يستقر متقافزا هنا وهناك ويذهب أحيانا الى أبعد مما يليق بكلب ذكي مثله، لئلا يقع فريسة لضبع لابدٍ خلف شجرة، لا يندر أن يتناهى الى آدم، صوت صار مألوفا من كثرة ما تردد في لياليه، فيهز رأسه هزة المتوقع، فهذه الخشفة المتوسلة يعرفها... إنها لضبع . يرفع رأسه بتمهل العارف غير المستعجل لينظر باتجاه النافذة اليمنى من حيث جاءه الصوت، فيرى رأسا بارزا بشعر كشعر الجدي كالح السواد خلف الزجاج وقد زاد ضوء الفانوس خافت الصفرة ملامحه البشعة بشاعةً. لا ينهض آدم كما نهض عندما ظهر له أول مرة وذهب يومها الى الضبع ليقف مباشرة أمامه لا يفصل بينهما غير الزجاج ومشبك النافذة الحديدي، ويحجب بوقفته تلك انعكاس ضوء الفانوس على الوجه الليلي بعيونه الجاحظة، وينحني ليدني رأسه من الرأس الأكفش ويحدق فيه فيقرقر الضبع ويتأمل حافة النافذة على طولها ثم يعود ليبادل آدم التحديق وهو يقرقر، وعندما عاد آدم الى مكانه تحرك الضبع واختفى عن النظر ليدور حول البناية ويعود للنظر من النافذة المقابلة. لكن آدم لا يكترث له وقد يخفت ضوء الفانوس أو يطفئه تماما، فتتصاعد القرقرة أعلى من السابق وتنقطع لينبعث "عواص" منخفض، وبعد ذلك ينصرف، ربما ليس بعيدا بل يدور وهو يشم رائحة سنوي، فيلتفت آدم الى البندقية العامر شاجورها بالطلقات الخمس ويفكر، وهو آمن من الضبع إذ تفصله النافذة عنه بزجاجها ومشبكها الحديدي، بأن يصوب نحوه من خلال المصرع المفتوح ويطلق عليه النار فيقتله، لكن ما الداعي لهذا، فلا خطر من الضبع في القصة وسنوي يعود لسيده سالما دائما.
لكم تمنى أن يرى ذئبا يأتي ليشب مستندا الى النافذة ناظرا اليه بتطلع العارف أنه فريسة لا سبيل اليها فيما ينظر هو اليه بمتعة الممتنع يتأمل ملامحه الكلبية الأكثر ضراوة ويراقبه يروح ويجيء بحركات المحصور في قفصٍ قضبانه الشهوة الشرسة، لا يدور حول المحطة كالضبع حائرا ولا "يعوص" عجزا، بل يقرر أخيرا أن ينظر الى آدم نظرة المتفهم لمناعة خصمه ويستدير ويغادر، دون مراوغة أو حسرة، مِنْ أمامه مباشرة نحو الكثيب الترابي بعد السكة حيث الظلمة الكاملة تصلح بكمالها لعواء جهوري فخم القناعة وليس لنباح كلب خائف من أن يُداهَم فيفقد رأسه وإن بدا أنه يحامي، أو نباح الثعلب المتشبه بالعواء ولكنه تنبيه أو دعاء عاوٍ خاو.
مهما يكن من أمر فإن الحيوانات الوحشية التي يراها، أو تتراءى له، لا تظهر له نهارا أبدا، وكل ما يراه في ضوء النهار أبا الحصين أو أرولا مترجرجا أو أرانب تمر سريعا أو كلبا سائبا لا يلبث أن ينصرف بعد أن يعجز عن إيجاد ما يستحق البقاء.
قد يغلق المجلة ويضعها الى جانب الهاتف العتيق على المنضدة العريقة هندية الصاج التي طالما جلس اليها نُظّار محطات وهم جاهزون لأن يدق الجرس في أية لحظة ليُبلَغوا بقدوم قطار المسافرين أو البضائع فيهيئ عاملُ تحويلِ السكةِ الخطَّ إذا تطلب الأمر ويتأكد من أن كل شيء على ما يرام ليمر القطار بسلام. لكن الخط في محطة آدم لا يحتاج تحويلا أو تبديلا.
ما الذي ينتظره آدم إذن؟ اليوم كما كان الأمر دائما كل يوم.... لا يوجد مسافرون يستقلون القطار من هنا أو ينزلون كما في محطات أخرى حيث يتوقف القطار لينزل عدد منهم وتمتلئ المحطة ورصيفها بأصوات البشر وصياح الباعة وهمهمة القطار الحديدية وحركة مستخدمي المحطة. سينصرف كلٌ الى شأنه ولا يبقى أحد من المسافرين بكل تأكيد، ولكن المحطة تكون قد حققت معناها وأدت ما عليها في ليلتها.
نعم لا يوجد مسافرون.... لكن... لنكن منصفين، كان يوجد وايل زكم، الراعي البدوي وأهله في البرية وقد توجب عليه أن يلتحق بالجيش ليقضي الخدمة الإلزامية لكي يستطيع أن يتحرك ويدخل المدينة من دون خوف إذا احتاج التسوق أو بيع أغنام، لكن الحرب اندلعت فلم يُسرَّح. سأله آدم مرة -" أنت تلتحق بالجيش وقد تبقى شهرا أو أكثر لا تعرف أين أصبح أهلك في "الجزيرة" فكيف تستدل عليهم حين تأتي بإجازة؟" فأجابه وايل رأسا -" أماكننا محددة حسب المواسم وأعرف أين هم الآن، تقريبيا، وبقليل من البحث أصل اليهم".
يا لها من مغامرة تانتانية حقا... تطواف وايل في البرية وما قد يصادفه من مفاجآت غير سارة فيها، وهو يحمل مسدسا لا يتخلى عنه أبدا يخفيه تحت بدلته العسكرية حين يلتحق بوحدته. لقد خلق في داخل آدم تخيلات هي عنده لا تقل إثارة عن مغامرات الفتى تانتان، وهذا ليس من فراغ، فوايل حكى له عن مواقف صعبة حين يتأمل آدم فيها فيما بعد وهو جالس وحده يراها أحق بالإعجاب من مغامرات ذلك الفتى لأنها حقيقية، وعراقية. كان إذا صادف وصول وايل قبيل حلول الليل لا يجازف في التوغل في البرية المقفرة ويبيت في المحطة مع آدم وربما يكون الحارس موجودا أيضا وتكون تلك الليلة ليلة المسامرة حتى وقت متأخر.
يستيقظ مبكرا ويتهيأ للمغادرة فينظر اليه آدم الذي استيقظ لحركته غير فاهم سبب هذا الاستيقاظ المبكر، يدرك وايل ما تحمل نظرته من تساؤل فيقول له –" نعم، في هذه الأيام يكون الرعاة قريبين في الوادي الذي بعد خط النفط وقد أجد أهلي معهم فإن لم أجدهم سأعلم من الرعاة أين هم بالضبط".
كان وايل يتدبر أمره كل مرة بمساعدة أناس في المحطة المركزية ببغداد فيرجو مأمور سير القطار أو السائق أن يبطئ القطار في محطة آدم لينزل فيها.
في آخر مرة جاء بقطار بضائع وصل المحطة ليلا. رأى آدم القطار يتوقف ورأى وايل ينزل من باب القاطرة الخلفي فخرج فرحا للقائه. تبادل التحية مع السائق وبعض عبارات المجاملة فيما كان وايل ينزل ويتناول من مساعد السائق حقيبتين عرف آدم فيما بعد أن إحداهما ضمت فاكهة خصص بعضا منها له. بعد أن غادر القطار وتخفف وايل من بدلته وحذائه وارتدى دشداشة جلسا على مسطبة أمام غرفة الناظر يستمتعان بالهدوء وهبوب النسيم، وقد وضعا الصحن المليء بقطع البطيخ بينهما يتناولان منه ويتحدثان ويضحكان. فرح آدم جدا بهذا اللقاء غير المتوقع، بعد أن قضى ليالي طويلة وحيدا محبوسا في الغرفة ليس فقط خوفا من أن ينقض عليه حيوان مفترس وهو نائم بل أيضا خوفا من بعض الرعاة الذين قد يحدثون أنفسهم بأن يأتوا ويسطوا على المحطة وقد يؤذوه أو يسرقوا البندقية.
لم يتأخر آدم في استدراج وايل كالمعتاد للحديث عن البدو والبداوة وصولا الى ما يعيشه الساكن في "الجزيرة" من أحداث تثبت في الذاكرة ولا تمحي، كما حدثه مرة عما لقيه وأحد معارفه وهما متجهان الى قومهما في فلاة من فلوات بْصَيّه فوجدا أشلاء رجل مزقته الذئاب. عرفا من بقايا البدلة التي كان يرتديها أنه عسكري ربما كان جنديا مجازا وفي طريقه الى أهله مثلهما فوقع فريسة سهلة. تأملا البقايا البشرية في بدلة عسكرية ممزقة وبسطال جديد وعلى مبعدة مترين الحقيبة الزرقاء الرخيصة لم تسلم من التمزق أيضا فانكشف جانب منها عما يبدو أنها ملابس داخلية وأشياء شخصية أخرى. كان وايل يعلق قراب مسدسه بحزام تحت دشداشته، وفيما انشغل بإشهار مسدسه وهو يتلفت نحو الكثبان الرملية المتناثرة، قال رفيقه وهو يذهب نحو الحقيبة ويقف عندها :
-" لقد أخطأ بالسير وحيدا في هذا البر. لو أنه انتظر الحصول على صحبة... المسكين، ربما كان شديد الشوق للوصول الى أهله...".
-" فلنغادر هذا المكان فربما ترجع الذئاب، ونقع في مشكلة لا داعي لها....".
-" ألا نفعل شيئا بخصوص هذه الكومة الآدمية....".
-" ربما نصادف أناسا نازلين قريبا ونخبرهم..".
-" على رأيك.... فلنبحث عن هوية له أو شيء من هذا القبيل، قد يتعرف عليه أحدهم..." وانحنى ليفتش في جيبي الصدر حيث لم تتضرر البدلة كثيرا. وجد هوية وأوراقا وبضعة دنانير. نظر في الهوية وقال:
-" ربما يعرفه أحد...".
بعد مسير نصف ساعة صادفا ثلاثة من بيوت الشَعر لرعاة. تبين أنه ابن أحدهم فهرع من كان موجودا من رجالهم الى المكان ليجمعوا بقاياه ويدفنوه بينما واصل وايل وصاحبه طريقهما.
تمتم آدم –" ولا قصص تانتان مثلها...".
سأله وايل بارتباك –" ماذا؟ ماذا قلت؟ تا....".
-" نعم...."، وهز رأسه، فابتسم وايل صارفا النظر عن السؤال وقد خطر له أن آدم لا بد قد أصابه، وهو يعيش وحيدا، بعض الهدف.
-" كيف تتدبر أمر العطش وأنت تقطع مسافات طويلة من دون جود أو مطارة في الحر الشديد؟".
يقهقه وايل فهو يعرف أن آدم يسأل لمجرد أن يسمع حكاية:
-" قد يحدث هذا.... لقد صادف مرة أن عطشت وأنا سارح بالأباعر والشياه والماعز ولكن على مسافة من البيت ، ولم أكن أحمل معي ماء لأن الجو كان لطيفا بداية الربيع فلم أتوقع العطش. لم يكن ممكنا طبعا أن أترك القطيع وأذهب الى البيت فنزلت الوادي القريب الذي أعرف أن سيول الأمطار كانت قبل أيام تنحدر اليه وتحسست الأرض حتى عثرت على مكان حفرت الرمل بيدي فنبع الماء وشربت منه...."، وسكت قليلا ناظرا الى آدم ثم تابع قائلا -" هذه بسيطة. لكني مرة عطشت عطشا شديدا وأنا أسير ذاهبا الى بيت عمي. كنا في منطقة غرب الجزيرة وبيت عمي في منطقة أخرى تدعى إلِبْديهي. كان بالإمكان أن أتوجه الى المدينة وأركب سيارة ركاب تسلك طريقا خارجيا يمر من مكان هو أقرب ما يمكن اليهم، ولكني كنت أحمل بندقية هي جزء من مهر طلب مني أهل العريس أن أوصلها الى أهل العروس وهم جيران بيت عمي، وخشيت أن يأخذها مني، رجال انضباط أو شرطة في نقطة تفتيش، وربما يسجنوني أيضا، فقررت أن أذهب سيرا على الأقدام قاطعا طريقا مختصرا، بعيدا عن السيطرات ومراكز الشرطة الخيالة، ظانا أني سأصل قبل حلول الليل لكن يبدو أني لم أحسن اختصار الطريق. قضيت النهار أسير وعندما أجد في طريقي بيتا أطلب من أهله ماء إذا عطشت كما تناولت غدائي عند فلاح ليس بيته سوى صريفة وقد أصر على أن أتناول الغداء معه. لقد رأيت طعامه لذيذا رغم بساطته.... مرق طماطم وخبز حار..."
".. واصلت طريقي من دون توقف الى أن حل الغروب فوجدت بيتا مبنيا قرب نهر صغير حللت على أهله ضيفا. لم يفرشوا فراشي داخل البيت بل خارجه وقضيت الليل متمددا في الفراش تدور حولي الكلاب، ولكنها لم تقترب كثيرا مني وتضايقني فقد عَرَفتْ أني ضيف... نعم... توجد كلاب ذكية بمجرد أن ترى صاحبها يرحب بك تعرف أنك من معارفه أو ضيف. في اليوم التالي بعد أن تأكدت من الاتجاه الصحيح نحو إلِبْديهي من مضيفي واصلت طريقي. واجهت المشكلة بعد ساعتين من السير. لم تكن الأرض التي قطعتها صحراء بل أرضا شاسعة جرداء تنخفض وترتفع ولم أصادف بيتا أو شخصا في طريقي حتى هدني التعب والعطش. هذه الأرض لم تكن كمناطقنا التي نتجول بقطعاننا فيها ونعرف أين يمكننا أن نجد الماء بل هي أرض قوية كل ما رأيته فيها بركا صغيرة ماؤها خائس أزرق مخضر.... لم يكن مني عندئذ سوى أن أخرج منديلي وأفرشه على ذلك الماء وأضع فمي عليه وأمص... لكني لم أمص كثيرا فبعد رشفة أو رشفتين لم أعد أستطيع مص ذلك الماء المر ونهضت تاركا منديلي في المكان ومسحت فمي بردني مسحا شديدا...".
سكت ناظرا الى آدم الذي كان سارحا يفكر " لو أن تانتان يأتي الى بلادنا ليقوم بإحدى مغامراته هنا... "، غير أن سكوت وايل نبهه فالتفت اليه وعيناه مفتوحتان على سعتهما شاعرا بمتعة لا توصف. لقد ذكرته قصة وايل بقصة تانتان التي قرأها عصرا، تانتان وصديقه القبطان هادوك ومعهما سنوي في الصحراء وقد أضناهم التعب والعطش والجوع، ضائعين في الصحراء الكبرى شمال أفريقيا حيث لا أمل لهما سوى أن يجدهما أحد أفراد الفيلق الأجنبي الفرنسي أو بدوي، بدوي اسمه وايل من البربر، فينقذهم. تلألأت في عينيه الرغبة في سماع المزيد وهو ينظر الى وايل الذي لم يخيب أمله فتابع قائلا :
-" ... الطريف في الأمر أني وقد قدمت الى بيت عمي من جهة لم أسر فيها سابقا لم أدرك أني أصبحت قريبا منه ولم يتطلب الوصول اليه منى بعد أن تجاوزت أجمات من الأثل والكسّوب وبعض الكثيبات غير السير بعض الوقت.... أترى؟.... وأنا احتسيت ذلك الماء الذي جعلني أتقيا....". ضحكا. غير أن وايل أشار بسبابته منبها وهو يضحك ثم قال :" نسيت أن أقول لك أن أخي رشك، وهو أصغر مني، ذهب أيضا الى بيت عمي ولكنه لم يرغب في أن يذهب سيرا على الأقدام معي فسمحت له بالذهاب بالسيارات، ظنا مني أني سأصل مثله في اليوم نفسه، متأخرا عنه طبعا. دخلت المضيف الذي بناه عمي من الطين، إنه بمساحته أكبر قليلا من غرفتك هذه ومسقف بالجذوع وفوقها البواري. وجدت رشك هناك متمددا يتقيل وهو منعم بدلال زوجة عمي التي أشبعته خبزَ شعيرٍ حارا ولحما وبيضا مقليا بالدهن الحر منذ الأمس".
بعد تجوال بين تفاصيل الحكايات التي تعيده اليها تساؤلات آدم ران صمت الاكتفاء.
أطرق وايل قليلا وهو يمضغ متمهلا قطعة من لب البطيخ ثم رفع رأسه كمن يتوصل الى قرار بعد تفكير:
-" لن ألتحق بالجيش بعد.."؟
-" لماذا، لماذا؟ ألم تلتحق لتحصل على دفتر خدمة مكتوب فيه "خدم وتسرح"
ومختوم وموقع تحمله في جيبك وتذهب أينما شئت؟"
-" يبدو أن هذه الخدمة لا نهاية لها، وقد يموت الجندي قتيلا في معركة من المعارك التي لا تتوقف وبذلك يخسر حياته كلها و ليس دفتر خدمته فقط".
وقف آدم في الصباح الباكر يراقب وايل يسير مبتعدا، وقد علق كل حقيبة على كتف. عبر السكتين ثم اتبع انحناء السكة المتجهة الى أنبوب النفط خلف الأفق، وقبل أن يغيب عن النظر تماما توقف واستدار ناظرا الى المحطة والى آدم المستند بكتفه الى العمود الأوسط لسقيفة رصيف المحطة، ثم مضى مواصلا مسيره. في تلك اللحظة فكر آدم بأن لقاءاته بوايل، وهي لقاءات قد لا تكون محددة فقط بمروره عليه وهو في طريقه الى أهله إذ يصادف أن يزوره فيما بعد أثناء الإجازة إذا كانوا نازلين قريبا. ليس لديه ما يشعره بأنه يعيش في هذه الدنيا غير حكايات وايل وما يوصله اليه الحارس من أخبار، فهي تعطيه الفرصة بأن يدعي وجود أشياء تجعل الانتظار مقبولا وذا ملامح بشرية.
كما هو الأمر دائما لم يعد يوجد شيء حي قريبا منه الآن، ولا شيء يتحرك غير الريح تسفي بلطف التراب الناعم بين خطوط السكة وبمحاذاتها.
في ضحى اليوم التالي كان يقرأ لمرة لا يعرف عددها خلال حياته رحلة تانتان في أميركا بين الهنود الحمر الذين أمسكوه وربطوه الى عمود وكادوا أن يشبوا به النار إلا أنهم عرفوا أنه ليس كاوبوي أو من الجيش الأميركي بل فتى أوربي جاء الى أميركا ويحب التعرف عليهم ويتخذ لنفسه منهم أصدقاء أمثال الهندي الشجاع (الغيمة السوداء)، والقس جال المبشر الذي يعيش بينهم.
وضع المجلة وهي على فتحتها فوق المجلات الأخريات وهو يدمدم -" هذه القصص ليس مكانها هنا. لا شأن لتانتان بالمحطة كما لا شأن لي أنا بها؟ ولا شأن لوايل بالجيش؟ كلنا يجب أن نكون في مكان آخر تماما، معاً...".
نهض وأخذ يتمشى موليا ظهره الى المحطة. عبر السكتين. دار مع استدارة السكة الفرعية. اتخذ طريقه بخطوات متمهلة بالاتجاه الذي سار به وايل بالأمس. سار ناظرا الى ما حوله بينما كان العجب يستولي عليه شيئا فشيئا إذ أدرك لأول مرة أنه لم يخرج يوما من المحطة ويصل الى هنا. شعر بالراحة والرغبة بأن يرتاح أكثر مع انفتاح الأرض من حوله، انفتاح لا يضيقه عليه إحساسه بجدران المحطة وهيمنتها على عقله. الأرض السمراء الممتدة يمينا الى مسافة بعيدة تشكل أفقا يرتفع قليلا ليصعد جسرا متروكا لا يكاد يُرى من هذه المسافة يمر من فوق السكة، والأرض رخوة التربة بصفرة وجه بشري الى اليسار حيث ترتفع نباتات برية تطرز باخضرارها المغبر الانفتاح الأخاذ الذي مهما كانت حدوده فلا حدود له في القلب. أحس إحساسا جياشا في أعماقه بالحب لهذا العالم مفتوح الذراعين، وشعر يقينا أنه الحب نفسه الذي يأسر قلب وايل، ورغب بشدة في أن يتوغل في هذه الأحضان.
توقف فجأة واستدار عائدا بهمة قدر ما يسمح له به عرجه وهو يردد في نفسه –" ليس وايل بعيدا كما أظن، ومع ذلك سأحمل البندقية معي، تحوطاً، فكل شيء ممكن... سأنزل عليهم ضيفا وسيفرح وايل من دون شك، وأرى ماذا بعد...".
انقضى ذلك اليوم وتلك الليلة، أرسل خلالهما ناظر المحطة السابقة مذكرة الى قسم النقل بعدم استطاعته الاتصال بمحطة حريج للإبلاغ بمرور قطار مسافرين وقطاري شحن. لم يؤثر هذا عمليا على حركة النقل إذ مرت القطارات ولكن توجب من الناحية الإجرائية أن تصل الى المحطة في الصباح الباكر لجنة تفتيش بسيارة رباعية حديثة.
وجدوا الحارس الذي صادف لحسن حظه أن وصل المحطة قبلهم بدقائق. كان مرتبكا حائرا وحين سألوه أجابهم بأنه لا يعلم أين هو الناظر واحتاط أن لا تفلت منه كلمة تشركه على نحو ما في المسؤولية عما حدث أو يعرفوا أنه كان غائبا. قال بأنه بعد أن سهر الليل غفا قليلا وعندما استيقظ لم يجد الناظر، هذه هي إفادته. لم يكن آدم موجودا، لا في المحطة و لا في أي من الأماكن المتوقع وجوده فيها، والبندقية لم تكن موجودة أيضا. عندما جاءت الشرطة وقامت ببحث أوسع لم تتوصل الى العثور على آدم ولا الى استنتاج مقنع بخصوص اختفائه. عدّوه مجهول المصير وعدّوا البندقية مسروقة. لكن المسؤول الأمني رجح أنه ترك العمل قصدا وأخذ البندقية معه. قرر إصدار مذكرة الى كل الجهات المعنية مرفقة بصورته ومعلوماته الشخصية.
أثارت المجلات استغراب الجميع إذ لم يشاهدوا مثلها من قبل، وبعد أن تصفحها ضابط الأمن باحثا فيها عن معنى أمني " معقول" لوجودها هنا لم يجد شيئا فستر حيرته بابتسامة سخرية. ترك المجلات في مكانها، وبعد فترة، اختفت بدورها إذ تناقلتها الأيدي وأضاعها العبث.
لكن الذي لم يعرفه أحد هو أن تانتان، بعد أن مضى يوم على غياب آدم، قرر التوقف عن صراعه مع العصابات التي تصطاد جواميس الهنود الحمر والذهاب بدلا من ذلك للبحث عن آدم، وسار متتبعا آثاره مستعينا بخبرة صديقه (الغيمة السوداء) في اقتفاء الأثر.