مقدمة
شهد العقد الستيني من القرن الماضي جملة من الوقائع والأحداث المحلية والعربية والعالمية التي أحدثت تحولاً في البنى السياسية والاجتماعية والثقافية، فعلى الصعيد المحلي شهد المجتمع العراقي ضرب اليسار العراقي 1963 وعلى المستوى العربي شهد العرب نكسة حزيران 1967 وعلى المستوى العالمي حدثت تظاهرات الطلبة في كل من فرنسا وامريكا 1968 التي نقلت الغرب إلى مجتمع ما بعد الحداثة، الأمر الذي وضع الأدب على أبواب الحداثة الثانية القائمة على المنحى التجريبي اثر استجابة الأدب العراقي بكل اجناسه وانواعه لتلك المتغيرات والتحولات، وقد كانت نتائج ذلك التفاعل جملة من الظواهر على مستوى المضمون والشكل، أكدت على انعكاس تلك التحولات على المنجز الأدبي، وعلى مستوى الشعر ولدت عددا من الظواهر الشعرية الجديدة اتسمت بتجريبية واضحة ومؤثرة على مدى عقود لاحقة، ما جعل هذا الجيل ممثلاً ومؤسساً للحداثة الشعرية الثانية في الشعر العراقي.
فقد شهد الخطاب النقدي العراقي والعربي في العقود الأخيرة بروز مصطلحات جديدة سعت إلى ملامسة تحولات النص الأدبي في سياقاته الاجتماعية والسياسية بعدّها ظواهر نصيّة كظاهرة الاغتراب والقلق والتمرد وسواها، غير أنّ مفهوم الشعر الشعبوي ظلّ ملتبسًا بين دلالته الأدبية ودلالاته الأخرى المتصلة بالشعبوية السياسية، إنّ هذا الالتباس أسهم في غياب تكريس الظاهرة بوصفها اتجاهًا أدبيًا قائمًا في المشهد الشعري العراقي والعربي، ويأتي هذا البحث ليطرح سؤالاً نقديًا أساسياً: هل يمكن النظر إلى الشعر الشعبوي كظاهرة أدبية عراقية متميزة، لها سياقها وخصائصها ووظيفتها الجمالية والاجتماعية؟
لقد شكّلت التجربة الشعرية العراقية – ممثَّلة بمظفر النواب، وأحمد مطر، وموفق محمد – مختبرًا حيًا لتجسيد الشعبوية الشعرية في مستوياتها المختلفة، من الهجاء الثوري المباشر إلى السخرية السياسية الكاريكاتيرية، وصولًا إلى المأساوية التي تعكس انكسار الجماعة وتشتتها، إنّ اجتماع هذه التجارب الثلاث في فضاء واحد وباختلاف السياقات التي أنتجتها (المنفى، القمع السياسي، الحروب والحصار) يوفّر مادةً خصبة لتأصيل المصطلح وتكريس الظاهرة، إذ لا يمكن اختزال هذه التجارب إلى مجرد كونها خطاب جماهيري مؤثر فقط، وعلى الجهد النقدي العراقي أن يمنح الشرعية لوجود هذه الظاهرة، ومن هنا تبرز أهمية بحثنا هذا من جوانب ثلاث:
- نظرية: بتقديم مفهوم جديد يرفد النقد العربي بمصطلح لم يُؤصَّل بعد.
- تطبيقية: بقراءة نصوص شعرية عراقية في ضوء هذا المفهوم.
- ثقافية/ اجتماعية: ببيان علاقة النص بالمتلقي الجماهيري، وتجسيد الشعر كأداة للاحتجاج والتحريض والوعي الجمعي.
الشعبوية – من السياسة إلى الأدب
تعود جذور الشعبوية (Populism) إلى الخطاب السياسي الغربي في القرن التاسع عشر، حيث ارتبطت بالحركات الاحتجاجية المناهضة لهيمنة النخب الاقتصادية والسياسية، وقد أخذت الشعبوية أشكالاً مختلفة باختلاف السياقات السياسية والاجتماعية، لكنها تشترك في إبراز ثنائية الشعب/النخب، وفي توظيف خطاب مباشر يوجّه إلى الجماهير، ويضع الدكتور (عزمي بشارة) في كتابه (في الإجابة عن سؤال ما الشعبوية؟) بأنها (نمط من الخطاب السياسي، يتداخل فيه المستويان الخطابي والسلوكي بشكل وثيق ، وقد يتفاعل هذا الخطاب مع عفوية تقوم على مزاج سياسي غاضب لجمهور فقد الثقة بالنظام والأحزاب السياسية القائمة والنخب الحاكمة )(1) بعد معاينة دقيقة لنصوص الشعراء مظفر النواب والشاعر احمد مطر والشاعر موفق محمد في ضوء التعريف السالف الذكر فقد وجدت صدى هذا الشعر ماثلاً في نصوص هؤلاء الشعراء ، لذا صار بالإمكان ترحيل هذا المصطلح من الحاضنة السياسية إلى الحقل الأدبي الذي يخلو منه الجهد النقدي العراقي أو العربي لتأصيله وتكريسه كظاهرة شعرية ضمن ظواهر الشعر العراقي المعاصر ، ووفق ذلك وضعنا التعريف الآتي للشعر الشعبوي في ضوء ما تقدم من تعريف الدكتور بشارة وفي ضوء نصوص الشعراء ، فالنص الشعري الشعبوي هو ( خطاب شعري معاصر يتأسس على لغة قريبة من الوجدان الجمعي ، ويستند إلى آليات التبسيط الفني والتكثيف الدلالي ، يهدف إلى التعبير عن هموم الناس اليومية ومواقفهم السياسية والاجتماعية ، دون أن يفقد بعده الجمالي ) ومع انتقال المصطلح إلى المجال الأدبي، صار الحديث عن "شعر شعبوي" أو "أدب شعبوي" يشير إلى نصوص تحتفي بالجماعة الشعبية، وتوظّف لغة مباشرة أو قريبة من التداول اليومي، وتطرح قضايا الحرية والعدالة والهوية في مواجهة السلطة .
ولعل وجود مصطلحات مجاورة لمصطلح (الشعبوي) فإنه يواجه الباحث في الأدب العربي صعوبات مفاهيمية نتيجة التداخل بين هذه المصطلحات المجاورة، (الشعبوي، العامي، الشعبي، السياسي، التعبوي، المقاوم) وسنقوم بمحاولة لفك الاشتباك بين هذه المصطلحات عبر تقديم التعريف السليم لكل نمط وأدواته والكشف عن الفوارق الجوهرية المتعلقة بالبناء الداخلي لكل نمط كيما يتم ضبط المصطلح ودواعي استخدامه.
- الشعر الشعبوي
الموضوع: يعالج هموم الناس اليومية وقضاياهم السياسية والاجتماعية بلغة نقدية أو احتجاجية، موجّهًا خطابه إلى الجماهير لا إلى النخبة.
الأدوات: قد يُكتب بالفصحى أو بالعامية، لكنه يتسم بالبساطة والوضوح والإيقاع المباشر، مع حضور التكرار والهتاف وإيحاءات ساخرة أحيانًا ليؤثر بسرعة في المتلقي العام.
- الشعر العامي
الموضوع: يتناول موضوعات عاطفية واجتماعية أو وجدانية مرتبطة بالحياة اليومية وغالبًا لا يكون سياسيًا أو احتجاجيًا بالضرورة.
الأدوات: يُكتب بلهجة محكية محلية (بغدادية، مصرية، شامية...)، ويعتمد على الصور الشعبية والأمثال والتراكيب المتداولة، مما يجعله قريبًا من السامع.
- الشعر الشعبي
الموضوع: يعكس الموروث الثقافي والاجتماعي، ويعالج قضايا المجتمع الكبرى أو الصغرى، وقد يكون وجدانيًا أو اجتماعيًا أو تاريخيًا فهو وعاء للذاكرة الجماعية، ويهتم بالترويج والشهرة والانتشار.
الأدوات: يمكن أن يكون بالعامية أو بالفصحى، لكنه يستند إلى إيقاعات وموروثات فنية متجذرة (كالزجل، الموال، الابوذية...)، ويستمد كثيرًا من صوره من الثقافة الشعبية.
- الشعر التعبوي
الموضوع: يركّز على التحريض والتوجيه المباشر نحو هدف محدد، حرب/ ثورة/ تعبئة جماهيرية/ حملة أيديولوجية.
الأدوات: لغة خطابية مباشرة، شعاراتية، أحيانًا تخلو من التعقيد البلاغي، تهدف إلى استنهاض الحماسة وتحريك الجموع بسرعة.
- الشعر السياسي
الموضوع: يتناول شؤون الحكم/ السلطة/ الحرية /الاستبداد/ قضايا الأمة، وينتقد الأنظمة أو يمجّدها حسب الموقف .
الأدوات: غالبًا بالفصحى، لكن يمكن بالعامية أيضًا. يتراوح بين الرمزية (لتجاوز الرقابة) والوضوح المباشر. يتميز بالهجاء/ المفارقة/ التلميح التاريخي والسياسي.
.6 شعر المقاومة
الموضوع: يعالج قضايا الاحتلال والحرية والتحرر الوطني، ويرتبط بالمواجهة مع عدو خارجي غالبًا (الاحتلال الصهيوني، الاستعمار...).
الأدوات: لغة عالية ونَفَس ملحمي وصور مستمدة من التضحية والشهادة والانتصار ويوظف الرموز التاريخية والدينية، ويستند إلى خطاب تعبوي لكنه مؤسس على بعد إنساني ووطني شامل.
ولوجود إمكانية التعابر بين هذه الأنماط الشعرية إلّا أن هنالك فروقات جوهرية يختصّ ويعرف بها كل نمط وهي كالآتي:
الشعبوي: الاحتجاج الشعبي ضد الاستبداد أو الظلم الداخلي بلغة قريبة من الجماهير.
العامي: مرتبط باللسان المحكي، قد يكون عاطفيًا أو وجدانيًا.
الشعبي: مرتبط بالتراث الجماعي (أشكال وأساليب).
التعبوي: تحريضي مباشر لخدمة قضية عاجلة.
السياسي: معالجة قضايا الحكم والسلطة والنقد الاجتماعي.
المقاومة: مواجهة الاحتلال والعدو الخارجي مع بعد تحرري.
وبناءً على ما تقدّم فإن الشعر الشعبوي يتميّز عن بقية الأنماط، فهو ليس شعرًا بالعامية بالضرورة، وليس مقصورًا على قضايا السياسة بمعناها الضيق، ولا ينحصر في أفق المقاومة الوطنية، بل هو خطاب شعري يستمد شرعيته من انحيازه إلى الشعب بوصفه فاعلاً جمعياً، ويصوغ بلاغته على نحو يجعله قريبًا من المتلقي العادي، دون أن يفقد بعده الفني.
ووفق تعريفنا السالف، يصبح الشعر الشعبوي العراقي والعربي ظاهرة أدبية قابلة للرصد والتحليل، خصوصًا في التجربة العراقية الحديثة، حيث التقت النصوص الشعرية بظروف سياسية واجتماعية قاسية جعلت من الشعب مادةً وهدفًا للنص معًا، وبذلك فقد مثّل النص الشعبوي سردية صغرى/ مضادة إزاء سردية كبرى / النخبة الحاكمة.
نماذج إجرائية
ووفق التعريف الآنف الذكر للنص الشعري الشعبوي وبعد المعاينة النقدية لمنجز الشاعر الراحل موفق محمد كنموذج لهذه الظاهرة فقد وجدت ان تجربته الشعرية قد توزعت على ثلاثة مفاصل الاول فقده لولده في أحداث الانتفاضة الشعبانية عام 1990 وتولد عنها ديوانه بالعربان ولا بالتربان والثاني الحرب الأهلية الطائفية التي شهدت احداث الذبح على الهوية والمفخخات والعبوات الناسفة في أعوام الحرب الطائفية منذ 2006 وتولد عنها (فتاوى للايجار) والثالث الوضع السياسي العراقي المعاصر وما نتج عنه من مظاهر عرفها القاصي والداني والتي لامست فواعل الوجود الفردي والمجتمعي كالفقر والفاقة ومظاهر الفساد بكل مستوياته ، لذا فقد كان النص الشعري عند موفق قد تبنى كل تلك التحديات السياسية والدينية والاجتماعية ليخرج بمجموعة سمات اوجزها بما يلي :
- اللغة البسيطة، إذ يستخدم أسلوبا لغويا سهلا وبسيطاً ليتمكن من الوصول إلى أوسع الشرائح الاجتماعية، ولعل في ذلك تنازل عن القيمة الفنية للنص لصالح موضوعة النص وتوصيلها بشكل واسع.
- المواضيع الشعبية، إذ يتناول قضايا اجتماعية وسياسية تمس حياة الناس اليومية مثل الفقر والظلم والاستبداد.
- غالبا ما تتضمن نصوصه شخصيات رئيسية من قاع المجتمع والمهمشين.
- التركيز على الصراع بين الشعب والنخبة، ليعكس التوترات الاجتماعية والسياسية.
- استخدام الرموز التاريخية والثقافية للتعبير عن الهوية الشعبية.
- يقدم نقداً للأنظمة السياسية والاجتماعية لتسليط الضوء على مظاهر الفساد والتمييز بكل أنواعه.
إن كل هذه السمات الآنف ذكرها قد أسهمت في جعل نص موفق محمد وسيلة فعّالة للتعبير عن صوت الجماهير وآلامهم ومعاناتهم ومشاعرهم، وبذلك من الممكن عدّ نصوص موفق محمد سردية مضادّة لتمثل المهمشين الذين يعانون من شتّى صنوف الإقصاء والحرمان إزاء سردية كبرى تمثلها النخبة الحاكمة.
أما دلالة استخدام اللهجة العامية/ المحكية فهي تعكس لحظة احتدام شعوري وتفجّر وجداني فهو لم يكتف بالأسلوب الشعري الفصيح بل استخدم صوت الشارع الصادق المباشر، لكسر توقعات القارئ بهدف التأثير، وسنتلمس كل تلك السمات عبر تحليلنا للنماذج الشعرية التي توزعت تجربته.
"من رأى منكم عراقياً
فليذبحه بيده
فإن لم يستطع
فبمدفع هاون
وإن لم يستطع
فبسيارةٍ مفخّخةٍ
وذلك أضعفُ الإيمان
رواه القرضاوي ...
وهو يكرعُ دماءَ العراقيين
ويتمزّزُ منتشياً بأكبادهم
ففيها -كما يزعمُ - لذةّ للشاربين"(2)
سنقوم بتحليل النص السالف في ضوء خصائص الشعر الشعبوي التي تضمنها تعريفنا السالف، وهي ذاتها السمات التي اتسمت بها نصوص موفق محمد، فهذا النص المشحون بالمرارة، وهو دون شك من أقوى نصوص الشعر الشعبوي الاحتجاجي في شعر موفق محمد، نظرًا لجرأته الخطابية، وعمق التناص الديني الساخر الذي يوظفه الشاعر لفضح التواطؤ الديني مع سفك الدم العراقي.
فموضوع النص هو السخرية السوداء والاحتجاج السياسي، إذ يعتمد التناص الساخر مع الحديث النبوي الشريف: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". لكن الشاعر يحوّر الحديث ليصبح "من رأى منكم عراقيًا فليذبحه بيده.."
وهذا التحوير يشكّل مفارقة صادمة، إذ يُحوَّل الحديث النبوي الذي يدعو إلى مقاومة المنكر إلى منظومة تحريض على القتل ، وهو اتهام صريح للخطاب الديني الرسمي، ممثلاً بـ"القرضاوي"، الذي يُحمّله الشاعر مسؤولية شرعنة سفك الدم العراقي ، بعدّ هذا الخطاب سردية كبرىٰ تمارس دوغماتية بغيضة ضدّ من يتقاطع معها ولا يتقبل امتلاكها الحقيقة المزعومة، فالتناص مع الحديث النبوي ليس للقداسة بل للهتك والفضح ، فحين يصبح القتل دينياً لابد من مسائلة (المقدس المزيف) إذ أن جملة (وذلك أضعف الإيمان) استخدمت هنا للسخرية من قلب موازين الأخلاق وتشير إلى ذروة التهكم المرير. ومن سمات النص هو الوضوح واللغة المباشرة. والشاعر هنا لا يتعالى بلاغيًا، بل يلجأ إلى لغة خطابية مكثّفة وساخرة وواضحة ، كما ان الجمل القصيرة، تشبه البيانات السياسية أو الخطابات الشعبية ، وما أضفى على النص بعداً حسيّاً وتوثيقياً هو استخدام (هاون)، (مفخخة) أدوات قتل شائعة في الواقع العراقي، أما مفردات (الأكباد) و(لذة للشاربين) فتُحيل إلى صورة مرعبة من صور الفتك الوحشي، تذكّر بصورة هند آكلة كبد الحمزة عم النبي، لكنها توظّف ضد شخصية معاصرة، فتقلب التراث على ذاته، أما الوظيفة الاحتجاجية والتحريضية فإن النص يقوم
بمحاكمة دينية – سياسية – أخلاقية، لا عبر الجدل، بل عبر السخرية السوداء، وقد تكفلّت هذه الوظيفة بتفكيك خطاب الفتوى عبر تحويله إلى نص عبثي يدعو للقتل العشوائي، وتمثيل الصوت الشعبي المقموع، فالشاعر هنا لسان من لا صوت له، وناطق باسم ضحايا الفتاوى.
أما مظاهر الشعر الشعبوي في النص فقد تبدّت في اللغة المباشرة
الحادّة وقد اعتمدت على التناص والتهكم والسخرية لكشف زيف رجال الدين المتواطئين مع القتل
عبر الأسلوب الهجائي، والتفكيكي، الساخر من الخطاب المقدس
أما البلاغة في النص فإنها تقوم على التناص المقلوب والتصعيد الشعوري، إذ أن القيمة الجمالية ليست في الصور بل في الشحنة الأخلاقية والاحتجاجية
أن هذا النص يمثّل ذروة ما يمكن أن يُسمى (الشعر الشعبوي المقاوم)، إذ يشتبك مع السلطة الدينية المتواطئة، ويسخر من فتاواها، ويعيد توظيف المقدّس لإدانة سلوك غير مقدس، فهو ينحاز للضحية بلا تردّد ويجعل من الشعر محكمة شعبية مفتوحة على التاريخ والضمير الإنساني.
"بعد كل انتخابات
والمُشتكى لله
يصرخ العراقي وهو الملدوغ
دائماً وأبدا
(ما هذا بشرا)
أن هذا الا قفلٌ النور
ومفتاح للظلمة
وسكين في خاصرة الوطن المثبور"(3)
يُعدُّ النص السالف نموذجًا واضحًا على (النص الشعري الشعبوي) وهو ما يتطلب منا تحليلًا في ضوء خصائص هذا النوع من النصوص، سواء من حيث الموضوع أو اللغة أو الوظيفة.
الحمولة الدلالية للنص:
يمثل النص صرخة احتجاجية صادقة تعبّر عن خيبة الأمل المتكررة للشعب العراقي بعد كل دورة انتخابية، حيث يتم التلاعب بالآمال، ويُعاد إنتاج الألم. فـ (العراقي) هنا ليس فردًا عابرًا، بل رمزاّ جماعياّ يشير إلى المواطن العادي الذي يتلقى الصدمة تلو الأخرى، ويشعر بالخيانة من قبل من يفترض أنهم (بشر) أي ممثلو الشعب.
فالنص يعبّر عن صوت شعبي غاضب أمّا استخدام عبارة: (ما هذا بشرا) فإنها تضع من يُنتخب في موضع اللا إنسانية، بل في مقام الأداة القمعية: (قفل للنور، مفتاح للظلمة، سكين في خاصرة الوطن المقبور). كل هذه الاستعارات تصور السلطة المنتخبة كأداة للقهر بدلًا من أن تكون أداة للتنوير.
اللغة والأسلوب:
استخدم الشاعر لغة بسيطة مباشرة تقترب من الاستهلاكية، لكنها مشحونة بالعاطفة، وهو من خصائص النص الشعبوي، فضلاً عن الإيقاع الداخلي في التوازي بين (قفل للنور / مفتاح للظلمة) قد أعطى شحنة خطابية قوية، كما ان استخدام الصيغة القرآنية: (أن هذا إلا...) قد أوحى بالقداسة المفقودة ويكثّف الأسى، امّا عبارة (والمُشتكى لله) ذات طابع ديني شعبي قد عزّزت قرب الشاعر من وجدان الناس.
الوظيفة التعبيرية والتحريضية:
يحمل النص وظيفة تحريضية وتوعوية، فليس هدفه التأمل الجمالي أو اللعب باللغة، بل فضح الواقع، فهو شعر مقاومة داخلية يوقظ المتلقي ويدعوه إلى التفكير في فساد السلطة وآثارها، كما يشكل شهادة ثقافية على حال المواطن العراقي ما بعد 2003، وخصوصًا في ظل الديمقراطية الشكلية التي لا تغير من الواقع شيئًا.
وفي ضوء مفهوم (النص الشعري الشعبوي) الذي أشرنا إليه آنفا يمكن القول إن هذا النص ينتمي إلى الشعر الشعبوي الذي يخاطب الحس الجمعي بأسلوب بسيط، ويجنح إلى الشعاراتية المدروسة وليس الارتجال، كما انه يعبّر عن وجدان الجماعة المقهورة أكثر من الفرد الشاعر، لذا فنحن أمام نص شعري شعبوي بامتياز، تجلت فيه البساطة اللغوية والالتصاق بالواقع السياسي والوظيفة التوعوية التحريضية والتمثيل الرمزي للجماعة الشعبية المتألمة. إن هذا النوع من النصوص يعكس تحوّل الشعر إلى وسيلة مقاومة اجتماعية، لا مجرد أداة تعبير فردي، وهذا ما يجعل من موفق محمد واحدًا من الأصوات الشعرية الشعبوية المعاصرة البارزة في العراق.
"كان المساء دماً ينثّ
وحسرةً في قلب أمي
وهي تعتصر الحياة
فلا هواء ولا ضياء
أنصافُ أشباحٍ تجمع حولها
يندبنَ من جوعٍ وعازة
ثكلى نساءُ الرافدين
وهن في الرمق الأخير
فلا غذاءَ ولا دواء
كان المساءُ دماً ينثّ
وقلبُ أمي في الجنازة
كل الحياة مجازةٌ
والموت ليس له إجازة"(4)
يتّصف النص السالف بالغنى الدلالي ويصبّ في صميم مشروع (النص الشعري الشعبوي) لما يتضمنه من توظيف شعري للألم الجمعي، والانحياز للمهمّشين، خاصة النساء العراقيات المتروكات في هوامش الفقد والحزن، فالنصّ يصوّر مشهدًا داميًا من مشاهد الحرب أو الحصار أو التفجيرات، حيث المساء يتحوّل إلى دمٍ يُنثّ، وصوت الأمهات الثكالى يتردد في قلب الوطن ، فهو نصّ احتجاجي، ولكن احتجاجه لا يعلو بالصراخ السياسي، بل يُبنى على الوجع الداخلي الصامت للأمهات، وجوع الأرامل، وغياب الدواء، وكأن صوت النساء هنا هو صوت العراق بأسره في الرمق الأخير، فالشاعر يتحدث عن حالة فردية، بل يشيّد خطابًا جماعيًا موجّهًا من (أم) تمثل كل الأمهات، وكل الأنين الشعبي المسكوت عنه، وعبر اللغة البسيطة والعميقة في أن واحد فقد قدّم النص مجازات كثيرة وبلاغية مؤثرة من قبيل :
(كان المساء دماً ينثّ) فتشبيه المساء بالنازف يوحي بحالة مستمرة من الألم.
(وحسرةً في قلب أمي) تحوّل المشهد من الزمن إلى الذات، من الطبيعة إلى الألم الإنساني.
كما أن التراكيب المباشرة، خالية من الزينة البلاغية الفارغة وهو ما اكسب النص سمات النص الشعبوي، اما استخدام كلمات مثل: (أنصافُ أشباح، جوع، عازة، ثكلى، الرمق الأخير)، تكشف عن اقتصاد لغوي مكثّف محمّل بالرموز الاجتماعية والسياسية، أمّا الصور الشعرية الواردة في النص فهي ليست زخرفية بل واقعية-مجازية، فـ(المساء دماً ينثّ) صورة مكثفة عن الحروب اليومية، كأن الغروب ليس انتقالًا طبيعياً للزمن بل انسكابٌ للدم ، كما أن (أنصافُ أشباحٍ) توصيف بليغ للأطفال أو للنساء الذين لا يملكون إلا ظلال وجود، وهو تصوير مأساوي للذين أذلهم الجوع والعوز ، أما (كل الحياة مجازةٌ والموت ليس له إجازة ) فهي مفارقة شعرية شديدة القوة، تعبّر عن توقّف كل شيء إلا الموت، فهو حاضر بلا كلل .
لقد تجلّت في النص خصائص الشعر الشعبوي على نحو واضح عبر اللغة القريبة من الناس كاستخدام ألفاظ مألوفة وحسّية (جوع، دواء، حسرة، دم، جنازة). كما أن القضية الجماهيرية تبدّت في الحديث عن معاناة نساء العراق، الثكالى والجائعات والمحرومات، كما ان البنية السردية النص تحاكي مشهدًا واقعيًا متخيلاً لا يحتاج إلى الزخرفة البلاغية التقليدية فلا وجود للطباق، أو المقابلة، أو المبالغات المعروفة، أما التحريض/ الاحتجاج الضمني فقد كان إدانة صامتة للواقع دون شعارات مباشرة
الرمزية الجمعية (أمي) كرمز لكل أم عراقية، و(المساء) كرمز للانهيار الكلي، أما النهاية فقد كانت صادمة ومفتوحة (والموت ليس له إجازة) حيث تُختم القصيدة بجملة تحطم الأمل وتثبّت المأساة في ذهن المتلقي.
ويمثل النص وثيقة شعرية احتجاجية، ترصد المأساة لا من موقع المحلل السياسي، بل من موقع الشاعر الذي يقف مع الأضعف، كما يُبرز المرأة/الأم بوصفها مركزًا للتجربة الوطنية: ففجيعتها تختصر ما حدث للوطن كلّه. ويتضمن إدانة ضمنية للسلطة والظروف السياسية والاجتماعية التي جعلت الحياة (مجازة) والموت مستمراً.
لذا فنحن إزاء نصّ شعري ينتمي بعمق إلى الشعر الشعبوي الذي يُعبّر عن الوجع الجمعي بلغة قريبة من الوجدان الشعبي، لا يهادن ولا يجمّل، وينهض بدور نقدي من داخل التجربة اليومية القاسية.
ويوثّق بالصورة البسيطة الموجعة انكسار (الحياة) في مواجهة الموت المجاني، وهو تصوير للوضع اللا إنسانية الذي كان يعيشه الفرد العراقي تحت ظل الديكتاتورية البغيضة التي سادت على مدى أكثر من ثلاثة عقود.
أخلص من كل ما تقدم من كشف لخصائص النص الشعري الشعبوي بعدّه ظاهرة تضمنتها تجربة الشعر العراقي المعاصر، وقد تجلّت تلك الخصائص في واحد من أهم الشعراء الممثلين لهذه الظاهرة وهو الشاعر الراحل موفق محمد إضافة للشاعر الراحل مظفر النواب والشاعر احمد مطر. ليكون النص الشعري الشعبوي ممثلاً للسردية الصغرى/ المضادة المتصدية لخطاب السردية الكبرى أياً كان نوعها، عبر الاحتجاج والتحريض والتعبير عن معاناة الشعب وهموم المهمشين وفضح مظاهر الفساد بشتى أنواعه، لتتحول التجربة من الذات إلى الموضوع لاعتبار أن الشاعر هو جزء من خطاب السردية المضادة / الهامشية.
الخاتمة
يمكن القول إن الخطاب الشعبوي في الشعر العراقي المعاصر، كما تجلّى في تجربة الشاعر موفق محمد، يمثل محاولة لإعادة ربط النص الشعري بالهمّ الجمعي للناس، عبر توظيف اللغة اليومية البسيطة والرموز السياسية والاجتماعية المباشرة والسخرية المرة التي تعكس معاناة الواقع العراقي. لقد أظهر البحث أن الشعبوية في شعره ليست مجرد نزعة لغوية أو أسلوبية بل هي موقف فكري وجمالي يتوخى مقاومة القمع والفساد، وإعادة الاعتبار لصوت المهمّشين، وبذلك ينجح الشاعر في تحويل القصيدة إلى ساحة اشتباك حيّة بين الإبداع والواقع، وبين الجمالية الشعرية والرسالة الاجتماعية، إن هذه الخصائص تجعل من الخطاب الشعبوي تيارًا نقديًا وجماليًا يستحق مزيدًا من الدراسة والتأمل لكونه يعيد للشعر دوره في التعبير عن الوعي الجمعي وصياغة ملامح الاحتجاج الثقافي .
النتائج
من خلال ما تم بحثه في إمكانية عدّ الخطاب الشعبوي في الشعر العراقي المعاصر ظاهرة شعرية من ظواهر الشعر العراقي المعاصر، فإن البحث قد توصل إلى جملة من النتائج منها:
- أن ترحيل مفهوم (الشعبوية) من الحقل السياسي إلى حقل النقد الأدبي ليس مجرد استعارة بل فتح افق مفهومي سيتيح قراءة جديدة للشعر الذي يخاطب الجمهور العريض بلغة مبسطة ومشحونة بالعاطفة الجمعية، وفي سياق النقد العراقي والعربي سيكون طرحا جديدا لمفهوم لم يقف عنده النقد العراقي والعربي ولم يؤسس له بعد ليمثل ظاهرة شعرية جديدة.
- تأصيل المفهوم: تبيّن أنّ مفهوم الشعر الشعبوي لم يُؤصَّل نقديًا في الساحة العراقية والعربية، وأن البحث قدّم له تعريفًا إجرائيًا يميّزه عن المفاهيم المجاورة (الشعبي، العامي، التعبوي، السياسي، شعر المقاومة)، بوصفه خطابًا شعريًا ينحاز إلى الجماعة الشعبية في لغته وموضوعاته ووظيفته.
- الشرعية الأدبية: أثبتت الدراسة أنّ الشعر الشعبوي ليس مجرّد خطاب جماهيري عابر بل هو ظاهرة أدبية لها خصائص بنائية وجمالية تبرّر تكريسها في النقد الأدبي العراقي المعاصر.
- السمات الأسلوبية: تتحدد أبرز سمات الشعر الشعبوي في: لغة بسيطة قريبة من التداول اليومي دون أن تفقد بعدها الفني، حضور السخرية والتناص المقلوب والتكثيف الدلالي بوصفها أدوات احتجاجية، اعتماد البناء الشعري على التوازي والتكرار لإحداث إيقاع خطابي شعبي.
- السمات الموضوعية: ينصرف الشعر الشعبوي إلى: تمثيل هموم الشعب اليومية (الفقر، الفساد، الاستبداد)، ومواجهة السرديات الكبرى للنخب الحاكمة بخطاب مضاد يمثّل المهمشين، وإبراز شخصيات من قاع المجتمع أو من الهوامش لتجسيد الاحتجاج الجماعي.
- التجربة العراقية: وفّرت التجربة العراقية، بظروفها التاريخية القاسية (المنفى، الحروب، الحصار، الطائفية)، بيئة خصبة لنشوء الشعر الشعبوي. وقد مثّل مظفر النواب، أحمد مطر، وموفق محمد أقطاب هذا الاتجاه، مع اختلاف سياقاتهم.
- خصوصية موفق محمد: شكّلت تجربة موفق محمد مصداقًا ناصعًا للشعر الشعبوي من خلال توظيف العامية والفصحى معًا لكسر أفق التوقّع وفضح التواطؤ الديني والسياسي عبر السخرية السوداء وكذلك تصوير المأساة الجمعية (الأمهات، المهمشين، ضحايا العنف) بلغة بسيطة ووجيعة.
- البعد السردي: يقدَّم الشعر الشعبوي بوصفه سردية صغرى/مضادة في مواجهة السرديات الكبرى، وهو ما يعزز مكانته ضمن دراسات الخطاب والمجتمع.
- الوظيفة الجمالية/الاجتماعية: ينهض الشعر الشعبوي بدور مزدوج فهو من جهة خطاب احتجاجي تحريضي، ومن جهة أخرى نص جمالي يؤسس لبلاغة جديدة قائمة على الصدمة والسخرية والاحتجاج الجمعي.
الهوامش
(1) د. عزمي بشارة، في الإجابة عن سؤال ما الشعبوية؟، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة – بيروت، 2019، ص17
(2) الاعمال الشعرية الكامل (موفق محمد)، (فتاوى للإيجار)، دار سطور، بغداد، 2016، ص 287
(3) المصدر السباق، (مفاتيح)، ص 648
(4) المصدر السابق، (باب الأبد)، ص 116- 117