
مثلما شكك الغزالي بكل المناهج الفلسفية ومناهج الفحص الأخرى التي سلكها في حياته الفكرية، ايمانا منه بأنها لا تصلح للكشف عن الحقيقة المضاعة الى الأبد أو الوصول به الى اليقين وتنقل بين المناهج والأساليب حتى انتهى الى الحدس الصوفي، بوصفه أول الشكاك في التأريخ الفلسفي، يقف (محمد مهر الدين) على عتبة الشك الجمالي ويغرف من ضفافه بما تفرضه الرؤى الفكرية التي تقف خلف الخطاب المرئي. وأن العقل المعرفي الباحث عن الجمال الخالص مهما اختلفت منابعه، هو عقل شكي بامتياز يدور في فلك الأسئلة الكيفية الكبرى التي توصله الى أسئلة أخرى تتعشق بها حركة الفن بما توحي بها تلك الأسئلة وامكانية ايجاد الأجوبة بالصورة المرئية المجسدة أو المتخيلة، فضلا عن ضواغط العالم الموضوعي على ذاته المبدعة وأثر الفلسفة والآيديولوجيا على نظرته للعالم الخارجي وموضوعاته التي تقترن بالناس وهموم الوطن والقضايا الرئيسية، جاعلا التوسطية بين الفعل السياسي والرسم موقفا أساسيا في قناعاته ومسار اشتغالاته، ويميل الى مقاربة السياسة بطريقة غير مباشرة بيد ان انحيازه الى جماليات الفنون يبدو واضحا وجليا من خلال هواجسه ونزوعه المستمر في استثمار طاقاته الذاتية وموحيات سلطة الموضوع على تضمين خطابه بشكل عام بتلك الملاحظات التي ترده من مصارها المتعددة، يتبنى مفهومات عصره واللحظة الآنية والتفاعل معها بفهم واع لروح العصر الذي يحياه، ومن ثم التعبير عنه بصدق في فكرة الخلق الجديد ونظرية الانعكاس التي تمثلها طبقات المجتمع الدنيا ، بوصفها المعبر الحقيقي لجوهر الصراع الطبقي وارادة الخير التي تنتصر في النهاية والتقائها مع متبنيات (مهر الدين) الفكرية، اذ تتنازعه قوتان، اولاهما قوة فن الشارع الذي يلتقي احيانا بالفن الكرافيتي ذي النزعة الشعبية بما يؤديه الملصق السياسي من واجبات تحريضية احيانا كثيرة، محرضا للأفكار العامة والبنيات الكلية التي تحكم العقل الشرقي والعراقي على السواء وتشكلات الفن وقوته من جهة ثانية، حين تمتزج الموهبة النافرة بالتمكن الخلاق لينتجا معا اسلوبا صادما للذائقة في قوة البناء والتشييد الجمالي، وإزاء هذه الديناميكية أصبح (مهر الدين) دون أدنى شك واحدا من شيوخ الطرائق في صناعة اللوحة، بما استدرج عددا غير قليل من طلبته وأتباعه الى الدرب السالك للجمال المؤدي الى طرق الكشف عن المسكوت عنه في النظم الاجتماعية واساليب الاشتغالات الفنية.
ولعل فكرة توظيف الحرف والشخبطات لدى (مهر الدين) اقترنت بفن الشارع وبلوغه مديات بعيدة من التواصل والتجنيس ضمن ما افرزه فضاء ما بعد الحداثة الفني – وان اختلفت فاعليته وصياغاته لدى مهر الدين _ لكنه يلتقي بالأهداف والمرامي المقصودة، وهذا النمط قائم على الرفض والاحتجاج أيضا الذي ظهر في نيويورك كتأشيرة على وضع اجتماعي مفكك ومتشظ لفئة مجتمعية تعاني الكبت والفقر والحرمان، ارادت هذه الطبقة لفت الأنظار الى حالتها الاقتصادية المأسوية، اذ قام عدد من الشباب المراهقين بوضع رسوماتهم على جدران انفاق القطارات ومحطات المترو وأسطح عربات القطارات وجدران الأبنية العامة والخاصة ومركبات الشحن الطويلة، وبعبارات تعكس وضعهم كنوع من الاحتجاج على الأنظمة والقوانين والأعراف الاجتماعية، وهو تيار فني قائم في جوهره على الرفض الذي بدأ من لفت النظر الى الهامشي والمهمل واليومي وبدأ من الكتابات على دورات المياه والخربشات على الجدران، ومن ثم أصبح نمطا من الأنماط الفنية التي تحتفظ بعدد من الأسماء الفاعلة في الحياة التشكيلية، وان هذا الفن يجمع بين الصورة البسيطة او الكاريكاتورية والكتابات التي تعد معادلا موضوعيا للصورة وتتسق معها في فهم المعنى المراد، حيث انفتحت لحظة التلقي على مساحة واسعة حين ذهب الفن الى مواقع المتلقي وهجر القاعات المغلقة وأنساق العرض المألوفة، وعمد مهر الدين كما فعل الكرافيتيون الى استخدام بعض الخطوط المستعارة لتنفيذ علامات تعريفية لأسماء بديلة ومعان أخرى مشفرة يمكن الوصول اليها من خلال طاقات التأويل ومعرفة تفصيلية بمناخ التجربة الخاصة به وتراكمات الجنس الفني (الرسم)، بيد أنه نقل هذه المدونات النصية من الجدران والأبنية العمارية الى سطحه التصويري داخل مرسمه وداخل قاعات العرض.

تجربته متحركة لا تقف عند حدود في التعبير أو خصائص مذهب أو مدرسة فنية أو اسلوب، وذلك لتبدله المستمر والمقترن بتبدل حركية العالم، بيد أنه يحتفظ بجوهر الاشتغال على فكرته المقصودة والمستهدفة في خطابه ومنظومة اللون مهما تبدلت زاوية النظر اليها، تبعا لحركية الفكر والتحولات التي تشي بها تجربة العقود الثمانية من عمره، ولهذا فأن تمرحلاته الاسلوبية تنطلق من فكرة الشك ذاتها (بمعناها الايجابي) لتأخذ شكلا تعبيريا يتدرج عبر الدرس الأكاديمي والرؤية التأملية والقلق الداخلي الذي ينبعث من معطيات الفكر. وفي كل مرة تختلف نظرته الداخلية للأشياء الخارجية ويُجري تعديلاته الجوهرية على تمثيلها التصويري وتجسيدها في لوحته المرسومة وتتغير طبقا لهذه التبدلات التي تشي بجوهر جديد يقوم على اصل الفكرة ومعناها السامي. الشك الذي يذهب به بعيدا احيانا للتعاطي مع متغيرات كلية على صعيد الفكرة التي تضحو واقعة مادية حسية يمكن تلمسها والتفاعل معها على أنها ظاهرة ترتبط بأكثر من صلة ووشيجة مع ملامح ويوميات حياتنا وواقعنا المعيش.
وتيمنا بالأطر الفكرية السائدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حاول اقتحام الرمزية في أعماله الأولى وتفعيل دلالة الرمز على مستوى النظر الآيديولوجي مرة، وثانية من خلال مرشحات الوعي الممكن الذي يضيف الى الواقع صياغة جديدة تتجاوز الواقع الفعلي يمكن ان يتلمسها متلقي خطابه المرئي وتتكرس في سمات تجربته الذاتية التي تقترن بأسى الانسان وآلامه وصراعه الطويل من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية المفقودة الى الأبد. بيد أن تحولاته الأخيرة للتجريدية الخالصة التي استثمر فيها العجائن والطرق الكولاجية والتلصقية بما تمده بها الثقافة والتجربة البصرية ليلتقي هذه المرة مع معطيات الفن التفكيكي بمساحة محلية تعبر عن هموم وتاريخ معين، بيد أن واقعيته الجديدة في الرسم هي الأكثر واقعية لأنها لا تحتوي على واقعية انطلاقا من فكرة زيف الواقع التي رددها الفلاسفة ومنتجو الخطابات الابداعية، بل تشييد واقع مغاير ومفارق لحقيقة الواقع المعيش ، أو هو محاولة لاعادة تقييم العالم وموجوداته مرة أخرى بما يتلاءم مع طبيعة الحدث القائم وتشييد واقع آخر يمارس نفيه المستمر لمعطيات الحياة اليومية بمعناها الاستهلاكي، حتى يصبح الفن لديه لا موضوعيا خالصا يتلاشى فيه كل شيء ويترسب على هيئة كتلة ومادة تبنى منها الأشكال الجديدة في محاولة لتلمس الخطوة الأولى للابداع الخالص، هذه الأشكال الجديدة تعلن أن الفنان خطا بتوازنه والوصول من حالة التفكير المفرد الى تفكير مزدوج يجتمع فيه التفكيرين النفعي أو الجمالي والحدسي الماورائي الذي يمسك بالفكرة السامية.
من الملاحظ ان تجاربه الأولى منقطعة عن توصلاته النهائية في ضوء محاكاة الواقع واستعارة مفرداته التي تشكل نوعا من الاختلاف من حقبة لأخرى، فهو فنان متغير على الدوام، بيد أن مراحله أو منجزاته العيانية ليست نزوة عابرة او تقليعة، بل هي نتاج قناعات تفرضها سلطة الموضوع وجدل الأفكار وصراعها أمامه بما يؤثر ايجابا غلى فنه، فمهر الدين عندما يلتحف التشحيص يؤمن بأنه سبيل لتجلي أفكاره في تلك اللحظة، أو عندما يهرع الى التجريد بأشكاله المختلفة أيضا وضمن أحكام النسق الفكري الذي يعتريه عبر الأزمنة المتبدلة او الديمومة الخالصة التي تحتوي على ما هو موجود ومعقول، وما المادة والزمان والحركة الا شكل من أشكال الديمومة، وهذه الديمومة سيال دائم ومتجدد لينهل من هذا التبدل خطابا يحتكم لقيم الجمال، فرسوماته التي يحتفي بها (ديوان محافظة البصرة) مغايرة تماما لما تتسم به تجربته المتأخرة لإيمانه بأن للرسم وظائف تتغير بتغير اللحظة الزمكانية، فصور الاسطورة العراقية من الف ليلة وليلة ومجاوراتها في الحكائية ممثلة بامرأة مجنحة يلفها فضاء ملون بأزرق سماوي وهي تخترق الفضاء الى اعلى وعلى مسافة منها يعدو حصان بذات اللون كأنما يريد الوصول او يسبقها، لكنها تنتصر بفعل سلطة العقل والروح التي ترتفع بها الى سماوات الحلم، وغيرها من الأعمال التي تقترب من الواقعية التعبيرية. وهذا ما يشير الى بدايات تعالقه مع الحلم الملون وهواجس الانتماء الآيديولوجي الذي وضعه في جبهة الناس المهمشين وتبنيه المضامين الثورية التي انعشتها فاعلية حركات التحرر التي برزت في اكثر من مكان على خارطة المحيط. ولعل اعماله في سبعينيات القرن الماضي تشي بهذه الخصيصة التي تنعت بها تجربته مع آخرين، فقد صور جسدا انسانيا في حاضنة حديدية تظهر يد الشاخص من جانب تلك الحاضنة وهي ثيمة سادت في أغلب اعمال سبعينيات القرن مرافقة للمد الثوري آنذاك، كما اعمال الفنان الكويتي (سامي محمد) النحتية او تجارب (محمود صبري) وآخرون، تماشيا مع الظروف الموضوعية التي مرت بها الشعوب العربية بعد نكسة حزيران والصراع العربي الاسرائيلي، بوصفه صراعا انسانيا بامتياز.

وعلى الرغم من تحول تجربته مؤخرا الى التجريد الخالص، الا أن الحوادث الكبرى التي تعصف بأمن العالم تثير هواجسه لتجسيد ما يجب التعاطي معه من خلال رفض تلك الخطوات التي تقدم عليها القوى الكبرى وشرعنة الاحتلال العسكري او الثقافي، اذ اختار اسما لأحد معارضه (فوضى الحرب) الذي يدين فيه القسوة على الذات الانسانية، وكأنه يصل بخطوط سرية بين المعاصر والقديم ونبوءاته التأملية التي قدمها في السبعينيات عندما وسم معرضه بـ( حرب قذرة) المقام على قاعة الأورفلي بعمان ـ الأردن عام 1979 ولم تك اية حرب قد بدأت، وفي هذا لم يتخل عن تمرده الاجتماعي والسياسي والفني وكانت كلمة المعرض واشارته وصية للأجيال وللفقراء أيضا. فقد صور لوحة بيضاء عبارة عن جسد انساني تقطعه كف متوحشة خضراء معتمة الى نصفين مع آثار دماء واضحة، فيتبقى من الجسد اقدامه اسفل اللوحة والرأس المتشظي الى رؤوس عدة اعلى اللوحة، وهي ادانة واضحة للحرب التي ينعتها (تلك الحرب القذرة) وتجسيد ادانة ورفض الحروب والمآسي التي وقعت ويلاتها على مواطنيه ليكتب ملحمته البصرية مثلما كتب (بيكاسو) ملحمته الخالدة، ودان قسوة الموت على قريته (الجورنيكا) التي تمثل مجموع الشعب الانساني او الانسانية التي تهدمت قيمها امام لحظة تعنيف الذات وقسوة الموت وماكنته الشرسة.
لذا فإن (مهر الدين) يصطف مع عمله الفني بالجهة ذاتها، بما لا يحدث فجوة أو اغترابا بينهما على الرغم من اغترابه الروحي، حيث عاش حياته كلها مختلفا مع الآخرين، وكأن هذا الاختلاف عنوان ولائه لذاته. بمعنى أنه حاول تحقيق الألفة بين دواخله النابعة من ذات مفكرة وعارفة وبين الخارج الملبد بالخطايا، سواء كانت هذه الذات على قناعة بما تؤديه وتنتمي اليه من حيث التجلي أم رافضة له ليتحول عبر تجلياته التعبيرية والرمزية التي اعتمدها منذ ستينيات القرن الماضي وما تلاها، عندما ترك الفنانون البولونيون أثرهم على تحريك قواه البصرية أثناء دراسته هناك في وارشو وعاد محملا بأفكار عن تقانة لم تكن مألوفة سابقا في الرسموية العراقية. كانت تلك التقنيات فاتحة اختلاف (مهر الدين) عن سواه من الفنانين العراقيين في تلك المرحلة الصاخبة والضاجة بمحاولات التجريب وهواجس التفرد. هذه التجليات تحققت طبقا لمعطيات الواقع وخصوصية المرحلة قبل أن يتحول الى التجريد أو الغنائية التي تعتمد اللون أساسا في اظهار الفكرة؛ حيث المساحات اللونية المتعارضة والمتآلفة في الآن ذاته بما يحتضنها من علاقات تصميمية ينتج عنها انشطار اللوحة الى اشكال هندسية مستطيلة ومربعة، فيصبح المربع ليس شكلا مصدره دون الوعي، بل انه ابداع الفكر الحدسي ويعد وجه الفن الجديد، ذلك الذي يصفه (ماليفتش) "المربع طفل ملكي وحي" اشارة الى تكاملية المربع وقدرته التوليدية لانتاج أشكال جديدة إثر الانقسامات التي تحدثها الخطوط والألوان، ثم يحاول توشيح هذه الأشكال بأرقام وكتابات مختلفة وتواريخ تحمل دلالتها الايحائية في قناعة راسخة لدى الفنان في رفض طبيعة ذلك الخطاب الاستهلاكي المعادي لسيرورة الشعوب وفعلها الانساني واستجلاب المتلقي الى خطابه ضمن دائرة مرجعية واحدة تعمل داخل الوعي والتاريخ المشترك.
وقد تقترب هذه الكتابات والتكوينات الحروفية من الكتابة الآلية لدى السورياليين في بعض توجهاتهم لإدانة الآلة وتمجيد الانسان والنزوع الى استلهام همومه في التعبير التي تعد من محركات البحث الفكري لدى (مهر الدين) مع اختلاف الآلية التي نفذت بها المدونات البصرية، اذ عمد السورياليون الى استخدام الحروف والكلمات المطبوعة فيما استخدم (مهر الدين) الكتابة اليدوية بوصفها رمزا وآلية تعبر عن صيغ محلية او عربية لإكمال نصه البصري ببعض من نصوص تدوينية، بوصفها علامة أو ايقونة تحمل أبعادها الدلالية أو لتقويض البنية البصرية ذاتها في ضوء نماذجها المتعددة والمرفوضة لتشكيل بنية أخرى لها من البصري والتدويني مساحة التأثير نفسها مع الابتعاد عن المدون المباشر. أي النزوع نحو التشفير المعمق للبحث عن الحقيقة والكشف عنها واستبدال الواقع المرئي بآخر رمزي طبقا لمتطلبات سسيولوجية كبرى تفرض سلطتها على الفنان يستطيع تمثلها ومحاكاة جوهرها من خلال فعل الذات المتفردة واحلالها بدل المجموع الذي يبحث بطريقته عن الحلول التي ركن اليها في صياغاته الجمالية. بمعنى أن تصبح الذات هي المجموع في هذه اللحظة لتكون بمواجهة خصومة الواقع .
وهذه الصياغات الجمالية تقترن بالكيفية التي بحث فيها فن الرسم، بوصفها وسيلة من الوسائل الداخلية وتصنيفها في ضوء علاقات الداخل والخارج أو علاقة المثال بالواقع فأنه ينحى نحو الفعل النقي أو الصفاء المنشود في مسألة التعبير، لأن الرسم نمط فني مختلف في صيغه التنظيمية لإنشاء التعبير بصريا ومن ثم بيان آليات الاتصال والتلقي معا، اذ تقترب من المجرد والرمزي حتى وأن دأبت على ايجاد خطاب يحايث الواقع أو الطبيعة، ليصطف الرسم هذه المرة بجانب المجرد الخالص مثل الموسيقى او التجريدية الغنائية التي تعتمد طاقة اللون التعبيرية والتناسقية في السياق الهارموني، ويضحو اللون هو النسق الوحيد المهيمن في بث طاقته الدلالية في تأسيس الخطاب العياني، ما يعني الاختزال في الصورة والشكل والتخلص من شوائب الواقع وعوالقه او محايثاته والعمل على صيغ التكثيف الى اقصاها، ليصبح اللون هو النسق والبنية والعلامة لا غيره شيء في ضوء الأشكال الناتجة من تداخلات اللون ذاته. مهر الدين صانع ماهر يذهب الى اكثر انواع التجريب صعوبات عندما يلج تحليل اللون الواحد الى طبقاته المتعددة، ويجعل من هذه التدرجات منظومته اللونية الوحيدة، فالأزرق، والأخضر، والأسود والقهوائي انشطرت الى مئات الدرجات لتمنحنا احيانا قوة تعارض تصل للتضاد الحاد، وهذه لعبة المهارة التي يجيدها ويتخذها سبيلا للمغايرة الاسلوبية في تجربته الفنية.
يتبنى (مهر الدين) أنظمة علامية دالة توصله الى الهدف المرجو من فعالية الرسم والتعبير عما يحيطه أو يعتري دواخله، فيعمل على تراكم الأثر والمخططات الغائرة التي يحدثها على سطح، وبهذا النزوع فإنه يزيد الأثر أثرا من خلال عملية المحو. المحو ليس من اجل الغياب، بل من اجل حضور معنى آخر وبحسب (دريدا) فأن هذا الأثر يتأسس على امكانية واحتمال المحو، واحتمالية الانمحاء هذه تظهر نفسها في محو الأثر لكل ما يمكن أن يسهم الأثر في حضوره على الرغم من ان هذا الأخير يعزز وجود الأثر. ولذلك فإن تتبع مسار الأثر يطابق انمحاء الأثر في لوحة (مهر الدين) التي تحيلنا الى انتشارات وتشتت متعددة للأثر نفسه بحسب موضوعها ومرجعها الفكري والاسلوبي أو الاجتماعي والايديولوجي. وقد يبني لوحته على سطح تظهر فيه آثار انقطاعات في جسد اللون أي بمساحاته اللونية، وليس بالطريقة التي كان يوظفها (آل سعيد) بطريقة الثقوب والخرم، فتخلق خروق تستوجب الملء عبر مفاتيح يبثها في فراغ اللوحة يلتقط المتلقي دليله منها، وهذه المفاتيح تكون أحيانا من مستوى إشاري سطحي يشكله حشد من العلامات المقروءة، وغير المقروءة (مضمرة) الدلالة كإشارة الإلغاء آو الرفض (x) ثم اكتسحت الإشارات المقروءة سطح اللوحة بشكل عبارات لغوية ذات معان محددة، آو حروف مقروءة عربية ولاتينية لا تشكل نصا ذا دلالة لغوية، وقد تكون إشارات كاليغرافية صورية مستلة من نمط من الكتابة البكتوغرافي أو (الكتابة التصويرية) التي تمزج بين الخط العربي والرسم، وعلى الرغم من أن اختياره لتلك العلامات كان اختيارا واعيا في أحيان كثيرة، إلا انه يدخلها مختبره الشكلي لتتحول إلى إشارة شكلية تنتمي إلى شيئية اللوحة، وعناصرها الشكلية وليس إلى نص لغوي مدون قابل للقراءة كما هي حال أعمال الخط العربي المقروءة، على الرغم من انه يهدف من نمطي العلامات نقل إحساسه بالرفض وفوضى الواقع للمتلقي بشتى هذه الوسائل (البصرية(. فمهر الدين يهوى الذهاب الى الخلاصات النهائية دون شروحات او توقفات وسط فعالية تصير النص البصري لديه، يحمل ضجيجه الداخلي مقابل بساطته وهدوئه الخارجي المتأمل لجوهر اللحنية وانصاته للموسيقى العراقية، حين يستمع الى اغاني العقد السبعيني وشجنها المعروف حين يجتمع بمن يحب من الأصدقاء في ليالي بغداد العابقة بمثل هذه الفعاليات الحميمية، وما تفرضه لحظة الانتشاء من العروج الى المصائر المثالية العالية والأق الروحي إزاء التفاعل مع معطيات موسيقى الشعر والشجن الذي يتحسسه في أصوات المغنيين ليعكسه على تلوينات سطحه التصويري بدرجات ذلك السلم الموسيقي السبع، وتصبح درجات اللون الواحد، وهو يتشيأ الى أشكال هندسية ومقاطع عرضية على اللوح الخشبي أو قماش اللوحة. مؤمن بتحويل تجربته الذاتية أو رؤيته الشخصية الى فهم جماعي يستجيب لهذا النسق التواصلي وتكون الذات المفردة بهذه الحالة معبرة عن الذات الجمعية ولا وعيها الكامن داخل البناء الاجتماعي المتعين، على الرغم من غياب الاشارات المباشرة في جزء من هذه التجربة.