أيلول/سبتمبر 12
   

تظهر ( امل) وكأنها مومياء بمعطفها السميك ودثار رأسها، المغطى بلفات من قماش وهي تحمل بيدها كتابا وتسير ببطء وحذر. يطل من الجهة اليسرى، المقابلة لجهة امل زوجها (باسم) من بين كواليس قماش سوداء وهو يسير باتجاه خزان (بلاستيكي)، يفيض منه الماء لتطفو على الارضية (كتب) مترامية. ونشاهد من شاهق مكتبة مائلة توحي بالسقوط على رأس ساكنيها محتشدة فيها، مجلدات ، وكتب ، ومخطوطات ، ونشريات متنوعة الاشكال والحجوم. يظهر باسم بمعطف اسود يغطي جانباً من جسده، ونصفه الثاني عارياً ، متجهاً الى خزان الماء ، ليغتسل ويرشق الماء بقوة على وجهه وقمة رأسه بطريقة هستيرية. تستمر حركة امل وباسم، بدوائر مرتابة حذرة، متوجسة من (المجهول) الذي يشكل تهديداً خطراً لمستقبل غامض، مخيف مرعب، ومن حاضر معاش مترد، تسرع امل لاسعاف باسم حين تراه يستشيط ألماً والتواء واختناقاً لتضع على (فمه) جهاز الاوكسجين للتنفس حيث تخرج من فمه سحائب دخانية متجانسة مع سحب (المكان) الغارق بالرثاثة والفوضى واكداس الكتب المتوزعة على (مقعد) في الخلفية قرب كرسي في اليمين واخر في اليسار تتوسطهما طاولة غارقة في لجة الماء والدخان وعطن الرطوبة وغبار السنين. (امل) تستمر بتدخين سجائرها بيد مرتجفة وتبتلع حبوب طبية لتداري مأساتها المرضية. وتدور حوارات متقطعة حين تتصل هاتفياً بطبيبة نسائية تتشنج وتصرخ بغضب لتكشف عن سر معاناتها بمقتل اخيها، الذي كان بعزفه الموسيقي ويغني (للحرية)، مستقطباً جمهورا من المنتفضين معه لكن تدهمه (شلة) لتحرقه وتصرعه، متفحماً. هذه المأساة جرت عليها الويلات والاسى والحنق، لذا تحاول اسقاط (جنينها) حتى لا يلاقي المصير الاسود الذي انقض على اخيها. مصير ظل يلاحقها في مصيرها الزوجي البائس الذي تعيش مفرداته مع (باسم) زوجها، الواقف ضد محاولتها اسقاط الجنين، ويتمنى لو كان لديه (الرحم) لحماه داخل جسده وروحه.. ثم تتعقد الصراعات وتتراكب ما بين الزوجين، حيث تقرر الخروج الى الشارع مغلقة الباب خلفها بقوة وكأنها تذكرنا بالبطلة (نورا) في مسرحية (ابسن): (بيت الدمية) تاركة زوجها وحيدا مع الامه وهو يردعها عن الخروج الى (شارع) تسوده الرصاصات الطائشة والفوضى الوحشية والاقتتال الجهنمي بين جهات مجهولة واخرى معلومة !! خوفاً عليها من موت محقق. باتت فجاج الارض ضيقة معتمة عليهما داخل البيت .. يسمع، صدى مأساوياً وكانه تمزق كوني شامل معاد . اراد المخرج ان يبين في العرض تنازع هذه المصائر الانسانية مع موت يحفها بمقام (دار الهوان) الذي يظهر للجمهور وهو اشبه بشكل يحمل ملامح المسرات. هذا البعد (السينوغرافي) الذي صممه (علي السوداني) بجدارة واضحة، وما تتخلله من زخات للماء وثقوب الخزان الذي فاضت به ارضية المسرح. وكذلك ما تتخلله من اصوات ومؤثرات موسيقية، موحشة شنيعة. يزداد عنفوانها مع تشابك افعال الشخصيات: امل (الممثلة رضاب احمد) وباسم (الممثل حيدر جمعة)، حيث تتراكب احداث العرض مظهرة لنا نوبات الغضب، وآلام المرض وسوداوية الشخصيات وهي تتلو حواراتها بتوافق صوتي ما بين الالفاظ وما تقتضيه محسناتها البلاغية من قدرة على تصوير معاني العذاب وكنايات، تغور عميقاً في الاحزان المستدامة، وتشبيهات، تقارب جمرات الروح التي باتت متفحمة بغصاتها وبخيالات، تصوغ (صورها الفنية) بضربات (الاسلوب الطبيعي)، الموغل بتطرفه عن الواقعية في تقديم جلد الذات بين البطلين حين يتداخل البعد (السادي) مع (المازوكي) للبطلين الدراميين، سواء في انفرادهما ام باتحادهما معاً سوياً باستعارات، تجعل لذة العرس ذكرى سالفة ومتحولة الى رماح واسلاك وامراض تشل شفافية الروح، لتحيل بهجتها الى خناجر وسيوف تنشب اظفارها بقلبيهما.

لكن البطل والبطلة يبتكران مثالب كل منهما يصبه كالرصاص على الاخر وهما رهن هوس حزين وانفجارات ينهمر فيها الدمع وزفرات الروح التي تصعد تارة وتهبط تارة اخرى لتجتمع فيها الاضداد، بصراع، ينتصر فيه عسر الحياة على يسرها. بعد ان تفككت عرى العلاقة الزوجية التي باتت تدعو للرثاء. وهذا ما يرسمه القول بحليته البلاغية وحالاته المفعمة بالاحزان والخيبات. اجاد الممثل: (حيدر) والممثلة: (رضاب).. مؤديان متطابقان مع متطلبات الدور ودلالاته الصادمة الموحية بما يكابدانه. وهما يجسدان ذلك، بالصوت، والهمس والصراخ والبكاء، بوضعيات الجسد والاشارات وتعبيرات الوجه، حيث يبلغان اقصى حد لما يرنو اليه المخرج، من تشكيلات فنية و( ميزانسينات ) تخص ابعاد الشخصية، وهي تهرع الى الفتك بقرينها الاخر او الاسرع الى انقاذه حين تراه يكاد يلفظ انفاسه (اختناقاً). هذا الخطاب الفني محمل باتجاهات كارثية مموهة بموقف سياسي وهجاء وفقر ومرض، وهي محمولات لمشاهد فنية متنوعة فيها الترادف، والتكرار، لحوارات متقنة الصياغة متناسبة مع اختلاف مشارب البطلين فكل منهما يتطلع الى فضح الفساد، وتردي القيم وانحطاطها وتمكين الفاشل الوضيع من أشرار القوم، على الرفيع من خيارهم، وشيوع الجوع والمذلة والحرمان، فالبطلان يستحضران بنقاشاتهما ضرورة انتصار شرف الانسان وحكمته على طيش الصعاليك وصواعقهم العاتية.

يهدف العرض الى تحول كلا البطلين الى ما يشبه الاعواد باستخدام البخور الذي يزيد شواظ حواراتهم المحترقة، عطراً طيباً وشذى مزداناً بحسن (البيان) المشرق رغم من عتمة الحوارات بين (نفسين) سويتين. يظهران العداوة لكنهما يضمران قطرات ندى تمكث في قاع الروح، نقية متسامية الى موضع العزة والشرف، متعالية على السفه والفسق والانحلال. وهما ينبذان التزلف وموبقات الوصوليين. كأنهما بعد هذا الصراع الذي طبع العرض المسرحي بطابع الحريق الملتهب بين زوج يريد ان تلد الزوجة طفلا، يحقق المسرات، وزوجة تسعى بإرادتها لإجهاض الجنين حتى لا يكابد مرارة الحياة المتخمة بالقسوة وظلم الانسان لاخيه، اذ نراهما في العرض في لحظة (الختام) يعاودان الحياة من جديد، اذ كلاً منهما ينتحي بجانبه.. يقترب تارة من موضعها وهي تقترب تارة اخرى من موضعه قرب خزان الماء، كما لو انهما يعاودان الحياة من جديد ربما ليخوضا جولة اخرى مع الحياة على الرغم مما ظهر منهما من تقريع احدهما للاخر فهما يهفوان الى السكون في بيت مزدان (بالكتب) والمعرفة حتى ان تجرأت عليه (النازلات) من خارج جدرانه لتجعل من الزوج (باسم) يقوم بجناية تمزيق الكتب ورميها في الماء. (لكن) ترجع (امل) بعد ان تركت المنزل لتعاود الحضور، بانتظار فجر جديد قادم.

 * مسرحية (امل) تقديم الفرقة الوطنية/ منتدى المسرح – بغداد

** مخرج وكاتب وناقد مسرحي عراقي، عميد كلية الفنون الجميلة الأسبق