أيلول/سبتمبر 13

 

 

ماذا أقول حين تفضحني أسرار الورد أو يرتفعُ ضبابُ النهر الخامل فأخرجُ من خلف الموج جسداً تكسوه الجراحات من كلِ جانب، لا شيء يحدثُ في النصفِ الآخرِ من الحكاية سوى أن الصمتَ الذي قد يرافقني نحو حقلِ الظنونِ حتماً سوفَ يتركني معرضةً لعواصفِ الصدفةِ، سوف أرحل وأتركُ لك هزائم في عينيكَ، وأكتب آخر نقوشِ المودة على الأصداف، أو أصلبُ كلماتك على مسلّة في ذاكرتي الطرية، ما كنت أعجز عن الإفصاح لك عن شعوري السامي في ذلك الوقت حين كنت أتابعُ حفيف كلماتِكَ وأنتَ تقول بصوتكَ الرصينِ : فَلنبدأ الدرس الأول، لكنني تركت لك شرفَ المبادرة وانتظرتك في ركني الدافئ ربما تأتي على مهل تحملُ طبقاً مملوءاً بالنجوم، أو تأتي على هيئة طيف أسطوري نبت له جناحان مرصعان بالمودة، أو تحمل قنديلا يضيء أول حلقات الشتات، هل كان من الممكن فعلاً أن تتجسد كقمرِ حزيرانَ في ليلةِ أعددت بها رسائل الشجونِ وأشعلت حولها شموعاً من رغبة أم أنك سوف تهرب بعيداً متلفتاً كلصوص الدجاج، لكنك لست لصا، أنا التي سرقت الساعات والأيام والسنين وأودعتها في كوخٍ من القش بنيته بداخلي في انتظار أن تجيء على غفلة تحمل بيدك باقةَ أمنيات وتقولَ بكل حُبور هذا هو المكان الذي تمنيت أن التقيكِ به.

لقد بعثت لك جميعَ رسائلي المعنونة بألفِ تجاهل، نثرت الورودَ في دربك وقلت عَلَّكَ تتعثر بأشواقي، لكنك لم تَعر لذلك أية أهمية وقلت لي بأنك آخر من يرتبط بشعورِ فتاة لم تبلغ العشرين من العمر، وأنا المعلمُ الذي تمرس على النظرات الثاقبة لطلابه، فأنا رجل لا أقفُ عند محطات ترفضُ نساءَ الريح، لديّ من الخبرة ما يجعلني أهوي واقفا أمام أبواب الرغبة، ولكن على الرغم من كل ذلك أردت أن تثبتَ بأن شعوري لم يكن على خطأ أو إنني اخترت الرجل الخطأ حين قلت لي ذات يوم أنني فتاة خرجت من وحي القمر، كان خجلي حينها يشبه مكعباتِ الثلج التي تذوب على مهل في دفء الكأس، لم أتذكر يومها متى حملتكَ بداخلي بذرةَ فرح نَمت وكبرَت إلى أن أصبحت جذورها مغلفةً بالريبة.

اليوم حين جلستُ على أريكتي الرمادية، رأيتكَ من خلال النافذة تتوارى خلف الغيومِ وكأنّ شيئا ما قد أحزنك، أو أنك قصدت ذلك حين تكلفت في اِطلاق ابتسامة مبللة على وجهكَ السارح، كان القمر الناضج يكشف كلّ أسرارِ الليل، يعطيكَ تصريحاً بالقدومِ لتقف قربَ ظلي، لم اكن أطمع أكثر من اِنكَ تخفف عني لحظاتِ القلق، تُهوِّن هذا الارتباك، أردتك أن تملأ فراغي وتحنو على طفلة قد بللها المطر، تعمل على إسكات الحاذقين أمثال صديقتي المقربة التي كشفتْ صورة مغايرة في ظنوني، تلك التي تمرست على كلمات الرجال الشهية وأطوارِهم العذبة، قالت وهي تطلقُ ضحكتها الماجنة أنك تلاحقها بإصرارك العنيد، تحاولُ أن تكونَ مجنونها أو تستدرَّ عطفها ولو بكلمة، لم أُصدق ذلك وأنت الذي رميتني بنظرات لم أحس بأنها مجرد عطف، أو لمحات اخترتها من خاناتِ الشرود، قلت لها بأن عينيكَ انعكس على سوادها الكواكب، فقد كانت نظراتك كفيلة بان تجعلني اكتبُ لك آلاف الرسائلِ المزركشة بشريط من الدانتيلا وأُذيلها بغصن زيتون وحمامة، وانتظر جوابك عليها جميعاً في حقل للصدفة حيث رياحٌ لا تمحو خطواتي نحوك، لكنك لم ترد ولو بحرف، نعم كنت انتظر منك كلمات تعيدني إلى كوخ القش منتصرة على أوهامي، أو أن تكسرَ جدارَ صبري فتشعلَ بالدروبِ المنسية نيرانَ معركتي المجهولة، لكنك أبقيتني على أرضيةٍ متصدعة عندما أحسست اِنكَ أرفقت كل رسائلي في أدراجك الخاوية، تمنيت في هذه اللحظة أن تمسح على خدي بعد أن افرغ من البكاء، أو تعيدني من محطة لا تمرُّ بها القطارات، لكنك بقيت ساكناً خلف السحبِ الرمادية تنظر اِليَّ بشفقة.

لم أتصور يوماً إنني سوف أتهاوى سريعاً على أرضيةِ مكسوة بالرماد، أو تحت ضوء منارة للسفن المثقوبة، حين رأيتك في اليوم الساخنِ وأنت تعدو خلف صديقتي المقربة تتوسل بقاءَها فيما هي ترتمي بأحضانِ رجل آخر، وآخر، وآخر، لم تقتلني لحظات الفقدِ في تلك المساءاتِ المروعة والترانيم القاتمة إنما الذي أجهز على آخرِ الأنفاس المقيدة تلك الوَداعاتِ المتكررة التي أراها في عيونِ مَن حولي وهم يتطلعونَ بنصفِ وجهي المحروق لأصبحَ من بعدها فتاة لا ترفضُ الدهشة وتكتمُ الأشواق في صندوق قد علاه الغبار، أو كفتاة أختفى نصفُ وجهها المضيء خلف انتحارِ قمر.