أيار 18
مع صدور هذا العدد، ستكون قد مضت ايام قليلة على الأول من أيار عيد العمال العالمي، عيد التضامن والنضال من أجل: الحق في العمل، والأجور المجزية، ومستلزمات العيش الكريم، والضمانات الاجتماعية والصحية، والحريات النقابية والسياسية، وتأمين مساواة قانونية فعلية للمرأة مع الرجل في الأجور، وضمان حق الامومة والطفولة. كما انه عيد التضامن والكفاح الأممي في سبيل السلام والديمقراطية الحقة، والعدالة الاجتماعية، بعيدا عن الحروب والهيمنة والتسلط والعولمة الرأسمالية المتوحشة؛ عيد المناضلين في سبيل عالم أفضل، خال من التمييز والاضطهاد والقهر بسبب الانتماء الاثني أو الديني او المذهبي، وعالم خال والى الابد من استغلال الانسان للإنسان.
ولكنه مثل سابقاته في السنين الماضية، عاد العيد على عمال العراق وعلى عوائلهم هذا العام أيضا، بلا جديد يذكر. فالطبقة العاملة وعموم الجماهير العراقية الكادحة، ما زالت ترزح تحت وطأة ظروف قاسية، وبطالة مستشرية، وواقع مزرٍ من الفقر والعوز، وأجور متدنية لا تكفي لسد رمق عيش عوائلهم، وعلى وجه الخصوص أولئك العاملين في القطاع الخاص، حيث يعملون في “اقتصاد غير منظم” وفي ظل سيادة اشكال من العمالة الناقصة والعمالة الهشّة. وقد زادت أوضاعهم سوءاً وقسوة، مع تتالي الازمات الاقتصادية وارتفاع حدّة التضخم التي تسبب بها تفشي وباء كورونا ثم تفاقم الحروب والصراعات الدولية. ولا يمكن إدراك الحجم الحقيقي للمأساة إلا إذا اضفنا ان كل ذلك يترافق مع غياب شبه تام للضمان الاجتماعي والصحي.
المشاكل البنيوية للاقتصاد العراقي
كان لتفاقم المشاكل البنيوية للاقتصاد العراقي الأثر الكبير على الطبقة العاملة العراقية، خصوصا من ناحية توطد سمته الريعية، وتعمق طابعه الخدمي والتوزيعي، والتآكل الحاد والمستمر في القطاعات الإنتاجية المختلفة، وما نتج عنه من تحديات اجتماعية واقتصادية متعددة. حيث انتشرت البطالة في صفوفها، وتقلص وزنها النوعي في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فمنذ عام 2003 بقيت نسب البطالة عالية، ولم تقل عن مرتبتين عشريتين، وقد ارتفعت معدلاتها كثيرا، بعد الازمة الاقتصادية التي رافقت تفشي وباء كورونا. وإذا اخذنا بعين الاعتبار ان مئات الآلاف من الشباب يدخلون سنويا الى سوق العمل، وان جزءا كبيرا من العمالة في القطاع الخاص يمثلون عمالة مؤقتة وغير منتظمة لأدركنا حجم الكارثة الاجتماعية. 
لقد كان ذلك كله بمثابة النتيجة الحتمية للسياسات الاقتصادية التي انتهجت بعد 2003 والتي ارتكزت على الرهان على انتاج النفط الخام وتعظيم إيراداته، وكذلك على اعتماد سياسات “السوق المفتوحة” والطروحات اللبرالية المنفلتة؛ حيث استمرت بنية الدولة والمجتمع العراقيين تستند على قاعدة اقتصاد ريعي، يتعمق طابعه التوزيعي والاستهلاكي باضطراد، في مقابل تآكل مستمر للقطاعات الإنتاجية، وخاصة قطاعي الزراعة والصناعة وتدهور متسارع في البنى التحتية. فإذا كانت الثروات ما برحت تتضخم وتتكدس عند شرائح وفئات اجتماعية محدودة، تتعاظم مداخيلها كلما تعاظمت سماتها البيروقراطية والطفيلية والكومبرادورية، فإنه بالمقابل نلحظ تدهورا في المستوى المعيشي، وارتفاعا في معدلات البطالة، وتراكما في حالات التهميش، وكذلك تناميا في مظاهر البؤس والفقر والحرمان بشكل مريع بين العديد من طبقات وفئات المجتمع، خصوصا ذوي الدخل المحدود، من العمال والفلاحين والكادحين عموما.
 
رغم كل المصاعب.. الطبقة العاملة تنهض من جديد!
كما هو معروف، عانت الطبقة العاملة العراقية وعلى مدار سنوات طويلة من وطأة الحكام المتسلطين وويلات الحروب، وقاست مآسي الحصار الاقتصادي، والاقتتال الطائفي، لكن اليوم وبعد 19 سنة على انهيار النظام الدكتاتوري، عادت الطبقة العاملة وحركتها النقابية تتصدى مدافعة عن مصالح العمال وقضاياهم العادلة، ومقاومة بقوة وبسالة كل محاولات الالتفاف على حقوقها المشروعة، وتطلعات البعض في السيطرة عليها وتوظيفها لخدمة مشاريعه وتوجهاته السياسية الضيقة. إن السنوات الماضية شهدت تصاعدا في ميادين العمل النقابي، ونشاطا واسعا على الصعيد المطلبي، حيث قام العمال بالعديد من الاعتصامات في مواقع العمل، وشاركوا في الكثير من الوقفات والاحتجاجات في الساحات العامة، مدافعين عن مصانعهم وشركاتهم ضد عمليات البيع او الاستثمار المنفلت، مقاومين كل محاولات الخصخصة غير المبررة. وتحرك العمال من اصحاب العقود في اكثر من مفصل من مفاصل الدولة مطالبين بالتثبيت، بينما تحرك آخرون مطالبين بتطبيق فعلي لقانون العمل رقم (37) لسنة 2015، واحتجاجات العاطلين المستمرة، مطالبين بتوفير فرص العمل. ان تظاهرات واحتجاجات العمال والكادحين والعمال العاطلين عن العمل وعمال العقود بوجه سياسات الإفقار والتجويع والبطالة لم تتوقف يوما على صعيد البلاد، لأن الدوافع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للاحتجاجات الجماهيرية ما زالت كما هي لا بل اشتدّت.
ان الطبقة العاملة العراقية تدرك بخبرتها الغنية، ووعيها الطبقي العالي ان الخطوة الاولى في سبيل تحقيق اهدافها المطلبية والنقابية في هذه المرحلة، هي الخلاص من نهج المحاصصة الطائفية والاثنية، وان الحل الامثل للخلاص من هذا النهج ومن الازمة العميقة التي انتجها، انما يكمن في تغيير موازين القوى السياسية لصالح قوى الاصلاح والتغيير وفي القلب منها القوى المدنية والديمقراطية وكل الراغبين في بناء الدولة المدنية الديمقراطية على قاعدة العدالة الاجتماعية.
وبالمقابل، فإن السياسات التي اتبعتها وتتبعها القوى المتنفذة القابضة على السلطة والثروة والنفوذ، ادت الى انطلاق اشكال متنوعة ومتباينة من الحراك الاجتماعي والمطلبي منذ شباط 2011، وصولا الى تفجر الوضع بانتفاضة تشرين 2019 المجيدة وما تلاها. فالتراكمات الاحتجاجية، والتي استمرت لسنوات طويلة، ساهمت في تنامي الوعي السياسي والنضالي عند الجماهير، معززة فيها روح المطالبة بالحقوق ورفض الظلم والفساد. فالعراقيون يجمعون على ان التغيير، صار شعارهم الابرز. فهو لم يعد مطروحا كإمكانية على طاولة النقاش، بل اصبح المهمة الاولى المدرجة على جدول الاعمال.
ننتهز هذه الفرصة لنتوجه الى الطبقة العاملة العراقية وكل الشغيلة والكادحين بخالص التحايا متمنين لهم النصر المؤزر في معركتهم النبيلة، من اجل التغيير وإقامة البديل المدني الديمقراطي والحياة الكريمة، ومن اجل الديمقراطية والسلام والعدالة الاجتماعية والاشتراكية.
المجد كل المجد للطبقة العاملة في عيدها الأممي !