أيار 05

الثقافة الجديدة

     قد يكون تعدد المذاهب وكثرة الآراء من أسباب الأزمة الفكرية الحاضرة التي تجتاح العالم من أقصاه الى أقصاء؛ إلا ان باعثها الرئيس، كما نعتقد، هو تطور المجتمع السريع الذي كان من نتائجه أن اصبحت كثير من الأفكار والتقاليد لا تتفق وحاجات المجتمع الحديث ولا تنسجم مع مرحلة تطوره الحاضرة، فاذا بالجيل الجديد يعزف عما لا يستجيب لحاجاته، باحثاً في هذا الحاضر المضطرب، عن طريق المستقبل الصحيح.

    ان التكوين الاقتصادي للمجتمع، والتكوينين الإجتماعي والنفسي اللذين ينشآن عنه، تساهم جميعها في تكوين أفكار المجتمع ومثله الأخلاقية وآراءه وتقاليده وقوانينه ونظمه التي تعطيه شكله، وتسند العلاقات الاجتاعية التي تربط الأفراد بعضهم ببعض، إلى قواعد شرعية يحميها العرف والقانون.

     ولكن ما يحدث بين فترة واخرى من فترات التاريخ، هو أن يتطور التكوين الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للمجتمع، وتبقى المثل الأخلاقية والآراء والأفكار والعرف والقوانين التي نشأت عنه جامدة دون تبديل وتطوير؛ عندئذ يظهر تناقض واضح بين شكل المجتمع ومضمونه؛ ويعظم هذا التناقض ويزداد كلما اتسعت الشقة بين هذين القسمين من كيان المجتمع؛ حتى اذا لم يعد باستطاعة شكل المجتمع الجامد احتمال مضمونه المتطور، يبدأ هذا الشكل بالتصدع؛ بل وقد يصل به الأمر الى الانفجار، اذا أشتدَ الالحاح من قبل العناصر الرجعية على حفظ الشكل القديم وتجاهل المضمون الجديد، كما حدث في الربع الأخير من القرن الثامن عشر في فرنسا حين تناثرت أشلاء النظام القديم فاسحة المجال للمجتمع لكي يتخذ الشكل الذي يلائم مرحلة تطوره الجديدة، ان مثل هذا الانفجار لايحدث دون كثير من الخسائر والضحايا، يمكن الاستغناء عن قسم كبير منها بالعمل الواعي المدرك.

   ان تاريخ البشرية لملىء بالحوادث والدروس التي تؤكد لنا وجود هذه الظاهرة؛ بل وان الأزمة الحاضرة نفسها لمثال واضح يدل على أن كثيراً من الآراء والأفكار والتقاليد في مختلف ميادين الثقافة أصبحت لاتأتلف وحاجات المجتمع، وان الجيل الجديد يبحث عن مثل فكرية جديدة هو في أشد الحاجة اليها.

   اننا نعتقد ان واجب المفكرين في هذا العصر هو بذل الجهود الصادقة للمساهمة في تكوين هذه الأفكار والمثل الجديدة التي تنسجم مع تكوين المجتمع وتطمئن حاجاته، ومحاربة كل عناصر الجمود التي لاتعترف بأن المجتمع يتطور ويتبدل، وإن من واجب الحركة الفكرية مسايرة هذا التطور والتبدل، بل وإسنادهما كل الاسناد.

   ان"الثقافة الجديدة" ولدت من هذه الحاجة الماسة لتساهم مساهمة فعالة في سدها، فهي تقدمية تؤمن بوجود أفكار رجعية تحاول منع تقدم المجتمع وعرقلة سيره، فتحارب هذه الأفكار معتمدة على دروس التاريخ القيمة وعلى التفكير العلمي الصحيح.

   إنها تعتقد ان الأفكار، وإن كانت تنشأ من ظروف اقتصادية واجتماعية ونفسية وتاريخية معينة، فانها قوة ذات أثر فعال في تقدم المجتمع أو في تأخره؛ لذا ترى من واجبها استخدام هذا السلاح الماضي للتقدم لا للتأخر، وللسير الى الأمام، لا للرجوع الى الوراء.

   ان "الثقافة الجديدة" مجلة علمية لأنها تعتقد ان الوسيلة الصحيحة للوصول الى الأفكار التي يتوق لها المجتمع، هي البحث العلمي، ونقصد به الدراسة الموضوعية لظواهر الحياة المختلفة ومحاولة معرفة بواعثها الحقيقية، والطريق الذي اتجهت فيه، فهي تحارب النظريات غير العلمية، كالنظريات العنصرية والأفكار الفاسدة المغرضة، وتشجع الدراسات العلمية التي يتوخى فيها الحقيقة دون أغراض. ولذا فسيكون اهتمامها بما تحويه المقالات من أفكار قيمة، لا بأسماء كاتبيها؛ فقد قاست الحركة الفكرية في الشرق كثيراً من استغلال الأسماء المعروفة لحشر الأفكار الهزيلة السطحية في أذهان القراء.

   ان "الثقافة الجديدة" مجلة شعبية لأنها تعتبر نفسها وسيلة من وسائل الشعب وسلاحاً في يده، فهي تعنى بمشاكله وتبحثها بعمق وبأسلوب علمي لكي تتوصل الى الحلول الأيجابية الصحيحة لها.

   ان "الثقافة الجديدة" مجلة حرة لأنها تؤمن بأن حرية التعبير حق من حقوق الفرد، وانها الوسيلة الفعالة للوصول الى الحقيقة، وان هذه الحرية لاتتجزأ ولا تنقسم، فدون فسح المجال لجميع حملة الأفكار المختلفة للتعبير عن آرائهم، لا يمكن التمييز بين الصالح والطالح، وادراك الصحيح والخاطيء، لا سيما في مرحلة حرجة كالتي نسير فيها اليوم؛ ان الرأي المصيب لابد أن ينتصر في معترك الأفكار. انها تعتقد ان لا حق لأحد،كائن من كان، أن يفرض آراءه على الآخرين، وتعتبر جميع أولئك الذين يمتعضون لأنهم رأوا في المجلة رأياً مخالفاً لأرائهم أو فكرة لا تتفق وأفكارهم، أعداءً للحقيقة، لا يؤسفها مطلقاً أن لا تتعاون معهم ولا تحظى بمؤازرتهم.

   ان "الثقافة الجديدة" مجلة قومية، لأنها تعتبر ان من حق، بل من واجب كل قومية من القوميات أن تعنى كل العناية بتراثها القومي، وتبذل جهدها في تطويره وتنميته وجعله في خدمة الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب. انها تشجع العراقيين - عرباً أو أكرادا - على الاعتزاز بتراثهم القومي، وربط حضارتهم الجديدة ونهضتهم الحاضرة، لاسيما  في الميادين الأدبية والفنية، بالتقاليد القومية العريقة والأسس التي أصبحت تكوّن جزءا لايتجزأ من مميزاتهم القومية .

   ان "الثقافة الجديدة" مجلة انسانية، لأنها تعتقد ان البشر يستطيعون العيش اخواناً على الأرض، اذا احترم كل منهم حقوق الآخرين في الحياة، وتؤمن بأن الحضارة الانسانية نتاج ساهمت فيه جميع شعوب العالم وقومياته، وان من حق جميع هذه الشعوب والقوميات ان تتمتع بها وتجني فائدتها؛ فهي تعنى بالثقافات الأجنبية وبترجمة خير ما فاضت به قرائح الكتاب العالميين.

   اننا حين نخرج مجلة "الثقافة الجديدة" الى الوجود، مستجيبين لهذه الرغبة الملحة التي يحسّ بها كل عراقي، بل كل عربي، نرجو من صميم قلوبنا أن يساهم القراء في تغذيتها وتوجيهها بمقالاتهم وآرائهم، ونأمل أملاً قوياً انها ستستطيع الاستمرار في اداء رسالتها النبيلة .

                                                                                      لجنة التحرير