كثيرة هي القضايا المستعصية التي باتت تواجه العراق في أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية والبيئية، دون أن تجد لها معالجات وحلولا شافية، تسمح بإطلاق تنمية اجتماعية - اقتصادية متوازنة، على الرغم من توافر البلد على إمكانيات مادية وبشرية كبيرة تؤهله لذلك، لكن ما ينقصه هو التخطيط والنظرة الشاملة البعيدة المدى التي تستشرف حاضر البلد ومستقبله في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية التي تشهدها منطقتنا خصوصا والعالم عموما.
فإذا أخذنا بعض الأمثلة على ذلك، منها استكمال سيادة البلد وتعزيز استقلاله لا من الناحية السياسية فقط وإنما من النواحي الأخرى الاقتصادية والأمنية والعسكرية، فنجد بلدنا تنتهك أراضيه وأجواؤه من دول الجوار المرة تلو الأخرى، دون أن نرى موقفا حازما يضع حدا لهذه الانتهاكات من قبل الحكومات المتعاقبة، ويتوافق مع مبادئ القانون الدولي التي تنص على حرمة انتهاك سيادة البلدان.
شهدت الساحة السياسية في الآونة الأخيرة أحداثا لها صلة بما نعالجه، منها زيارة السيد رئيس مجلس الوزراء للولايات المتحدة الأمريكية وتوقيعه على عدد من الاتفاقيات والتفاهمات الاقتصادية والمالية، لكن بقي وجود القوات الأمريكية في العراق مادة للمساومات الداخلية والخارجية. وعلى الرغم من أن هذه القوات ارتبط وجودها باحتلال داعش للمناطق الغربية بعد عام 2014، وجاءت بناء على طلب من الحكومة العراقية في حينه، لكن يفترض أن تُهيّأ مستلزمات انسحاب هذا القوات من خلال رفع جاهزية الجيش والقوات الأمنية مهنيا ولوجستيا، وحصر السلاح فقط بيد الدولة، والتعامل مع تدخلات دول الجوار بذات المعايير حتى لا يكون التهاون في هذا الجانب مبررا لبعض القوى السياسية يدفعها لعدم الموافقة على رحيل هذه القوات.
وتمثل الحدث الآخر المهم في زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعراق والتوقيع على عدد من الاتفاقيات والتفاهمات المهمة، لكن رأينا الحكومة العراقية تغفل تماما عن وجود القوات التركية واحتلالها أجزاء من شمال بلدنا، والقيام بعمليات عسكرية بين فترة وأخرى دون أي مسوغ قانوني وبتعنت وعنجهية تذكرنا بعقلية الاستعمار ومبرراته في احتلال البلدان. إن تعويل بعض الأحزاب والكتل السياسية على دعم الخارج للبقاء في الحكم يشكل عقبة أمام اتخاذ مواقف حاسمة تدعم سيادة العراق وتعزز استقلاله. كذلك لاحظنا أن اتفاقية المياه التي وقعت بين العراق وتركيا لمدة عشر سنوات لم تتطرق إلى حصة بلدنا من مياه دجلة والفرات والتي تتحكم فيها تركيا، وبقيت غامضة ومجالا للمساومات.
من القضايا المهمة الأخرى ذات البعد الاقتصادي والبيئي والأمني، استمرار حرق الغاز الطبيعي المرافق لاستخراج النفط بكميات ضخمة، وفي الوقت نفسه توقيع اتفاقية مع إيران لمدة خمس سنوات تستمر فيها الأخيرة بتزويد العراق بالغاز الطبيعي لمحطات توليد الكهرباء، على الرغم من اعلان وزارة النفط بين فترة وأخرى أن هناك خططا لاستغلال الغاز الطبيعي، وأن يكتفي العراق ذاتيا في هذا الجانب. فإضافة إلى الخسائر الاقتصادية الناجمة عن حرق الغاز الطبيعي، هناك الأضرار البيئية الجسيمة التي أصبحت واضحة للعيان نتيجة التوسع في استخراج النفط وحرق الغاز المصاحب له خصوصا في محافظة البصرة التي تضم اضخم حقول النفط ومن أكثرها حرقا للغاز في العالم. وقد انعكس ذلك في زيادة الإصابة بالسرطان خصوصا بين سكان المناطق القريبة من حقول النفط. وهذا ما أكدته تقارير منظمات عالمية قامت بإجراء مسوحات في هذه المناطق. في حين يتوجب على الشركات النفطية الأجنبية العاملة في العراق مراعاة الأضرار البيئية والصحية والعمل على معالجتها، وأن لا تتهاون الحكومة أمام عدم تنفيذ هذه الشركات التزاماتها في هذا الجانب.
قضية مستعصية أخرى، تتمثّل بآفة الفساد المالي والإداري والتي استشرت في مفاصل الدولة والمجتمع، وباتت كابحا لرسم أي خطط تنموية حقيقية، ناهيك عن تنفيذها، وهي تتغذى كما يعرف الجميع على نهج المحاصصة الطائفية الإثنية المولد للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخدمية. وعلى الرغم من أن هيئة النزاهة قد زادت من إجراءاتها في تعقب المتورطين بالفساد المالي والإداري في الآونة الأخيرة، لكن تظل هذه الإجراءات دون المستوى المطلوب، حيث نلاحظ تعقب الفاسدين الصغار والحكم على بعضهم بأحكام ثقيلة في حين نرى أن حيتان الفساد الكبيرة ما زالت طليقة، وأن تم توجيه الاتهام لبعضها فإنه يجري إطلاق سراحه تحت مبررات واهية، وهذا يضع مسألة استقلال القضاء على المحك.
قضية أخرى تتمثّل بالتراجع المريع بالثقة بالأحزاب السياسية وخصوصا الدينية منها وسط الشباب. فبحسب المسح الوطني للفتوة والشباب في العراق، الصادر عام 2020 عن وزارة التخطيط، عبّر 73 في المئة من الشباب والشابات في عمر 15 - 30 سنة عن عدم ثقتهم بالأحزاب الدينية والسياسية في العراق. وتزداد نسبة عدم الثقة هذه في المدن إلى 75 في المئة، علما أن 70 في المئة من العراقيين يعيشون في المدن. وقد انعكس عدم الثقة هذا في التراجع الكبير بالمشاركة في الانتخابات سواء البرلمانية أم المحلية، وانخراط الشباب القوي في انتفاضة تشرين 2019 المجيدة. هذه المؤشرات لا توليها القوى الماسكة بالسلطة أي اهتمام، وهذا دليل على أنها لم تع دروس التاريخ جيدا. إن المدخل الرئيس لإعادة الثقة بالعمل السياسي يتمثّل بالتغيير الشامل لمنظومة الحكم الفاشلة وإنهاء نهج المحاصصة الطائفية الإثنية والقضاء على آفة الفساد المالي والإداري، وتنظيم انتخابات نزيهة وشفافة بقانون انتخابي عادل، والشروع في بناء دولة المؤسسات، الدولة المدنية الديمقراطية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.