تشهد منطقتنا العربية منذ أكثر من عام جهوداً حثيثة لتغيير موازين القوى، وترتيب أوضاعها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، بما يتوافق مع مصالح الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل والدول الأوروبية عموما، ارتباطا بالحرب الوحشية المستمرة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة وما خلفته من دمار واسع النطاق وخسائر بشرية هائلة، وكذلك الحرب التي شنتها إسرائيل ضد لبنان وما رافقها من تدمير منهجي لبناه التحتية وقتل وجرح وتشريد الآلاف من أبناء الشعب وقتل قادة حزب الله. وأخيرا ما شهدناه من انهيار النظام السوري السريع على يد مجموعات إسلامية مسلّحة لها خلفيات فكرية تكفيرية وإرهابية تدعمها تركيا بشكل علني، وأطراف خارجية أخرى. لا يمكن أن يجري ذلك دون توافق تركيا مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وأطراف إقليمية ودولية أخرى على ما حدث، واستغلال إسرائيل انهيار النظام والمؤسسة العسكرية والتوغل في الأراضي السورية واحتلال مواقع استراتيجية وتدمير المعدات العسكرية للجيش السوري وبناه التحتية، لجعل سوريا منزوعة السلاح مستقبلا، مع ما رافق ذلك من تغاضي الحكام الجدد عن هذا العدوان الصارخ. وهذا ما يُثير كثيرا من علامات الاستفهام!
إنّ انهيار النظام السوري بهذه السرعة، كان نتيجة منطقية لعقود من الحكم المستبد القائم على نظام الحزب الواحد المتمثّل بحزب البعث واحتكار السلطة لعائلة واحدة طيلة 54 عاما، وممارسته القمع ومصادرة الحريات، وقمعه الدموي لبدايات الاحتجاجات المدنية السلمية عام 2011 التي رافقت موجة انتفاضات الربيع العربي، وعدم إجراء إصلاحات سياسية تفضي إلى قيام نظام ديمقراطي تعددي قائم على المؤسسات الدستورية، يؤمن بالتداول السلمي للسلطة والعدل والمساواة ويحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير ويحقق العدالة الاجتماعية؛ لذلك تبددت القاعدة الاجتماعية المساندة للنظام التي كانت أصلا محدودة، ولم تدافع عنه الجماهير عندما تقدمت المجموعات المسلحة، إضافة إلى ذلك، وهذا مهم، تخلي حلفاء النظام الدوليين عنه بعد أن أدركوا ضعفه وهشاشته وأن الدفاع عنه بات يكلفهم سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
هذا الانهيار المفاجئ وغير المتوقع للنظام السوري بهذه السرعة ولد ردود فعل واسعة النطاق على مستوى المنطقة عموما والعراق خصوصا، نظرا إلى العلاقات الخاصة والقوية التي كانت تربط الكتل والأحزاب المتنفذة الحاكمة وبعض الميلشيات بنظام الأسد، والتي كانت ذات صبغة طائفية وغير مؤسساتية. إنّ هشاشة الوضع الداخلي على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني تعكس اعتماد المنظومة الحاكمة في بلدنا على نهج المحاصصة الطائفية - الاثنية وضيق قاعدتها الاجتماعية المستمر، وخير دليل على ذلك التراجع المستمر لنسب المشاركة في الانتخابات سواء البرلمانية أم المحلية. وغياب مشروع وطني لبناء دولة المواطنة بدل دولة المكونات المفكِكة للنسيج المجتمعي. وعدم تبني خطط اجتماعية - اقتصادية لتنمية البلد وإخراجه من دائرة الاعتماد الذي يكاد يكون كليا على تصدير النفط وامتصاص البطالة وتحسين الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية. كذلك عدم سيطرة الدولة على السلاح المنفلت ووجود ميليشيات تعمل خارج سيطرتها، لها ارتباطات خارجية معلنة وتنفذ أجندات من يدعمها. والتضييق المستمر على حرية العبير ومحاولة تشريع قانون يؤطر ذلك؛ لذلك كان القلق عميقا لدى الأحزاب والكتل المتنفذة من أن يؤدي تغيير النظام السياسي في سوريا إلى ارتدادات على الوضع السياسي في العراق، ومن ثم ينعكس سلبا على مصالحها الفئوية الضيّقة. نقول لو كانت المنظومة الحاكمة لديها عقلية بناء الدولة ومؤسساتها الدستورية واعتمدت على دعم الشعب ولبّت مطالبه المستحقة، ولم تقمع انتفاضة تشرين 2919 المجيدة بشكل دموي، ولم تنكل باحتجاجاته ووقفاته السلمية المطالبة بالحقوق المشروعة، ولم تعوّل بهذا القدر أو ذاك على الدعم الخارجي لما تولدت لديها هذه المخاوف الجدية على مستقبلها السياسي نتيجة ما حدث في سوريا.
إن نبذ نهج المحاصصة الطائفية - الاثنية المقيت هو المدخل السليم للتغيير الشامل لبناء دولة مدنية ديمقراطية تعتمد المواطنة المتساوية - دون النظر إلى الخلفية الدينية والمذهبية والقومية - والعدالة الاجتماعية، دولة مؤسسات تتمتع بكامل السيادة وتبسط سيطرتها على كامل التراب الوطني، وتحتكر السلاح، لتهيئ مستلزمات مغادرة جميع القوات الأجنبية العراق، ولا تعول على دعم أطراف إقليمية ودولية معينة لخدمة أجندات سياسية داخلية، والتي يمكن أن تفقد هذا الدعم في أي منعطف حاسم إذا ما تضررت مصالح هذه الأطراف أو وجدت أن التغيير السياسي القادم يجنبها الخسائر أو يقلل منها. وما حدث في سوريا لهو مثال ساطع على ما نقول. فلتتعلم المنظومة الحاكمة من الدروس البليغة المستجدة، ولتستند إلى الشعب وإرادته وتطلعاته نحو مستقبل أفضل، وتعمل على تلبية مطالبه الأساسية المستحقة، بغير ذلك فإن حكم التاريخ عليها سيكون قاسيا لا يرحم!