تحل هذه الأيام الذكرى السادسة لانطلاقة انتفاضة تشرين المجيدة عام 2019، والتي نستحضرها بفخر واعتزاز؛ لأنها شكلت منعطفا نضاليا هاما وعلامة مضيئة فارقة في تاريخ العراق المعاصر. وحملت روح التحدي والاصرار على تحقيق مطالب الشعب العادلة وخصوصا الشباب في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وبناء دولة مدنية ديمقراطية، دولة المواطنة الحقة والمؤسسات الدستورية، لا دولة المكونات القائمة على نهج المحاصصة الطائفية-الإثنية المقيت الذي جعل الدولة مجرد غنيمة سهلة تُعيد الأحزاب والقوى المتنفذة في كل انتخابات توزيعها لترسيخ استمرارها في السلطة وتعزيز مواقع نفوذها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال رشوة فئات زبائنية تستغل انتشار الفساد المالي والإداري الذي توغل في مفاصل الدولة والمجتمع لتحقيق مصالحها الأنانية المتشابكة.
تمر الذكرى السادسة ومازالت دماء مئات الشهداء الذي سقطوا في الانتفاضة برصاص الحقد الأعمى طرية تذكرنا دائما بأن الجرائم التي اقترفت بحق المنتفضين لا يمكن أن تسقط بالتقادم، ولابد أن يمثل أمام العدالة من أمر بارتكاب هذه الجرائم البشعة ومن نفذها. وتذكرنا بآلاف معوقي الانتفاضة الذين يحتاجون إلى الرعاية والاهتمام للتخفيف من معاناتهم. وتذكرنا كذلك بعائلات الشهداء والمعوقين وضرورة انصافهم بتلبية حقوقهم المستحقة في التعويض ليس فقط في الجانب المادي، وإنما بالجانب المعنوي أيضا من خلال الاعتراف الرسمي العلني بالجرائم الدموية التي ارتكبت بحق أبنائهم ومحاسبة من يقف ورائها وفق القانون. وإلا فإن حساب التاريخ لا يرحم لمن تنكر لمصالح أبناء شعبه وأوغل في انتهاكها خدمة لمنافع فئوية ضيقة. وإكراما ووفاء للشهداء ودمائهم الزكية ولعائلاتهم، ننشر في هذا العدد ملفا واسعا بشأنهم، وهو مبادرة جدية لجمع أسماء كافة شهداء وشهيدات الانتفاضة بحسب المحافظات، والتعريف بالاسم الكامل للشهيد أو الشهيدة، ومكان الولادة، والعمر، والحالة الاجتماعية، والمرحلة الدراسية، وتأريخ الاستشهاد ومكانه وببعض القصص عنه.
الانتخابات البرلمانية لعام 2025
جرت في هذا الشهر الانتخابات البرلمانية، والتي من المفترض أن تجعل دروس وتجارب أكثر من عقدين من الزمن هذه الممارسة تتحسن ولو على نحو تدريجي، لكن المؤشرات ومن خلال رصد التحضيرات للانتخابات والحملة الانتخابية وإجراء الانتخابات وما تمخض عنها من نتائج لا تشير إلى ذلك. فقد خلا مجلس النواب في دورته هذه ولأول مرة من أي قوى مدنية حاملة لمشروع بناء دولة المؤسسات دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية لا دولة المكونات. كذلك جرى استبعاد عدد غير قليل من المرشحين لأسباب سياسية. وما زال قانون الأحزاب معطلا؛ لأن تفعيلة لا يخدم مصالح المنظومة الحاكمة وامتداداتها الإقليمية. هذا القانون يحضر على الأحزاب التي تمتلك أذرعا مسلحة المشاركة في الانتخابات؛ لأن هذه المشاركة تخل بمبدأ المنافسة الانتخابية النزيهة. كذلك وظف المال السياسي على نطاق واسع دون معرفة مصادره من أجل شراء الأصوات وبشكل علني. وجرى أيضا استخدام النفوذ السياسي والإداري والأمني والمالي والاجتماعي ومواقع الدولة من أجل دفع أو أجبار قطاعات واسعة من الناس لإعطاء أصواتهم لحزب أو مرشح معين، دون رادع حازم من مفوضية الانتخابات. أما الدعاية الانتخابية والتي ارتفعت فيها النبرة الطائفية المقيتة، وشنت فيها حملات إعلامية محمومة ومضللة ضد الخصوم السياسيين والفكريين من أجل تسقيطهم، وجرى من خلالها الإضرار بالممتلكات العامة من الأرصفة والأشجار وتشويه مناظر المدن، فهي لم تكن تنم عن أسلوب متحضر يتناغم مع روح الديمقراطية وفلسفتها والتي لا يدركها كثير ممن اشترك في العملية الانتخابية. كل ذلك يطعن في صميم العملية الديمقراطية ويشوهها ويفرغها من محتوها في التعبير الحر عن خيارات الناخبين ويحولها في النهاية إلى إجراء روتيني مُمل لا فائدة منه في نظر فئات واسعة من أبناء الشعب؛ لذلك نرى نسب المشاركة في الانتخابات في تراجع على الرغم من محاولة تسحينها من قبل مفوضية الانتخابات بحسابها بطريقة غير منهجية. فإعلان أن نسبة المشاركة كانت حوالي 56 في المئة لا يعكس الواقع، حيث هناك ملايين من المواطنين لم يُحدثوا سجلهم الانتخابي، وهذا العدد الضخم يندرج ضمن المقاطعين أو الرافضين ومن ثم يُحسب ضمن فئة غير المصوتين؛ لذلك فإن النسبة الحقيقة للمشاركة في الانتخابات في نظر المتخصصين أقل من ذلك بكثير.
هذا النهج في الممارسة الانتخابية، سيساهم في تزايد العزلة المتنامية للمنظومة الحاكمة، والنظر إليها بأنها مغتصبة للسلطة ولم تأت بإرادة غالبية الناخبين، ومن ثم يراكم هذا التوجه مشاعر الغضب والاحتقان والتذمر والرفض، وينضاف إلى الأسباب الموجدة أصلا التي تولد الاحتجاجات والتظاهرات والوقفات والانتفاضات التي تطالب بفرص العمل والخدمات الأساسية وخصوصا الماء والكهرباء والتعليم الجيد وتحسين الخدمات الصحية. فعلى الأحزاب والكتل المتنفذة أن تعي ذلك وتقرأ التاريخ جيدا قراءة غير ماضوية، بعيدا عن نزعة الغلبة وخدمة الاجندات الإقليمية والدولية التي تستقوي بها على أبناء شعبها، والتي تنتقص من سيادة العراق واستقلاله وتجعله رهينة لمصالحها الضيقة، ولتتفادى أدخال العراق في منعطفات أكثر خطورة، والتي يمكن أن تنشأ من خلالها تحولات في توجهات الجماهير لا تتوقعها، وفي وقتها سيحين حسابها ولا ينفع الندم.