
تقدم نظرية العبودية الطوعية إجابة لسؤال سياسي: لماذا يطيع الأفراد حكامهم؟
لا يهمنا فقط طرح مشكلة قبول السلطة القامعة للحرية، بل تناول لغز المهيمِن والمهيمَن عليهم في كل الأنظمة"(1). ما نحتاج إلى توضيحه هو آليات الطاعة الغامضة، من خلال تلك الأكثر غموضًا في الخضوع، طاعة الأفراد المتواطئين في حالة العبودية الخاصة بهم. وبالتالي فإن العبودية الطوعية ليست سوى نوع من الطاعة يصعب فهمها بشكل خاص، لأنها تعتبر تواطؤا مع حالتنا الخاصة من حرماننا من الحرية. لنكتشف معا أصول هذا الخضوع المقبول، ومن ثَمَّ إلقاء الضوء على آلية الطاعة بأكملها.
من خلال تجاوز بعض الجوانب لثيمة العبودية الطوعية التي تعتبر موضوع الساعة، فإن مستوى التحليل سيكشف بأن العبودية الطوعية لا تتعلق بالعلاقة بين الأفراد، بل بالسلطة السياسية داخل المجتمع. لقد تمت صياغة هذا المصطلح لأول مرة في القرن السادس عشر من قبل إتيان دو لا بويسي Étienne de La Boétie (1530-1563) في خطابه الشهير(2). إذا كانت السنة المحددة لاكتمال هذا الخطاب غير معروفة، فمن المتفق عليه عمومًا أن تاريخه يعود إلى الأعوام 1552-1553، وذلك بسبب تلميحات رونزارد أو دو بلِاي أو بايف، كما ذكر ميغيل أبينصور ومارسيل غوشيه في مقدمتهما لهذا العمل (3). أعطى Michel de Montaigne (1533-1592) وهو صديق مقرب للمؤلف، تاريخين مختلفين لكتابة هذا الخطاب؛ 1546 و1548. وقد قام بذلك، ربما حتى لا يُختزل الخطاب في عمل ظرفي، (قمع وبشدة ثورة ضريبة الملح في منطقة غويان، عام 1549، من قبل الملك هنري الثاني)، حيث قام بتصحيح التأريخ الأول لعام 1548 لتقديمه لمدة عامين. بعد ذلك، تم تداول النص من قبل دائرة صغيرة من الإنسانيين. وبعد وفاة لا بويسي La Boétie ، أعد مونْتينْي عملاً كان ينوي إدراج الخطاب فيه. لكن أنصار الكلفانيين نشروا أول نسخة مقرصنة جزئية ومجهولة المصدر في عام 1574، ثم نسخة كاملة في عام 1576 تحت اسم لا بويسي La Boétie ، بعنوان "ضد الشخص الواحد Le Contr’Un". بعد ذلك، رأى النور إصدار طبعات أخرى في وقت لاحق، اعتمادًا على الأحداث التاريخية، لا سيما في عامي 1789 و1835، ثم بشكل أكثر انتظاما حتى اليوم.
لقد تناول العديد من الفلاسفة وباحثو العلوم الاجتماعية مسألة الهيمنة المقبولة تحت عبارات مختلفة. ومع ذلك، فمن المناسب التمييز بوضوح بين المؤلفين من بينهم التعاقديون contractualistes les، الذين سعوا للبحث عن أسس الطاعة وبعبارة أخرى عن مبرراتها (في نظام القانون أو العدالة)، وآخرين بحثوا في الأصل، أي أسباب هذا الخضوع (حسب ترتيب الوقائع)، من خلال إنتاجهم لنظرية العبودية الطوعية أو الهيمنة. ومن ثم فإن تحليلات حنة آرندت للنظام الشمولي كنظام قائم على دعم الجماهير(4)، أو نظرية ميشيل فوكو حول السلطة(5)، كان لهذه التحليلات، مكانها في العمل الذي يهدف إلى تأسيس نظرية عامة للعبودية الطوعية. هدفنا هنا أقل طموحا بكثير؛ فالأمر يتعلق فقط بتقديم النظرية الأصلية التي اقترحها لا بويسي La Boétie وفهم ما يميزها عن بعض النظريات الشهيرة الأحدث بشأن الهيمنة. ما الذي يميز العبودية الطوعية الأصلية عن السيطرة المشروعة التي نظر إليها ماكس فيبر، وعن الاستغلال عند كارل ماركس وفريدريك إنجلز، أو عن الخضوع عند لوي ألتوسير، أو عن العنف الرمزي عند بيير بورديو؟ تشترك كل هذه النظريات في فكرة أن المهيمَن عليهم متواطئون في هيمنتهم. ومن ثم فإن المنهج المقارن يمكننا من تسليط الضوء على الخطاب من خلال المواجهة مع مفاهيم ومقاربات تبدو متشابهة.
تفسيرات العبودية الطوعية عند La Boétie
يبدأ عمل لا بويسي La Boétie بهذا السؤال: "كيف يمكن أن يتحمل هذا العدد الكبير من الرجال، والعديد من المدن، والعديد من الأمم، في بعض الأحيان، كل شيء من طاغية واحد، ليس لديه قوة أخرى غير تلك التي نمنحه إياها، والذي لا يملك القدرة على إيذائنا إلا ما دمنا على استعداد لتحمله، والذي لا يستطيع أن يؤذينا إذا لم نفضل تحمل المعاناة منه، بدلاً من معارضته؟"(6).
أنْ يطيع الشعب شخصا واحدا فقط لأن الأخير يفعل خيرا، فهذا يبدو شيئا معقولا للكاتب، وهو ليس محل شك هنا. لكن عندما يكون هذا الشخص هو سبب مصائب الشعب، وبمعنى آخر، قامع للحريات، كيف يمكن أن نفسر استمرار هذه الطاعة؟ وكما كتبت سيمون. ويل : Weil"عندما ينتشر الموت تشرق معجزة الطاعة أمام العيون"(7) . بمعنى آخر، هذه المعجزة موجودة في أي موقف من مواقف السلطة، لكنها لا تثير الاهتمام والتحليل إلا في إطار انتهاك الحريات. يستبعد لا بويسي La Boétie ، من البداية "الجبن" و"الخوف"(8)، وذلك لأن مليون رجل لا يمكن أن يهابوا رجلا واحدا. علاوة على ذلك، ففكرة مقاتلة الطاغية غير واردة، وذلك "لأنه مهزوم، في حال لم يوافق الشعب على هذه العبودية"(9). هدف الكاتب إذن هو فهم "كيف كانت هذه الرغبة العنيدة في الخدمة متجذرة بعمق لدرجة تجعل المرء يعتقد أن حب الحرية في الواقع ليس أمرًا طبيعيًا"(10). إن لا بويسي، أراد، بطريقة ما، أن يقدم لقرائه مقالا عن علم الاجتماع التاريخي أكثر بكثير من مجرد مقال أنثروبولوجيا. في الواقع، لم يكن الأمر دائمًا على هذا النحو؛ فالانتقال إلى حالة العبودية الطوعية، كما يقول الأنثروبولوجي الفرنسي (1934-1977) بيير كلاستر Clastres، هي "محنة، حادث مأساوي، بداية سوء حظ يستمر آثاره في التفاقم إلى درجة أنه يلغي ذاكرة الماضي، فيحل حب العبودية محل الرغبة في الحرية"(11). ومع ذلك، فإن الخطاب لا يتناول لماذا جُرد الإنسان من طبيعته، بل "كيف يدوم سوء الحظ إلى درجة أنه يبدو أبديًا؟"(12).
التفسير الأول الذي يقدمه لا بويسي La Boétie للعبودية الطوعية هو العادة. ويقول؛ إذا كانت الحرية طبيعية، وإذا "ولدنا أحرارا، ولدينا أيضًا الرغبة للدفاع عن هذه الحرية"(13)، فإنه يلاحظ أن التربية، مع ذلك، لها أهمية كبيرة جدا. هكذا فإن "العادة التي لها تأثير كبير، في كل شيء، على جميع أفعالنا، لديها أيضا وقبل كل شيء القدرة على تعليمنا الخدمة: "إنها هي التي، على المدى الطويل، […] تنجح في جعلنا نبتلع، دون اشمئزاز، سمَّ العبودية المرير"(14). إن لا بويسي La Boétie يُميّز الجيل الأول من الرجال، الذين تعرّضوا ضد إرادتهم وبالقوة للخضوع، عن الأجيال اللاحقة التي ولدت في حالة عبودية، والتي "تعتبر حالتها الطبيعية هي الحالة التي ولدت بها"(15). فهذه الأجيال، بحسبه، لم تعرف الحرية أبدًا، وبهذا لا يمكن أن يكون لديها أي فكرة عما حُرمت منه. لذلك، فإن التفسير الأول للعبودية الطوعية، كما نقول اليوم، هو تفسير معرفي. والأكثر من ذلك، فهو تفسير بنائي، حيث أن الواقع الاجتماعي المتصوّر مَبنيٌ بشكل جيد من قبل الأفراد وليس مُعطى في حد ذاته. وكما سنرى لاحقاً، فإن هذه الخاصية مشتركة بين العديد من نظريات الهيمنة.
أما التفسير الثاني الذي انتقاه الكاتب من تاريخ البشرية فهو حيلة الطغاة. عند حرمان الرجال من الحرية، يفقدون شجاعتهم والطاقة اللازمة للنضال من أجل الهروب من العبودية. لكن الطغاة يعرفون جيدًا كيف يستغلون هذا الضعف ويسعون دائمًا إلى جعل الرجال أضعف وأكثر جبنًا. الخبز والألعاب والترفيه هي الوسائل الرئيسية المستخدمة "لإخضاع الرعية للعبودية"(16). إن خطابات الطغاة أو التباهي بالرموز تعمل بنفس الطريقة على كسب الثقة وإثارة الإخلاص وضمان السلام الاجتماعي. لذلك يحافظون على عادة العبودية.
أما التفسير الثالث المقترح، والذي يعتبره الكاتب "سر الهيمنة وربيعها، وسند كل طغيان وأساسه"(17)، فهو ما يمكن أن نطلق عليه الانتهازية - التي يسميها لا بويسي La Boétie حجة سلسلة المكاسب. أربعة أو خمسة رجال يقدمون المشورة للطاغية وذلك لإفساده وتوجيه أفعاله نحو المزيد من الأرباح التي يتقاسمونها معه. وهم بدورهم، يفسدون بالمثل، ما بين 500 إلى 600 رجل آخر تحت إمرتهم، وذلك من أجل كسب ولائهم، وهؤلاء يفعلون الشيء نفسه مع الآخرين، وهكذا حتى أدنى درجات المجتمع.
"ومن أراد أن يتتبع أثر هذه السلسلة، سيرى أن ليس ستة آلاف بل مائة ألف، ملايين يَنْظمون إلى الطاغية عبر هذه القناة ويشكلون بينهم سلسلة متصلة تعود إليه. […] باختصار، من خلال المكاسب وحصص الربح التي سيحققونه، نصل إلى نقطة مفادها أن هناك في النهاية عددًا من أولئك الذين يستفيدون من الطغيان، يوازي عدد الذين تهمُّهم الحرية"(18).
ولنؤكد أن المكاسب المذكورة هي مكاسب في السلطة والجاه أكثر منها في الثروة. ولذلك يفكر كل منهم في إجراء حسابات التكلفة/ المنفعة لعبوديته وينتهي به الأمر إلى العثور على مكسب كافي. "الكسب" في السلطة هو في الحقيقة وهْم، لأنه مبني على جهلِ ثمنِه، هو الطاعة للتراتبية، أي لمن أعلى منه. حسب قول لا بويسي La Boétie ، إن استخدام الطاغية للقوة ليس تفسيرًا صالحًا: "ليست العصابات الممتطية خيولا، أو جيشا من المشاة، باختصار، ليست الأسلحة هي التي تدافع عن الطاغية، ولكن دائمًا [...] أربعة أو خمسة رجال يؤيدونه ويُخضعون له البلاد بأكملها"(19). وبحسب الكاتب، فإن تفسيراته الثلاثة للعبودية الطوعية ليست بنفس القدر من الأهمية. يتم تقديم سلسلة المكاسب على أنها الأكثر جوهرية، ثم تأتي العادة وبعد ذلك حيلة الطاغية، المرتبطة بسابقتها. إذا كان هذا الاعتماد التفسيري بين الحجتين الثانية والثالثة لا يمكن التشكيك فيه، "السبب الذي يجعل الناس يخدمون طوعًا هو أنهم ولدوا أقنانًا وأنهم نشأوا في العبودية [حجة العادة]. من هذا يتبع بطبيعة الحال شيء آخر؛ في ظل الطغاة، يصبح الرجال بالضرورة جبناء وخانعين [حجة حيلة الطاغية]"(20)، ومن ناحية أخرى، يبدو أن حجة سلسلة المكاسب ليست أساسية كما قدّمها الكاتب. فهي مبنية على وهم حساب عقلاني يقوم به الرعايا؛ فهم يعتقدون أنهم وجدوا مصلحة لعبوديتهم من خلال المكاسب التي يتلقونها جراء إخلاصهم لرؤسائهم ومن خلال الذين يخضعون لهم في جني الأرباح. بينما وكما يفسر الكاتب، كلما اتجهت تراتبية هذه السلسلة نحو الأسفل، كلما اقتربنا أكثر من الشعب وسيكون بذلك حجم الأرباح أقل أهمية. فهؤلاء وهم يمثلون الأكثرية، لن يكسبوا شيئا. فكيف يمكننا إذن أن نفسر مثل هذا الحساب غير العقلاني، وبأن خسارة ما هو أكثر قيمة، الحرية، لا يتم تعويضه بأي مكسب؟ ويبدو لنا أن الحل هو ما يلي؛ الحرية ليس لها ثمن بالنسبة لهم، وذلك لأنهم اعتادوا، على وجه التحديد، على العبودية ونسوا طبيعتهم الحقيقية. وبالتالي فإن التفسير العقلاني لسلسلة المكاسب سيعتمد في الحقيقة على تفسير أكثر جوهرية، هو تفسير العادة.
يمكن إضافة عنصر أخير، على الرغم من أنه لم يتم تقديمه بشكل صريح من قبل الكاتب؛ وهو عنصر "اسم الواحد" UN le nom d’، الذي أبرزه الفيلسوف الفرنسي كلود لُفور (1924-2010) في مقالته المنشورة عن دار بايو لعام 1976 وصممها ميغيل أبينصور(21). والفكرة، هي أن العبودية الطوعية يُمكن تفسيرها، أكثر بكثير من خلال العادة، "بالسحر أو الانبهار" الذي يولده "اسم الواحد" (أي اسم الطاغية) في أذهان الناس، بمعنى آخر، أي الانجذاب إلى السلطة لأنها تجسد وحدة (خيالية) للجسم الاجتماعي:
"ما اثارته العبودية الطوعية [...] يمكننا الآن التعرف عليه بشكل أفضل؛ هو حب الذات، والنرجسية الاجتماعية. (...) مع العبودية، دمَّر سحر اسم "الواحد" صياغة اللغة السياسية. فالناس تريد أن تتم تسميتها باسم طاغية، الاسم الذي يلُغى به الفرق بين هذا وذاك ويُلغى به لغز الانقسام الاجتماعي، ويُؤجل به اختبار الاعتراف إلى أجل غير مُسمى، ويصبح اسمه المحبوب هو الاسم الذي يظل الجميع متمسكا به، لئلا يصبحوا لا شيء"(22).
إذا كان من الممكن قبول هذا التفسير للخطاب كونه يقدم تفسيرًا إضافيًا للعبودية الطوعية، فمن ناحية أخرى، فإننا نشكك في تطورات "لُفور" حول عدم أهمية حجة العادة(23) وأيضًا في فهمه تفسير حجة سلسلة المكاسب، التي يربطها مباشرة بالانبهار الذي يمارسه اسم الواحد –le Un :
"السر، لغز الهيمنة، يكمُن في رغبة كل شخص، مهما كان مستوى التسلسل الهرمي الذي يشغله، للتماهي مع الطاغية من خلال جعل نفسه سيدًا على شخص آخر. (...) إذا كان صحيحًا أن هناك سيدًا واحدًا فقط يكون جميع الناس عبيدًا له، فإن هذه الحقيقة تُغطي أخرى؛ عبودية الجميع مرتبطة برغبة كل منهم في أن يحمل اسم الواحد قبل الآخر. إن تخيل الواحد لا يقتصر فقط على تخيل شعبا مُجتمعا، بل هو في الوقت نفسه تخيل كل رجل، طاغية (مُصغّرا)، في المجتمع"(24).
وكما أظهرنا أعلاه، فإن هذه الحجة تعتمد في الواقع، في رأينا، على الحجة الأكثر جوهرية وهي العادة.
الهيمنة الشرعية
ما هي قيمة تفسيرات لا بويسي La Boétie ، بعد مرور أربعة قرون ونصف؟ هل تم اقتراح نظريات منافسة أخرى حول العبودية الطوعية، وهل تتناغم مع تفسيرات لا بويسي La Boétie ؟ سنحتفظ هنا بأربعة أمثلة لنظرية الهيمنة؛ نظرية ماكس فيبر، والنظرية الماركسية بنسختيها الأصلية والألتوسيرية، ونظرية بيير بورديو. إن مواجهة هذه النظريات، التي تشترك على ما يبدو في فكرة تواطؤ المهيمَن عليهم في هيمنتِهم، ستسمح بتوضيح، على الجانب الآخر، ما سيلقي المزيد من الضوء على نظرية La Boétie.
أن تكون طوعًا في حالة من العبودية يعني، بعبارة أخرى، قبول الهيمنة التي تعاني منها حاليًا. أليس هذا بكل بساطة تعريف فيبر للشرعية؟ يُنظر إلى هذا، في الواقع، على أنه اعتراف بالسيد (Herr) وبالتالي طاعته. في هذا، يتم تمييز الهيمنة (Herrschaft) عن القوة البسيطة (Macht)، وهي مجرد فرصة أن يخضع الفرد لطاعة شخص آخر، دون الإشارة إلى الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن الشخص الذي يطيع يعترف بعلاقة القوة هذه ويقبلها. ظاهريًا، يمكن مقارنة حالة الهيمنة بالعبودية الطوعية عند La Boétie. فما هي الأسباب بالنسبة لفيبر؟
سيكون من الخطأ الرد على عجل بأن العبودية الطوعية تعمل بثلاث طرق، والتي من شأنها أن تتناول الأنواع الثلاثة الشهيرة للهيمنة؛ الطرق التقليدية، والكاريزمية، والعقلانية القانونية. في الواقع، وفقًا لنظرية المعرفة الفيبرية، فإن هذه المفاهيم الثلاثة هي أنواع مثالية، وبعبارة أخرى مفاهيم تحليلية، وأشكال صافية لا توجد أبدًا في حالتها الخام في التاريخ. ولذلك يفسر عالم الاجتماع هذا الهيمنة الحقيقية على أنها مزيج من هذه الأنواع الثلاثة ضمن الدوافع النفسية للفاعلين، والتي يجب فهمها على وجه التحديد. هل نظرية الهيمنة الفيبرية مجرد إحياء للنظرية الأصلية للعبودية الطوعية؟ يبدو أن المظاهر خداعة؛ لأن العادة قد تتوافق للوهلة الأولى مع الهيمنة التقليدية، وخدعة الطاغية للجماهير مع تحقيق الهيمنة الكاريزمية، كما أن سلسلة المكاسب، كتفسير عقلاني للغاية، ستتوافق مع الهيمنة العقلانية. إن هذه الترابطات، هي في الواقع، عرضية. بالفعل، يفترض علم الاجتماع الشامل لفيبر أن الفاعلين يمكنهم، إذا كان لديهم وقت الفراغ والرغبة، أن يُقدموا بأنفسهم الأسباب التي دفعتهم إلى هذا الفعل. وبالتالي سيُظهرون، في الحالة الأولى، رغبتهم في اتباع التقاليد. وهذا ما يرفض لا بويسي La Boétie ، على وجه التحديد، التفكير فيه، وهو الذي يصر على حقيقة أن حالة الخنوع لا يمكن بأي حال من الأحوال التشكيك فيها من قبل الأفراد الذين ولدوا في هذه الحالة. لقد نسوا طبيعتهم ككائنات حرة. ولذلك يبدو أنه لا توجد عودة انعكاسية ممكنة في حالتهم. يمكننا أن نناقش إلى ما لا نهاية مسألة تشاؤم لا بويسي La Boétie أو تفاؤله فيما يتعلق بإمكانية استعادة الرجال لحريتهم، حيث أن هناك عناصر في النص تميل في اتجاه أو في آخر. مع P. Clastres وربما أيضا مع C. Lefort، سنفهم ذلك أكثر باعتباره يؤدي إلى ملاحظة تجريد الإنسان من طبيعته. على أية حال، ليس لنظرية العادة في خطاب لا بويسي La Boétie أي شيء مشترك مع احترام فيبر المتعمِّد للتقاليد.
أما تفسير الكاريزما فلا يتطابق أيضًا مع تفسيرات لا بويسي La Boétie، وذلك لأن الطاغية عمومًا هو "الأكثر جبنًا، وأشرس الناس، وأكثرهم خنوعا في الأمة، وهو الذي لم يشم رائحة بارود المعارك، لكنه بالكاد داس رمال البطولات"(25). وبالتالي، يجب عليه أن يكون ماكرًا وأن يعمل بجد لخلق الإخلاص والتفاني لشخصه. أما بالنسبة إلى فيبر، فإن الكاريزما تعتبر شيئا مختلفا تماما: فهي "الميزة الاستثنائية لشخصية تتمتع، إذا جاز التعبير، بالقوة أو بالخصائص الخارقة للطبيعة، أو فوق طاقة البشر، أو على الأقل تتمتع بما هو خارج الحياة اليومية، أي غير متاح للناس العاديين، أو تُعد هذه الشخصية إما مرسلاً من الله أو قدوة وبالتالي تعتبر قائداً"(26).
أما التفسير الثالث، وهو سلسلة المكاسب والذي يرتكز عليه الحساب العقلاني لكل شخص، فلا علاقة له بالهيمنة القانونية العقلانية التي تجد أساسها في الاحترام الواعي والطوعي للقانون وقواعده. لذلك يسعى فيبر للإجابة على نفس السؤال الذي طرحه لا بويسي؛ ما هي الينابيع التفسيرية للطاعة وللهيمنة في بُعدها المتمثل في القبول؟ لكن ردود الأول لا تشكل بأي حال من الأحوال تكراراً لأطروحات الثاني.
الأيديولوجيا
لقد صاغ تيار الماركسية نظرية مختلفة تمامًا للهيمنة. يمكننا التمييز بين نسختين؛ نظرية كارل ماركس وفريدريش إنجلز، وبعد أكثر من قرن من الزمان، نظرية لوي ألتوسير. والمفهوم المركزي لتحليلاتهم هو مفهوم الأيديولوجيا. بالنسبة إلى الآباء المؤسسين للمادية التاريخية، وهو العلم الذي يجب أن يكون قادرًا على اكتشاف الينابيع الأساسية للعلاقات الاجتماعية، من الضروري محاربة الوعي الزائف لدى الأفراد عن الواقع. هذا الوعي الزائف هو أيديولوجيا، جسّدها بشكل رئيسي هيغل وتلاميذه المثاليون وتبنّتها برجوازية القرن التاسع عشر. الأيديولوجيا هي عكس العلاقات بين الوعي والحياة. بالنسبة إلى هيغل، يتجلى الواقع في الوعي؛ وهي الأطروحة المركزية لمنظوره الظاهراتي (الفينومنولوجي). فالعقل l’esprit إذن هو القوة الدافعة للتاريخ، لأنه ينتج الواقع. ينوي ماركس وإنجلز عكس هذه العلاقة حرفيًا: "ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة، بل الحياة هي التي تحدد الوعي" (27) . وهذا الأخير هو مُنتج اجتماعي، يُنتج عن علاقات الإنتاج التي تشكل العلاقات الاجتماعية. إن الأيديولوجيا تخفي الواقع من خلال قلب العلاقات الحقيقية؛ فهي تخفي مصالح الطبقة الحاكمة تحت شعار المصلحة المشتركة. ولهذا السبب يعلن واضعو "البيان الشيوعي" ما يلي:
"ما الذي يبينه تاريخ الأفكار، إذا لم يكن الإنتاج الفكري الذي يتحول مع الإنتاج المادي؟ إن الأفكار السائدة، في عصر ما، لم تكن سوى أفكار الطبقة الحاكمة"(28).
في الواقع، تفرض المثالية والبرجوازية هيمنتهما من خلال نشر أيديولوجيا (البنية الفوقية) والتي هي فكرة زائفة عن الواقع، زائفة لأنها منفصلة عن علاقات الإنتاج (البنية التحتية). وهنا نجد حدسًا قريبًا من نظرية العادة عند La Boétie؛ فالبروليتاريون لا يدركون أن حالتهم هي حالة المهيمَن عليهم، تمامًا كما لا يدرك الأفراد الخاضعون للطاغية مدى خنوعهم. الحالة التي تبدو طبيعية، وعادية بالنسبة لهم هي حالتهم الحالية؛ لذلك فإن التشكيك في ذلك أمر غير معقول بالمعنى الأساسي. ومع ذلك، على عكس مؤلف الخطاب، فإن ك. ماركس وف. إنجلز لا يستبعدان استخدام القوة للحفاظ على الهيمنة، بل على العكس تمامًا(29) . إن القمع والقيود والتهديد الجسدي هي أيضًا من أدوات البرجوازية.
ومع ذلك، فإن هذين المؤلفين أقل تشاؤما بشأن إمكانيات التغيير من La Boétie. يمكن للبروليتاريا أن تدرك وضعها الحقيقي إذا دفعتها الطليعة المستنيرة إلى القيام بذلك. وهذا هو دور الشيوعيين. تجدر الإشارة إلى فرق ثانٍ؛ إنهما لم يسعيا إلى شرح سبب هذه الهيمنة أو مصدرها بدقة. من الذي ينتج الأيديولوجيا، وكيف يعمل الوعي الزائف، كلها أسئلة لم تتم الإجابة عليها. ألتوسير هو من سيفعل ذلك)30).
الخضوع
إذا كانت نظرية العادة تفسِّر إلى حد كبير الهيمنة، يبقى علينا أن نوضح من أين تأتي هذه العادة. بالنسبة إلى La Boétie، فإن نسيان الحرية هو الذي يتم الحفاظ عليه في الأصل من خلال خدعة الطاغية. أما بالنسبة إلى ألتوسير، فإن خدعة الرأسمالي هي التي تخلق منذ البداية الظروف اللازمة لعادة الهيمنة. الأيديولوجيا ليست مجرد حجاب، أو مجموعة من التمثلات السلبية، إنها قوة ملموسة وفعالة تشكل العقول والسلوكيات. إنها بالتأكيد وهمٌ بالمعنى الذي قصده ماركس وإنجلز، وهو تصور للعالم لا يتوافق مع الواقع، لكن ألتوسير يضيف أنها تلميح يشير إلى الواقع. إن ما يمثله الأفراد في الأيديولوجيا ليس الظروف الحقيقية لوجودهم، بل علاقتهم بهذه الظروف، علاقتهم بعلاقات الإنتاج. فالعملية كالتالي؛ الأيديولوجيا هي جزء من الممارسات، من الطقوس التي تحددها أجهزة الدولة الأيديولوجية (المدرسة، الكنائس، الأسرة، القانون، النظام السياسي، وسائل الإعلام، وما إلى ذلك):
"المدرسة (وكذلك مؤسسات الدولة الأخرى مثل الكنيسة، أو غيرها من الأجهزة كالمؤسسة العسكرية) تقوم بتلقين "المعرفة العملية"، ولكن بأشكال تضمن الخضوع للأيديولوجيا المهيمِنة، أو إتقان "ممارستها". فيكون بذلك جميع وكلاء الإنتاج والاستغلال والقمع، ناهيك عن "محترفي الأيديولوجيا" (ماركس)، "مخترقين" بطريقة أو بأخرى بهذه الأيديولوجيا، وذلك من أجل القيام بمهمتهم بوعي – سواء كمستَغلَّين (بروليتاريا)، أو كمستغِلين (الرأسماليين)، أو كوسطاء الاستغلال (الأطر) أو ككهنة كبار للإيديولوجيا السائدة ("موظفيها")"(31).
الهدف من هذه الأجهزة هو إنتاج رعايا، أي تشكيل الأفراد بالشكل المطلوب. وبهذا تؤدي الأيديولوجيا وظيفتين: وظيفة الاعتراف، التي من خلالها تتعرف الذات على العالم من حولها باعتباره أمرا بديهي، وتتعرف على نفسها كذات في هذا العالم (فهو أب، وعامل، ومؤمن، وما إلى ذلك) وباعتبارها انعكاسًا لذات Sujet متعالية خلقتها الأيديولوجيا (الله، الأمة، الإنسانية، البروليتاريا)، مما يضْمن هويتَها، بنفس طريقة تناولَ لُفور لاسم الواحد في تعليقه على الخطاب؛ وهي وظيفة سوء الفهم التي تخفي عن الذات الآلية العميقة التي ينطوي عليها هذا الاعتراف، والغرض منه هو الهيمنة. الاعتراف يُنتج الذات، والجهل يحجُب عن الذات خضوعَها. ما يضيفه ألتوسير إلى نظرية ماركس وإنجلز هو الدور النشط والمستقل تقريبًا للبنية الفوقية على البنية التحتية؛ الأيديولوجيا تضمن إعادة إنتاج علاقات الإنتاج، وتضمن الهيمنة الاجتماعية. بمعنى آخر، فهو يقترح نظرية أكثر اكتمالًا للهيمنة، تتماشى مع نظرية La Boétie.
في الواقع، تفسير العبودية الطوعية بنظرية العادة موجود تمامًا في الاعتراف والخضوع الألتوسيري. إن خدعة الطاغية التي تحافظ على وعي كاذب هنا تأخذ شكل أجهزة الدولة الأيديولوجية. فقط تفسير سلسلة المكاسب لا يجد نظيرًا واضحًا. من المحتمل أن يجيب ألتوسير بأن المكاسب المتصوّرة على هذا النحو هي تأثير الأيديولوجيا، وأن أهميتها السببية مشروطة بحجة الوعي الزائف (وهذا يرتبط بالنقد الذي تناولناه أعلاه بشأن التسلسل الهرمي للتفسيرات التي اقترحها La Boétie). ومع ذلك، مثلما فعل ماركس وإنجلز، فإنه يفسح المجال للقمع، لاستخدام القوة، وهي وظيفة أجهزة الدولة القمعية (الحكومة، الإدارة، المحاكم، الشرطة، الجيش، السجون، إلخ). الاختلاف الرئيسي الأخير مع لا بويسي هو أنه بالنسبة لألتوسير، إذا لم نترك وللأبد الأيديولوجيا، إذا لم نعيد اكتشاف وعي حالتنا الطبيعية (حالة الإنسان الحر)، فذلك لأن هذه الحالة لا وجود لها. إننا نترك، دائمًا، أيديولوجيا لتحل أخرى محلها بمجرد سيطرة قوة اجتماعية جديدة على أجهزة الدولة الأيديولوجية. إن حيَل الطاغية هي بالفعل سبب للعبودية الطوعية، ولكن في عالم تسود فيه، بالضرورة، العادة.
في القرن العشرين، اقترح العديد من المؤلفين عناصر لتفسير العبودية الطوعية (من بين آخرين مدرسة فرانكفورت وميشيل فوكو) ولكن دون إنشاء نظرية كاملة للهيمنة. واحدة من أفضل الأفكار التي جعلت هذا السؤال محور بحثه هي بلا شك فكرة بورديو. إذا كانت العبودية الطوعية تأخذ اسم الهيمنة من قبل ماكس فيبر، أو الخضوع من قبل ألتوسير، فإن المفهوم المركزي هنا هو مفهوم "العنف الرمزي":
العنف الرمزي
إن العنف الرمزي، بكل بساطة، هو "ذلك الشكل من العنف الذي يُمارَس على الفاعل الاجتماعي بتواطؤه"(32).
تحدد هذه الصيغة بوضوح العلاقة مع مسألة العبودية الطوعية. سيكون ذلك، بالمصطلحات البورديوسية، عبودية متواطئة. لكن الكاتب يوضح مرارا وتكرارا كيف أن موافقة الشخص المهيمَن عليه ليست بأي حال من الأحوال عملا من أعمال إرادته:
"العنف الرمزي هو ذاك الشكل الخاص من الإكراه الذي لا يمكن ممارسته إلا بالتواطؤ النشط – وهذا لا يعني الواعي والطوعي - لأولئك الذين يخضعون له ويكونوا محددين في إمكانية حرمانهم من حرية ترتكز بالأساس على الوعي"(33).
إنها إذن ليست مسألة عبودية طوعية بمعنى الهيمنة المقبولة بوعي كامل، كما قد يكون الحال مع تحليل فيبر. إن بورديو واضح جدًا في هذا الموضوع: "إن الاعتراف بالشرعية ليس، كما يعتقد ماكس فيبر، عملاً حرًا بضمير مرتاح" (34). وبالتالي، فإن التواطؤ الذي يُظهره المهيمَن عليهم ليس حتمية مفروضة من الخارج، ما دام لهم دور فيه، ولا عملاً متعمدًا، بمعنى أنه سيكون ثمرة مداولات داخلية. "لا يمكننا أن نفكر في هذا الشكل من أشكال الهيمنة إلا إذا تجاوزنا البديل المتمثل في الإكراه بالقوة والموافقة على الأسباب..." (35). إذن، على أي أساس يعمل تواطؤ المهيمَن عليهم؟
الفكرة الرئيسية هي أن التواطؤ يُمارس "في غموض أحكام Habitusالهابتوس، حيث تُنقش أنماط الإدراك والتقدير والفعل التي تؤسِّس، خارج قرارات الضمير وضوابط الإرادة، علاقة معرفة واعتراف عملي غامض للغاية بالنسبة لذاتها" (36).
يتم إدراك العالم وفهمه وفقًا للفئات والمفاهيم وقبل كل شيء الهياكل (على سبيل المثال، العلاقات فوق/ تحت، المذكر / المؤنث، الأبيض / الأسود) التي يفرضها النظام الاجتماعي ويدمجها الفاعلون الاجتماعيون. هذه الهياكل المعرفية هي انعكاس للهياكل الموضوعية للعالم، وبالتالي يتم قبول الهيمنة المتأصلة في العلاقات الاجتماعية على أنها طبيعية تمامًا، كحالة طبيعية للعالم. وتُسمى نتيجة عملية الاستيعاب هذه الهابتوس. توجه هذه المجموعة من التصرفات المُكتسبة، في لحظة الفعل، وتشكل في ظل ظروف معينة، معتقدات الفاعل وأفعاله. من وجهة نظر سياسية صارمة، فإن الخضوع، "الذي لا علاقة له ب"العبودية الطوعية" [...] هو في حد ذاته تأثير سلطة، منقوشة بشكل دائم في جسد المهيمَن عليهم، على شكل هياكل الإدراك والتصرفات (الاحترام، الإعجاب، الحب، إلخ)، أي المعتقدات التي تجعل المرء حساسًا لبعض المظاهر الرمزية، مثل التمثلات العامة للسلطة"(37).
نجد نفس الحدس البنائي، تقريبا، في تفسير العبودية الطوعية بنظرية العادة؛ لكن الهابتوس يُفسِّر ما تَصفه تقريبا العادة. مثل الفلاسفة الماركسيون، لم يكتف بورديو، بالتحليل الفينومينولوجي - الظاهراتي الذي يفترض أن إدراك العالم يتم إنتاجه بواسطة الوعي، وبالتالي يتم هيكلته من خلاله. فهو كما La Boétie، ينوي تقديم تفسير لهذه الهيكلة:
"إن "الموقف الطبيعي" للظاهراتيين، أي التجربة الأولية للعالم كأمر بديهي، هو علاقة مبنية اجتماعيًا […]: إذا كانوا على حق في التذكير، خلافا للرؤية الميكانيكية، أن الفاعلين الاجتماعيين هم الذين يبنون الواقع الاجتماعي"، فإنهم يغضون الطرف عن طرح مسألة البناء الاجتماعي لمبادئ بناء هذا الواقع الذي ينفذه الفاعلون في هذا العمل البناء، الفردي وأيضا الجماعي، وعن التساؤل حول مساهمة الدولة في هذا البناء"(38).
ولذلك يجب أن نوضح من أين تأتي العادة، التي لا تأتي فقط من النسيان. ومرة أخرى، فإن وجهة نظر المهيمِن هي التي تقدم نفسها وتفرضها كوجهة نظر عالمية. ومن خلال دمج الهياكل الموضوعية للهيمنة (والتي هي بهذا المعنى هيكلة الهياكل)، يقوم الفاعلون بإعادة إنتاج هذه الهيمنة. تماشيًا مع ألتوسير، يصر بورديو على دور الدولة في مجتمعاتنا. لكونها تُنظم وتضبط الممارسات، فهي التي تفرض تعلّم السلوكيات العملية والمعرفية التي تصبح تصرفات دائمة (هياكل منظمة)؛ مبادئ التصنيف (الجنس، العمر، المهارات، المهنة، مستوى الدخل، إلخ)، الفئات الاجتماعية (نشطة / غير نشطة ، مواطنين/ أجانب، وما إلى ذلك)، وإيقاعات الحياة (التقويم)، والأقسام التأديبية في الجامعة، وطقوس المؤسسة داخل الأسرة أو المدرسة، وما إلى ذلك. وهكذا، "تخلق الدولة الظروف الملائمة لتنسيق فوري للهابتوس الذي هو في حد ذاته أساسا لإجماع هذه المجموعة من الأدلة المشتركة"(39). بالنسبة لبورديو، فإن خدعة الطاغية تخلق حقًا ظروف العادة. ومن أجل استكمال عرض نظريته، دعونا نتذكر أنه، مثل الماركسيين، وعلى عكس لا بويسي La Boétie ، يأخذ في الاعتبار حقيقة أن الهيمنة تعتمد في أغلب الأحيان على القوة والمال، لكنه يصر، مثل ألتوسير، على الحقيقة أن لها دائمًا بُعدًا رمزيًا.
ما هو الفرق إذن مع نظرية ألتوسير؟ سؤال من الصعب الإجابة عليه. وبالرغم مما يقوله الكاتب نفسه(40)، يبدو أن هناك تشابهًا قويًا بين الاثنين، لا يمكن التشكيك فيه إلا من خلال الاهتمام بالتفاصيل حول الآليات التي تلعبها صياغة الأحكام. لكن هذا القلق ليس في حد ذاته تفصيلاً. في الواقع، نجد عند بورديو، و بوضوح شديد، وظائف الاعتراف ووظائف التجاهل، على الرغم من تسميتها بشكل مختلف. لكنه يصر، بلا شك، أكثر من ألتوسير على العلاقة بين الهياكل الموضوعية (أجهزة الدولة الأيديولوجية، من بين أمور أخرى) والهياكل المعرفية (التصرفات، والهابتوس). ففي نهاية المطاف، ترجع الفجوة بين النظريتين أولاً إلى التركيز على آليات وشروط دمج الهياكل الموضوعية، ثم إلى الطبيعة الاستعدادية المحددة للهابتوس:
"في مفهوم "الوعي الزائف"، الذي يستشهد به بعض الماركسيين لتفسير آثار الهيمنة الرمزية، فإن "الوعي" هو زيادة عن اللزوم، والحديث عن "الأيديولوجيا"، هو وضع، ما نسميه "الوعي"، في نظام التمثلات القابلة للتحول من خلال هذا التحول الفكري، الموجود في المعتقدات، أي في أعمق الاستعدادات الجسدية"(41).
هكذا فإن الحدس البنائي لنظرية لا بويسي حول العبودية الطوعية يجد أصداء هائلة في النظريات الحديثة للهيمنة. سواء كان ذلك في شكل تمثلات للعالم، أو بشكل أكثر عمقًا، في التصرفات، فإن الهيمنة يتم تفسيرها أولاً وقبل كل شيء من خلال التواطؤ اللاواعي للمهيمَن عليهم. ثم أوضحنا أن الامتياز الذي منحه كاتب الخطاب للتفسير من خلال سلسلة المكاسب لم يكن له ما يبرره لأنه كان في الحقيقة مبنيا على التفسير بالعادة. لهاذين السببين، فإن العبودية الطوعية هي بلا شك أقرب إلى الخضوع الألتوسيري أو العنف الرمزي لبورديو أكثر من كونها أقرب إلى الهيمنة الفيبريية المشروعة.
رودولف غوين - دكتوراه في العلوم السياسية، باحث ومحاضر في علم النفس السياسي في قسم العلوم السياسية - جامعة بوردو (فرنسا) . يركِّز في بحثه على نظرية المعرفة في العلوم الاجتماعية والعلاقة بين العلوم المعرفية والعلوم السياسية، والنهج المعرفي للسياسة العامة والعمل الجماعي.
الترجمة عن:
Rodolphe Gouin. "Servitude volontaire". in V. Bourdeau and R. Merrill (éditions.) DicoPo. Dictionnaire de théorie politique, 2007, pp.[en ligne]. 7 Octobre 2022. https://shs.hal.science/halshs-00186763v1
الهوامش :
- Lefort, "Le nom d’Un" , in É. De La Boétie . (DE), 1978, pp.258-259.
- Étienne de LA Boétie, (DE), "Le discours de la servitude volontaire", Paris, Payot, 1978- (1576).
- Abensour et M. Gauchet, "Présentation. Les leçons de la servitude et leur destin", in de La Boétie, 1978.
- Arendt, "Le système totalitaire", Paris, Seuil, 1978, p. 235.
- Foucault," Le sujet et le pouvoir", Dits et écrits II, 1976-1988, Paris, Gallimard. 2001, p.155.
- La Boétie, pp. 174-175.
- Simone Weil, "Méditation sur l’obéissance et la liberté", in LA Boétie (DE), 1978. Liens : Althusser - Bourdieu – Domination – Esclavage volontaire - La Boétie, E. – Idéologie(s), 88.
- La Boétie, p.177.
- , 179.
- , 204.
- Clastres, pp. 230-231.
- , p. 235
- La Boétie, p. 185.
- , p.190.
- , p. 203.
- , p. 212.
- , p. 203.
- Ibid,. p. 212.
- Ibid,. p.199.
- Lefort, pp. 247-307.
- , p. 274.
- Ibid,. pp. 276-293.
- , p.301.
- La Boétie, 176.
- Weber, “Economie et société”, Paris, Plon, réédition, Agora, 1995, p.320. -[1]
- Marx et F. Engels, "L’idéologie allemande", Paris, Éditions Sociales, 1974, p.23.
- Marx et Engels, "Manifeste du Parti communiste", Collectif, "Le Manifeste communiste aujourd’hui", Paris, Les Éditions de l’Atelier/Éd. Ouvrières., 1998, p.40.
- Marx, "Le 18 brumaire de Louis Bonaparte", Paris, Éd. Mille et une nuits, 1997.
- Louis Althusser, "Idéologies et appareils idéologiques d’État", Positions, Paris, Éditions Sociales. 1976.
- Ibid,. p.73.
- Bourdieu," Réponses", Paris, Seuil, 1992, p.141.
- Bourdieu, "La Noblesse d’État, Grandes écoles et esprit de corps", Paris, Minuit,1989, p.12.
- Bourdieu, "Les méditations pascaliennes", Paris, Seuil, 1997, p.211.
- Ibid,. 204.
- Ibid,.
- , p.205.
- Ibid,.pp.208-209
- , p. 210.
- Bourdieu, "La Noblesse d’État", p.10.
- Bourdieu, p.212.