لا يمكن للحديث عن الديمقراطية والمجتمع المدني أن يتفادى التكرار حينما يتعلق الأمر بتحديد معانيهما وعرض أصولهما ونماذجهما القائمة. هذان المفهومان، المترابطان والمعتمدان على بعضهما، يشكّلان فيما بينهما وحدة عضوية مميزة للمجتمع الغربي الحديث وللفكر السياسي المعبر عنه والمؤسس له.
تطرح هذه الورقة بعض الأسئلة المرتبطة بالنقاش النظري حول المفهومين المذكورين، وحول ممكنات تطبيقهما خارج سياقهما التاريخي والثقافي التقليدي المتمثل بالعالم الغربي الحديث. من المعروف أن النقاش عندنا حول الديمقراطية، أو ما شابهها من نظام يحتكم لإرادة الشعب لا إلى إرادة الحاكم المطلق، قديم يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر. ولعل عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" أول من تصدى للموضوع حين أشار إلى أن "الحكومة، من أي نوع كانت، لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة، التي لا تسامح فيها"(ص 32)(1). ولئن اعتبر الكواكبي مشكلة الحكم من أقدم المشاكل في تاريخ البشرية، فإنه لاحظ أن الغرب قد قرر لها قواعد أساسية "تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحق اليقين فصارت تعد من المقررات الإجماعية عند الأمم المترقية" (ص 134). حملت أفكار الكواكبي ومن سبقه من المصلحين رجعَ ما سمي بصدمة الحداثة التي باغتت مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأوقفتها إزاء مواجهات صعبة وخيارات مؤلمة نفسياً ومعقدة عملياً. أما المواجهات فيجملها التحدي الغربي الذي ما أنفك يعلن عن نفسه منذ القرن التاسع عشر، ولعله سيستمر إلى أجل غير معلوم طالما امتلك الغرب القوة والمعرفة والاستقرار السياسي الذي صار ينعم به، بشكل استثنائي، منذ نيّف وخمسين سنة. لقد ظل التحدي قائماً رغم تغير الدور التاريخي للغرب من صاحب رسالة حضارية إلى مستعمر غاز ومن ثم إلى مركز يتحكم، عن بُعد، بمصير أطراف العالم اقتصادياً وعلمياً كما يحصل حالياً في سياق عملية العولمة وسياساتها. وظل التحدي قائماً حتى بعد أن صار الغرب أكثر تشككاً بشمولية مفاهيمه عن الحداثة والتقدم التاريخي والقيم الثقافية والأخلاقية، وأكثر حذراً في تصدير أفكاره وطريقة حياته التي نفذت فعلياً إلى مجتمعات العالم دون استثناء لتفرض نفسها من الداخل كجزء أصيل من حاجات التطور الواقعية فيها. ولا نقصد هنا الديمقراطية البرلمانية والحريات السياسية فقط، وإنما نشاطات الجماعات المنظمة حول مطالب حقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل والحريات الجنسية وحماية الطفولة والدفاع عن البيئة وسواها من القضايا. ونضيف إلى ذلك الإقبال على التسهيلات التي تمنحها ثورة الاتصالات والمعلومات، وشيوع النزعات الاستهلاكية للمنتجات المادية والثقافية. وظل التحدي الغربي قائماً حتى مع انضغاط بعدي الزمان والمكان وتقارب أطراف العالم الذي تحول حقاً إلى قرية صغيرة، وتحقق تجانس متزايد في أنماط الحياة والاستهلاك، واتساع حدود الهجانة الثقافية المميزة للحقبة ما بعد الحداثية المعاصرة، وتفتت المسلمات الكلاسيكية للمركزية الغربية. كل هذا يبرر الأخذ بثنائية ما عادت متداولة كثيراً في أيامنا، هي ثنائية التقدم والتأخر عند الحديث عن التفاوت البنيوي بين مراكز العالم وأطرافه، ذلك أن التفاوت قد تضاعف عملياً مع زعزعة حدود الدولة الوطنية، والعولمة الاقتصادية وتزايد الهجرة إلى المراكز الغنية.
أما الخيارات فتجلت في طيف من الاستجابات التي نحا بعضها منحى إصلاحياً رفض من الأساس إمكانية التحديث على الطريقة الغربية - التي هي غير ممكنة عملياً - وحاول أن يوفق بين تقاليد الماضي وضرورات التحديث، جامعاً بين إعادة تفسير التراث والانفتاح بصورة انتقائية على المستجدات المادية والثقافية. ونحا بعضها الآخر منحى جذرياً افترض وحدة التاريخ وحتمية التطور باتجاه خطي صاعد، ونظر إلى الهوية الحضارية كنتيجة للتغيير وليس مقدمة له. من المهم أن نشير هنا إلى أن هذه الاستجابات لم تثمر حتى الآن عن بدائل مقبولة وراسخة على جميع المستويات، تطمئن الشعور العام في مجتمعاتنا بعسر الحاضر وغموض المستقبل. إنها لم تتمكن إجمالاً من التفاعل الإيجابي مع الفرص التاريخية الموجودة دائماً بتواز مع وجود الضرورات والتحديات الفكرية والعلمية والسياسية.
لنعرض أولاً لمحة عن مفهومي الديمقراطية والمجتمع المدني، ونبدأ بالأولى التي نستدل عليها من غيابها عن حياتنا في ماضيها وحاضرها. ذلك أن نقيضها ظل هو السائد و"الصالح" لكل الأزمان بهيئة حاكم مستبد أو دولة متسلطة أو علاقات اجتماعية قائمة على التراتبية والأبوية، الأمر الذي ساعد على ترويج التعميم القائل بأن الديمقراطية حكر على المجتمعات الغربية المسيحية دون سواها، وأنها ميزة جوهرية للفكر الغربي مقارنة بنقيضه الشرقي الاستبدادي. في الواقع أن مصطلح الديمقراطية الذي يعود أصله إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ويشير إلى شكل محدد من أشكال الحكم، يتيح للشعب حكم نفسه بنفسه، ما كان أبداً من المسلمات المجمع عليها من قبل المفكرين ورجال الحكم عبر تاريخ أوربا. فقد عارض الديمقراطية كل من أفلاطون وأرسطو، لأنهما وجداها عاجزة عن تحقيق مثالهما الأعلى للمجتمع السياسي. وطواها النسيان طيلة فترة العصور الوسطى، لتدخل من جديد مجال التفكير في القرن الثالث عشر الميلادي، قبل أن تتجسد في تنظيمات المدن - الدول خلال عصر النهضة. أما في العصر الحديث فقد فرضتها الثورة الفرنسية بالسلاح والدم، لكن أمرها، كنظام سياسي، لم يحسم نهائياً في غرب أوربا إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أي بعد القضاء على الفاشية. الدولتان الغربيتان الوحيدتان اللتان استمر فيهما العمل بالمؤسسات الديمقراطية دون ردة أو انقطاع هما بريطانيا والولايات المتحدة. في مفهومها المتعارف عليه حالياً تقوم الديمقراطية على ركائز عدة تشمل حرية التعبير والاجتماع، المشاركة في الاقتراع العام، حرية الصحافة، المشاركة السياسية، سيادة القانون والانتخابات. هذه الركائز ليست مجرد إجراءات شكلية لتنظيم واحتواء الصراع السياسي، لأنها مستمدة من نظرة فلسفية لطبيعة المجتمع والسلطة وحقوق الأفراد وحرياتهم. وبمقدار ما يتعلق الأمر بتطبيق الديمقراطية خارج السياق الغربي، فإن من السذاجة توقع تحققها دفعة واحدة حسب الطلب، كما أن من الصعب استنباتها في شروط اجتماعية وسياسية وثقافية ما زالت تنظر إلى السلطة كمُلكية فعلية أو رمزية، وإلى الأفراد كرعايا ضمن سلّم تراتبي لوشائج عائلية أو طائفية أو قبلية. إن الاعتراف بالتحقق التدريجي للديمقراطية في مجتمعات لا عهد لها بها، وهو تحقق نابع من جدلية التاريخ لا من كرم النظريات، ينبغي أن يتلازم مع الانتباه إلى أنها قضية نضال دائم، وإلى أن التعامل الجدي معها يستدعي مراجعة جذرية لمنظومة المفاهيم والعلاقات السائدة. لتبني الديمقراطية كثقافة وكمبدأ لتنظيم الصراع السياسي ثمن لا بد من دفعه.
أما إذا تطرقنا إلى المجتمع المدني فسيلتبس الأمر قليلاً، لأن هذا المصطلح الحديث نسبياً قد حمّل منذ شيوعه دلالات متنوعة. لنتأمل وصف جان جاك روسو لماهية المجتمع المدني. يقول في السطور الأولى من الجزء الثاني من مقالته المشهورة والمعنونة "خطاب حول أصل التفاوت بين الناس": إن "الإنسان الأول الذي سوّر قطعة من الأرض وأعلن للناس: هذه ملكي، ووجدهم سذجاً بما فيه الكفاية لتصديقه، كان المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني. كم من الجرائم والحروب والقَتَلة، كم من الرعب والنوائب كان يمكن توفيره على البشرية لو خرج واحد من الناس ………وصاح بهم: إحذروا هذا الدجال؛ ستلحق بكم كارثة لو نسيتم بأن ثمار الأرض ملكنا جميعاً، وأن الأرض نفسها لا تعود ملكيتها لأحد". لا حاجة هنا للتأكيد على الدلالة السلبية للمجتمع المدني القرين بالملكية الفردية المذمومة العواقب، فهي واضحة في النص بما فيه الكفاية. المجتمع المدني كمرادف للأنانية الناتجة عن الملكية الفردية ورد تشخيصه عند هيغل أيضاً. فهو عنده والمجتمع البرجوازي صنوان، حيث يبدأ الفرد فيه يعي نفسه كإنسان مختلف عن إنسان المجتمعات القديمة التي حصرت المواطنة بحدود البلد. فالإنسان البرجوازي لا يستمد هويته إلا من تخطي الحدود الوطنية، لأن تلك الهوية تمثل تجلي العقل الشامل في التاريخ. في الوقت نفسه فإن هذا الإنسان البرجوازي لا يكرّس نفسه، كما فعل أسلافه القدماء، للحياة العامة فقط، لأنه ينتمي فعلياً إلى طبقة لا تريد أن تفرط بمصالحها الخاصة. لكي نتصور بشكل أوضح مفهوم هيغل للمجتمع المدني ينبغي أن نضعه في سياق مفهومه للدولة كما عرضه في "فلسفة الحق"، حيث تجد الدولة في العائلة والمجتمع المدني المقدمتين التاريخيتين والمنطقيتين لوجودها. الحركة الثلاثية للجدل الهيغلي والقائمة على الأطروحة ونقيضها وتركيبهما تبسط نفسها هنا بالشكل الاتي: هناك أولاً العائلة التي تسودها روح الولاء المطلق للجماعة، وتعبر عن حالة نموذجية للأخلاق الغيرية التي تبرر التضحية بالفرد لمصلحة الجماعة. وهناك ثانياً المجتمع المدني الذي يسوده ولاء الفرد لنفسه ولمصلحته الخاصة، ويجسد نموذجاً للأخلاق الفردية الأنانية. وهناك أخيراً الدولة التي هي تركيب يوفق بين نمطي الولاء الجماعي والفردي، ويوحّد بين المصلحة الشاملة للأفراد والفرقاء وبين غاية المجتمع ككلية قائمة بذاتها. قصد هيغل من الأنماط العامة الثلاثة المذكورة تفسير حالة المجتمعات المختلفة عبر التاريخ، فالعائلة تكثف روح المجتمعات القديمة، كالمجتمع اليوناني مثلاً، والمجتمع المدني يكثف روح المجتمع البرجوازي، أما الدولة فتكثف الصورة المثالية لجدل الوحدة والاختلاف، وهي الصورة التي أصبحت، كما يذهب بعض دارسي هيغل، حقيقة واقعة في المجتمعات الليبرالية.
لننتقل الآن إلى كارل ماركس الذي كتب في مقالته "المسألة اليهودية" (1843) أن ما يعدّ حقوقاً للإنسان إطلاقاً ما هو في الواقع إلا حقوق الإنسان كعضو في المجتمع المدني، أي الإنسان الأناني المنفصل عن بقية البشر وعن الجماعة. فحق الإنسان في الحرية، بالنسبة لماركس الشاب، ليس سوى حقه في الملكية الخاصة الذي يتيح له أن يتصرف بموارده وفق مشيئته دون اعتبار للناس الآخرين وباستقلال عن المجتمع. أما المساواة البرجوازية فتعني مساواة الجميع في أن يكونوا أشبه بالذرات المكتفية بذاتها. لكن المفهوم الأهم في المجتمع المدني هو مفهوم الأمن، حيث يضطلع المجتمع بدور الحارس الذي يحمي حقوق وملكية أفراده. لذلك لا يبدو المجتمع المدني، برأي ماركس، مؤهلاً للسمو فوق أنانيته التي تعتمد ديمومتها على ضمان الأمن.
استكمالاً لهذه المقدمة، لا بد من الإشارة إلى أن مفهومي الديمقراطية والمجتمع المدني وسواهما من المفاهيم كالمواطنة والمساواة والحريات الفردية والعلمانية، موضع جدل دائم حول شموليتها وصلاحيتها لكل المجتمعات الحديثة أو المنخرطة في الحداثة. فدعاة النزعة النسبية في المعرفة يرونها نتاجاً خاصاً بثقافة وبتاريخ الغرب، دون أن يكفوا عن انتقادها من منظورات أيديولوجية عامة أو أخلاقية محلية، في حين يعتبرها أندادهم من دعاة موضوعية المعرفة ملكاً للتجربة الإنسانية العابرة لتباين المجتمعات، ولا يميزون فيها خطراً على الهوية أو تهديداً للخصوصية الثقافية، اللذين يفهمونهما بمنطق التغير لا بمنطق الثبات. لكن لا يهمنا هنا أمر هذا الجدل في صورته النظرية المستندة على مسبّقات وحلول جاهزة. ما يهمنا أن هناك، من الناحية العملية، تجارب عديدة، في اليابان والهند مثلاً، للجمع بين توظيف هذه المفاهيم في المجال السياسي، وبين مقاومتها في المجال الثقافي والرمزي. على هذا المستوى الذي ينطلق من عدم وجود تعارض جذري بين الديمقراطية وقيم المواطنة والمساواة من جهة، وبين التقاليد والأعراف السائدة، من جهة أخرى، يكون من الممكن التوصل إلى الاستنتاج البراغماتي القائل بأن الديمقراطية كفكرة وكقيمة كافية لتبرير نفسها بنفسها، وأنها لا تستمد وجودها وشرعيتها من غاية تسبقها وتعلو عليها، غاية مصدرها العقل أو العدالة أو المساواة أو الصالح العام أو الإيمان الديني. فإذا كان أساس الديمقراطية في ذاتها وليس خارجها، فإن مرجعها الوحيد يكمن في ممارستها كفضاء مفتوح مفعم بالعفوية، والمرونة وروح الاستقلال، كما يدعي الكاتب الأمريكي بنجامين باربر (2). برأي هذا الكاتب، ينحصر السؤال الفعلي للديمقراطية في تفعيل وتوسيع المواطنة، أي في قدرة النظام الديمقراطي على استيعاب فئات جديدة، محرومة من التمتع بحقوقها، للمشاركة في إبداء رأي أو صنع قرار. لذلك تكون حدودها مرنة ومنفتحة لمساعي تعميم المساواة بين الأفراد لتشمل المرأة والرجل، الأبيض والأسود، ابن البلد والمهاجر. باختصار أن الديمقراطية هي عملية مستمرة لإشاعة المساواة دون اعتبار لفوارق الجنس، أو العرق أو الدين أو اللغة.
لنا أن نسأل هنا، هل يمكن تبني هذا التصور، الليبرالي في جوهره والمحايد ثقافياً في ظاهره، من قبل مجتمعات، كمجتمعاتنا الراهنة، صارت أغلبية فئاتها تراهن على الدين لأن يكون المرجع الأول والأخير لمفهوم السلطة السياسية فيها؟ هل يتاح للديمقراطية أن تكون مرجعاً لذاتها ضمن منظومة اعتقاد أخروي تعتبر نفسها هي الأخرى كاملة ومكتفية بذاتها؟ وهل يمكن للديمقراطية أن تأخذ مداها المتخيل في سياق ثقافات تتمحور حول الحفاظ على وحدة الجماعة قبل، أو أحياناً بالضد، من حرية الفرد؟ قبل الإجابة على هذه الأسئلة ينبغي التنويه إلى أن رفض الديمقراطية ليس من اختصاص الفكر الديني المتفاوت في مرونته واستعداده للمراجعة والاجتهاد، وأن إعاقة تطبيقها ليس حكراً على الحركات الدينية المتنوعة في استجابتها لروح الإصلاح والتغيير. ففي هذا وذاك تشاركها قوى اجتماعية تحركها عوامل دنيوية بحتة كالروابط العائلية والقبلية وروح الزعامة وامتلاك الثروة والامتيازات. كذلك ينبغي التنويه إلى تباين موقف الأديان من قضية التطور الاجتماعي والحريات والحقوق المدنية. ونستفيد في هذه النقطة من تفسير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر لظاهرة الرأسمالية التي ربط نشوءها بالمذهب البروتستانتي المعروف بدعوته إلى تبني أخلاق تقوم على العمل الصارم والزهد في الحياة الدنيا، مما يوفر فرصاً أكبر لتراكم رأس المال. وقاده تعميم نتائج بحثه التاريخي إلى الاستنتاج أنه إذا كانت بعض الأديان تيّسر تطور الرأسمالية، فإن بعضها الآخر يعيق هذا التطور. من منظور قابل للمقارنة بمنظور ماكس فيبر لاحظ المفكر الفرنسي الكسيس توكفيل (1805-1859) وجود علاقة انسجام بين المعتقدات الدينية المسيحية وروح الحرية في العالم الجديد، أي أمريكا التي درس تجربتها في كتابه "الديمقراطية في أمريكا" (1835). فالمجتمع الحديث، بالنسبة له، يعثر على تفسيره في الديمقراطية، وليس في العلاقات الاقتصادية الرأسمالية كما ذهب ماركس، أو في الإنتاج الصناعي كما ذهب أوغست كونت. لكن ما هو جوهر تلك الديمقراطية عند توكفيل؟ إنه يتلخص في المساواة العامة في الشروط الاجتماعية بحيث يتمتع كل فرد دون استثناء بحق اشغال الوظائف والمهن وحمل الألقاب وجني الامتيازات. لكن هذه المساواة (القانونية) لا تتضمن مساواة في الثروة أو في القدرات الطبيعية التي لا يمكن أن تكون متاحة للجميع بنفس القدر أبداً.
من المؤكد أن للدين الإسلامي في مجتمعاتنا أوجهاً عدة، فهو نظام للمعتقدات الروحية، وهو سلاح أيديولوجي بيد حركات سياسية تدعي التعبير عن رسالته الحقّة، وهو أيضاً أمل طوباوي بتخليص العالم من شروره. وجميع هذه الأوجه ناتجة عن تأويلات متباينة ومتصارعة لماهية الدين ودوره في حياة الإنسان وعلاقته بالسلطة. من المؤكد أيضاً أن أصحاب الحل والعقد في الدين الإسلامي يواجهون اليوم مهمة وصل وفصل روح الدين، وجسده السياسي، ومثاله الحضاري. ولعلهم يدركون أن الوعي الديني الشعبي والممارسة اليومية له لا يفسران بعامل الإيمان الثابت بقدر ما يفسران بعوامل اجتماعية وسياسية متغيرة. فعملية أسلمة المؤسسات والمناهج الدراسية والمظاهر والعادات ولغة التخاطب اليومي تسير فعلياً يداً بيد مع عملية العلمنة بوصفها اكتشافا أو إعادة اكتشاف للبعد الدنيوي في الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية. والتجربة الإيرانية تظهر بشكل واضح مآل الحماس الديني الذي صنع ثورة أذهلت العالم لبعض الوقت، لينهمك تحت خيمتها في صراع ضار حول موضوع الإصلاح الذي يمس تعاليم الدين الثوري من الداخل. هذا عن السؤال الأول، أما عن السؤال الثاني فيمكن للديمقراطية والدين أن يتعايشا إذا ما حصل إجماع على ازدواجية المرجعية، وهذا غير قائم في الحالة الإسلامية التي ترفض الديمقراطية جملة وتفصيلاً، أو تستعيض عنها بمبدأ الشورى، أو تقدم مسوغات غير صريحة لقبولها. لكن لا ازدواجية المرجعية ولا واحديتها تعني تجنب التصادم بين تأمين الحريات الديمقراطية وحدود العقيدة والتعاليم الدينية. الفرق الأساسي بينهما أن التصادم في الحالة الأولى يكون علنياً ومعترفاً به، أما في الحالة الثانية فيطمس ويلغى. أخيراً، فإن الديمقراطية القائمة على مبادئ المساواة والحرية والحقوق تهدد فعلياً وحدة الجماعات التقليدية، وتزرع التنافس والصراع فيها، ولذلك يبدو مشروعها متناقضاً مع بنى ثقافات تلك الجماعات وحاجاتها، ومع النظم السياسية ذات النزوع الشمولي التي ترفع لواء الدفاع عنها. لكن الديمقراطية القائمة على ثقافة الاختلاف والمسؤولية الفردية والتسامح لا تعمل دون إطار متفق عليه لهوية الجماعة المتعددة الملامح، ولوحدتها المتجددة بفعل الصراع والتغيير.
أما السؤال عن المجتمع المدني فموضوعه العلاقة بين مضمونيه الاقتصادي والسياسي، وقد أشرنا أعلاه إلى مضمونه الأول حسب بعض تعاريفه الكلاسيكية. لكننا نلاحظ في النقاش المعاصر حصول تحول في دلالة المجتمع المدني الذي صار يفهم كفضاء سياسي قائم بذاته دون جذور اقتصادية، أو كفكرة معيارية لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع السياسي، فكرة لها شحنة نضالية ودعاة متحمسون. يعرّف أرنست غلنر عالم الاجتماع والإناسة البريطاني الجنسية والجيكي الأصل، المجتمع المدني كما يلي: أنه "مجموعة من مؤسسات غير حكومية متنوعة تكون قوية بما فيه الكفاية لموازنة الدولة، وقادرة على منعها من الهيمنة على المجتمع وتفتيته، لكن دون أن يشكل ذلك عائقاً للدولة للاضطلاع بدورها كمحافظ على السلام وكحكم بين المصالح الرئيسية". يتضح من هذا التعريف أن للمجتمع المدني دورا أقرب إلى دور حرب العصابات إزاء سلطة مركزية راسخة وجامدة نسبياً. فهو وإن لا يستطيع مكافأتها في القوة، وليس المطلوب منه أن يكون كذلك، ينبغي أن يكون حاملاً لقضايا عامة أو أداة لمعارضة سياسات قائمة من منطلق تعددية وتنوع المصالح. لئن كان للمجتمع المدني، عند غلنر،(3) دور أحادي الاتجاه يستهدف سلطة الدولة، فإنه يكتسب عند بنجامين باربر دوراً مضاعفاً.(4) يضع باربر المجتمع المدني في منطقة وسطى بين الحكومة والقطاع الخاص، أي بين السياسة والاقتصاد. فيشير إلى أن مكانه ليس في المراكز الانتخابية، وليس في أماكن التسوّق، بل "حيث يتكلم أبناء الحي الواحد والجيران عن الشكل المناسب لسلامة المرور وعبور الشوارع، عن حفظ فائدة مدرسة الحي، عن استخدام الكنيسة لإيواء المشردين.. الخ".
المجتمع المدني لا ينافس الحكومة في امتلاك وسائل القمع الشرعية، كما أن لطابعه العمومي طبيعة تطوعية غير قابلة للخصخصة (الدخول في آليات السوق). المجتمع المدني كما يتصوره باربر هو هوية مدنية يتمتع بها المواطن الذي يجمع بين حريته ومسؤوليته، وتتيح له مراقبة الحكومة والسوق معاً، هوية توفر بديلاً للمواجهة الضيقة المحصورة، في دولة كالولايات المتحدة، بين الدولة والفرد المنعزل، والحكومة والقطاع الخاص، والسياسيين الفاسدين والمقترعين الغاضبين. ثمة ما يستوقف المتأمل في المفهوم الإيجابي للمجتمع المدني عند غلنر وباربر، فهو ينزع عنه سماته الفردية والأنانية التي شخصها مفكرون مثل روسو هيغل وماركس، ويوكل له مهمة حماية المصلحة الجماعية. ثم يقوم، أي التعريف، بتعميمه كأداة للمشاركة السياسية صالحة لجميع المجتمعات بغض النظر عن تطورها الاقتصادي ورسوخ التقاليد الديمقراطية فيها. لهذا يمكن اعتبار الانتشار الواسع المتحقق في العقود الأخيرة لفكرة المجتمع المدني دليلاً على درجة العولمة الحاصلة لقيم الديمقراطية والتعددية والمواطنة المتاحة للأفراد في المجتمعات الرأسمالية الليبرالية. على أن لهذه القضية بعداً آخر غير بعد التحقق العالمي السريع أو التدريجي لمثالات اعتبرت حتى وقت قريب ملكاً لنمط الحياة البرجوازية، إذ يرى البعض كبنجامين باربر، في كتابه الآنف الذكر، أن المجتمع المدني مهدد في معاقله وفي أطرافه بالتفتت والانحسار تحت ضغط انبعاث التطرف الديني والنزعات الإثنية والقبلية، من ناحية، واندفاع قوى العولمة لضمان سوق عالمي مقياسه الأخير الربح المادي وأداته الرئيسية ترويج الاستهلاك بكل أشكاله، من ناحية أخرى. وجه الخطر في هاتين الحركتين يتمثل في ميلهما الشمولي الذي لا يخلو من العدمية حينما يتعلق الأمر بالخير العام للمجتمع ومواطنيه. بالإضافة إلى ذلك فإن مجال المجتمع المدني، في حالة مجتمعاتنا المعاصرة، متنازع عليه بين قوى الإسلام السياسي والقوى العلمانية، اللتين تلتقيان في توظيفه لمقاومة احتكار الدولة لمصادر القوة وصنع القرار. لذلك ليس من المحتم أن يكون المجتمع المدني حاضنة لأفكار وقيم مدنية ودنيوية تعكس المجال العام دون المجال الخاص المشحون بوعي ديني أصيل أو مصطنع(5).
أخيراً، فإن المسار المعقد للديمقراطية والمجتمع المدني في مجتمعاتنا يطرح بإلحاح بحث شروطهما الثقافية والسياسة التي هي موضوع للتفسير التاريخي، وإن ظهرت حيناً وكأنها تعصي حركة التاريخ. (انتهى)
نشرت (الثقافة الجديدة)، العدد303 تشرين الثاني / كانون الأول 2001.