انطلقت الشرارة الأولى للانتفاضة الباسلة صباح الأول من آذار 1991 بعد يوم واحد من إعلان انسحاب القوات العراقية من الكويت، وقبل يومين من وقف إطلاق النار ويومين من اجتماع خيمة صفوان بين وزير الدفاع العراقي هاشم سلطان والجنرال الامريكي نورمان شوارتسكوف قائد قوات التحالف الدولي خلال حرب الخليج الثانية عام 1991، التي عُرفت بـ“عاصفة الصحراء“.
كان غزو الكويت حدثا مفاجئا صادماً لشعبنا ولجميع شعوب المنطقة والعالم. ومنذ الايام الاولى للغزو وامام معرفة الجميع بطبيعة النظام الدكتاتوري، ورئيسه الاهوج بشكل خاص، والغطرسة الفارغة التي حباه الله بها، كان الجميع على قناعة ان البلاد ذاهبة الى مغامرة خطيرة خاسرة، ليس من الصعب توقع نتائجها الكارثية.
جميع العراقيين، بمن فيهم أولئك المحسوبون على النظام، وضعوا أيديهم على قلوبهم وهم يتابعون، عبر الاذاعات العالمية المختلفة قبل المحلية، أخبار الأحداث والتطورات الخطيرة المتسارعة حول العراق وفي عموم منطقة الشرق الاوسط.
سُحُب الحرب السوداء تتلبد في سماء المنطقة ارتباطا بتوجه قوات أمريكية وغربية إليها وتصاعد قعقعة السلاح وبالحملات الإعلامية الجوفاء للنظام في بغداد وعنترياته الفارغة، الى جانب تصاعد وتيرة إصدار قرارات مجلس الأمن الدولي بحق العراق والتلويح بقرارات وإجراءات جديدة بقساوة وثقل عقوباتها.
بات الجميع يدرك حجم الكارثة المحدقة بالبلاد وقتامة الأيام القادمة، الأمر الذي دفع بأعداد كبيرة من سكان العاصمة بغداد والمدن الكبيرة الأخرى الى ترك مناطقهم واللجوء إلى مدن الأطراف الصغيرة والمناطق الريفية.
في ظل هذه الأوضاع وجدت القوى الوطنية المعارضة لنظام الحرب والعدوان الدكتاتوري في داخل البلاد وخارجها، وجدت نفسها أمام مسؤولية ومهام كبيرة، كان واضحا أنها اكبر من طاقتها وإمكانياتها، ومع هذا لم تجد هذه القوى أمامها من بديل سوى الدعوة لتجنب خيار الحرب بنزع فتيلها من خلال الانسحاب الفوري للقوات العراقية من الكويت، الى جانب رفع اليقظة والتحرك والاستعداد لاي تفجر وانعطاف يمكن أن تشهده البلاد.
وارتباطا بهذا الموقف، كثف الشيوعيون من جهودهم وصعدوا من هممهم داخل الوطن، كركائز وخيوط اتصال حزبية من الأعضاء والأصدقاء المؤازرين، أفرادا وعوائل، موزعة داخل المدن وبعض مناطق الريف.
وتواصلت الصلات من جانب "المركز الحزبي" المشكل حديثا في مدينة أربيل مع قيادة الحزب عبر المركز القيادي في مقراتنا الأنصارية على الحدود الشرقية في قاعدتي ناوزنگ ونوكان، وكذلك عبر صلة شبه يومية بواسطة جهاز استقبال خاص (راديو-لاسلكي)، سواء عبر البث من الموقع الأنصاري او من خارج البلاد، وكان البث يتضمن معلومات وتوجيهات عامة، بعضها خاص مشفر، وأخبار التطورات السياسية والانشطة المختلفة في منطقتنا والعالم، الى جانب نشاطات قوى المعارضة في خارج الوطن والإهابة بالجماهير ان تكون مهيأة لأية انعطافه سياسية.
كما جرى تكثيف الصلات مع مفارزنا الانصارية التي أخذت تقترب من المدن الكردستانية في منطقة رانية وبشدر والسليمانية ومناطق شقلاوة وأربيل.
كان المركز الحزبي في مدينة اربيل حديث التكوين يضم عددا من الرفاق يقوده عضو المكتب السياسي عمر علي الشيخ وعضوية عزت عثمان وحسان عاكف وجلال الدباغ، إلى جانب رفاق قياديين آخرين موزعين في مدن أخرى ؛ هوگر، سعدون، بخشان زنكنة، كمال الزهاوي وحمودي عبد محسن.
واسمحوا لي ان أذكر هنا الفقيد النصير الإعلامي وصفي (هاوكار) الذي كلف بإنجاز المهام الإعلامية في شقة سرية خاصة في أربيل، وكان بصلة خاصة مع المركز الحزبي.
وكانت هناك ركائز وصلات تنظيمية سرية متنوعة في مختلف المدن تضم المئات من الرفاق والأصدقاء النشطاء الموزعين في العاصمة بغداد وبابل والفرات الاوسط والبصرة ومدن وقرى المحافظات الكردستانية. أذكر ممن كان من الكوادر في بغداد، وتعرفت عليهم في سنوات لاحقة حسن ناجي (حيدر)، اصبح في وقت لاحق عضوا في اللجنة المركزية و(نوال) و(رفاه سالم)... وفي ريف بابل عطا عباس (حيدر) وفي البصرة أحمد كاظم (أبو محمد) أصبح عضوا في اللجنة المركزية في وقت لاحق أيضا، وأعتذر من المئات الآخرين الذين يصعب عليّ ذكر أو تذكر أسمائهم.
ولكل تشكيلة من هذه التشكيلات ارتباطاتها الخاصة مع رفاق وركائز في محافظات أخرى في الوسط والجنوب. هذا عدا عن اعداد كبيرة أخرى من المنقطعين عن التنظيم منذ الضربة التي وجهت للحزب نهاية السبعينيات، واصل الكثير منهم صلات متنوعة بينهم؛ صلات اجتماعية وقرابة وصداقة ورفقة سابقة متنوعة. هناك الاف الشيوعيين في محافظات الوسط والجنوب الذين تركوا (انقطعوا) الحزب ابان الهجمة على الحزب 1979 ولكن بقوا يحملون المثل وافكارهم وقيمهم الانسانية والشيوعية واليسارية والديمقراطية، اشتركوا في الهبة الجماهيرية وفي التحرك والمساهمة ضد هذا النظام، الى جانب مؤازرين متأهبين في تلك الظروف الملتهبة، بانتظار اية اشارة للتحرك. وقد أظهرت الايام الاولى للانتفاضة ان أعداد هؤلاء في عموم المدن كانت بعشرات الآلاف.
في المدن الكردستانية وضواحيها كان لانصارنا علاقات تنسيق مع بيشمرگة الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني والحزب الاشتراكي، وكان يجري تبادل وجهات النظر والآراء والتحركات المشتركة والتهيؤ لما هو آت.
هكذا شهدت الفترة بين 2 آب يوم الغزو المشؤوم الى 17 كانون الثاني 1991 يوم إندلاع الحرب جملة من التحركات والنشاطات التعبوية الدؤوبة مع ترقب أحداث هامة وخطرة ستمر بها بلادنا.
قدم الى اربيل بعض الرفاق من مدن الجنوب وتحدثوا عن التوتر العالي في المدن وطلبوا وثائق حزبية ايا كان، وكان ذلك ربما في منتصف شباط، وكان المركز الحزبي قد هيأ بيانا حول الاوضاع على ان يوزع في 20 شباط في عموم العراق، لكن الرفاق والاصدقاء في مدن الجنوب ابكروا بتوزيعها بالنظر الى الاوضاع المتفجرة.
تفجر الانتفاضة الشعبية في الجنوب
اندلعت الشرارة الأولى للانتفاضة يوم 1 آذار من مدينة البصرة وامتد لهيبها سريعا الى اقضية ونواحي المحافظة، وانتشر كالنار في الهشيم الى محافظتي العمارة والناصرية صعودا حتى محافظة بابل وصولا الى مشارف العاصمة بغداد.
ولابد من الاشارة الى أن مقاتلين من القوى الاسلامية المعارضة لنظام صدام الذين كانوا متواجدين في مناطق الاهوار اندمجوا مع سكان العديد من مدن الجنوب المنتفضة، كما في البصرة والناصرية، مثلما سيحصل بعد أيام قلائل باندماج الانصار والبيشمركة مع منتفضي المدن الكردستانية.
منذ الايام الاولى بدأت السلطة تحشيد قواتها والتحرك لقمع المنتفضين، وكان للقرار الامريكي بالسماح لصدام حسين باستخدام الطائرات السمتية دور خطير وحاسم في ضرب الانتفاضة وتمكينه من إطفاء لهيبها ووئدها في الجنوب والوسط. وهنا يذكر اسم المجرم حسين كامل ومحمد حمزة الزبيدي كقادة للقطعات العسكرية ومعهم مجموعة من أعضاء القيادة القطرية وقادة الفروع والشعب والفرق الحزبية البعثية الذين ساهموا في قمع الانتفاضة.
لهيب الانتفاضة يصعد شمالا صوب المدن الكردستانية
وفي كردستان انطلقت شرارة الانتفاضة الاولى من مدينتي چوارقرنة ورانية يوم 5 اذار، ولم يكن ذلك بمعزل عن موقعهما الجغرافي المحاذي لمواقع وحركة مفارز البيشمه ركة والانصار ليس بعيدا عن الشريط الحدودي، حيث مواقع البيشمرگة وحسم الموقف فيها سريعا لصالح المنتفضين.
في نفس اليوم اصدر النظام المترنح العفو العام عمن أسماهم (الغوغائيين).
في فترة لاحقة من عام 1991التقى صدام حسين مع آمري أفواج الجحوش، وذكر له احدهم أنه طلب من قائد الفرقة 24 ان يضرب سكان رانية المنتفضة بالسلاح الكيمياوي لكن القائد رفض.
الشرارة تصل السليمانية
يوم 6 اذار سيطرت قوات البيشمركة على نقطة سيطرة بازيان، عند مفرق طريق السليمانية دوكان، ولكن بقيت نقطة سيطرة مدخل مدينة السليمانية بيد النظام. يوم 7 آذار انتفضت مدينة السليمانية، واستمرت ليومي 7 و8، وكان لذلك صدى كبير ارتباطا بوضع المدينة وحجمها وتاريخها وما تعنيه لاقليم كردستان.
ومع الشرارات الاولى للانتفاضة تجمع اغلب عناصر الشرطة والمسؤولين عن الاجهزة الامنية والمخابراتية وعناصر الحزب الحاكم في مبنى أمن المحافظة، وجرى تقدير عددهم بـ 200 شخص، وجرت حول المبنى معركة شرسة مع المنتفضين إستمرت لعدة ساعات انتهت بانتصار حاسم للمنتفضين. ويروي وكيل مدير شرطة في كردستان قريب من الاحداث ان عناصر النظام قاموا بالاتصال ببغداد لارسال نجدة لانقاذهم، غير ان بغداد عجزت عن تقديم اية معونة، ما دفع مدير أمن المحافظة الى الاتصال عبر جهاز اللاسلكي لطلب المساعدة من بغداد، لكنه بدأ يشتم ويسب لأنهم خذلوه وتركوه وحده بدون مساعدة.
عن انتفاضة السليمانية يقول الرفيق رحمن غريب أحد المنتفضين الاساسيين في المدينة: "كانت المهمة هي توزيع العمل، والتحدث مع أقاربنا ممن نثق بهم، والحصول على الأسلحة، والتعرف على مقاتلي الأفواج الخفيفة. أتممنا المهمة وحصلنا على السلاح".
أشعلت أنباء انسحاب القوات العراقية من الكويت الأجواء، وأثارت انتفاضة البصرة الحماس. وزعنا تنظيماتنا على النحو الاتي:
قاد دلير جلال المجموعة في حي توي ملك الذي كان يضم عدة مقرات حزبية أمنية، ومفرزته (مريوان عزيز، سوران عزيز، يادكار دارا جلال، دانا جلال وآخرون.)
توجهت مفرزتنا من كاني سكان بقيادة رزكار غريب إلى المخابرات العسكرية القريبة من دائرة أمن النظام.
وفي حي العقاري، انضمت مفرزة أخرى بقيادة مريوان (ملا حسن) وزانا عمر إلى المفارز التي تقاتل قوات النظام الأمنية ومن ثم انضمت إلى مفرزة رزكار غريب.
مقر الأنفال الكائن في حي بختيار يقود القوة (رحمن غريب) بمساعدة (حسن رحيم، كويستان رحيم).
كان لدينا الكثير من الأصدقاء حولنا في كل مجموعة من هذه المجاميع. وكان ديلير جلال وسهيل الزهاوي مشرفيْن على جميع المنظمات.
وصلت قوات البيشمركة التابعة للحزب الشيوعي العراقي إلى السليمانية في 8 آذار، وشاركت في الاستيلاء على أمن النظام.
لا بد من ان نضع في اذهاننا ونحن نتحدث عن اي مركز محافظة ان نواحي واقضية هذه المحافظات كان لها هباتها. كما ان نسبة المدنيين الذين اشتركوا في الانتفاضة والتي لا صلة مباشرة لهم بالعمل السياسي او بالأحزاب في كردستان وفي الوسط والجنوب كانت هي الغالبة. المشاركة التي تعبر عن المعاناة من نظام استبدادي استمر طيلة هذه السنين.
يوم 8 آذار تفجرت الانتفاضة في مدينة كويسنجق و9 و10 اذار تردد صداها في شقلاوة ومنطقة سوران ومدن وقصبات المنطقة. وكان لسكان المجمعات القسرية دورهم في كل المحافظات التي حصل فيها هذا الانفجار.
11 آذار مدينة أربيل تنتفض
انطلقت أولى شرارات الانتفاضة في اربي في 6 اذار في منطقة شيخ الله من على ظهر سيارة بيكاب من حنجرة فتاة شابة (اوميد ملا حسن) وهي تعتلي السيارة برفقة عدد من الزملاء الشباب (سرود ودلشاد وآخرين) من الشيوعيين في مدينة أربيل، ولكنها استمرت لفترة قصيرة جراء عدم انشداد المواطنين حولها وانسحاب غالبيتهم من المنطقة.
بعد ذلك جرى الاتفاق بين ممثلي حزبنا وممثلي الاحزاب الكردستانية المتواجدين في اربيل عبر التشكيلات العسكرية لهذه الاحزاب على التحرك لتفجير الانتفاضة يوم 10 آذار، بعد أن جرى تحديد الاهداف الهامة التي ينبغي إعطاؤها الاولوية والهجوم عليها.
مع حلول مساء يوم 9 آذار جابت سيارات حكومية شوارع المدينة معلنة قرار منع التجول بدءاً من صباح اليوم التالي 10 آذار، لذا جرى تأجيل موعد تفجير الانتفاضة الى يوم اخر.
مرّ يوم 10 آذار هادئا، غير أنه لم يجر أي التزام بمنع التجوال، باستثناء توقف حركة السيارات، حيث ظلت الأسواق مفتوحة وكذلك كانت حركة الناس طبيعية في عموم المناطق والأحياء.
صباح اليوم التالي 11 آذار غطت أجواء المدينة أصوات رشاشات الانصار والبيشمركة في مناطق مختلفة، وزحفت جموع المواطنين الى الشوارع والساحات العامة، ولم تواجه القوات المهاجمة والجموع الزاحفة اية مقاومة تذكر سوى في موقع واحد هو مبنى استخبارات محافظة اربيل، الذي شهد مقاومة شديدة استمرت من الصباح الى الساعة الثانية بعد الظهر.
كيف حصل هذا الانهيار السريع خاصة وان اربيل هي مركز الحكم الذاتي ومؤسساته كونها عاصمة الاقليم، وفيها الكثير من دوائر الامن والشرطة والمخابرات والمقرات الحزبية الى جانب موقع قيادة الفيلق الخامس للجيش..؟
في ضوء معلومات مؤكدة كان القرار الرسمي هو تشكيل غرفة عمليات مشتركة تضم قوات عسكرية وأمنية وقادة بعثيين في اربيل مع دوائر المخابرات والاستخبارات. وتم إختيار مقر الفيلق الخامس (الذي تحول اليوم الى بارك سامي عبد الرحمن) مقرا لغرفة العمليات، لكن ما أن اندلعت الانتفاضة صباح 11 آذار ودوى صوت الرصاص في المدينة حتى بدأ تبخر القادة والكوادر من غرفة العمليات وغادرت جميعها تقريبا، هاربة بسياراتها باتجاه مدينة الموصل، وتم نقل القادة الكبار بواسطة طائرات الهليكوبتر، حينها انتهى كل شيء ومع وقت العصر اكتظت شوارع اربيل بآلاف المواطنين.
وهنا لا بد من الاشارة الى أن التظاهرة التي شهدتها ناحية عينكاوة في اربيل ذلك الصباح، والتي تصدرها الشيوعيون تعرضت لاطلاق نار من المقر الحزبي في المدينة أدى الى اصابة أحد قادة التظاهرة بكسر في ساقه، وهو المناضل الشجاع فاروق عتو، عضو مجلس النواب العراقي عن الحزب الشيوعي الكردستاني في الدورة الحالية.
مرة ثانية، لا بد من التأكيد على أنه كان لقوات البيشمه ركة في المدن الكردستانية بما تملكه من خبره قتالية وسلاح، دورٌ كبير في تحقيق الانتصار في وقت سريع، وكان للشهيد سعدون والانصار العاملين معه دورهم المتميز.
وما دمنا نتحدث عن إنتفاضة أربيل لا بد من الوقوف أمام مشهد مفاجئ عاشته المدينة في الايام التالية التي أعقبت انتصار الانتفاضة.
منذ اليوم الثاني للانتفاضة عاشت أربيل ولعدة أيام ظاهرة غريبة لم تشهدها المدينة عبر تاريخها الطويل حين بدأت أرتال كبيرة راجلة من العسكرين المجردين من اسلحتهم المنسحبين من مواقعهم العسكرية التي كانت منتشرة من أربيل الى أقصى وأبعد ربية على قمم جبال حاجي عمران وگلالة في الشمال الشرقي، بدأت تدخل المدينة من بوابتها الشمالية وتملأ شوارع المدينة وساحاتها، وحدائقها ومساجدها وهي في حالة من التعب والاعياء بسحنات شاحبة منهكة بسبب مسير ايام عدة والتعب والجوع، واتخذ المئات منهم من مقر الاتحاد العام لنقابات العمل والذي اتخذ مقرا للحزب الشيوعي العراقي ملجأ مؤقتا. حينها هبّت اعداد كبيرة من عوائل اربيل لتقديم الطعام لهم. كانت رغبة الاغلبية من هؤلاء هي مواصلة رحلتهم الشاقة لمواصلة رحلتهم الراجلة صوب الجنوب للوصول الى عوائلهم. ويمكن القول إن هذا المشهد تكرر في أغلب المدن الكردستانية. ولم يكن ذلك بمعزل عن قرار الجبهة الكردستانية بالدعوة الى دعم الجنود ومساعدتهم للوصول الى المناطق الراغبين فيها سواء من توجه منهم الى الجنوب ام ذهب الى ايران وغيرها.
الانتفاضة في دهوك
يقول الرفيق توما توماس في مذكراته: في دهوك لعب "الجحوش" دورا في انطلاق الانتفاضة، إذ تمكنوا من ضرب مقرات حزب البعث ودوائر الأمن بعد انسحاب الجيش من المحافظة. وتمكنت مفرزة من انصارنا (منظمتي نينوى ودهوك) من الدخول إلى زاخو يوم 12 /3/ 1991. وتشكلت المفرزة من الرفاق صبحي خضر (أبو سربست) وصباح كنجي وازاد مختار (سردار) وساهر ميخا (عماد) وسعيد دوغاتي وأبو افكار ورمضان حسن (دلكه ش) وعلي هيركي ويوسف شعبان (كيفي). ولم يتوقف الرفاق في زاخو، بل توجهوا إلى دهوك ليلتقوا برفاقنا القادمين من إيران ويتخذوا من مقر شعبة دهوك لحزب البعث مقرا لهم. وارسل الرفاق مفرزة صغيرة إلى ألقوش التي عقدوا فيها ندوة ثم توجهوا إلى الشيخان يوم 15 /3/ 1991. وبقيت المفرزة في عين سفني حتى يوم 28 /3/ 1991 إذ تركت موقعها اثر رجوع قطعات الجيش العراقي إلى المنطقة.
الانتفاضة في كركوك
بعد انتفاض المدن والقصبات والمجمعات القسرية في كردستان، بقيت كركوك، وهي مدينة تختلف في تركيبتها السكانية عن السليمانية واربيل ودهوك وعموم المدن الكردستانية الاخرى. في المدن الاخرى هناك غالبية سكانية كردية ساحقة. في داخل مدينة كركوك هناك كرد وتركمان وكلدور اشور سريان وعرب.
كان التوقع أن امكانية تفجر إنتفاضة في مدينة بهذه التركيبة السكانية ستكون صعبة، لهذا أصبحت الوجهة لدى المنتفضين على اختلاف توجهاتهم السياسية أنه لا بد من إرسال قوات بيشمركة من محورين؛ محور سليمانية كركوك، ومحور اربيل كركوك. كان الشهيد سعدون ضمن الرفاق المكلفين بقيادة مفارزنا الانصارية مع رفاق آخرين من ابناء محافظات كركوك والسليمانية وأربيل.
وصلت الى ضواحي كركوك أعداد كبيرة من البيشمه مركة والأنصار بعد انضمام قوات جديدة من مفارز البيشمركة الذين نزلوا من مقراتهم الحدودية او من ضواحي المدن والأرياف، وواجهتهم في البداية مقاومة من جانب قوات السلطة وتعذر دخولهم المدينة، لكن بعد ليلتين من استمرار المواجهة وحصار المدينة جرى اقتحامها في 21 اذار وتحريرها من قبضة السلطة.
شدة مقاومة القوات الحكومية في كركوك لم تكن بمعزل عن أهمية وخصوصية المدينة بالنسبة لحكام بغداد، حيث مقرات الأجهزة الأمنية والمخابرات والاستخبارات لـ“المنطقة الشمالية“ ووجود ”معسكر خالد“ وهو واحد من اكبر المعسكرات في المنطقة الشمالية، إضافة الى وجود مطار عسكري كما هو الحال في الموصل، هذا في حين لا يوجد اي مطار عسكري في المحافظات الشمالية الاخرى.
كلفنا من قبل الرفاق بالتوجه الى كركوك انا والرفيق هادي علي (ابو عادل)، وصلنا في اليوم الثاني، كما وصل الرفيق جلال الدباغ من السليمانية. كذلك وصل عدد من الرفاق والبيشمركة من أهالي المحافظة، وكان لهم دورهم المتميز في الاتصال بالمواطنين والحركة الدؤوبة واستقبال الزائرين للمقرات، وتوفير بعض المستلزمات اللوجستية. ويمكن الاشارة بشكل خاص هنا الى الرفاق على زنگنة وزوجته بروين، ماموستا قادر والفقيد هاوكار وعشرات اخرين، وحضر أيضا إبن المحافظة الشيخ عطا الطالباني واتصل بعدد من وجهاء المدينة.
ومما تجدر الاشارة اليه هو سيطرة المنتفضين على نصف مساحة معسكر خالد وبقيت قوات الحكومة في النصف الثاني، ومع هذا لم تحصل اية مناوشات او اطلاق نار داخله في الفترة 21-30 آذار حين جاءت قوات عسكرية جديدة من بغداد بعد اعلان وقف الحرب من جانب القوات الامريكية.
عقدنا اجتماعين في مبنى محافظة كركوك مع ممثلي الاحزاب الكردستانية، وتدارسنا مجمل الاوضاع في المحافظة في مقدمتها المخاطر العسكرية، لكن المدينة بقيت مضطربة، وبدون خدمات منها الكهرباء الاتصالات وغيرها.
عندما وصلنا كركوك، وجدنا رفاقنا هناك قد فتحوا عددا من المقرات؛ الرئيسي في بناية نقابة العمال في كركوك، ومقر ثان في نادي الضباط، وثالث في ”مقر حزب السلطة“ في منطقة عرفة ورابع في منطقة أخرى.
في اليوم الثالث من تواجدنا جاءت مجموعة شباب من حي سكني جديد “دوميز“، معظم سكانه من اصول جنوبية ووسطى وطلبوا فتح مقر جديد في منطقتهم وتنسيب عدد قليل من الانصار وتزويدهم بقطع من السلاح، وهم يتكفلون بكل المستلزمات من توفير مبنى للمقر ومستلزماته بما فيها تهيئة مقاتلين، وبعد يومين نظموا لنا لقاءً في المقر الجديد مع عشرات المواطنين للحديث عن الأوضاع السياسية وطمأنة سكان الحي، ومن خلال وجوه الجالسين في الندوة كنا نشعر بفرحهم وسعادتهم من خلال أسئلتهم وحماسهم.
يمكن القول انه قبل يوم 20 آذار احكم النظام سيطرته على عموم المناطق الوسطى والجنوبية. وقرر التوجه نحو بقية المحافظات الشمالية، مستغلا موقف الولايات المتحدة الامريكية حين سمحت بتحليق طائرات الهيليوكوبتر.
في يوم 27 و28 اذار شاهدنا وصول طائرات مروحية في سماء المدينة وهي تقصف المناطق المحررة، وكانت الطائرات الامريكية تحلق فوقها كأنها حماية لها.
خلال الانسحاب من كركوك سقط العشرات من الشهداء من المدنيين والبيشمركة، وكان ضمنهم الشهيد النصير ملازم شيرزاد من أهالي كويسنجق، الذي كان قبل ست سنوات عضوا في الوفد الشبابي الطلابي العراقي الى مهرجان طلاب وشباب العالم العاشر في موسكو.
كانت كركوك نقطة الشروع بالهجوم على بقية المدن الكردستانية وبعد إحكام السيطرة عليها يوم31 اذار واصلت القوات الحكومية حركتها باتجاه أربيل والسليمانية. ومن أربيل واصلت القوات تقدمها الى صلاح الدين ثم توجهت نحو شقلاوة لكنها لاقت مقاومة جريئة منعتها من الوصول الى شقلاوة. كذلك توقفت القوات الحكومية عند مشارف مدينة السليمانية دون دخولها. بالنسبة لنا نحن الذين كنا في كركوك توزعنا وانسحبنا فجر يوم 30 اذار الى اربيل والسليمانية.
محطات تستحق التوقف أمامها
المحطة الاولى: صباح الانتفاضة 11 اذار وبحدود الساعة التاسعة مرت من أمام البيت الذي كنا فيه تظاهرة من سكان المنطقة شباب ونساء ورجال وهم يهتفون بحماس عال حاملين العصي وسكاكين وادوات المطبخ الاخرى والاسلحة الخفيفة، وكانوا بالمئات متوجهين الى وسط المدينة.
المحطة الثانية: خلال فترة الشهور من حزيران 1990 حتى منتصف آذار 1991 تنقلت في بيوت ثلاث عوائل شيوعية، ولقيت من جميع أفرادها كل ترحاب وإحتضان ودعم وحماية. وأتمنى أن تخفف إشارتي العابرة هذه إليهم في هذه السطور شيئا من الدين الذي أشعر به تجاهها. وهذه العوائل هي: عائلة الفقيد أنور سليمان، وعائلة الفقيد احمد شيخو وعائلة الكاتب گوشاو المقيم حاليا في ألمانيا.
ولا يفوتني أن أقدم اعتذاري للمئات من الرفاق والاصدقاء، الجنود المجهولين، الذين صادفتهم في المدن المختلفة، سواء كان ذلك عشية أيام الانتفاضة أم غداتها، والذين لا يسع المجال هنا، وربما الذاكرة أيضا، للاشارة اليهم جميعا.
المحطة الثالثة: هناك قصص كثيرة، بعضها سجل في السنوات الاخيرة على شرائط فيديو عن مشاركة الشيوعيين في الانتفاضة في مدن الجنوب والوسط وكردستان مع أبناء شعبهم وإخوتهم من منتسبي قوى المعارضة الإسلامية والوطنية، واختلطت دماء شهداء الجميع في هذه الانتفاضة، مسجلة صفحة مشرقة من الصفحات المجيدة لشعبنا وقواه الوطنية في القرن الماضي.
أسباب إخفاق الانتفاضة
تناول كثيرون من مختلف القوى والتوجهات السياسية هذه القضية الهامة عبر كتاباتهم واحاديثهم عبر وسائل الاعلام المختلفة، ويمكن بعجالة الاشارة الى اهم أسباب الاخفاق بما يأتي:
- العفوية في إدارة الأمور وغياب القيادة المركزية ليس على صعيد البلد كله ولكن على صعيد المحافظة الواحدة، ان لم يكن على صعيد المدينة الواحدة بالنسبة للمدن الكبيرة، على الرغم من وجود قيادات لمجموعات صغيرة في مناطقها.
- تحول الانتفاضة من حالة الهجوم الى الدفاع، وعلينا الا ننسى واحدا من أهم دروس الانتفاضات الشعبية وهو ان توقف الانتفاضة وتحولها من حالة الهجوم الى الدفاع يعني موت الانتفاضة. ما من ماركسي ينكر أن ماركس نفسه قد أبدى رأيه حول هذه المسألة بأكثر ما يكون من الدقة والوضوح والجزم، مسميا الانتفاضة بالضبط فناً، قائلا أنه ينبغي اعتبارها فناً، وأنه ينبغي إحراز نجاح أول، والمضي في ما بعد من نجاح إلى نجاح، دون وقف الهجوم على العدو، ومع استغلال بلبلته،...إلخ.
- غياب أو انعدام وسائل الاتصال بين المنتفضين حتى داخل المدينة الواحدة.
- قرار الولايات المتحدة المفاجئ بعدم دخول بغداد والإبقاء على النظام الدكتاتوري ورأسه، وغض الطرف عن "قمع" الجيش لهذه ”الانتفاضة“، خلق حالة من الارباك والذهول في صفوف المنتفضين.
- انعدام الإعلام الحر والمستقل الناقل لأحداث الانتفاضة حيث لم يكد يكون هناك أي نوع من التغطية أو الدعم الاعلامي وأسباب أخرى.
- اضفاء صبغة طائفية على الانتفاضة ورفع صور لـمراجع دين شيعة وهو ما سهل عملية الانقضاض عليها .