كانون1/ديسمبر 05
   

 ظهر المفكر والفيلسوف الإنجليزي جون لوك في منتصف القرن السابع عشر، باعتباره رائدا للاتجاه التجريبي في الفلسفة، في فترة سيادة التيار العقلي الذي أحدثه قبله مجموعة من الفلاسفة الكبار، معتبرا أن التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة. ويقترن اسم لوك بأسماء فلاسفة آخرين يشكلون ما يعرف بعصر التنوير في أوروبا، فهو أحد أكبر المفكرين في التنوير الأوروبي، وقد مهّد بفكره الطريق لتطورات حاسمة في تاريخ المجتمع البشري.

في سلسلة مقدمة قصيرة جدا صدر كتاب بعنوان "جون لوك" ألّفه "جون دنْ" أستاذ النظرية السياسية بجامعة كامبريدج. ولِدنْ مؤلفات عديدة منها: "الفكر السياسي لجون لوك"، و"النظرية السياسية الغربية في مواجهة المستقبل"، و"تاريخ النظرية السياسية". ويقع الكتاب في مائة وعشرين صفحة من القطع الصغير، وقد تضمن تمهيدا وثلاثة فصول وخاتمة، وصدر عن مؤسسة هنداوي، لندن، 2015. ترجمة فايقة جرجس حنا ومراجعة هبة عبد المولى أحمد.

في التمهيد لاحظ المؤلف أن جون لوك اهتم بسؤالين مهمين هما: كيف يمكن للإنسان معرفة أي شيء، وما شكل الحياة التي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى عيشها. وقد كرّس لوك طاقاته الفكرية خلال العقدين الأخيرين من حياته للإجابة عن السؤال الأول، وهو كيفية وصول الإنسان إلى المعرفة. وثمة خلاف كبير بين الفلاسفة حول إجابته؛ فالبعض يراها إجابة خاطئة، والبعض يعتبر السؤال مشوشا. وأما عن شكل الحياة التي ينبغي أن يسعى إلى عيشها فقد كانت هذه الكيفية حسب رأي المؤلف ضعيفة، حتى أن بعض الفلاسفة لا يعتبرون السؤال سؤالا فلسفيا (ص 14).

حياة جون لوك

عاش لوك (1632-1704) حياة عادية حتى منتصف العقد الرابع من عمره؛ وبدءا من عام 1667 انخرط في تقلبات السياسة الداخلية الإنجليزية. وبعد بلوغه سن الأربعين كان لوك قد ابتعد عن أصوله السومرستية (ولد في قرية اسمها سومرست) وظلّ ما اكتسبه خلال تنشئته الأولى يؤثر في وجدانه حتى مماته (ص 17).

درس المؤلف حياة لوك في ضوء ثلاث مراحل أساسية: شهدت المرحلة الأولى انتظام لوك في مدرسة وستمنستر ومنها انتقل إلى كلية "كنيسة المسيح" بأكسفورد. وكان ممكنا أن تؤهله هذه المرحلة لشغل وظيفة كهنوتية، ولكن هذه الوظيفة لم تستهوه. وكان الاحتمال الثاني أن يصير طبيبا حيث عكف على دراسة الطب دراسة منهجية. وجاءت المرحلة الثانية عام 1666 حيث التقى باللورد آشلي الذي سيصبح فيما بعد الإيرل* الأول لـ (شافتسبري) وهو أحد الشخصيات البارزة في بلاط الملك تشارلز الثاني (حكم ما بين 1660-1685)؛ وهو الذي علّم لوك فهم المسؤوليات الاقتصادية للدولة الإنجليزية، وعلّمه أيضا النظر إلى عوامل الازدهار الاقتصادي واحتمالاته، باعتبارهما موضع اهتمام رئيسي لفن الحكم وإدارة شؤون الدولة (ص 20). ويعود الفضل إلى شافتسبري في تسخير طاقات لوك الفكرية تسخيرا سليما. وتوجد صلة مباشرة بين تعهد شافتسبري بالتسامح مع المنشقين ضد الانجيلكانية في عصر إعادة الملكية*، وبين حملة لوك النشطة في العقدين الأخيرين من حياته، وكانت تنادي بالتسامح وحرية الصحافة. أما المرحلة الثالثة من حياته فقد شهدت الالتزام بالفهم الفلسفي، ويعود انشغال لوك بالقضايا الفلسفية المتعلقة بالسلطة السياسية والتسامح الديني، وتلك المتعلقة بعلم الأخلاق ونظرية المعرفة إلى الخمسينيات من القرن السابع عشر.

وحتى عام 1667 اقتصرت كتاباته الفلسفية على عملين رئيسيين: أولهما مقالان حول أوجه الضعف في المطالبات التي تنادي بالتسامح الديني، وكان عنوان هذا العمل "مقالان في الحكم" وثاني هذين العملين "مقالات حول قانون الطبيعة". وظلت القضايا المتعلقة بنطاق الحرية الدينية وحدودها، والكيفية التي ينبغي أن يعيش الأفراد وفقا لها قضايا محورية في فكر لوك فيما تلا ذلك من عقود، بيْد أن هذين المؤلفيْن، كما يرى دن يفتقران إلى سعة الأفق والنظرة الشمولية والأهمية التي اتسعت بها أعماله الناضجة (ص 24). وقد اكتسب لوك من أكسفورد قيمة الملاحظة المستمرة والمنضبطة وسعة الصدر والمثابرة في سعي الإنسان نحو فهم أسرار الطبيعة. وبالإضافة إلى عمل لوك الصادر تحت عنوان "مقال في الفهم البشري" أواخر الثمانينات من القرن السابع عشر، كتب لوك عام 1667 مقالا عن التسامح وكتب عام 1668 مخطوطة مطولة حول عدم جدوى جهود الحكومة لتنظيم أسعار الفائدة، (ص 25). وفي الفترة التي كان فيها شافتسبري معرضا لخطر كبير بسبب معارضته لحكومة الملك تشارلز الثاني، سافر لوك إلى فرنسا وعاد إلى لندن 1679 وشاب حياته شيء من الغموض خلال السنوات الأربع التي أعقبت ذلك حتى 1683 عندما تمكن من الهرب إلى روتردام في هولندا.

ونلاحظ أن كتابات لوك عكست الواقع السياسي آنذاك، وما كان يجري فيه من صراعات وحددت مواقفه من القضايا المهمة التي تشغل عصره، فكانت نتاجاته الفكرية ومواقفه السياسية تعبيرا صادقا عنها، ونتاجا لتلك المرحلة من الصراعات التي خاض غمارها. فقد كتب السير روبرت فيلمر، المغالي في تأييده الحكم الملكي كتابا بعنوان "السلطة الأبوية" الذي يدافع فيه عن الحقوق الإلهية للملك. كتب لوك مخطوطة "رسالتان في الحكم" هاجم فيها النظريات السياسية لفيلمر، وقد أيد صراحة حق الشعب في الثورة ضد الملك حتى لو كان ملكا شرعيا، متى ما أساء هذا الملك استخدام سلطاته (ص 27). وقضى لوك وقتا طويلا مع صديقه "جيمس تايرل" الذي نشر هجوما على النظرية السياسية لفيلمر بعنوان "لا سلطة أبوية للملوك" وفي الفترة 1680-1682 تقريبا تعاون تايرل ولوك معا في مخطوطة مطولة، لم تنشر بعد، يدافعان فيها عن مبادئ التسامح.

تأثر لوك في مغتربه في هولندا وبدأ يرى أن هناك علاقة تربط مصالح الحركة البروتستانتية الأوروبية بمصالح الحرية السياسية. وبدأ يشعر أن التسامح لم يعد قضية تتعلق بسياسة الدولة وإنما صار تدريجيا قضية تتعلق بحدود الإنسان الفرد. وفي المنفى لاحظ لوك أن مستقبل أوربا السياسي والثقافي يسير نحو نتيجة غير واضحة بفعل الصراعات الدينية والسياسية، لهذا كتب لوك "رسالة في التسامح" كردّ فعل على تلك الأحداث. وقد تعرّض الكتاب لهجوم كتبه جوناس بروست أحد رجال الدين من أكسفورد، ونشر لوك ردا عليه، أعقبه رد من بروست نفسه. أما عمله الأخير "معقولية المسيحية" فقد ظهر في عام 1695 وقد هاجمه "جون إدواردز" مرتين خلال عامين، مدعيا أنه ينتمي إلى فكر الحركة السوسينية، وهي حركة تؤكد على سلطة العقل والكتاب المقدس ورفضت عقيدة التثليث، وجعلها إدواردز هي والإلحاد على حد سواء. وتعرض الكتاب للهجوم مرة أخرى في 1696 لأسباب مشابهة، وهذه المرة على يد "إدوارد ستيلينجفليت" المدافع الإنجيلكاني عن التعصب الديني. وقد ردّ لوك على ستيلينجفليت ردا وافيا في ثلاثة أعمال (ص 33).

 سياسة الثقة

 عالج المؤلف في هذا الفصل مجمل آراء لوك في السياسة، وبسط تحت عناوين فرعية كتاباته ومضامينها. فقد ألّف لوك في 1660 أول عملين مهمين هما "مقالان عن الحكومة"، فقد سعت سلسلة من الحكومات الإنجليزية إلى فرض مجموعة من الممارسات الدينية على رعاياها المتمردين، وهو ما كان يثير الاستياء لدى الكثيرين ويلقى استحسانا لدى قلة محدودة؛ ومقالا لوك المشار إليهما يعكسان تلك الأجواء ذلك العام. إن المسألة التي عالجها المقالان تتعلق بجانب تطبيقي هو: مَن الذي ينبغي أن يقرر أيا من الممارسات الدينية جائز وأيها محظور؟ وهل ينبغي أن توجد كنيسة مسيحية واحدة تدار من السلطة السياسية ويكون كل فرد مجبرا على الانتماء إليها أم هل ينبغي أن تكون العبادة الدينية مسألة متروكة لضمير الفرد كعلاقة خاصة بين الإنسان وربّه؟ ويرى دنْ أن وجهة نظر لوك هي أن يسمح لكل فرد أن يمارس العبادة الدينية بطريقته الخاصة، لكن الصراعات الدينية التي استمرت عشرين عاما أظهرت حسب رأيه خطورة هذا التسامح (ص 42). وبعد مرور سبع سنوات، وبعد العمل مع شافتسبري أعاد لوك النظر في هذه المسائل، وتوصل إلى نتائج مختلفة إلى حد كبير. وتظهر هذه النتائج في كتابه "مقال في التسامح". وكان الحكم العملي الذي توصل إليه هو أن التسامح يعمل على إرساء دعائم النظام والوئام المدنيين عن طريق زيادة القوانين التي تنظم المشاركات الكنسية قدر الإمكان. إن هذا الكتاب هو رسالة موجهة إلى الحاكم: واجب الرعية هو الطاعة العمياء لأوامر الحاكم، وألاّ يحاول هذا الحاكم أن ينوب عن الله ويحلّ محلّه (ص 46).

رسالتان في الحكم

وهو عمل وضع في الأساس للتأكيد على الحق في مقاومة السلطة الجائرة، الحق في الثورة كملاذ أخير، إلى جانب موضوعات أخرى. ويرى المؤلف أن "رسالتان في الحكم" عمل طويل ومعقّد يحتوي على كثير من التناقضات والحجج، ويشكّل هجوما على مزاعم الملكية المطلقة. ويرى لوك أن الحقوق السياسية تنبع من الواجبات السياسية، وكلتاهما مستمدة من مشيئة الله وإرادته. والتغيّر الجوهري في آرائه السياسية يتمثل بقوله من الالتزام بالطاعة العمياء إلى الدفاع عن الحق في مناهضة السلطة السياسية الجائرة (ص 50).

وهناك ظروف عرضية لتأليف "رسالتان في الحكم"، فالرسالة الأولى هي نقد مفصّل لمؤلفات كاتب سياسي من المؤيدين للحكم الملكي -سبق ذكره- وهو "روبرت فيلمر" والنظرية التي طرحها لوك في الكتاب تدعو إلى المساواة والمسؤولية السياسية بالاستناد إلى حكم كل فرد بالغ، والشعارات المطروحة بقوة ووضوح وبطبيعتها الراديكالية هي نتيجة استجابة لوك لتحدي فيلمر. يرى فيلمر أن كل سلطة يمارسها إنسان على غيره من البشر هي سلطة ممنوحة من الله كما يرى أن حقوق الحاكم هي عطية شخصية من الله، والرعايا ملك الحاكم يدينون له بالطاعة. وردا على ذلك سعى لوك إلى التمييز بين واجبات الرعايا في الطاعة وحقوق الحاكم في إصدار الأوامر (ص 54).

 حق المِلكية

يرى لوك أن الأرض وقاطنيها هي ملك لخالقها وأن الله منحها إلى جميع البشر للاستمتاع بها. ويرفض فكرة وجود أي حق من حقوق الملكية الخاصة. ويرى أن العمل هو ما يميز الملكية الخاصة عن الملكية العامة، فالعمل هو ملكية العامل التي لا نزاع عليها، وبمزج العمل بالأغراض المادية مثل الصيد أو جمع الثمار أو الزراعة يكتسب الإنسان الحق في ما اشتغله وما صنعه من هذه المواد. إن العمل نشاط إبداعي يضفي فرق القيمة على كل شيء (ص 56).

ويشير لوك إلى أن اختراع النقود يزيد من التفاوت بين المِلْكيات، وهو التفاوت الذي أتاحته درجات الاجتهاد المختلفة التي يظهرها الإنسان، وبحسب تقديره فقد أتاح هذا للإنسان أن يمتلك أكثر مما كان في إمكانه استغلاله. وقد أوجد المال أسبابا للنزاع حول حق الملكية. وكانت الملكية حسب ما أوردها لوك هي الكلمة الرئيسية للتعبير عن حقوق الفرد ومستحقاته. إن الدافع الرئيسي الذي دفع لوك أن يناقش مفهوم الحق في الممتلكات المادية كانت الرغبة في إنكار حق الحاكم في أن يفعل ما يشاء بالممتلكات المادية لرعاياه دون موافقة صريحة منهم (ص 59).  ويرى دنْ أن لوك كان راضيا عن نفسه ويفخر بنظريته في الملكية.

 طبيعة السلطة السياسية

تناول لوك مسألة الحق في مقاومة السلطة السياسية الجائرة. كان فيلمر يعتقد أن كل الرعية مدينون بالطاعة لحاكمهم؛ لأن الله أسلمهم حرفيا لهذا الحاكم، وعلاقة حاكمهم بهم هي علاقة مالك بممتلكاته. ورأى لوك أنه لما كان الإنسان ملكا لخالقه، فإن حق أي إنسان في انتزاع حياة غيره يجب أن يستند إلى مقاصد الله من خلق الإنسان. وفي كتابات لوك الأولى توجد هوّة واسعة بين الحاكم الإله وبين الأغلبية التي يراها الحكام وحوشا جامحة، لكن هذه الهوة اختفت وصار لوك ينظر إلى الحاكم بالصورة نفسها التي ينظر بها إلى رعاياه؛ وهو أنه يسلك طريق القوة، أي نهج الوحوش (ص 63).

كل البشر سواسية في الحقوق والواجبات، وفي ظل هذه المساواة يجابه البشر بعضهم بعضا فيما يسمّيه لوك الحالة الأصلية، ويرى دنْ أن هذه الفكرة أسيء فهمها لتشابهها مع فكرة جزئية عند توماس هوبز، حيث يصف هوبز الحالة الأصلية للبشر بأنها حالة صراع عنيف (ص 64) ويعرض لوك رأيه في طبيعة السلطة السياسية بالقول إن السلطة السياسية في المجتمعات المدنية تعتمد على مبدأ الاتفاق أو التراضي؛ والنظام الملكي المستبد يتعارض مع المجتمع المدني. وغالبا يتعين على المواطنين في النظام الملكي المستبد أن يطيعوا المُمسِك بالسلطة السياسية؛ إلا أن هذا الممسك ليس له الحق في توجيه أوامره إلى رعاياه. وليس هناك تخويل لسلطة سياسية على أشخاص بالغين إلّا بموافقة هؤلاء الأشخاص أنفسهم (ص 67). نلاحظ أن لجون لوك رأي في اعتماد السلطة السياسية على مبدأ القبول والتراضي "حيث يتنازل كل عضو فيه -في المجتمع السياسي- عن حقوقه الطبيعية ليضعها بين يدي الجماعة، فتتولّى هي حمايتها عن طريق القانون الذي تصوغه شاملا ووافيا لحاجة الجميع، فتعيّن الجماعة أفرادا يتولون مهام السلطة وتنفيذ القانون، فيفصلون في الخلافات التي تنشب بين أفراد هذا المجتمع"(1). وهذا تمهيد للعقد الاجتماعي الذي طرحه فيما بعد جان جاك روسو.

 مركزية الثقة

الثقة من أقدم المفردات الواردة في فكر لوك. وجوب الثقة وخطورتها ضروريان للوجود البشري، فالناس يحيون بالثقة كما كتب لوك في 1659 والثقة هي ميثاق المجتمع. واللغة وسيلة مهمة للربط بين أفراد المجتمع بقدرتها على التعبير عن التزامات بعضهم تجاه البعض الآخر. وبقدر ما يستحق البشر ثقة بعضهم في بعض فإنهم يساعدون في تماسك المجتمع الذي قصده الله لهم، وبقدر ما يخونون ثقة بعضهم في بعض، فإنهم يساعدون في انحلاله وتفسخ أركانه. إن الخيانة عكس الثقة، وكان علاج الخيانة في عصر لوك هو الحق بالقيام بالثورة على الحاكم.

الحكام هم بشر يتبوؤون السلطة بحكم القانون، وتنبع أحقيتهم في التمتع بطاعة رعاياهم؛ وحيثما يقومون بأفعال تتنافى مع هذا القانون، فإنهم يصيرون طغاة، فحيثما ينتفي القانون يبدأ الطغيان، والرعايا المتضررون من الظلم لهم الحق في الخروج على الحاكم. ويرى المؤلف أن هذا كان مذهبا شديد التطرف في عصر لوك. إن الثورة من وجهة نظر لوك ليست عملا انتقاميا، وإنما هي عمل إصلاحي يهدف إلى إعادة بناء النظام السياسي المنتهك (ص 72).

 رسالة في التسامح

كان آخر عمل رئيسي عن النظرية السياسية هو ما كتبه لوك منتصف ثمانينات القرن السابع عشر في هولندا، وهو كتاب "رسالة في التسامح" وتعتمد حججه على التسليم بصحة الدين المسيحي. والواجب الرئيسي للإنسان هو أن يسعى نحو خلاصه، والعقيدة والممارسة الدينية هما الوسيلة للاضطلاع بهذا الواجب، فلا يجوز شرعا أن يطغى نفوذ السلطة السياسية البشرية على أي منهما. ويرى لوك أنه حيثما يشكل الاضطهاد العنيف القائم على أسس دينية تهديدا لممتلكات الأفراد وحياتهم يكون للمضطَهدين كل الحق في رد القوة بالقوة. وقد استثنى لوك من حق التسامح الديني فريقان: فريق تتعارض معتقداته الدينية تعارضا مباشرا مع السلطة الشرعية للحاكم (المقصود الكاثوليك والسبب أنهم يدينون بالولاء لأجنبي، للبابا ولملك فرنسا)، وفريق لا يؤمن بالله (ص 74).

ونلاحظ أن تسامح لوك قاصر فهو يستثني طائفتين من تسامحه وهما: الكاثوليك والملحدون، وهو تسامح أنتجته الظروف والصراعات الدينية والسياسية التي كانت سائدة في إنجلترا في ذلك الزمن. وفي تبريره لاستثناء الملحدين يقول لوك أن الإلحاد ليس رأيا تأمليا ويشكل أساسا لأفعال غير أخلاقية لا حصر لها. ولما كان حق التسامح يعتمد على حق كل إنسان وواجبه نحو خلاصه، فهو ليس بالحق الذي يمكن لأي ملحد أن يطالب به، وينتقد دنْ رأي لوك برفض التسامح مع الملحدين، ومع ذلك يرى أن الرسالة هي أروع إنجازاته (ص 75).

وقد تضمنت "رسالة في التسامح" مجموعة من الأفكار أشار إليها الدكتور عبدالرحمن بدوي، منها:

1-لا بد من التمييز الدقيق بين مهمة الحكومة المدنية، وبين مهمة السلطة الدينية، واعتبار الحدود بينهما ثابتة لا تقبل أي تغيير.

2- لكل إنسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين.

3- حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان.

4- التجاء رجال الدين إلى السلطة المدنية في أمور الدين إنما يكشف عن أطماعهم هم في السيطرة الدنيوية. وهم بهذا يؤازرون نوازع الطغيان عند الحاكم(2).

وللفيلسوف الفرنسي التنويري فولتير كتاب يحمل نفس العنوان "رسالة في التسامح" نشر عام 1763 دافع فيها عن المدنية وحرية العقيدة، متخذا موقفا أكثر جذرية من لوك. فولتير وهو الكاثوليكي الذي ينتمي إلى الأغلبية دافع في رسالته عن عائلة بروتستانية، وأشار عند سرده لإعدام مواطن بروتستانتي بطريقة بشعة إلى كيفية تحويل الدين إلى وسيلة لممارسة السلطة المطلقة. وكان لدفاعه عن العائلة المظلومة تأثير فكري واجتماعي كبير(3).

 المعرفة والاعتقاد والإيمان

يعالج المؤلف رأي لوك في طبيعة المعرفة، كذلك رأيه في رغبات الإنسان، وطرح فكرة أن التجربة الحسية هي الطريق إلى المعرفة. ففي أوائل 1659 قبل أن يشرع لوك في التأليف وضع تصورا للعلاقة بين معتقدات الإنسان ورغباته التي يُنظر فيها إلى العقل بوصفه عبدا للعواطف. وكان رأيه أن الكثير من المعتقدات البشرية تستحق اللوم وأن الأفراد مسؤولون عن معتقداتهم، وهي واحدة من أكثر القناعات رسوخا في فكره. وكان لا بد من وضع تصور للكيفية التي يمكن للأفراد أن يتخلصوا بها من المعوقات العاطفية التي تعترض عملية الفهم، ولا بد أيضا من وضع تصور واضح لكل إنسان بوصفه قادرا على تحمل مسؤولية أفعاله (ص 77). كان لوك يرى أن قانون الطبيعة مصدره مشيئة الله، ويتم إدراكه بإعمال العقل البشري. ويرى المؤلف أن موقف لوك غامض اتجاه الجدل الرئيسي في النظرية الأخلاقية المسيحية المتمثل في الخلاف بين مَن رأوا أن الالتزامات البشرية تعتمد على مشيئة الله، وبين أولئك الذي رأوا أنها تعتمد على مقتضيات العقل والخصائص الفعلية للعالم الطبيعي (ص 78).

 مقال في الفهم البشري

تناول لوك في هذا الكتاب خلاصة مذهبه التجريبي في المعرفة. وحاول أن يوضح أنه بمقدور الإنسان أن يستعمل عقله كي يعرف ما بحاجة إلى معرفته. وما دام البشر يتمتعون بإرادة حرة فلا بد أن يصدروا الأحكام بأنفسهم، وأن يكون العقل هو الفيصل في كل شيء. وكل عمل من أعمال التفكير هو بحث وتمحيص يتطلب الكد والمثابرة، ولأنه من السهل أن يخطئ الأنسان في إصدار الأحكام، فإنه يقضي وقته جزعا، بحثا عن الحق. وما يحاول لوك تقديمه في هذا المقال هو أن يوضّح آلية العمل الناجحة للفهم البشري، وأن يشرح الأسباب التي تؤدي إلى إخفاق الفهم البشري (ص 80). يلاحظ دنْ أهمية الإيمان لدى لوك عند سرده الأمور التي تدخل في نطاق معرفة الإنسان بالفعل أو عند استعراضه للأسباب التي يعيش الإنسان حياته من أجلها. وأهم عنصر على الإطلاق في المعرفة الممكنة لدى الإنسان هو وجود الله. ويتمثل الأساس الفعلي للأخلاق في مشيئة وشريعة الله الذي في يده الثواب والعقاب (ص 81-82).

 طبيعة المعتقدات الأخلاقية

يرى لوك أن الأخلاق علم يمكن إثباته شأنه شأن الرياضيات؛ ولأن الأفكار الأخلاقية وكذلك الكلمات من اختراع العقل البشري، ففي مقدور الإنسان أن يفهمها فهما كاملا بنفسه. إن جميع البشر بحسب رأي لوك في مقدورهم أن يتوصلوا إلى معرفة مؤكدة بالأدلة بوجود إله قادر، يفرض قانونا يضبط أفعال الإنسان ويعاقب مَن ينتهكونه. ومن وجهة نظره فإن الوعي الأخلاقي يتخذ شكلا واحدا أينما كان، وهو الشكل المبين في الوحي المسيحي الذي ينبغي أن يقتضيه قانون الطبيعة (ص 83).

إن المطلب الأكثر إلحاحا لتحسين السلوك الأخلاقي ليس وجود قدر أكبر من الوضوح الفكري، وإنما وجود مؤازرة فعالة لمقاومة الغواية؛ ومن هنا -كما يرى دنْ- جاء قرار لوك بإكمال "مقال في الفهم البشري" بعمل آخر هو "معقولية المسيحية" الذي يعتبره لوك نسخة واضحة وبسيطة من العقيدة المسيحية. إن الإنسان في العالم محاط بعوامل شتى لعدم الارتياح، ومشتت برغبات مختلفة وتحرك رغباته أمور عدة، وذلك من خلال تداخلها مع مفهومه عن السعادة، فكل البشر يسعون نحوها، وليس هذا أمرا اختياريا، لكنه لا يقلل من مسؤوليته عن اختيار أفعاله (ص 85-86).

 طبيعة المعرفة

كان لوك شديد التشكيك في ما إذا كانت القدرات الفطرية للإنسان تؤهله للفهم على نحو عميق ودقيق. وكان يعتقد بشدّة أن الإنسان يمكن أن يفهم كيف يميز بين ما في وسعه أن يأمل معرفته وما ليس كذلك. وكان على يقين أن الإنسان إذا طبّق هذا الفهم في استخدام عقله في الحياة الواقعية ففي مقدوره معرفة الكثير من المعلومات المفيدة عمليا، ومن السلوك الذي عليه أن يسلكه بوصفه مخلوقا قادرا على التمييز بين الخير والشر.(ص 88) يهاجم لوك في "مقال في الفهم البشري" مبدأ الأفكار الفطرية المتأصلة التي يولد بها الإنسان. وقد رفض الرأي القائل بأن قدرة الإنسان على فهم الطبيعة تعتمد على المعرفة المتأصلة بعدد من مسلّمات العقل. وكان رأيه هو نفي فكرة أن المسلّمات متأصلة في الإنسان. ويرى لوك أن كل المعرفة البشرية تُستمد في نهاية المطاف من التجربة من خلال ملاحظة الأشياء المحسوسة أو عن طريق إعمال الإنسان لعقله. وأولى لوك اهتمامه للكلمات التي يعبر بها الإنسان عن أفكاره، واحتمال الالتباس والغموض فيها الذي يؤدي إلى أضرار؛ لهذا أكد أهمية الوضوح اللفظي. وقد رفض مذهب الشك لسببين: الأول: أن الخالق لا يهب الإنسان حواسا تضلله. الثاني: أن الأدلة التي تأتي بها الحواس تؤكد حقيقتها وثبوتها، وتؤكد حقيقة الحواس الأخرى (ص 91).

 

أنواع المعرفة

يرى لوك أن أنواع المعرفة ثلاثة: المعرفة الحدْسية، والمعرفة البرهانية، والمعرفة الحسيّة. والمعرفة الحدْسية هي أكثر أنواع المعرفة التي نحن على يقين بوجودها كما يقول. والحقيقة الأساسية التي يعرفها الإنسان حدسيا هي حقيقة وجوده. إن المعرفة الرياضية هي معرفة برهانية، وأهم حقيقة يمكن أن يعرفها الإنسان على نحو برهاني هي وجود الله، وأما المعرفة الحسية فإنها تنشأ من خلال التأثير الذي تمارسه العناصر الموجودة في العالم على حواس الإنسان، ولا نعرف، كما يرى دنْ، كيف تنشأ تلك المعرفة.  ويسرد دنْ أن هذا المفهوم الخاص بالمعرفة تعرض للنقد من زوايا عديدة. والنقد الأوسع انتشارا كان للمعرفة الحسية؛ فقد شككت مجموعة من النقاد في توافق المكونين الرئيسين لوجهة نظره وهما: أن الحواس تتيح للإنسان معرفة العالم الخارجي، وأن كل أنواع المعرفة تتضمن إدراكا عقليا للأفكار (ص 92-94).

 الإيمان

 اتجه لوك في عمله الرئيسي الأخير نحو الوحي الإلهي، ورغب في نشر "معقولية المسيحية" كما قدمت في الكتاب المقدس. برأيه أن الله أظهر للبشر الطريقة التي تمنى لهم أن يعيشوا وفقا لها، وذلك عن طريق القانون الذي نشره إليهم من خلال المسيح المنتظر. ويعقب دنْ: أنه بعد مرور سبعة عشر قرنا لا يمكن أن يتوقع الإنسان أن الحواريين استمتعوا بحياتهم، بما أن الوحي الإلهي يعتمد على الاستدلال التاريخي وليس التجربة المباشرة. ص100-101 ويعقب المؤلف إن هذه ليست نتيجة مهمة لرحلة فلسفية استمرت ثلاثة عقود ونصف. ولهذه النتيجة آثار مفجعة -حسب رأي دنْ- فقد كانت تعني أنه ليس بمقدور الإنسان أن يعرف كيف يعيش، ولعل الدينونة والإيمان كافيان للخلاص، لكن ما يقدمانه لا يعد شكلا من أشكال المعرفة. ويتضح عمليا أن المعرفة الحقيقية بالأخلاق أمر بعيد المنال عن الإنسان، وما يحلّ محلّ المعرفة الحقيقية في حياة الإنسان الواقعية هو مزيج من الدينونة والثقة في الإحسان الإلهي ص 101.

 خاتمة

في الخاتمة يقول دنْ أنه يمكن الوصول إلى الحقيقة فهي تستحق السعي وراءها، وعند الوصول إليها سوف تخبر الإنسان بكل وضوح الكيفية التي ينبغي العيش وفقا لها. وهذه هي القناعة التي عاش لوك حياته مدافعا عنها، وبسببها - حسب رأي المؤلف - لا يزال يقدم لنا عبر القرون القُدرة في الشجاعة الفكرية الدائمة ص 105.

نلاحظ أن المواضيع التي عالجها لوك والمواقف التي اتخذها ماتزال ماثلة في الحياة السياسية والاجتماعية في عدة مجتمعات، وتبقى أفكاره عميقة وحيوية وتفرض نفسها في الحياة راهنا رغم مرور أكثر من ثلاثة قرون على رحيل مؤلفها.

 

الهوامش

1- جون لوك، الحكومة المدنية وصلتها بنظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو. ترجمة محمود شوقي الكيال، القاهرة، لا ذكر لتاريخ ودار النشر. ص 75.

2- جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة عبدالرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي بيروت، ومكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 1988، ص 43 .

3- فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنرييت عبودي، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق،2009، ص 9-19.

* الإيرل: عضو في طبقة النبلاء.

*الإنجيلكانية: كنائس بروتستانتية العقيدة.

*عصر إعادة الملكية: بدأ في 1660 عندما استرد الملك تشارلز الثاني الممالك الإنجليزية والاسكتلندية والإيرلندية.