كانون1/ديسمبر 05
   
                                                                                        
 
 مدخل
     يلاحظ من ينظر إلى واقع المسلمين في أوروبا تمتعهم بحرية ممارسة عباداتهم وعدم التضييق عليهم من الناحية الدينية، وعدم إجبارهم على فعل أمور تخالف عقيدتهم، وقد وجد كثير من المسلمين في تلك البلدان ملاذاً وملجأ حين ضاقت عليهم ديار المسلمين، وطيلة الفترة التي سبقت الثورة الإيرانية كان المسلمون يعيشون بهدوء، يمارسون ديانتهم وعاداتهم التي ضمنتها الدساتير الأوروبية، ومع بدء التحرك السياسي من داخل تجمعات المسلمين بدأت مجموعة من المتأثرين بالفكر السياسي بتكفير هذه الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيهم بحجج شتى، وبدأ تصورهم للعيش المشترك يختلف، وظهرت في أماكن عدة محاولات للسيطرة على الأقلية المسلمة لغرض تكوين تجمع يقام على أساس ديني، ويتحكم به الذين تأثروا بالفكر السياسي، وبدأ الصراع السياسي يتغلغل ويأخذ طابعا دينيا، حيث أن الدستور والقوانين المرعية تتقاطع مع بعض الشرائع الدينية، فلا يمكن تطبيق الحدود، ولا الزواج المتعدد، ولا منع بيع الخمور، ولا محاربة الاختلاط بين الجنسين، ولا يمكن للدولة تنفيذ قوانين الإرث الإسلامية ….، نعم، يستطيع المسلم ممارسة عباداته والامتناع عن بعض المعاملات المحرمة التي يستطيع التوقف عنها دون حرج، وهي أمور تآلفت معها الأقليات المسلمة التي عاشت في أوروبا منذ مطلع القرن العشرين، ولم تحدث تغييرات في قوانين الدول الأوربية تحد من ممارسة العبادة، ويمكن الإشارة إلى التغير الحادث في وضع المسلمين المهاجرين إلى أوروبا في الربع الأخير من القرن المنصرم، من ناحية انتشار الأسلمة والتطرف بين أفرادهم .
كان المسلمون في أوروبا أقلية عددية في البداية، هاجروا إليها خلال الفترة الاستعمارية، وازداد عددهم منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وحدثت أكبر هجرة في العقد السادس من القرن الماضي، وكانت هجرة عمالية من تركيا والمغرب وتركزت في المانيا وبلجيكا وهولندا، وسبقتهم هجرة واسعة من شمال إفريقيا إلى فرنسا، وأخرى من الهند والباكستان إلى بريطانيا، كما توجد أقليات أندونيسية في هولندا، وتوجد أيضا أقليات في أوروبا من الدول التي استعمرتها بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا. وانضمت إليهم فئات من الطلبة والعقول المهاجرة ومن اللاجئين السياسيين، وتزايدت أعدادهم في السنين اللاحقة جراء الزيادة السكانية، وأصبحوا يمثلون نسبة لا بأس بها في بعض المدن الكبرى، وازدادت نسبتهم باطراد، ووصلوا إلى ما يقارب من 5 بالمائة من سكان أوروبا(1) ، وهي نسبة تزداد بشكل مضاعف في بعض المناطق وتكون لافتة ومؤثرة انتخابيا، واستطاع عدد من أفراد الأقلية المسلمة الوصول إلى وظائف عليا في الدولة وفي إدارة بعض الشركات .
تميزت الأقليات المهاجرة المسلمة بالضعف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، واستطاعت اقلية منهم شق طريقها في حقل العمل، ومازالت هذه النسبة في تزايد مستمر، فتحسن وضعهم الاقتصادي لكن ذلك لم ينعكس على تحسن وضعهم الفكري والثقافي بشكل متناسب مع التحسن الاقتصادي، أما في الجانب الاجتماعي فإن اختلاف ثقافات الأقليات المنحدرة من بلدان واديان ومذاهب مختلفة قد أثر على تشابه علاقات هذه الأقليات مع العلاقات التي كانت موجودة في بلدانهم الأصلية، وتكاد الأطر الجامعة لهذه الأقليات معدومة، فتجد هنا مكانا لتجمع أقلية هندية مثلا، لكنك تجد عناصرها تجتمع على لغة واحدة ودين واحد ومذهب واحد، وتجد في مكان آخر نفس الأقلية، لكنها من دين ولغة ومذهب مغاير، ويساهم هذا الأمر في التشتت الاجتماعي العام للأقليات في أوروبا .
وينعكس هذا الأمر على الجانب الثقافي، حيث التشتت الثقافي العام وضعف المراكز الثقافية التي تعكس الثقافة الاصلية لتلك البلدان، المتمثلة بالنشاطات العابرة للدين والقومية، والمعارض الفنية والمهرجانات الثقافية والمسرحية والسينمائية والشعرية التي تشكل ثقافة جمعية تصب في ثقافة البلد المضيف وتبني لبنة جديدة من التقارب الثقافي لتعزيز التجاوب والاندماج والتفاعل.
  
جزر عائمة في المحيط الأوروبي
      تميز الانفتاح على ثقافة البلدان الأصلية ونشاطاتها الثقافية بالضعف الكبير كان من أسبابه ضعف التمويل، ونظرة الدول الأوربية القاصرة والمتعالية في كثير من الأحيان، وعدم النظر إلى المستقبل بشكل واقعي، مما فسح المجال لثقافة أخرى بديلة اكتسحت ساحة الأقليات في أوروبا، وشاعت في كل المناطق بشكل منظم، ساعدتها سياسة البلدان الأوروبية والمد المالي القادم من دول أخرى .
ساعد المد المالي في إنشاء جزر عائمة في المحيط الأوروبي تمتلكها دول وجاليات إسلامية، وتقوم تلك الدول أو الجاليات في تسييرها وإدارتها وتعيين أئمة لها تدفع رواتبهم دون تدخل الدول الأوروبية، وسمح ذلك في دخول أموال من الخارج لبناء المساجد والمراكز والمدارس الإسلامية بدعم من بعض الدول الإسلامية، كما ساهمت بعض الدول في إنشاء مدارس إسلامية، وقامت ألمانيا بإنشاء المعهد العالي للدراسات الإسلامية عام 2011، وتم تحويله إلى كلية في جامعة مونستر الالمانية، ويضم اليوم حوالي ألف طالب، ويقوم أساتذة مسلمون في تسيير تلك الكلية التي يديرها الدكتور مهند خورشيد، ويشكو خريجو تلك الكلية من عدم تعاون مؤسسة المساجد معهم لأن المساجد مملوكة لدول أو مجموعات خاضعة لمن يمولها، ولا يملك إمام الجامع أو اللجنة الادارية صلاحية توظيف موظف واحد  .
  أصبح المسجد بما يمثله من حضور ديني مقدس أهم مركز ثقافي تجتمع فيه الأقليات، ويجنح القادمون الجدد إلى هذه المراكز للحصول على معلومات وافية عن الاقامة والسكن والعمل، ويحصلون على تجارب الذين سبقوهم، ويقيمون علاقات شخصية واجتماعية لملء الفراغ الناتج من الغربة، وأصبح المسجد مؤسسة عبادية وثقافية واجتماعية مهمة، وهو يساهم في تقوية الثقافة الدينية وتدريسها للأطفال والكبار، وإلى جانب ذلك ساهمت بعض الدول الأوروبية في إنشاء مدارس إسلامية تقتصر على الطلبة المسلمين، وتدفع الدولة كافة مصاريفها، وتعترف بشهادتها المعادلة للشهادة الابتدائية والمتوسطة والثانوية الرسمية، وتقوم تلك الحكومات- دون وعي بنتائج تلك السياسة -بعرقلة اندماج الأقليات وانفصالها الثقافي والاجتماعي، وتكوين غيتو يحفز الأقليات على السكن في أحياء خاصة بهم والتبضع من أسواقهم الخاصة، وتكوين مجتمعات موجودة على الأرض الأوروبية لكنها لا تمت بصلة إليها، وهي حالة تُعممْ التشتت الثقافي وتعيد التماثل مع الجاليات الأولى التي كانت منفصلة عن الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي في أوروبا  .
  
أشكال التدين العامة وأثر التدين السياسي
  لو ألقينا نظرة على واقع الأقليات في أوروبا نلاحظها مقسمة كالتالي:
أقلية مسلمة، وأخرى غير مسلمة.
أقلية مسلمة تمارس العبادات، وأخرى مسلمة لكنها لا تمارس العبادات.
ينقسم تدين الاقلية المسلمة التي تمارس العبادة إلى ثلاثة أقسام هي:
1-  مجموعة تمارس التدين الشعبي: وهي مجموعة مسلمة تشكل أكثرية المسلمين في أوروبا وفي البلدان الاصلية، وتمتاز عبادتهم بالروحانية والبساطة والهدوء والمباشرة والعلاقة العمودية مع الله، والاكتفاء بالصلاة والصوم والحج للقادرين عليه، ويغلب عليها التدين الفلكلوري والصوفي والتدين الفردي، ويلاحظ في هذه المجموعة أن علومها الدينية بسيطة ومحدودة، وتدينها بعيد عن المرجعيات الدينية واللاهوتية المتشددة وعن الشريعة، ولم تأخذ هذه المجموعة طريقة تدينها من المساجد، ولا من أئمتها، وتعلمت أداء عباداتها وشعائرها من البيت أو من المحيط، ومنهما توارثت طقوس العبادة ومستلزماتها، ولا تهتم هذه المجموعة بالمرجعيات الدينية ولا اللاهوتية المتشددة، ولا بالشريعة، ولا بالتكفير، ولا بالولاء والبراء، ولا بدار الحرب، ولا بالتدين الموازي الذي يسخر الدين للمصالح السياسية أو الشخصية، فهي تؤمن بأن حساب كل ذنب في الآخرة وليس في الدنيا، وتشكل هذه الفئة نسبة كبيرة من جمهور المسجد تكتفي في غالب الأحيان بالصلاة فيه، والمشاركة في بعض النشاطات الخيرية .
2- مجموعة تمارس التدين الرسمي : وهي مجموعة قليلة العدد من أئمة المساجد ولجانه الرسمية والإدارية ومسؤولي المراكز، ومن الأئمة العاملين في المؤسسة العسكرية ( 10% من الجيش والشرطة في فرنسا من أصول مسلمة)(2)، ورجال الدين في المستشفيات، الذين توظفهم تلك المستشفيات لإعطاء السكينة النفسية للمرضى، وكذلك رجال الدين ذوي الخدمات الأخرى الذين يهتمون بالزواج والطلاق والعقود و الدفن والمقابر، ويتميز بعض من هؤلاء بارتداء الملابس الدينية الرسمية، ويكون معظمهم من ذوي الاختصاصات الدينية، ومن خريجي المدارس الدينية والجامعات الشرعية والمراكز الدينية، حيث الدراسة الفقهية الشاملة لعلوم اللغة والقرآن والفقه .
 تعترف الدولة المضيفة بالمؤسسة الدينية(المسجد)، وبالوظيفة الدينية (الإمام )الذي يُمول في غالب الأحيان من الدولة المضيفة ضمن المساعدة الاجتماعية أو من الدولة الأصلية، وتوجد في معظم الدول الأوروبية مساجد تركية وأخرى مغربية وجزائرية وباكستانية … وهي مفتوحة لكل الأقليات، لكن أكثرية المرتادين هم من أصول دولة واحدة ومذهب واحد، ويمثلها إمام من تلك الدولة ومن مذهبها  .
توسعت تلك المساجد وازداد عددها في نهاية القرن الماضي، ويوجد في ألمانيا 2866 مسجدا(3)، وفي فرنسا 2500(4)، وفي بريطانيا 1500(5)، وفي هولندا 547(6)، وفي إيطاليا 670 مسجدا (7)، وفي عام 2018 افتتح أردوغان أكبر مساجد أوروبا في مدينة كولونيا الذي موله الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية، وهو من المساجد الجميلة الطراز، ومولت الإمارات مسجدا ضخما في مدينة روتردام في هولندا ويتسع لـ 3000 مصلي، ويجري بناء مسجد برشلونة وهو أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين (بمبلغ قدره  2،2 مليار يورو)(8).
يدير المسجد في الغالب ثلاثة أئمة ومؤذن، وهم يعملون بوظائف رسمية، ويمنحون رواتبَ من الدولة التي ترعى المسجد أو من الدولة المضيفة، وترتبط بالمسجد بعض الخدمات.
تمنح الدولة المضيفة إعفاءات ضريبية لهذه المؤسسة الدينية، ويتوفر في أغلبها مدرسة لتعليم الصغار والكبار العلوم الدينية واللغة، ولم تشترط الدولة المضيفة شروطا خاصة على مؤسسة المسجد إلا في الفترة الأخيرة، حيث شهدت الدول الأوربية أعمالا عنفية وإرهابية كان بعض الأئمة طرفا فيها، حيث اخترقت السياسة هذه المؤسسة الدينية من خلال الدول التي تدعم هذا المسجد أو من خلال المنظمات السياسية التي تتخذ الدين ستارا لعملها، مثل الحركة السلفية الجهادية، والوهابية، وحركة الإخوان المسلمين، والتحرير، وحزب الله اللبناني.
3- مجموعة التدين السياسي: تمثل هذه المجموعة المنظمات السياسية الدينية التي نقلت بعضا من أشكال تنظيماتها من الدول الأصلية إلى دول المهجر، وتهدف إلى تسييس الجاليات الدينية وقيادتها ضمن أيديولوجيا دينية، وتميل هذه المجموعة في الغالب إلى التدين القشري الخارجي لأن السياسة تشاركهم الوجدان الداخلي وتتغلب عليه، فترى بعضهم قد اعتنى بمظهره الخارجي لكي يماثل الصحابة في زيهم وتفكيرهم.
استطاعت هذه المجموعة العمل من خلال مؤسسة المسجد والمراكز الإسلامية والتعليمية ومنظمات الإغاثة الرسمية ومنصات التواصل الاجتماعي والمراكز الإعلامية، واستطاعت في بعض الدول من إدارة العديد من الأشكال التنظيمية والتعليمية من الحضانة حتى الجامعة، وهم يهدفون إلى أسلمة الأقلية وفصلها عن محيطها وفك عرى الاندماج، وتكوين هوية دينية بدل الهوية الوطنية أو الإنسانية، وقامت الدول التي تعتبر نفسها راعية للدين بمد هذه المنظمات بالمساعدات الكبيرة والكثيرة، ووفرت لها مساجد كبرى وإمكانيات بالغة الغنى، ووفرت لها الغطاء القانوني في نقل الأموال الهادفة إلى نشر الدين، و أسلمة المجتمعات الأوروبية، والوصول إلى مجالسها الشرعية ومراكز صنع القرار، ولم يخف الرئيس أردوغان نيته في التأثير على المجتمعات الأوربية، بطلبه من الجاليات الإسلامية زيادة النسل، والتحرك بعنفوانية أكبر للوصول إلى نظام يستطيع فيه المسلمون من التأثير على السياسة الأوروبية .
إن أكبر وأنشط المجموعات المؤثرة والحركية العاملة في أوروبا هي حركة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، والحركة السلفية، والذئاب الرمادية (اعتبرها الاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية)، و ميللي غوروش، وديتيب، ومنظمات الإغاثة الإسلامية، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وللحكومة التركية والقطرية علاقات قوية مع تلك المنظمات، وتقدم لهم الدعم المالي وتسيطر على أئمة الجوامع بواسطة الرواتب المقدمة لأئمة المساجد والتدريب والتواصل المستمر معهم، وتقوم تركيا بتوظيف أئمة الجوامع لمدة أربع سنين في تلك الدول، وتعيدهم إلى تركيا وتبدلهم بمجموعة أخرى من الأئمة، وخلال هذه الفترة لا يستطيع الإمام معرفة لغة البلد ولا عاداته ولا قوانينه، ويقوم فقط بعكس الحالة الدينية الموجودة في تركيا، وهو بذلك ينتج ثقافة منفصلة عن ثقافة الدولة المضيفة وتتقاطع معها، وتبدأ حالات التصادم والانزلاق إلى العدائية، وذلك يساعد على ظهور موازن مضاد يساهم في نمو الحركة اليمينية المتطرفة التي لا تفرق في عنفها وتوجهاتها بين التدين السياسي والتدين الشعبي واللادينية .
تدير تلك الحركات أكبر دور العبادة والمراكز الإسلامية ومراكز الإفتاء والإغاثة وتساندها الحكومة التركية والقطرية والسعودية، وانسحبت الحكومة السعودية في الفترة الأخيرة، ودخل حزب الله في قائمة التمويل ودعم المراكز الشيعية في أوروبا وأمريكا، ونسجت تلك الحركات علاقات وثيقة مع عدد من الأحزاب والمنظمات، واستغلت كل الحقوق القانونية التي ضمنها الدستور للاديان المسيحية واليهودية، واستفادت من قانون حقوق الإنسان من أجل أن يكون وجودها ضمن تلك القوانين والحقوق، كما استثمرت وجودها القديم في القارة الأوروبية لبناء مراكز مهمة تسيطر بها على الأقلية المسلمة.
 لم تُغيّر البلدان الأوروبية في المائة سنة الأخير نظرتها إلى الدين والممارسة الدينية، فهي دول علمانية تفصل الدين عن السياسة، وتمنح جميع الأديان حرية كاملة في ممارسة عباداتها وأداء مناسكها، لكن الأمر الذي تغير هو وضع حركات التدين السياسي وتصاعد نسب الأسلمة، وكانت تلك الحركات تسير في نفس سياسة وخطط معسكر دول أوروبا الغربية في فترة الحرب الباردة، ودعمت دول الغرب تلك الأحزاب في أفغانستان، ووفرت لها الملاذ الآمن، ودعمتها ماديا ومعنويا، وسمحت بتناقل أرصدتها وإنشاء البنوك مثل بنك التقوى، فأصبحت تلك الحركات بوجودها الرسمي والشرعي تؤثر من خلال مراكزها على المسلمين في القارة الأوربية، وأصبحت تعمل بشكل منظم، لكن أعمالها لم تكن أعمالا دينية عبادية، بل تجاوزتها إلى أعمال سياسية وعسكرية وتنظيمية ومصرفية، وأنشأ بعضها تنظيمات متشددة تحض على الكراهية والعنف وتكفر الآخرين، وتعلن تلك المنظمات تمثيلها مخرجا للشباب من الأوضاع المتأزمة، لكن ازدواجية طروحاتها المختلفة بين العلنية والسرية جعلتها تسلك مسارين الأول : هو المسار العلني الداعي للسلام والديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق المثليين … ، والثاني هو المسار غير العلني الداعي للعزلة الشعورية عن المجتمع، والتكفير، والعمل للجماعة السياسية، والدعوة لتطبيق الشريعة، والمحاكم الشرعية الإسلامية، وأنتج المسار الأول قيادات الأحزاب الدينية ومؤسساتها ومراكزها، وانتج المسار الثاني حركات التطرف، الداعية للعنف، والتكفير، والاشتراك مع نشاطات القاعدة وداعش، التي استخدمتها بعض الدول الغربية في القتال بالوكالة ضمن الجيل الجديد من الحروب، لاستنزاف قدرات الدول الأخرى وتعطيل التنمية ونشر الفوضى. 
 
مؤسسة المسجد وأثر التبعية السياسية
 احتلت مؤسسة المسجد مكانة مركزية خاصة، ويلتقي فيها أصحاب التدين الشعبي والرسمي والسياسي والمتطرف، وتلعب تبعية إمام المسجد أهمية خاصة، فقد يوجه جمهور المسجد إلى السياسة لو كان سياسيا، وإلى التطرف لو كان متطرفا، وإلى الدين الخالص لو كان يميل إلى أصحاب التدين الشعبي. وتؤثر كافة تلك المؤثرات على جمهور المسجد.
لقد تداخل التدين الرسمي ومؤسسة المسجد في أحيان عديدة مع التدين السياسي، لأن جميع الأئمة الذين يأخذون رواتبهم من تركيا أو من قطر يسلكون سلوكا مزدوجا، فتراهم يؤمون الناس دينيا وفي بعض الأحيان سياسيا، ويمثلون توجها سياسيا متوافقا مع إملاءات الدول الداعمة، وعند حدوث أية علاقة سياسية سيئة بين الدولة المضيفة والدولة الداعمة فإن الولاء يتجه للدولة الداعمة، فتسخر مؤسسة الجامع مختلف الأسلحة التكفيرية، وتستخدم المقدس لإدانة قوانين الدولة المضيفة وتكفير ممارساتها، فيحصل جراء ذلك توتر يساهم في فصل الجاليات الإسلامية عن تلك المجتمعات، وتظهر دهشة مجتمعية من مجمل سكان البلد الأصليين تميل إلى خيار الرفض وإسناد حركات اليمين المتطرف . 
لقد شعرت الدول الأوروبية بشكل متأخر خطورة هذا الحال بعد موجة التفجيرات والقتل الذي حدث داخل البلدان الأوروبية، وكلف شعوبها الكثير من المال والشعور بعدم الأمان، ومنذ أن تم إلقاء القبض على أحد الإرهابيين الذي حاول تهريب مادة متفجرة سائلة منعت جميع خطوط الطيران اصطحاب أية مادة سائلة، وكلفت مراقبة ذلك مليارات اليوروات التي دفعها الركاب عن طريق زيادة أسعار التذاكر، كما زادت تكاليف الأمن والمراقبة إلى المليارات دفعها دافعوا الضرائب.
لقد وفر فائض المال لدى هذه الحركات السياسية المنظمة تنظيما جيدا فائض القوة والشوكة، وجعلها تسيطر على التعليم الديني، ومن خلاله تم استقطاب الأطفال من عمر التاسعة عن طريق إشراكهم في نشاطات اجتماعية ورياضية مختلفة، مثل لعبة كرة القدم، ودورات اللغة، والطيران الشراعي، ودورات الخطابة الدينية ومساعدتهم في دروسهم(9).
واستطاعت حركات الإسلام السياسي إنشاء اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا عام 1989، وهو يمثل 30 دولة أوروبية، ويعتبر الجناح الأوروبي لتيار الإخوان المسلمين. ومن أهدافه توطين الإسلام السياسي في أوروبا، ويضم أكثر من 1000 جمعية ومسجد ومركز ومؤسسة، تعمل في مختلف مجالات العمل الشبابية والنسائية والطفولة والأعمال الدعوية والسياسية والخيرية، ويتكون من المنتدى الأوروبي للمرأة المسلمة، و منتدى الشباب المسلم، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ومعظم الاتحادات الموجودة في أوروبا. اتجهت تلك الحركات للتوسع في تكوين قواعد انتخابية للضغط على الحكومات الأوروبية والمساهمة في تكوين أحزاب تمارس العمل السياسي المؤثر في برلمانات تلك الدول، كما أنشأت مراكز الفتوى للسيطرة روحيا وفكريا على الأقليات الإسلامية وربطها بتنظيمات الإخوان، وأصبح المركز الدولي للإفتاء والبحوث الذي أسسه يوسف القرضاوي عام 1997 أهم المراكز في أوروبا، ويهدف إلى (ترشيد المسلمين في أوروبا عامة وشباب الصحوة خاصة ..) (10)، ويرأسه الآن الدكتور صهيب حسن عبد الغفار من الهند، ومن بين أعضاء المجلس راشد الغنوشي، وسلمان العودة، وعلي القرة داغي، وجماعة أخرى من أكابر رجال الحركة السياسية الدينية متكونة من 31 عضوا، ويطرح هذا المركز من خلال فتاويه المعتمدة تصورا عن إمكانية تطبيق الشريعة الإسلامية في بعض المناطق الأوروبية، وأصبح اتجاه تفكير بعض المراكز الدينية البحثية نحو كيفية تطبيق بعض الشرائع في أوروبا مثل تسهيل الزواج من أكثر من امرأة واحدة، وقد وجدوا إلى ذلك طريقا، وكذلك تكييف قانون الإرث وإيجاد أقسام إسلامية في البنوك الأوربية العاملة، ومحاولة إيجاد صيغة للقانون المزدوج الذي يطبق على مجموعة ولا يطبق على أخرى، وإحياء الفقه في الحياة اليومية، وهو اتجاه معاكس لما يحصل في بعض الدول العربية كتونس، حيث يتجه الفكر الديني فيها للانفتاح وتكييف الشريعة مع قانون الدولة الحديثة، ويقوم بتفسير آيات التشريع وتأويلها بما يخدم الحداثة ولا تتعارض مع العلمانية، وتوجد اتجاهات سياسية متعارضة ومتعاكسة مع تلك المشاريع، وتحلم بعض الحركات المتطرفة بأوروبا إسلامية، وأندلس جديدة، واعادة مجد الدولة العثمانية، وقيام دولة تابعة للاستانة .
إن اللافت للنظر هو اشتراك عدد من الدول كالسعودية وقطر وتركيا وإيران في مساعدة عملية التدين والأسلمة في الغرب، وتتنافس فى إغراق هذه المنطقة بعطاياها المالية الوافرة، ومن يطلع على إصدارات المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات(11)  يتعجب من تلك الأرقام ويندهش لهذا الكرم الحاتمي، وينذهل من سكوت الدول (المضيفة) فترة طويلة، ويتحير من انشغال هذه الدول بالتفرج على معاناة الشعوب الإسلامية من أعمال التطرف والإرهاب وكأنها مناطق بعيدة عن حدودها، وأصبحت أوروبا في بعض الأحيان ممرا لهذا الكرم الحاتمي، ويستغرب المتابع من اتفاق الدول (الإسلامية) والدول العلمانية الأوروبية في دعم التطرف الديني، وهي تساهم في نفس الوقت في دعم المراكز الدينية المتطرفة التي حصلت على مراكز رسمية في أوروبا، والباحث يجد في أرقام الملف الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب وكتابات الدكتور جاسم محمد أرقاما مالية عالية في مساعدتها لمنظمات الإغاثة والمدارس والمساجد ودعم رواتب الائمة، وتطورت تلك المنح المالية إلى استثمارات مختلفة .
كما نجحت بعض المنظمات الإسلامية العاملة في أوروبا في الوحي للحكومات الأوروبية بتمثيلها المسلمين، و استسهلت تلك الحكومات ذلك الطرح وهذا التمثيل الشامل لكل المسلمين من الدينيين واللادينيين، وهم يقدمون في برامجهم التلفزيونية بعض أئمة الجوامع وبعض النشطاء السياسيين من الإخوان وغيرهم ليتكلموا باسم كل المسلمين من المتدينين والمتأسلمين وغيرهم، وهم بالحقيقة لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة من الأقليات قدرتها الدكتورة الهام المانع بـ6%(12)، وتقوم بهذا العمل بعض الفضائيات التي تعي هذه الحالة لكنهم يقومون بإبراز الصوت المتطرف للفوز بأكبر عدد من المشاهدين، وتحشيد الرأي العام ضد عامة المهاجرين من الشرق الأوسط بالخصوص، ودفع الناس للرضى عن شعارات اليمين المتطرف التي يرفعها ضد جميع الأقليات، وهو الأمر الذي يجعل التصدي للتطرف الديني مسألة صعبة المنال بسبب عدم تحديدهم ساحة المعركة .
 كما لم تستطع سياسة الاندماج أن تجذب إليها الجزء السياسي الديني المنظم، وبالخصوص مجموعة التدين السلفي والاخواني التي تميل إلى تأسيس منظمات منفصلة خاصة تسعى إلى أسلمة المجتمع.
 
محاكم شرعية في قلب أوروبا
   ازداد تأثير المنظمات السلفية والاخوانية على الجاليات المسلمة، ونجحت بعض المنظمات في تأسيس أول محكمة شرعية إسلامية في لندن عام 1982، مستغلة فيها ثغرة قانونية تسمح للمنظمات الكاثوليكية واليهودية في تأسيس محاكمها الشرعية، وازداد عددها إلى 85 محكمة حسب تقدير مؤسسة سيفيتاس . وتعمل هذه المحاكم على حل النزاعات العائلية والتجارية بين المسلمين، وإجراء عقود الزواج والطلاق والمواريث حسب الشريعة الإسلامية، ويلعب عامل انعزال الأقليات ذاتيا عن المجتمع وعدم إتقان بعضهم لغة البلد في رفد تلك المحاكم بالقوة والشرعية والانتشار، وتعمل تلك المحاكم على تطبيق قوانين الأحوال الشخصية والمواريث القادمة من أزمان غابرة ومن ظروف مختلفة، ولا تأخذ تلك القوانين المتغيرات التاريخية بنظر الاعتبار، وغالبا ما تكون المرأة ضحية لها، فقد يُمنَع عليها الزواج مرة ثانية إذا رفض الطليق تطليق زوجته أمام هذه المحاكم، وتجبر على التنازل عن بعض حقوقها في الإرث، وقد تُمنع منه إذا كانت غير مسلمة أو إذا اتهمها زوجها بالارتداد عن الدين الإسلامي، ويتبع ذلك شتى المشاكل الخاصة بالملكية ورعاية الأطفال والنفقة وإمكانية الزواج من أكثر من زوجة واحدة، ولا تستطيع في نفس الوقت الاستعانة بالمحاكم المدنية التي لا تعترف بشرعية عقد الزواج الصادر من تلك المحاكم وغير الموثق قانونيا، وهي مهددة بالطرد في نفس الوقت من مجتمع تلك الأقلية وعدم التعامل معها.
 
تسرب العمل السياسي إلى مؤسسة المسجد
  كانت الدول الأوربية تفكر في إيجاد منظمات تستطيع بها التحدث مع مؤسسة الجامع وجماهيرها والتوسط بين المسلمين في حالة وجود مشكلة ما، وهو إجراء تنظيمي يسهل به الوصول إلى المشكلة، واستغلال خبراء تلك المنظمات في حلها وعدم دفع المسلمين إلى العمل غير القانوني، لكن تلك المنظمات التي قبلت هذا العمل استغلت ذلك من أجل التسرب شيئا فشيئا إلى المؤسسات الرسمية من جهة ولأصحاب المشكلة من جهة ثانية، واتضح ذلك بشكل جلي في اضطرابات الضواحي في فرنسا عام 2005، فقد تدخلت ونجحت في تخصيص صندوق الضواحي بتمويل من قطر برأسمال قدره 50 مليون يورو، فتم تدويل المشكلة .
لم تُقدّر الدول الأوروبية نتائج تسرب المال السياسي إلى المؤسسات الدينية وإلى مواطنيها من المسلمين وغيرهم، وقد شعرت بذلك مؤخرا حيث تزايدت العمليات الإرهابية، والنشاطات غير المسيطرة عليه، ونشوء (لوبيّات) تعيش على الاستثمارات القطرية بشكل خاص، وتستثمر قطر أكثر من 25 مليار يورو في مختلف الشركات في فرنسا، وهذا يعطيها فرصة أكبر في العمل الإخواني مع إتحاد المسلمين الفرنسيين(13) . وفي بريطانيا استثمرت دولة قطر 35 مليار جنيه(14)، وفي ألمانيا 25 مليار يورو(15)، وتزايدت الأرقام والمشاريع في الفترة الأخيرة، فقد مولت جمعية قطر الخيرية 140 مشروعا في أوروبا، منها 77 مشروعا في إيطاليا، وحولت قطر بعض المباني التاريخية في إيطاليا إلى مساجد، وخصصت مبلغ 2،2 مليار يورو لبناء أكبر مسجد في أوروبا وذلك في مدينة برشلونة الاسبانية، ليكون ثالث أكبر مسجد بعد الحرمين الشريفين، وتلحق به مدرسة لتعليم القرآن، واللغة العربية، ومركز تعليمي وتوثيقي عن تاريخ المسلمين في إسبانيا (16).
وتتهيأ قطر وتركيا لغزوة ثقافية في أوروبا وأمريكا لطرح مشروع السلام العالمي، وحقوق الإنسان من وجهة نظر إخوانية، وتستضيف فيه كبار المثقفين والسياسيين من شتى أنحاء العالم، وتعرض هذه النشاطات على قناة الجزيرة (والحوار، وصفا، والشرق، ورابعة، ومكملين، ووطن، ومصر الآن، واليرموك) التي يشرف عليها ويديرها الإخوان المسلمون.
لقد شعرت الدول الأوربية بالخطر الكامن في هذه القوة المتنامية وفقدت السيطرة على بعض تفصيلاتها، فقامت في الفترة الأخيرة بدق ناقوس الخطر بعد أن اكتشفت تنامي قوة التطرف الديني بشكل غير محسوب وشعرت بتنامي الإرهاب وحركات اليمين، وينذر ذلك باحتمال تصادمي كبير، وستكون خسارة الجاليات التي تعيش في المهجر نتيجة ذلك فادحة، فقامت بعض الحكومات الأوروبية في الفترة الأخيرة بالانتباه إلى معاناة مواطنيها من المسلمين، والتفريق بينهم وبين المتطرفين، والقيام بمراقبة تلك الحركات بمختلف الطرق وتحسين الرقابة على خطب المساجد، والتوقف عن استقبال أئمة ترسلهم دول اجنبية، وزيادة الائمة الذين ولدوا في الدول المضيفة، وغلق بعض الحسابات المشبوهة، وقامت فرنسا بتشكيل مجلس وطني للائمة في خطوة يراد منها السيطرة على النشاط الديني وعزله عن السياسة.
 
فصل التدين السياسي عن التدين الشعبي
 لقد أجرت الدول الأوروبية منذ بداية هذا العقد مراقبة أمنية على المراكز الدينية، ولا يؤدي هذا الاجراء إلى وقف مشكلة التطرف لأنه ببساطة إجراء لمعالجة النتيجة وليس السبب، وبينها وبين السبب مراحل عديدة تظهر خلالها حالات متطرفة. وجرت مناقشات عديدة في معظم الدول الأوروبية ضمت بعض الاتحادات والمنظمات وبعض المثقفين من أجل اقتراح إجراءات أخرى لحماية الأقليات من التطرف ومن تصاعد أحزاب اليمين الأوروبية المتطرفة، منها:
فك ارتباط الحكومات الأوروبية مع الحركات المتطرفة في كل أنحاء العالم، وإلغاء شتى العلاقات معها، ووقف كافة أشكال الحماية والتسليح والتسهيلات المالية تحت أي مسمى، ومنع الدعم المالي الأجنبي للمنظمات الدينية ومراقبة نشاط المتطرفين، وفصل العلاقة التجارية بين الدول تحت شروط منح التسهيلات المالية وغض الطرف عن نشاطات حركات التدين السياسي في أوروبا.
إعادة النظر بسياسة الاندماج وسياسة السكن التي تعزل الأقليات وتخلق مناطق ومدارس ومراكز سوداء.
طرحت ألمانيا في الفترة الأخيرة فكرة تعميم ضريبة الكنيسة التي فرضت منذ زمن بعيد على روادها، وهي ضريبة فرضتها النمسا والدانمارك وفنلندا وألمانيا وأيسلندا وإيطاليا والسويد وسويسرا على أعضاء الطوائف الدينية الذين يتعاملون مع الكنائس، بحيث تستقطع الدولة ضريبة من المسجلين في تلك الكنائس قدرها حوالي 1% أو أكثر، وهي ضريبة تستقطعها الدولة وتحفظها في صندوق خاص، وتُقسَّم على الكنائس ضمن شروط وعقود متفق عليها، وتكتفي الكنيسة منها ماليا و تستعيض عن المساعدات الخارجية، وتبقى الكنيسة ضمن السياسة العامة للدولة ، وتوجد مقترحات في تطبيق هذه الضريبة على المساجد، وإعادة تسميتها بالزكاة التي تمثل نسبة 2،5 بالمائة على المال في الدين الإسلامي لتمويل المساجد في تلك الدول، وتدخل المساعدات الخارجية في صندوق الزكاة وتصرفها الدولة حسب الحاجة الفعلية للمسجد التي لا تخرج عن السياسة العامة، ولا تذهب لتمويل التطرف والإرهاب، وفي نفس الوقت تُمنع أية علاقة مالية خارجية حيث يعمل صندوق الزكاة على دفع رواتب الأئمة والتكاليف العامة، فتنقطع علاقة الأئمة بالدول الخارجية تمويلا ودعما وتوجيها، وقد أقر المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية مؤخرا إبلاغ السلطة عن كل الهبات الخارجية التي تزيد على  10 آلاف يورو .
إدارة الثقافة بشكل جديد، والتعرف على المنهج الفكري والآلية التي ينتقل بها التدين من التدين الطبيعي إلى التدين السياسي، وملاحظة تأثير خطاب الغلو والتعصب والتكفير والبراءة والانعزال عن الآخر، وتمحيص أثر العوامل الخارجية، ودراسة أساليب التصدي لهذا الخطاب الخطر الذي يخرج عن حيز الدين وحدود المسجد لحماية المسلمين من التطرف. إن ترتيبة الإنتقال من الديني إلى السياسي تحمل سمات مختلفة نظرا لاختلاف أدوات كل مرحلة، ففي الحالة الدينية لا توجد الا الأدوات الروحية، وفي الحالة السياسية تتوفر أدوات جمعية أخرى في التدافع والغلبة تهدف إلى الانتصار على الآخر.
إن الوقوف في نقطة التحول الآنفة الذكر هدفها سلخ السياسة عن الدين، وتحويل السياسة إلى مجاريها الرسمية التي تنتهي في البرلمان، وفصلها عن الدين الحيادي الروحي والشخصي الذي لا يتدخل فيه أحد، وهي عملية ظاهرها بسيط وتنفيذها صعب وتحتاج إلى تعديل منهج الدولة، ويمكن وصف الأمر كالتالي:
سمحت معظم الدول الأوربية بفائض مالي لوجستي وبشري وثقافي وإعلامي لحركات التدين السياسي، وغضت الطرف عن تمويلها من الخارج، وساهمت في جعل هذه الحركات متفردة في الساحة الدينية والثقافية، وساهم ذلك بشكل أو آخر في ارتباط التدين بشكل عام بالسياسة، وخَلقَ له هوية إنعزالية خاصة بامتلاكه منظمات ومؤسسات رسمية، وتبرز في هذه المورد مشكلة واضحة هي: كيفية فصل التدين السياسي عن التدين الشعبي والفردي فصلا تنظيميا وفكريا؟
إن هذا الأمر يتطلب توصيف حالة الأسلمة السياسية في أوروبا من ناحية توصيف الحالة الفكرية وما يصاحبها من تبدلات، لأن حركة الإخوان المسلمين تتبنى التقية، وهي في اعلامها العام مع العلمانية والديمقراطية والاندماج وضد الانعزالية عن المجتمع، وهي في مظهرها الخارجي تناظر وتحاكي الأحزاب الديمقراطية المسيحية، وفي جوهرها خلاف ذلك، وعليه لا بد من عمل فكري وثقافي يحدد أهداف الإخوان المسلمين الحقيقية في أوروبا، ويبين اختلافها الأساسي عن التدين الإسلامي الشعبي والفردي الذي يرتبط بعلاقة عمودية مع الخالق، وتوجد بحوث أولية للدكتور وائل صالح والدكتور مهند خورشيد وآخرين تصف تلك الحالة وهي بحاجة إلى تطوير ونشر وإعلام لتعميمها وتفعيلها(17) .
كما أن الحالة الدولية الحالية تميل لصالح حركات التدين السياسي من ناحية الدعم المالي، والإعلامي، وامكانيات التدريب والسيطرة على المنبر الديني من خلال السيطرة على الأئمة (رواتب، توظيف)، وملكية الجوامع نفسها التي تعود لدول أخرى أو مؤسسات دينية مسجلة بشكل رسمي وقانوني. ومن هذا نفهم أن وجود المؤسسات الدينية هو وجود شرعي، وممارسة العبادات كذلك، وممارسة المتدينين السياسة هي كذلك، بشرط أن يهدف الفعل التنظيمي والسياسي للوصول الى قبة البرلمان، كما أن الفكر المتطرف الذي وقّعَ أصحابه على عقد مع الدولة المضيفة يتعهدون به عدم تهديد أمن البلد، وعدم ارتهانهم سياسيا إلى دولة أجنبية، ويؤدي ذلك إلى نتيجة واضحة هي: إن نشر الفكر المتطرف داخل البلدان الأوروبية هو فعل غير قانوني، وهم يعرفون ذلك، لكنهم يعملون على خلط التطرف بالإسلام، واستغلال المنابر لنشر عقيدة متطرفة تدفع أبناء الأقليات للانعزال ولأعمال التطرف، لذلك فإن هذا الأمر يحتاج إلى جهود فكرية وإعلامية حثيثة، هدفها فصل التطرف الديني عن التدين الشعبي العام، وهو حقل لا مجال فيه للملحدين و المتصيدين، ولا لليمين المتطرف الذي يخلط التطرف الديني بالدين نفسه، وهو فعل معرفي وبحثي يضع فواصلَ بين التدين الشعبي _ الهادف لإشباع رغبة روحية وامتصاص التوتر وخلق الرضى وارواء الأخلاق بمعين لا ينضب- وبين التدين السياسي، الساعي لأسلمة المجتمع والاقتصاد والسياسة للفوز في نهاية هذا المشوار بالسلطة.
 
الهوامش
(1) مركز الأرشيف الألماني للإسلام، مركز بيو للأبحاث يقدرهم ب6%.
(2) يمنع قانون الإعلام والحريات الفرنسي تقديم أعداد أو نسب الانتماء العرقي والديني للفرنسيين، وقد قدرتهم الصحافة استنادا إلى خطاب ساركوزي الذي قدرهم بين 6 إلى 8%، وتزداد هذه النسبة في القوات المسلحة.
(3) نشرة "مسلمو أوروبا" في 2/ 5/ 2022 .
 (4)تحقيق عن مسجد ليون الكبير، عبد المجيد دقنيش 2/ 4/ 2024.
(5) امين يونس، مساجد وارقام، في 2 ديسمبر 2020 .
(6) و(7) المصدر السابق.
(8) نشرة الفدرالية الإسلامية في كاتالونيا، القدس العربي 1/ 6/ 2014.
(9) جريدة الاندبندنت عربية في 14/2/ 2020 .
(10) أنظر بيان الشيخ حسين حلاوة موجود على النت.
(11) جاسم محمد، الملف الاوربي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات، مصادر تمويل الجماعات المتطرفة.
(12) تسجيل على النت.
(13) جريدة النهار في 26/6/ 2014 .
(14) جريدة الشرق 9/1/ 2019 .
(15) الخليج أونلاين 8/1/ 2020.
(16) للمزيد انظر: مالبرونو وشينو، اوراق قطر، ط 1، باريس، دار ابن رشد، 2020.
(17) للمزيد انظر: مهند خورشيد، الإسلام رحمة، دار هردر للنشر، 2012؛ مهند خورشيد، خيانة الإسلام، دار هردر للنشر.2018؛ وائل صالح، البحث عن حداثة في الاسلام، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 2018.