"العنف هو مفهوم يبلغ امتداده الحد الأقصى وفهمه الحد الأدنى".
جورج لابيكا
وجدت صعوبة في التفكير في العنف، لا لتعقده وتشابكه وحضوره في حياتنا اليومية فحسب، ولكن لأنه، بحسب الفيلسوف الهولندي كورلِنِس فيرْهوفْن (1928-2001)، "شكل من أشكال المعاناة والتمرد في الوقت نفسه"(1). يبدو أن العنف مستوحى من هذا الوضع المعقد؛ فكلما نحاول التأمل فيه والخوض في دلالاته ومعانيه حتى نصطدم بصعوبة تعريفه وتحديد مساره.
إشكالية تعريف العنف
والسؤال الذي يحيرنا؛ هل العنف مفهوم؟ ولمحاولة فهم هذا المصطلح، نتجه إلى البحث في معقوليته وذلك بتعريفه أو تحديد حدود جوهره، والتساؤل عن ماهيته التي يمكن فهمها، أو في أي مجال يمكن تحديد مفهومه أو جوهره.
كيف نعرف مصطلح العنف، وهل بإمكاننا فهمه، يا ترى؟ في اللغة العربية، يأتي العنف، في لسان العرب، حسب ابن منظور، بمعنى الخُرق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق. عنف به وعليه يعنف عنفا، وهو عنيف إذا لم يكن رفيقا في أمره. واعتنف الأمر: أخذ الأمر بعنف، والتعنيف هو التقريع واللوم(2).
واليوم، إذا تحدثنا عن العنف، نجد أنواعا مختلفة. ونعلم ان هناك عنفا مؤسساتيا وعنفا حربيا وعنفا نفسيا وعنفا رمزيا وعنفا جندريا وعنفا جنسانيا إلخ. ونرى أن للعنف تفسيرات عدة ومن بينها، معالجة الأمور بالشدة والغلظة، وهو أيضا استخدام القوة لإخضاع شخص ما أو جماعة أفراد ضد إرادتهم والاعتداء عليهم بطريقة جسدية أو نفسية.
إيتيمولوجيا -أصل المصطلح
مصطلح العنف مشتق من الكلمة اللاتينية Violentia. إنه يعني العنف أو الشخصية العنيفة أو الشرسة أو القوة. الفعل violare يعني المعاملة بالعنف، والتدنيس، والتعدي. وهذا المصطلح مشتق أيضا من كلمةvis التي تعني القوة أو الصرامة أو الطاقة أو العنف أو استخدام القوة المادية، ولكن أيضًا الكمية أو الوفرة أو الجوهر أو الصفة الأساسية للشيء. وبشكل أعمق، تعني كلمة "vis" القوة في العمل، وهي مورد الجسم لممارسة قوته، وبالتالي القوة، والقيمة، والقوة الحيوية (3).
يميز فيرهوفن (4) كما إيف ميشو (5) بين نوعين من العنف؛ العنف كحدث والعنف كفعل، ويصفاهما بالعنف السلبي والعنف الإيجابي. العنف السلبي أو الحدث -vis، وهو ما يحدث للإنسان ويطغى عليه. أما العنف الإيجابي فهو العنف - الفعل violentia (كنشاط) الذي يمارسه الانسان ويستخدمه ضد الآخر.
وهذا التمييز لا يعتمد ببساطة على جانبين من نفس العنف. واسمحوا لي أن ابدأ بفكرة بسيطة استعيرها من الفيلسوف الهولندي فيرهوفن (6)؛ يمكننا أن نقول إن الضربة التي أوجهها لشخص ما هي عنف نشط بالنسبة لي وعنف سلبي بالنسبة للشخص الذي يتلقى هذه الضربة، ولكن من الواضح في هذه الحالة أنه عنف نشط محض، لأن الضربة التي يوجهها أي شخص، هي عمل قوي بشكل لا لبس فيه. هكذا فالعنف النشط هو فعل، والعنف السلبي هو حدث. في هذه الحالة، يمكن ببساطة أن نحدد من يقوم بالفعل ومن المسؤول عنه، لكن هذا لا يمكن قوله عن الحدث كظاهرة طبيعية؛ ففي هذه الحالة، المسؤول مجهول، إذا صح التعبير. وحتى لو كان الحدث مرتبطًا بإجراء ما، فلا يمكن اختزاله في هذا الإجراء. الزلزال حدث محض لا يمكننا أن نُحمِّل أحدا مسؤولية وقوعه إلا بقدر ما هو مكلّف بتوقع ذلك الحدث واتخاذ التدابير اللازمة إزاء نتائجه. والتمييز الذي تم تقديمه لا يحتاج إلى تفسير هنا، فهو مبرر تماما بالحدث المحض. أما مسؤولية العنف فتكمن في لحظته النشطة، في العنف كفعل.
العنف – اللغز
لنعد إلى فكرة فيرهوفن، وهي في غاية الأهمية؛ التفكير في العنف(7). إنه يصطدم بقيدين يمنعانه من التفكير في العنف. أولا، إنه لا يستطيع أن يفكر في العنف بطريقة سياسية، بحيث أن أفكاره يمكن أن تتغير على الفور أو حتى في المستقبل المنظور. لكن حتى إذا كانت الرغبة في التغيير الفوري هي مصدر إلهامه، فإنه يظل مدركًا لعجزه التام. ويضيف "فمن يعتقد أنه يستطيع التأثير بشكل مباشر على العالم من خلال تفكيره فهو مذنب بسذاجة تجعله خارج الواقع، ويحكم على أفكاره بالعقم. يبدو أن قوة العنف تفوق حتى معاناتنا" (8). يمكننا أن نقول إننا ضد الحرب والعنف؛ ربما يكون إيماننا الشديد بأن الحرب غير ضرورية ويجب إلغاؤها؛ كل هذا ليس بالضرورة فكرة مثمرة. علينا أن نستوعب ما يجري في الواقع؛ أي شخص يسيء فهم ذلك لا يدرك أن هذا العجز على وجه التحديد هو جزء من مشكلة ضخمة ومتشعبة في الوقت نفسه في جميع أنحاء الوجود؛ وهي العنف. العنف بحكم تعريف فيرهوفن هو ما هو أقوى منا، وبالتالي يجب أن نتحمله. ومع هذا ليس من المستحيل أبداً التحرك داخل دائرة الإدارة السياسية. ومن ينسب إلى أفكاره وصوته قوة لا يملكها ويستلهم غيابها، فإنه يضع نفسه خارج القضية ويستهين بالعنف. وهو يتصرف كمن يقف على الشاطئ وينفخ، معتقدًا أنه يضخ الريح في أشرعة سفينة على مسافة لا يراها ولا يعرف مسارها، في حين أن تلك السفينة تحولت منذ زمن طويل إلى البخار.
ثانيا، لا يمكن لفيرهوفن التفكير بالعنف دون التمرد. فهو يرغب في أن يقتصر تأثيره على العنف في المجال الذي يمكن فيه ممارسة هذا التأثير بشكل مباشر ويمكن التحقق منه. وقد يمكنه مكافحة العنف الذي يمارسه بنفسه. لكن هذا لا يكفي. وذلك لأنه يعتبر السلام في القلب وكل الأشياء الأخلاقية الجميلة لا علاقة لها بالعنف في العالم، وأن العنف ليس مشكلة توجه فردي؛ بل إنها ظاهرة مرتبطة بالجماعية. لذلك نحن لا نتحدث هنا عن السلام الداخلي.
ما الذي بقي للتفكير فيه ومناقشته؟ مشكلة العنف على وجه التحديد، أو ربما حتى لغز العنف. إن مراوغة المشكلة هي جانب من المشكلة نفسها. إن العنف ليس مشكلة فلسفية إلا بقدر ما يدرك الفكر طابعه الإشكالي في مواجهة هذه المشكلة. إن ما يزعج الإنسان المفكر في المقام الأول هو أنه لا يستطيع التحرك في مواجهة العنف، بل يمكنه فقط التفكير فيه. وهذا الانزعاج يُلهم التفكير على وجه التحديد. فمن خلال التفكير في العنف، فإن فيرهوفن نفسه يعاني ويتمرد في الوقت نفسه.
وفي هذا السياق، ردّا على الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار (1942-)، يقول الفيلسوف الفرنسي الماركسي جورج لابيكا (1930- 2009)، في كتابه الموسوم "نظرية العنف" وهو آخر كتبه الصادر عام 2008، "بأن العنف قد أصبح في الأزمة الحالية (...) أمرًا لا مفر منه، ما دام ثقل المعاناة التي تتحملها (الجماهير) يفوق طاقتها. فإذا لم يجد هذا العنف تعبيرًا جماهيريا واعيا بالحاجة إلى بديل جذري، فسوف يتعثر في ثورات عفوية يمكن قمعها بسهولة و/ أو تجعل من الممكن الخروج من الأزمة الرأسمالية مما يؤدي إلى المزيد من العنف. فإذاً لم يتبق لنا أي خيار"(9)، ويقصد هنا اللجوء إلى العنف.
العنف والندرة
ومن منظور فلسفي آخر، يقترب الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان - بول سارتر (1905- 1980) من فكرة هوبز (الحالة الطبيعية في ما قبل السياسية) (10) ويعتبر في كتابه الموسوم "نقد العقل الديالكتيكي" (1960) أن: "العنف (هو) اللاإنسانية المستمرة للسلوك البشري كندرة داخلية؛ إنه باختصار ما يجعل الناس ينظرون إلى بعضهم البعض باعتبار الآخر هو مبدأ الشر. وبالتالي فإن فكرة أن اقتصاد الندرة هو العنف، لكن هذا لا يعني أنه يجب أن تكون هناك مذابح أو اعتقالات أو أي استخدام مرئي للقوة، أو حتى أي مشروع حالي لاستخدامها. إنه يعني ببساطة أن علاقات الإنتاج تنشأ وتستمر في مناخ من الخوف وعدم الثقة المتبادلة من قبل الأفراد الذين هم على استعداد دائم للاعتقاد بأن الآخر هو عدو من نوع غريب؛ وبعبارة أخرى، يمكن للآخرين أن ينظروا إلى الآخر، أياً كان، باعتباره "الشخص الذي بدأ الأمر، (أي العنف)" (11).
إننا لا نستطيع أن نفهم العنف، إلا من خلال منظور (نظري، أخلاقي، ثقافي)، أو من خلال طريقة التوجه (التأملي، الاستفهام، الافتراضي)، أو من خلال مفهوم المعنى (اللغوي، الظاهراتي) (12).
فبالنسبة لسارتر، العنف إنساني (العنف باعتباره اللاإنسانية المستمرة في الإنسان)، وتاريخي (العنف باعتباره إرث ندرة داخلية ومتكررة بشكل دائم). تحدث سارتر عن التاريخ الإنساني، ويرى أنه عبارة عن التقاء الإنسان بالإنسان عبر الإنسان وذلك بسبب العلاقة الديالكتيكية بين الحاجة والندرة. فالندرة تتولد من الحاجة. وعكس ذلك صحيح. ومع الندرة يستحيل التعايش الوجودي بين الإنسان وأخيه الإنسان فيصبح الإنسان موضع شك، إذ يُنظر إليه على أنه لا إنسان، ومن هنا ينشأ العنف.
إن الإنسان يتواجد في العالم الذي تسوده كل من: الحاجة والندرة والعنف والاستيلاب. فيصبح نتاجا لإنتاجه، بمعنى أن العمل الذي يقوم به ينقلب ضده، ويمر بذلك بتجربة عجزه، وتتحول حياته اليومية إلى جحيم، من قمع ورقابة ذاتية وعنف بنوعيه: مرئي وغير مرئي. والندرة، بحسب سارتر، هي النقطة الأضعف، في داخل المجتمع، ويرتبط الظلم والصراع بها؛ أما عن ارتباط التاريخ بها، فهي محركه وتؤسس إمكانيته، وليس حقيقته. وقد تحدث الندرة في أماكن غنية ومنها ما هي فقيرة. وبما أن "الإنسان نتاج تاريخي للندرة" (13)، فالندرة، من الناحية العملية، هي بمثابة علاقة متواطئة مع المادة، تصبح بالنهاية موضوعية واجتماعية، وتعين بأصبعها كل فرد كعامل وضحية للندرة"(14). والندرة لها تداعيات مرتبطة بالعنف، من خلال الاستلاب وتشيء الإنسان واحتمال إبادته. ويصنف العنف "اقتصاد الندرة"(15).
هل العنف لا مفر منه؟
على حد قول سارتر، العنف ضرورة بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة، وذلك لأن هذه الأخيرة، تحرص على الحفاظ على هيمنتها على طبقة أكبر منها. وهي أيضا (الدولة) "تحتكر العنف الرمزي المشروع" حسب قول ماكس فيبر (16). وسيظل هذا هو الحال طالما لا يوجد مجتمع لا طبقي. تعتبر الشرطة والجيش، في الأنظمة الإقطاعية أو الرأسمالية، أدوات عنف في خدمة طبقة الأقلية. ولكن في واقع الأمر، بما أنها تسيطر على الاقتصاد، فإنها قادرة على تزويد هذه القوى بالوسائل التقنية الضرورية لضمان التفوق السياسي. وهنا يتدخل جدل خاص يتعلق بتطور أدوات العنف، وبالتالي، بالتقدم الاقتصادي والتقني. إن الأداة التي تسود، والفتاكة أكثر، هي في نهاية المطاف، تكنولوجيا الأسلحة الجديدة التي تحدد قوة الأمة، وبالتالي، الطبقة الحاكمة (17).
بعبارة أخرى، سيكون القانون الأداة التي من خلالها تفرض الطبقة الحاكمة هيمنتها، وبالتالي سيصبح أداة في الصراع . والقانون، ليس كما جاء في نظرية توماس هوبز، هو ما يضع حدًا لحرب الجميع ضد الجميع، بل على العكس من ذلك، هو ما يطيل أمد الحرب من خلال استقرارها؛ وينتج عن ذلك شكل خاص من الحرب الأهلية، وهي الحرب الاجتماعية (18). علاوة على ذلك، تطرق كارل ماركس لصيغة "الحرب الأهلية" (أو الاجتماعية) وما يتعلق بالقانون الذي يحدد طول يوم العمل: "...وبالتالي فإن إنشاء يوم عمل عادي هو نتيجة لحرب أهلية طويلة ومريرة مخفية إلى حد ما بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة"(19) .
العنف البنيوي
ومن باب التفكير في العنف، يمكننا الاستعانة بمسارات معينة في الفكر الماركسي، وذلك لغرض توضيح مسألة العنف. إن إرث ماركس يسمح لنا بتحليل العنف في العالم الذي نعيش فيه. فهو يدشن بشكل فعال إمكانية اعتبار العنف ظاهرة بنيوية.
سيكون ماركس بعد ذلك أول من افترض شكلاً من أشكال العنف يمكن اعتباره بنيويًا أو موضوعيًا للغاية. ويؤكد إتيان باليبار في كتابه الموسوم "العنف والكياسة" أن العنف ليس "نقيض المؤسسة" بل يشكل "الشرط العام لعمل المؤسسات(20). لا يقتصر العنف والمؤسسة على رسم بعدين أنثروبولوجيين لا يمكن التغلب عليهما فحسب، بل إنهما متورطان أيضا في بعضهما البعض؛ فلا عنف بدون مؤسسات، التي يمارس فيها بأشكال تاريخية متنوعة، ولا مؤسسات دون ممارسة عنف أكثر عمومية، وأكثر هيكلية، يحدد عملها (21).
العنف ليس عكس السياسة أو نقيضها، بل هو وجهها المعاكس الذي يستحيل تحصين نفسها منه بشكل نهائي. هكذا اقترح باليبار تصورا يسميه "سياسة الكياسة: باعتبارها "ردا على العنف"، لا ينبغي فهم هذا الاقتراح على أنه وسيلة لقمع العنف وردعه إلى حدود السياسي أو عكسه على نفسه، بل بالأحرى كمحاولة لفهم ما يفرق ويجمع "بشكل مأساوي" في نفس الوقت، في "وحدة الأضداد" العنف والسياسة (22).
غالبا ما نسمع عن شكل من أشكال العنف، يسمى العنف المباشر، والذي يتعلق بإلحاق الضرر بالممتلكات المادية أو بالأشخاص: كالهجمات الإرهابية، والاغتيالات، والاعتداءات والإصابات، وتصعيد المظاهرات التي تؤدي إلى تخريب وإحراق سيارات وما إلى ذلك. لكن لفهم أسباب هذا العنف الجذرية، من الضروري تحليل نوع آخر من العنف وهو العنف البنيوي.
هذا المفهوم مستعار من عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ Johan Galtung (1969). النظرية التي تناولها أيضا كتاب آخرون؛ فقد أسماها بيير بورديو العنف الرمزي، ودوم كامارا Dom Camara العنف المؤسسي، و"العنف المعرفي (23) الذي يعني الهيمنة الثقافية على الناس والحياة الثقافية بشكل مركزي على النموذج الاجتماعي" (24).
اقترح غالتونغ تعريف العنف البنيوي بأنه "شكل من أشكال القيود التي تؤثر على إمكانات الفرد بسبب الهياكل السياسية والاقتصادية، وأن هذه القيود تؤدي إلى عدم المساواة في الحصول على الموارد أو السلطة السياسية أو التعليم أو الصحة أو العدالة. وهذا الشكل من أشكال العنف قد تنتجه مؤسسات الدولة (نظام سياسي تمييزي) أو الممارسات الاجتماعية (معيار اجتماعي إقصائي). وبالتالي يُمنع أو بالأحرى يُحرم الأفراد أو الجماعات من تلبية احتياجاتهم الأساسية. وقد لاحظنا أن التعبير عن هذا العنف، على سبيل المثال، قد يتم في مواقف كراهية الأجانب أو رهاب المثلية أو التمييز على أساس الجنس أو القومية أو النخبوية مثلا) *أو تيار (Woke(25).
ويرى غالتونغ بأن العنف المباشر هو حقيقة وأن العنف الثقافي ثابت ودائم. ويضيف أن العنف البنيوي هو عملية بطيئة تعمل من خلال تعقيد هياكلها، وتنتج بذلك عدم المساواة وحياة بائسة. ولأن هذا العنف متجذر في هياكل المجتمع على وجه التحديد فهو جزء من طبيعة دائمة؛ هي هياكل دائمة نسبيا، تتطور ببطء شديد. وبالتالي فإن هذا النوع من العنف هو عنف دائم (26).
العنف البنيوي غير مرئي، ويترسخ في قلب تعقيدات الأنظمة السياسية والاقتصادية وحتى الفكرية (تمثيلات الآخر والأحكام المسبقة)، ويكتسب طابعًا عاديًا. ويصبح في النهاية مؤسسيا. كما أنه يؤثر على العناصر الأساسية في وجود الأفراد؛ هويتهم الاجتماعية، واستقلاليتهم. ويؤدي إلى تفاقم عجزهم. وهذا ينطبق أيضا على مفهوم العنف الرمزي غير المرئي والذي يساهم الأفراد في إعادة إنتاجه. "وهو ذلك الإكراه الذي لا يتمُّ تأسيسه إلا من خلال تضامن المهيمَن عليه الذي لا يمكنه أن لا يمنحه للمهيمِن، (أي الهيمنة)، وذلك عندما لا يملكُ المهيمَن عليه القدرة، لكي يفكر أو يفكر في نفسه أو بالأحرى يفكر في علاقته مع المهيمِن، إلاّ أنماط تفكير مشتركة مع المهيمِن"(27). ولهذا السبب، فإنه لتحدي كبير في جعل هذا الشكل من العنف مرئيًا؛ معرفة وجوده، وفهم مكوناته ورصد تحركاته.
إلى جانب بورديو الذي تناول أيضا الهيمنة الثقافية، وتحدث عن هذا النوع من العنف، يعرّف دوم كامارا، الأسقف البرازيلي ولاهوتي التحرير، العنف المؤسسي بأنه "ذلك الذي يضفي الشرعية على الهيمنة والقمع والاستغلال ويديمها، ويسحق الملايين من الناس في صمت(28). ويصف العديد من الهياكل الاجتماعية غير الأخلاقية، في أمريكا اللاتينية، التي تسبب الفقر وعدم المساواة الاجتماعية والعنصرية والتمييز الجنسي".
ولا ننسى أن الماركسية هي، بشكل عام، نظرية عن العنف المنهجي المرافق للبنية الاجتماعية الرأسمالية. فتحليل أشكال العنف الذي تقوم به الماركسية يرتبط، بشكل أساسي، بتحليل أشكال استغلال قوة العمل. ومن خلال هذا التحليل، نلاحظ مظاهر العنف الذي يتجلى في نمط الإنتاج الرأسمالي من خلال التراكم البدائي، والميل المتأصل في الرأسمالية نحو الاستغلال الفائق. وهذا الأخير، أي الاستغلال الفائق، يهم ألتوسير أكثر. فبحسبه، لا يقتصر العنف على الاستغلال الاقتصادي البسيط؛ ويُفهم أيضًا على أنه صراع بين القوى التي تمثلها الطبقات الاجتماعية المتضادة؛ والمشكلة التي تواجه الطبقة المهيمنة ستكون إيجاد وسائل لاحتواء هذا العنف عن طريق منعه من تمزيق البنية الاجتماعية الرأسمالية، أي الحفاظ على هيمنتها الطبقية (29).
يدمر رأس المال قوة العمل التي يستغلها؛ والأهم من ذلك، فإن عملية الإنتاج الرأسمالي تحركها نزعة عدمية للتدمير الذاتي، وبهذه الفكرة أنهى ماركس فصله في الكتاب الأول من رأس المال عن الآلات والصناعة واسعة النطاق: "إن الإنتاج الرأسمالي لا يطور إلا تقنية وتركيبة عملية الإنتاج تأتي متزامنة على حساب تدمير المصادر الحية لكل ثروة: الأرض والعامل"(30).
ولذلك فإن العنف، كما يقول ماركس، هو عامل اقتصادي، عكس ما يقترحه أوجين دوهرنج Eugen Dühring الذي اعتبر العنف عاملاً تاريخيًا أساسيًا وكتب حوالي عام 1875: "يجب أن نبحث عن العنصر الأساسي في العنف السياسي المباشر، وليس فقط في القوة الاقتصادية غير المباشرة" (31). وفي هذا اتخذ موقفًا واعيًا ضد النظرية الماركسية. وكان له فيردريك إنجلز بالمرصاد من خلال إجابات مشهورة، في كتابه "ضد دوهرنج" للرد عليه (32).
وفي تحليله لأساليب التراكم البدائي في الكتاب الأول من رأس المال، يكتب ماركس: "يستخدم الجميع سلطة الدولة، والعنف المركزي والمنظم للمجتمع، لتسريع وإجبار عملية الانتقال من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي وتقصير المراحل الانتقالية" (33).
فإذا كانت الحياة الاجتماعية حرباً أهلية دائمة بين طبقات ذات مصالح متضادة، فالقانون هو أداة للسيطرة الاجتماعية، وما يوحد المجتمع الرأسمالي ليس الإجماع، بل على العكس من ذلك، فهو عداء، في تطور دائم. يمكننا القول أنها حرب صامتة؛ وهذا بالضبط ما قاله ميشيل فوكو في دورته الدراسية عام 1976: "سيكون للسلطة السياسية، في هذه الفرضية، دور إعادة كتابة توازن القوى هذا بشكل دائم، من خلال نوع من الحرب الصامتة، وإعادة كتابته في المؤسسات، وفي التفاوتات الاقتصادية، وفي اللغة، وحتى في أجساد البعض والبعض الآخر" (34).
أعاد فوكو وألتوسير اكتشاف فلسفة توماس هوبز. فإذا كان علينا أن نحتفظ بشيء مثير للاهتمام من هوبز، فمن المؤكد أنه ليس فكرة أن العقد الاجتماعي هو إيداع الأسلحة ونهاية القتال ما قبل السياسي؛ فعلى العكس من ذلك، فإننا سنحتفظ بفكرة أن الحرب افتراضية، أي أنها حاضرة دائمًا(35)؛ فعندما أعود إلى المنزل وأغلق الباب، أكون في حالة حرب؛ أحمي نفسي من الغزاة المحتملين. وبهذه الطريقة، يمكننا أن نقرأ هوبز؛ الحرب ليست خيالًا، إنها حقيقية دون أن تكون فعلية، إنها افتراضية. وهذا ما نلاحظه في حياتنا اليومية.
وفي هذا السياق، يمكننا استعارة الصيغ التي استخدمها فوكو في دوراته في كوليج دو فرانس بين 1973 و1976: "السياسة هي الحرب". وبتعبير أدق، يقول فوكو في دورته التي تحمل عنوان "المجتمع العقابي": "يجب اعتبار الممارسة اليومية للسلطة بمثابة) حرب اجتماعية؛ إن ممارسة السلطة يعني، بطريقة معينة، شن حرب اجتماعية. هناك شيء واحد واضح: نحن في حرب اجتماعية، ليست حرب الجميع ضد الجميع، بل حرب الأغنياء ضد الفقراء، حرب الملاك ضد أولئك الذين لا يملكون شيئًا، حرب السادة ضد البروليتاريين"(36).
هكذا ينبغي أن ننظر إلى العنف، الذي لا يعتبره جورج لابيكا مفهوما، بمعنى concept (37)، كأنه شيء يقاوم المفاهيم، وبالتالي يقاوم القدرة على الفهم. ومع ذلك فهو ليس لا شيء.
يستشهد دود (38) بما قالته نانسي شيبر وفيليب بورجوا في مقدمة مختارات حديثة حول هذا الموضوع (39)؛ إن العنف يتحدى التصنيف السهل. يمكن أن يكون كل شيء ولا شيء، مشروعا أو غير مشروع، مرئيا أو غير مرئي، ضروريا أو غير وضروري أو عديم الفائدة، بلا معنى ومجاني أو عقلاني واستراتيجي تماما. وختاما، يبدو أن مسألة العنف والتفكير فيه ليست بمسألة بسيطة.
الهوامش :
1- Cornelis Verhoeven, "Een Cultuur van het geweld", Leende, Damom, 2000, p.10.
2- ابن منظور، لسان العرب، (ع. ن .ف.)، بيروت، 1956، ص 304.
3- Verhoeven, p.10
4- Yves Michaud, "La violence", Paris, Presses Universitaires de France, 1986, p. 10.
5- Verhoeven, p.12.
6- Ibid., p.13.
7- Ibid., p.10.
8- Ibid., p.12.
9- Georges Labica, "Théorie de la violence ", Paris, Éditions Delga, 2008, pp. 279-282.
10- “Hobbes Leviathan”,(trad.) vertalingen van W.E. Knul. Inleiding en bibliografie van B.A.G.M. Tromp, Amsterdam, 2000, pp. 161-166.
11- Jean- Paul Sartre, "La critique de la raison dialectique", Tome I :In James Dodd, p.36.
12 - James Dodd, "On concept of Violence: Intelligibility and risk", in Phenomenology of violence, Boston, Edited by Michael Staudigl, 2014, p.39.
13 -Ibid., p.234.
14 - أحمد فقيه، أنثروبولوجيا سارتر والماركسية، دار الفارابي، بيروت، 2010، ص، 22.
15- Sartre, p.149.
16- Pierre Bourdieu,"Méditations Pascaliennes”, Paris, Seuil, 1997, p. 253.
18- Marx, "Le Capital", Livre I, tr. fr. Paris, PUF, « Quadrige », 1993, pp. 334-335.
20- Étienne Balibar, "Violence et civilité", Wellek Library lectures et autres essais de philosophie politique, Paris, Galilée, 2010, p.37.
21- Louis Carré, "Violence, Institutions", « Politique de la civilité », Étienne Balibar et les enjeux d’une « Anthropologie politique » in Raison Publique, « Pourquoi Balibar », 2014/2 n.19, pp. 23-35.
22- Ibid.
23- Johan Galtung, “Cultural Violence”, In Journal of Peace , Research Vol. 27. No.3. 1990. pp.291-305.
24 - فلوريان غايزلر، "كيف نتعامل الماركسية مع نظرية وممارسة إنهاء الاستعمار"، ترجمة رشيد غويلب، طريق الشعب، 29 أيلول - سبتمبر 2014.
25- « Any constraint on human potential due to economic and political structures », in Galtung J., "Cultural violence", Journal of Peace Research, vol. 27, no3, 1990, pp. 291–305.
*Woke مصطلح يعني "استيقظ أو كن حذرا"، يشير إلى الوعي بقضايا العنصرية والظلم الاجتماعي ضد الأقليات في المجتمع. لكنه منذ عام 2020، تغلغل في الجامعات الأوروبية آتيا من أمريكا وكندا. وتطور إلى مصطلح مشحون بالسلبية، يفرض أيديولوجيا الصواب السياسي المرتبط بثقافة الإلغاء والرقابة الذاتية القسرية وغير ذلك.
26- Karine Gatelier & Claske Dijkema, « Violence structurelle : comprendre les racines des inégalités »Alternatives non-violentes, no.189. septembre. 2018, p.23.
27- نجاة تميم، "العنف الرمزي عند بيير بورديو"، مجلة "الثقافة الجديدة"، العدد 436، آذار، 2023. ص، 12.
28- Gatelier, p.24.
29- Ibid. p.25.
30- Marx. pp. 565-567.
31- إنجلز، "ضد- دوهرنج، ثورة السيد أوجين دوهرنج في العلوم"، ترجمة محمد الجندي وخيري الضامن، موسكو، دار التقدم، 1984، ص.185.
32- إنجلز، ص. 185-193.
Engels," Anti Dühring, De heer Eugen Dührings omwenteling van de wetenschap", Moskou, Uitgeverij Progres, 1978, (1877).
34- Foucault, "Il faut défendre la société," Cours au Collège de France. 1975-1976, Paris, Hautes Études, Gallimard - Seuil, 1997, p.16.
35-L. Althusser, "Le courant souterrain du matérialisme de la rencontre" (1982), in Ecrits philosophiques et politiques I, p. 555.
36- Michel Foucaud, "la société punitive", Cours au Collège de France,1973, cours du 10 janvier 1973, tapuscrit de J. Lagrange, p. 33.
37- Labica, p.7.
38- Dodd, p.63.
39- Nancy Scheper-Hughes & Philippe Bourgeois (eds.), "Violence in War and Peace: An Anthology" , Londen, Blackwell, 2009, pp. 272-274.