أكمل دراسة الطب من جامعة بغداد عام 1969، تخصص لاحقاً بالطب النفسي، زميل كلية الأطباء النفسيين البريطانية. حاصل أيضا على دبلوم في علم الاجرام. عمل في الخدمات الصحية النفسية البريطانية منذ عام 1982 كطبيب استشاري. وبعد تقاعده انتقل الى العمل مع وزارة العدل البريطانية حتى عام 2016. انتخب عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، في المؤتمر الوطني الخامس 1993.
الثقافة الجديدة: ترتكز الأيديولوجيا البرجوازية على تأكيد الفردانية والذات الفردية، وعلى أولوية العوامل الذاتية، وعلى الفصل المطلق بين الفرد ووجوده الاجتماعي. بالتأكيد، هذا الفصل أيديولوجيا، علم زائف، أكثر من كونه علما حقيقيا. وبالتالي، عندما نشأ "علم" النفس، البرجوازي، كانت كل "المقولات والمفاهيم" التي شكّلها وينطلق منها في التحليل، هي مفاهيم مرتكزة على الفرد، على الذات. وكذا الحال بالنسبة للأمراض التي يدعي انه اكتشفها. وقد حاول في أحيان كثيرة، ان لم يكن غالبا، ان يستند الى علم الوراثة في تفسيراته.
هل لكم ان تطلعوا قراءنا على آخر وأبرز مخرجات هذه العلم البرجوازي؟ خصوصا تلك المستندة على علم الوراثة البيولوجي في تفسير الظواهر النفسية؟ وكذلك الانتقادات العلمية الحقيقية التي ما زالت تواجهه؟
د. الياسري: سأبدأ تناولي لهذا السؤال بتوضيح سريع لبعض المقاربات التي هي وراء تعدد اتجاهات ومناهج ومقاربات علم النفس والذي قاد أحيانا الى التخندق نتيجة صراعات سببها استنتاجات نظرية وتطبيقية متقاطعة. والأهم هو الاختلاف في الأسس الفلسفية المعتمدة او المنهجية البحثية التي تكمن خلف الاستنتاجات التي يتوصل اليها المختصون في العلوم النفسية وأيضا الى استخدام علم النفس والطب النفسي في الحملة الغربية العالمية المعادية للشيوعية خلال سنوات الحرب الباردة.
وما يجعل المقاربة الماركسية مختلفة، هو تأكيدها على الترابط الديالكتيكي بين عوالم البايولوجي، ومنها التطور والوراثة والفسلجة، مع الذات الداخلية وعوالم البيئة الاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها الانسان عند دراسة وتحليل الظواهر النفسية والسلوكية والادراك والوعي والشعور والدوافع والغرائز والانفعالات والشخصية ومجمل النشاط الإنساني.
تاريخيا، أدى صعود الفلسفة المادية في القرن 18 الى الحد من انتشار الديكارتية. فالماديون اعتبروا الظواهر النفسية مثلها مثل الجسد، خاضعة لقوانين الميكانيك. ويعتبر عام 1879، عندما افتتح وليهلم فنت في المانيا اول مختبر للبحوث النفسية، بداية خروج علم النفس من عباءة الفلسفة وتحوله الى علم متخصص يسعى الى تحليل النشاط الذهني عبر التأمل الداخلي في ظروف مختبرية قياسية اشبه بالكيماوي في تحليله مركبات المواد الكيماوية.
وكان المنعطف الذي حدد مسار علم النفس في بداية القرن العشرين ولعقود لاحقة يعود الى تطور اتجاهين متعارضين؛ الأول الذي ساد في أوروبا، واعتمد على التأمل الذاتي الداخلي "الاستبطان" لمعرفة النفس الداخلية، في سياق مقاربة (التحليل النفسي) التي أطلقها فرويد عام 1900، بينما عرف التيار المنافس الذي انتشر في الولايات المتحدة باسم (المدرسة السلوكية)، التي وضع أسسها جون واتسن عام 1913.
وبسرعة تطور علم النفس في القرن العشرين الى نشاط أكاديمي في الجامعات والمراكز البحثية. خصوصا مع ظهور التطبيقات السريرية والمهنية والمجتمعية والاختبارات النفسية. وكذلك بفضل تأثير الثورة العلمية والرقمية والتكنولوجية التي شهدها القرن الحادي والعشرون، خاصة ما ارتبط بالكشف عن خفايا فسلجة الدماغ، وانماط اتصال الشبكات العصبية والفهم الافضل لوظائفه. وأيضا في دراسة التأثيرات المجتمعية والنفسية لتكنولوجيا التواصل الاجتماعي وتبعات الدور المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، ولا استبعد ان يظهر في المستقبل تطبيق علم نفس الروبوتات عندما تصبح جزءا من حياتنا اليومية في السلم والحرب.
ومن الجدير بالذكر ان مسار تخصص الطب النفسي والعقلي كان مختلفا عن علم النفس العام. وذلك نتيجة ضغط الاعداد الكبيرة للمصابين باضطرابات عقلية الذين كان يتم حجرهم منذ القرن الرابع عشر في أوروبا بأعداد كبيرة في مصحات خاصة وغالبا بدون مسوغات قانونية.
ولكن مع توسع علم النفس وتغير مفاهيم المرض النفسي وتوفر علاجات فعالة، التقى المساران عبر نمو تخصص علم النفس السريري الذي قدم خبرات ومهارات عديدة في قياس وتشخيص ومعالجة الاضطرابات النفسية. كما ظهرت تخصصات مختلفة في علم الطب العقلي تؤكد على أهمية العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية في نشوء الحالات والاضطرابات النفسية، تستخدم طرقا علاجية متنوعة، من بينها ادوية أكثر فعالية واقل اعراضا جانبية وفي إطار قانوني يحدده تشريع خاص للصحة النفسية. اما استنتاجي فهو بقدر ما يقترب علم النفس من علم الطب النفسي بقدر ما يفترقان أيضا. فكلاهما في حركة دائمة وتطور مستمر تعمقها الاكتشافات العلمية والتكنولوجية المتسارعة التي نعيشها.
الخلاصة ان فوضى وازمة علم النفس في العالم وبكافة مدارسه كانت ومازالت وستستمر لأنه علم يقف في اغلب الأحيان على راسه. وكذلك، بسبب خصوصياته في دراسة الظواهر النفسية والوعي والشخصية. لهذا سيبقى هذا العلم أحد ميادين الصراع الفكري مع القوى الاجتماعية التي تسعى الى تحقيق عالم جديد مبني على ثقافة السلام والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
الثقافة الجديدة: منذ مطلع القرن العشرين، تقريبا، بدأت محاولات جدية لإعادة التفكير بالفرضيات السيكولوجية، عبر إقامتها على أساس قواعد ماركسية، وفهم التطور النفسي للبشر باعتباره جزءا من تطورهم التاريخي العام. وقد تجلى ذلك بظهور علم نفس ماركسي، وعلم نفس سوفيتي.
هل لكم ان تستعرضوا لقرائنا، بشيء من التفصيل إن أمكن، أبرز التحولات او المآلات التي وصلت اليها العلاقة بين الماركسية وعلم النفس قبل وبعد انهيار التجربة الاشتراكية وحتى نهاية الربع الأول، من القرن الحادي والعشرين، والذي يقارب من نهايته؟
د.الياسري: لم تناقش الكلاسيكيات الماركسية المشاكل النفسية للإنسان كما نفهمها اليوم والتي حاول علم النفس السوفييتي اغناءها بتطوير اطر نظرية جديدة تنظر الى الظواهر النفسية كنتاج عملية تطور تاريخية طويلة للمادة، وتتطلب وجود دماغ يولدها كانعكاس للعالم الخارجي وليس مجرد نشاط فيزيولوجي. ولكن معرفيا تعتبر المظاهر النفسية انعكاسا للواقع المادي الخارجي وغير مادية، وان كان أساسها ماديا، غايتها توجيه نشاط الانسان للتكيف او لتغيير ما يحيط به من واقع مادي، وعليه فالجانبان الابستمولوجي والأنطولوجي يكمل احدهما الاخر، وتتطلب دراستهما معا.
اما على الصعيد العملي فقد بقي علم النفس كموضوع بعيدا عن المشروع المعرفي الماركسي؛ حيث بقيت أفكار ماركس ونجلز ولينين حبيسة النقاشات الفلسفية والسياسية، ولم تمتد الى فضاء علم النفس حتى نجاح ثورة أكتوبر في 1917 وتوطد وضع الاتحاد السوفيتي حيث تطورت تدريجيا ملامح المدرسة الماركسية والسوفيتية في علم النفس والطب النفسي أيضا.
وأود ان اشير هنا الى بعض جوانب نمو علم النفس في روسيا القيصرية التي تركت بصماتها على تبلور علم النفس لاحقا، بفضل مبادرات أعضاء الجمعية الروسية لعلم النفس التي تأسست عام 1885، والتي توقف نشاطها كليا عام 1918 بسبب ظروف الحرب الاهلية القاسية حتى اعادة تأسيسها بعنوان الجمعية النفسية لجمهوريات الاتحاد السوفيتي عام 1957، ولاحقا واصلت نشاطاتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وقد ارتبط نشاط الجمعية بخصوصيات البيئة الثقافية والفلسفية والسياسية في روسيا ومنها اهتمام المثقفين الروس بعلم النفس لتأكيدها على الجوانب الروحية والتاريخية، وبعضها ينطلق من مواقع فكرية مادية، ومع الأسف لا يتسع المجال هنا لذكر مساهماتهم الغنية.
ويعتبر فلاديمير بختيرف مؤسس المدرسة الانعكاسية في علم النفس، اول من أنشأ مختبرا في روسيا للدراسات النفسية الفسلجية عام 1885، مستفيدا من تدريبه في مختبر فندت في المانيا. وكان هذا المختبر الثاني في العالم، وقبل مختبر كامبردج لعلم النفس في بريطانيا بحدود 12 عاما.
والخلاصة ان واقع علم النفس في العالم بشكل عام وفي روسيا بشكل خاص قبل أكتوبر 1917 تميز بتعدد المنابر والاتجاهات، وقد وصل الامر الى حد تسميتها بالأزمة بسبب تعارضها وتشدد مواقفها والتباين في منطلقاتها العلمية والفلسفية.
المرحلة الثانية المهمة في تطور علم النفس الماركسي جاءت بعد انتصار ثورة أكتوبر. وبسبب الظروف الصعبة والقاسية هاجر العديد من العلماء والمثقفين الروس الى الخارج ولكن بقيت الأغلبية في روسيا تواصل نشاطها البحثي ودعمها للنظام السوفيتي الجديد، خاصة بين أوساط علماء النفس الشباب الذين تزايدت اعدادهم بتأثير من التراث الفكري والفلسفي الروسي للدراسة والتخصص في علم النفس.
وأود ان اشير هنا الى ان ما اقصده بعلم النفس السوفيتي يشمل منظومة من المدارس المختلفة في أهدافها واتجاهاتها البحثية والاكاديمية التي انتشرت في الاتحاد السوفيتي بعد ثورة أكتوبر 1917 ولغاية انهيار المنظومة الاشتراكية عام1991. والتي مرت خلالها بمراحل عكست الأطر الفكرية والفلسفية والاكاديمية السائدة في الاتخاذ السوفيتي، واكدت على اعتماد المقاربة الجدلية في التصدي للأفكار المثالية في تفسير الظواهر النفسية بنتائج البحوث العلمية المختبرية والتصدي لحالات سوء الفهم او التشويه المتعمد. علما ان محاولات تطوير علم نفس ماركسي تستمر الى اليوم.
ولم تخل تلك الفترة من محاولات اعتماد علم نفس تأملي على أساس نظرية التحليل النفسي الفرويدية واطروحات محدودة تدعو الى الجمع بين الفرويدية والماركسية والتي لم تلق رواجا بين علماء النفس السوفييت.
لذا يمكن تلخيص مرحلة العقد الأول ما بعد ثورة أكتوبر بأنها شهدت نشاطا وتوسعا في تبني مختلف المدارس الغربية في علم النفس، ترافقها خلافات بين المثاليين والماديين الميكانيكيين من مؤيدي المدرسة الفسلجية حول دور الانعكاسات الشرطية، ولكن يوازيها جهد حثيث خاصة من علماء النفس الشباب بهدف تطوير علم نفس سوفيتي جديد، وكما اسماه البعض "من طراز خاص" يعتمد على الماركسية اللينينية لحل ازمة علم النفس في روسيا.
وقد استغرقت فترة تحديد معالم المدرسة السوفيتية في علم النفس حوالي ثلاثة عقود، وضع خلالها اسسها المنهجية والطرائقية وتأكيد دور البعد الاجتماعي والتاريخي في تحليل السلوك والادراك والوعي والانفعالات، في خضم نقاشات حادة وصراع فكري حيوي حول ماذا يعني علم النفس الماركسي (الذي يعتمد المادية الجدلية) والسوفيتي بالملموس.
ومن المحطات المهمة هو اللقاء الذي عقد عام 1929 الذي شهد نقاشا حادا حول ضرورة تطوير الفهم المادي الجدلي لمشكلات النفس، وتجاوز النظرة المادية الميكانيكية. واستمر الجدل أيضا في الندوة التي نظمها معهد علم النفس عام 1931، ومن مخرجاتها نبذ مدارس علم النفس التي تعتمد الفلسفات المثالية باعتبارها تمثل وعيا أيديولوجيا برجوازيا.
وتدريجيا مع توطد سلطة السوفييت سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا. وبهدف بناء المجتمع الاشتراكي المنشود، تم فتح العشرات من مراكز البحث ومختبرات علم النفس والانفتاح على الفضاء العلمي العالمي ومنها علم النفس وتحسين ظروف العلماء الحياتية والبحثية لتقليل هجرتهم الى الغرب بسبب وفرة المغريات التي تقدم لهم كعامل جذب خاصة مع النمو الواضح في أعداد علماء النفس من الشباب تدفعهم رغبة المشاركة في بناء الإنسان الاشتراكي الجديد باعتماد الماركسية كأساس فلسفي في البحث النظري والتطبيقي.
وتدريجيا ساد في الاتحاد السوفيتي معيار جديد لتقييم النتاجات العلمية، يعتمد على مدى التزامها بالمنهج الماركسي ودورها في بناء الإنسان الاشتراكي الجديد، وانتقال المجتمع السوفيتي نحو الشيوعية والذي أدى لان يحتل علم النفس أهمية خاصة بسبب طبيعته الاجتماعية مقارنة بالعلوم الطبيعية الصرفة. حيث أصبح ميدانا للصراع الفكري وعرضة للتأثيرات والتدخل السياسي خاصة بعد التغيرات الجذرية التي شهدها الاتحاد السوفيتي خلال السنوات التي قادها ستالين. والتي تميزت بإشراف مباشر للجهاز الحزبي ومؤسسات الدولة على التعيينات، واشغال المواقع العلمية وعلى برامج واهداف النشاط العلمي، كي تبقى داخل السياقات المرسومة لها ضمن الخطط الخمسية.
وعلى خلاف فترة العشرينات وبداية الثلاثينات، عندما قدمت الدولة السوفيتية دعما للباحثين في مجال علم النفس بشكل واسع، أصبح عليهم في أواخر الثلاثينات تقديم خطة خمسية لأبحاثهم تخضع لموافقات ورقابة عليا ـ حزبية وحكومية ـ لتنفيذ متطلبات التخطيط المركزي "غوسبلان". واعتبر عدد من علماء النفس ان هذه التطورات تقلص حرية البحث الأكاديمي. حيث ادت الى عزوف البعض عن العلوم النفسية بينما سعى اخرون الى إيجاد منافذ الى الغرب. وفعلا تم احتضان ودعم هؤلاء بقوة خلال سنوات الحرب الباردة عندما استخدم علم النفس والطب النفسي كأحد الأسلحة الأيديولوجية لأغراض الدعاية والحرب.
وفي تموز 1936 ناقشت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي تربية وتعليم الأطفال. وأصدرت قرارا بإلغاء ومنع الدراسات حول سيكولوجية ونمو الطفل لعدم انسجامها مع الماركسية اللينينية واتهمت الباحثين بالتحريفية وسوء استخدام المنح الحكومية واستمر موضوعا محرما حتى انهيار الاتحاد السوفيتي. كما وقامت في العام نفسه مجموعة من علماء النفس السوفييت بدراسة وتقييم واقع علم النفس وما يجري من أبحاث علمية، وكان الاستنتاج ان ما موجود لا يرتقي الى المستوى المطلوب، ولا يعكس أهمية دور علم النفس في بناء الانسان الاشتراكي.
وفي مؤتمر عرف باسم بافلوف 1950 نوقشت أهمية بحوث بافلوف حول النشاط العصبي العالي والوعي من المنظور الماركسي. فصدر قرار من المؤتمر باعتماد استنتاجاته كأساس لعلم النفس السوفيتي، من منظور مادي ديالكتيكي. ومن الانتقادات التي وجهت الى استنتاجاته انها ركزت على العملية الفسلجية، ولم تتناول أهمية الجوانب النفسية كالدوافع والغايات والحاجات بنظر الاعتبار، وأيضا ان تجاربه اقتصرت على الحيوانات فقط.
وقد شهد ما بعد منتصف الخمسينات تغيرات مهمة. عكست سياسة الانفتاح بعد استلام نيكيتا خروتشوف قيادة الحزب. فمثلا قامت جمعية علم النفس في الاتحاد السوفيتي بالانضمام الى الجمعية الدولية لعلوم النفس. وكان علماء النفس السوفييت يساهمون بشكل منتظم في المؤتمرات العالمية ودعوة علماء النفس الغربيين للمشاركة في المؤتمرات داخل الاتحاد السوفيتي.
وفي الأعوام الأخيرة من الثمانينيات، خلال الفترة العاصفة التي أطلقها غورباتشوف في 1987 وقادت الى تغيرات سياسية، امتدت الى مجمل جوانب المجتمع السوفيتي ومنها علم النفس والحياة الاكاديمية للعلماء السوفييت، والذي شهد انفتاحا غير مسبوق على الغرب ومدارس علم النفس التي كانت ممنوعة سابقا، وعلى التراث الروسي الأدبي والفلسفي والديني. وكانت آنذاك هناك مدرستان هما الأبرز في علم النفس السوفيتي التاريخية الثقافية (فيكوتسكي) ونظرية النشاط (ليونتيف وروبنشتاين).
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي سلك المختصون بعلم النفس في الجمهوريات التي استقلت طرقهم الخاصة منها التخلي عن الماركسية كأساس فلسفي لعلم النفس، والتماثل مع المدارس النفسية الغربية. والجدل حول ذلك ما زال مستمرا بين من يريد قطيعة مع الماضي وآخرون يسعون للاستفادة من بعض منجزات علم النفس في الحقبة السوفيتية.
وقد شهدت هذه الفترة انفلاتا في فتح العيادات النفسية الخاصة بدون ضوابط ولأغراض بعضها للتربح والتي تحولت عمليا الى فضاء مفتوح لتنوع الممارسة في علم النفس وتطبيقاته خاصة في التحليل النفسي. كما ظهرت أيضا جمعيات لحقوق الانسان ومراكز قانونية للتعامل مع الاساءات في استخدام علم النفس والطب النفسي، كما تعالت المطالبة بإجراء تقييم شامل لواقع علم النفس السوفيتي. واتهام قيادة جمعية علم النفس بالجمود الفكري والبيروقراطية والمركزية المفرطة وحملتها مسؤولية تراجع نوعية البحوث وقلة النشر والمطالبة بزيادة اعداد العاملين في حقل علم النفس وإنشاء معاهد نفسية بحثية تستخدم الطرق والتقنيات الحديثة والمعاصرة المنتشرة في الغرب ورفع الحظر عن بعض الطرق البحثية مثل اختبارات الشخصية والذكاء والقدرات العقلية وتكييفها كي تتلاءم مع الفرد السوفيتي والانفتاح على مدرسة التحليل النفسي وعلى علم النفس التربوي.
وقد حاول البعض تكييف المدرستين الابرز في علم النفس السوفيتي اللتين اشرت اليهما ولكن مع التخلي عن الأساس الفلسفي الماركسي، مثل: تطوير مفهوم علم النفس الكلاسيكي بواسطة مواصلة أبحاث فيكوتسكي في مجالات جديدة عن تأثير آليات التواصل الاجتماعي والأدوات الثقافية كاللغة على النشاط العقلي العالي الذي يتيح للفرد تطوير مهارات وخبرات عقلية جديدة وحول الذاكرة الجمعية المرتبطة بتفاعل الانسان مع محيطه والمجتمع. وقد أطلق عليها اسم "المقاربة غير الكلاسيكية" والمقصود بها علم النفس الذي يدرس نمو الحياة الداخلية للفرد بتأثير العالم المحيط به اجتماعيا وثقافيا كتطوير للمقاربات الكلاسيكية السائدة في الغرب على شكل مفاهيم جديدة مرتبطة بشخصية الفرد الذي يعلو على علاقات الفرد الاجتماعية او النشاط الفسلجي للدماغ وبهدف ردم الفجوة بين الذات والموضوع وبين مملكة الفرد العقلية وحياته الاجتماعية.
كما تطورت مدرسة أخرى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي سميت "ما بعد علم النفس غير الكلاسيكي" والتي حاولت استخدام مفاهيم فيكوتسكي لفهم الادراك العقلي والسلوك ومزاوجتها مع ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة حول تعقد وطبيعة الظواهر النفسية للفرد في مقاومة تأثير الهيمنة والأيديولوجيا على حياته، والتي أحدها استخدام مخزون المعلومات والمعرفة من قبل السلطة للسيطرة على الفرد من خلال علم النفس ومؤسسات الامراض العقلية كصدى لكتابات فوكو. وقد اعتبرت الأيديولوجيا الماركسية أحد اشكال هيمنة السلطة على المواطن ومن ادواتها السيطرة على الفرد.
ومن الظواهر الجديدة هو زوال رقابة الدولة على البحث والنشر في علم النفس وخاصة في التحليل النفسي التي توقف النشر عنها بالروسية منذ ثلاثينيات القرن الماضي. كما فتح عدد من معاهد التحليل النفسي في روسيا أولها في بيتيسبيرج عام 1991. وقد حفز قرار أصدره يلتسن حول حرية الفلسفة والتحليل النفسي عام 1993 المزيد من التوسع وترجمة اعمال فلسفية شائعة في الغرب الى الروسية مثل هايدغر وياسبرز ودريدا وفوكو ولاكان. كما انتشرت مدارس التدريب على التحليل النفسي والعلاجات النفسية المنتشرة في الغرب مثل العلاج النفسي السلوكي. وقد وصل عددها اليوم الى أكثر من خمسين في روسيا الاتحادية فقط. وشهدت أيضا تصاعدا في التبادل والزيارات العلمية مع الغرب، وأصبح الطريق مفتوحا لزيارة علماء النفس الروس. وقد اتسعت حركة الترجمة والنشر وتشكيل منظمات وروابط وجمعيات نفسية مثل الإعلان عن رابطة علماء النفس الإنساني عام 1990، مدرسة العلاج النفسي الإنساني عام 1994. وأصبحت خدمات الاستشارة النفسية والعلاج النفسي متاحة للجميع ولكن كقطاع خاص. كما شهدت تلك الفترة موجة من الكتابات التي انتقدت بشدة علم النفس السوفيتي وخاصة مدرسة النشاط وتطور الوعي لبناء الانسان الاشتراكي ولكن في الوقت نفسه حظيت اعمال فيكوتسكي باهتمام خاص؛ حيث نشرت جميع اعماله ومراسلاته ومخطوطاته وترجمت الى الإنكليزية. ومن علماء النفس ما بعد الحقبة السوفيتية هو فيودور فاسيلووك الذي ساهم في حقل العلاج والاستشارة النفسية، ومن مؤيدي علم النفس كميدان مستقل بعيدا عن الهيمنة الفكرية او السياسية، وان يكون مفتوحا لكل من يعمل في ميدان علم النفس وليس الاقتصار على الأكاديميين فقط. ومن المدارس الأكثر انتشارا حاليا في روسيا هي علم النفس الادراكي وعلم النفس السريري وعلم نفس النمو وعلم النفس العصبي.
وحتى اليوم ما زال علم النفس في روسيا يبحث عن طريقه الخاص وامامه طريق شائك ومعقد، مستفيدا من طرق البحث الحديثة والخبرات العالمية، وتقدم التقنيات الرقمية خاصة في طرق دراسة فسلجة الجهاز العصبي المركزي. ولكن البيئة التي تطور فيها علم النفس بعد تسعينات القرن الماضي والى اليوم سادها عالم الاقتصاد الحر والتأكيد على الفردانية والجانب التجاري والاستهلاكي.
من هنا كان تاريخ علم النفس الماركسي، خلال ما يقارب القرن ونصف القرن، انعكاسا للمتغيرات التاريخية والسياسية والاجتماعية في الاتحاد السوفيتي، وأيضا، مسرحا للصراع الأيديولوجي. وبسبب قلة الدراسات والمعطيات، ما زالت هذه الفترة تشوبها الكثير من الثغرات والنظرات الأحادية المسيسة، وأيضا بسبب قلة المصادر المتوفرة باللغات غير الروسية حول علم النفس الماركسي.
اخيرا، أود ان أشير أيضا، الى انه على الرغم من ان أصعب مرحلة مرت بها ثورة أكتوبر كانت خلال العقد الأول من عمرها، الا ان ذات المرحلة شهدت نموا وتطورا غبر مسبوق لعلم النفس. في تقديري أحد أسبابها يعود الى منهج التعامل مع الماركسية ومع الخلافات الفكرية التي غالبا ما تحتدم بعد ظهور كل ما هو جديد والتي اعتبرت حتى نهاية العشرينات ظاهرة صحية وموضوعية بدلا من تحولها الى صراع سياسي – تنظيمي، كما حدث ما بعد الثلاثينيات في القرن الماضي.
الثقافة الجديدة: ماذا ايضا بشأن الماركسية الفرويدية واليسار الفرويدي، مرورا باللاكانية وانتهاءً بأفكار سلافوي جيجك ...وغيرها؟
الياسري: هذا السؤال سينقلنا الى فضاءت تتداخل فيها الفلسفة والسياسة وعلم النفس وإشكاليات العداء للماركسية والشيوعية. في إجابتي أعلاه، أشرت الى فرويد الذي طرح نظريته حول طوبوغرافيا الجهاز النفسي للإنسان المتكون من قوى داخلية تتصارع، خلال تشكل شخصية الانسان، وتهيمن على نشاطه النفسي من انفعالات ومشاعر وسلوك وأحلام او اضطرابات نفسية مع طريقة لمعالجتها. وقد حققت أفكاره شعبية واسعة في فترة ساد فيها التشتت والصراع بين مدارس علم النفس حيث قدمت أفكاره منظورا جديدا ديناميكيا لمعرفة الذات الإنسانية ومشاكلها النفسية. ويعتبر الكبت والاسقاط والاليات الدفاعية مفاهيم أساسية في المدرسة الفرويدية للتحليل النفسي، التي تعطي دورا كبيرا لتجارب الفرد الجنسية خلال مراحل طفولته تتجلى فيها عقد نفسية مثل "اوديب " بوصفها نزعة فطرية متأصلة في الكيان النفسي للإنسان. وقد برزت أجيال عدة من مؤيدي مدرسة التحليل النفسي عرف بعضهم باسم "الفرويديون الجدد". لكل منهم تصور خاص لديناميكية وطوبوغرافية النفس وتطبيقات علاجية تنسجم معها ومنذ تأسيسها شهدت مدرسة التحليل النفسي صراعات شديدة بين رموزها وانقسامات داخل الجمعية الدولية للتحليل النفسي التي أسسها فرويد في 1911 مع عدد من تلاميذه. ومن الانتقادات التي وجهت لها هو فقدان الأساس العلمي الذي يمكن قياسه واختباره تجريبيا لأنها مجرد مجموعة من الفرضيات، بينما يرد مؤيدوها ان طرق البحث والتحليل في العلوم النفسية تختلف عن الطرق التجريبية في العلوم الطبيعية.
وقد برزت محاولات في عشرينيات وثلاثينات القرن الماضي للجمع بين الماركسية والتحليل النفسي عرفت من قبل بعض الدوائر الاكاديمية في الغرب بعنوان "اليسار الفرويدي". من المحطات المهمة في هذا الصدد كتاب بول روبنسون، الذي نشر في أواخر الستينات، وتضمن دراسة لأفكار اليسار الفرويدي. واعتقد، وان كنت غير متأكد، ان هذا هو أحد الكتب القلائل باللغة الإنكليزية حول هذا الموضوع عدا مقالات نشرت في مجلة "نشرة اليسار الجديد" بعد سبعينات القرن الماضي.
وبشكل عام، هناك موقف ماركسي من مدرسة التحليل النفسي. باعتبارها تمثل وعيا برجوازيا رجعيا محافظا ونظاما فكريا كليا مغلقا لتوصيف حياة الانسان النفسية. كونها مجبولة على العنف تلبية لاحتياجات غريزة البقاء والاشباع المادي واللذة في عالم يسود فيه الرجال على المرأة التي تشعر بالدونية والحسد من الرجل. طبعا باستثناء ليون تروتسكي، الذي اعتقد انها تضفي منظورا إضافيا لفهم الدوافع النفسية للجماهير في العمل الثوري. كما ان فرويد تعاطف مع استنتاجات غوستاف لوبون، في وصف الجماهير بالرعاع الذين هم خلف مجازر الثورة الفرنسية يميزها الاندفاع واللاعقلانية، وان من يصنع الحضارة هم النخبة الارستقراطية لان الرغبات اللاشعورية تحولهم الى جيش كالقطيع البدائي.
وفي 1923 شكل مجموعة من الشباب الأثرياء الذين كانوا على هامش اليسار في المانيا معهد الدراسات الاجتماعية من الذين جمعتهم القناعة بضرورة إيجاد بديل للفكر الماركسي الأرثوذكسي. عبر انتقاء شذرات من الفلسفة الماركسية واقحامها في توليفة مع أخرى من التحليل النفسي ومدارس اجتماعية وأنثروبولوجية ترفض المادية التاريخية ودور الصراع الطبقي والطبقة العاملة وحتمية التطور الارتقائي للمجتمعات نحو الاشتراكية وكل ما يرتبط بالممارسة مثل دور الحزب في النضال من اجل التغيير الثوري. ويكمن في جوهر مدرسة فرانكفورت الشعور بالخيبة والإحباط من واقع ومستقبل الحركات الثورية في الظروف التي سادت في اوروبا بين الحربين العالميتين وصعود النازية الفاشية في المانيا وفشل الانتفاضات التي قادها الشيوعيون في اوربا وموقف معاد من نجاح ثورة أكتوبر باعتبارها تجسيداً للماركسية الارثوذكسية. وعند استلام ماكس هوركهايمر إدارة المعهد عام 1930عمق القطيعة مع الماركسية كفلسفة ومنهج وبالتعاون مع ثيودور ادورنو. وأضاف مفهوم المدرسة النقدية لتحليل الظواهر المجتمعية ولفحص الأسس المادية والروحية للإنسان وتشخيص القوى الاجتماعية التي تدعم بناء مؤسسات عقلانية لضمان حياة عادلة وحرة حقيقية للمواطنين وبالاستفادة من اعمال ماركس الشاب عبر استخدام آليات التفكير والتأمل العقلي وديناميكيات التحليل النفسي لفحص آليات السيطرة والقمع التي يعيشها الانسان في مرحلة المجتمع الصناعي. واتخذت نشاطات المعهد الطابع لتأملي. وفي 1942 كتب هوركهايمر كراسا يشير فيه الى ان الفاشية والشيوعية وجهان لعملة واحدة وجدت صدى لدى ادورنو ونشرتها مراكز اكاديمية في أمريكا وأوروبا. وتوصل هذا النموذج من اليسار الفرويدي الى استنتاجات منها فقدان البروليتاريا وعيها الطبقي ودورها الثوري بسبب اندماجها مع بنية المجتمع الصناعي وبذلك ينعدم وجود صراع طبقي في المجتمع الرأسمالي. وفي الوقت الذي تم فيه نقد المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي وبضمنها الثقافة والاعلام اكدت على عدم وجود بديل لان منظومة التنوير العقلانية تحولت الى آليات للهيمنة، وأصبح النظام الاشتراكي خيارا اسوأ من الرأسمالية، وطريقا الى الشمولية والدكتاتورية والاستبداد. وهيأت المدرسة النقدية الأسس الفكرية لنمو "الماركسية الغربية" التي شاعت في المراكز الاكاديمية في الجامعات الأوروبية وأمريكا وليس بمعزل عن الدعم المالي المتعدد الاشكال من أجهزة الامن القومي الامريكية في سنوات صراعها الوجودي مع الاتحاد السوفيتي السابق، وتمددت من نشاط سياسي الى الفضاء الثقافي والأكاديمي. وكان احد اهداف هذا التمدد زيادة مساحة التوافق الفكري بين اليسار الجديد والفكر البرجوازي الرأسمالي، عبر نقد النظام الاشتراكي والشيوعية خاصة في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي واستخدمت لتحقيق ذلك واجهات ثقافية واجتماعية كانت نشاطاتها الإعلامية والفكرية موجهة ضد الماركسية والاشتراكية، وأصبحت جزءا من المنظومة الفكرية السلبية والعدمية التي انتشرت في أوساط الشباب الأوروبي تحت غطاء نقد المجتمعات الرأسمالية والتجربة السوفيتية لأنها تعيد انتاج الدولة على صورة الحزب الشيوعي القمعية، وان النشاط الموجه ضد الإمبريالية هو تعبير عن فاشية يسارية.
وقد نجح هربرت ماركوزة في ظروف غير واضحة بعد ان عمل سنوات في مؤسسة تابعة للأمن القومي الأمريكي كمحلل استراتيجي قبل ان يتحول الى الوسط الأكاديمي ان يصبح أحد المصادر الفكرية للحركات الاحتجاجية في 1968. ومن اهم مداخلات ماركوزة الذي هو أحد اهم رموز اليسار الفرويدي كانت ذات طابع سياسي حيث ركز فيما كتبه على تحليل المجتمعات ما بعد الصناعية الاستهلاكية، وقدم نقدا نظريا للسلطة والهيمنة والهوية، وان عدم الفعل هو اعلى اشكال الممارسة لان البديل الاشتراكي هو الأسوأ، وان النظام الليبرالي هو أسوأ بديل. فالثورة لديه هي نتاج الوعي الفردي الحر (الانا) الأحادي الجانب المتمرد على المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي على خلاف الأحزاب الشيوعية الساعية لفرض اشكال اجتماعية للوعي على الفرد الذي هو دوره أصلا في التمرد عليها. فمشاكل البشرية هي نتيجة الاغتراب وليس العوامل الاقتصادية والاستغلال وفائض القيمة الذي ينتهي عند تكامل تحرير الوعي البشري.
وبالنسبة لأريك فروم فقد عمل على تقديم سرديات تعتمد مفاهيم التحليل النفسي عبر الاستفادة من بعض أفكار ماركس حيث يصبح الاضطراب النفسي حالة اجتماعية نتيجة فشل الفرد في إقامة علاقات تؤدي الى انقسام وعيه الذاتي الى كيانين: جسد وروح، وشعورين منفصلين: الحرية والوحدة، ويصبحان القوة الدافعة للنشاط والسلوك الإنساني، ولكن ليس بهدف تحقيق المتعة الجنسية حسب فرويد او فيليهم رايش.
اما فيلهلم رايش فقد تبنى فرضية فرويد عن الطاقة الجنسية الغريزية "الليبيدو" فبناء المجتمع الحر يأتي عبر تعليم الانسان تبني موقف عقلاني تجاه النشاط الجنسي؛ فمثلا الفاشية هي نتيجة القمع الجنسي في مرحلة الطفولة المبكرة في المانيا والذي أدى الى ظهور افراد ذوي شخصية استبدادية مؤيدة للفاشية لا شعوريا.
وهنا اود ان انتقل بشكل سريع جدا الى المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان الذي كان له خلاف شديد مع فرويد وتلامذته، أدت الى طرده من الجمعية الدولية للتحليل النفسي بسبب تقديم قراءة جديدة عن المقولات الفرويدية تعتمد على علم اللغة البنيوية ودور الام في تشكيل الانا والطوبوغرافيا النفسية. وأيضا في اختلافه حول طول جلسات التحليل النفسي التي اختصرها الى دقائق او ثوان وتتميز اللغة التي يستخدمها لاكان بالتعقيد والرمزية التي جعلتها عرضة للتأويل. ومع علاقاته الواسعة بالوسط الثقافي لم يكن لاكان مهتما بالماركسية كمنظومة فكرية بقدر تركيزه على مشروعه في التحليل النفسي.
اما سلافوي جيجيك فقد عرف بصلته بمدرسة فرانكفورت النقدية وبتعدد اهتماماته الفلسفية التي هي خليط من الماركسية والهيغلية الى التحليل النفسي خاصة مدرسة لاكان. ويشبّه جيجيك البشر في النظام الرأسمالي كالأسماك في برميل تتصور انها حرة ولكنها جل حركتها نتيجة المصالح الرأسمالية وتأثير اليسار الزائف لان معظم البشر أغبياء. وانتقد اليسار من مواقع قريبة للنيوليبرالية واعتبرها مشروعا خاسرا لان مؤسسات اليسار من أحزاب وثقافة تخدع نفسها ففي جوهرها غير مؤمنة بنهاية الرأسمالية ولكنها تتصنع ذلك كما ويصف اليساري بالمتحذلق والمدعي. وعلى العكس يعتبر اليمين أكثر مصداقية لأنهم يسعون للفوز ويجب على اليسار تقييم مواقفه وأسباب فشله ومحاربة الشعور بالرضا والاكتفاء بالتفوق الأخلاقي في التعامل مع الأنظمة التسلطية. كما يعتبر النشاطات الاحتجاجية العالمية تقويضا لدور اليسار.
وأخيرا، أود الإشارة الى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو المشبعة أفكاره بثقافة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية لكن على علاقة بالأوساط الثقافية في اليسار الفرنسي. وكتب في مواضيع عدة منها تاريخ الجنون ونقد المؤسسات الصحية النفسية والسجون ومؤسسات أخرى. وقد عانى فوكو من إشكالات نفسية واكتئاب حاد دفعته للقيام بمحاولة انتحار وربما هي التي تفسر اهتمامه بالجنون وعلم النفس. وقد حصل فوكو على شهادة تؤهله للعمل في عيادات نفسية. وكان عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي لفترة قصيرة، وشارك في الاحتجاجات الطلابية والشبابية. وتناولت مؤلفاته تحليل القوة والهيمنة على الذات البشرية من خلال مؤسسات وبنى اجتماعية تعمل على تصنيف البشر على أساس الخصائص البدنية او الحالات المرضية الجسدية والعقلية كالجنون او على تشكل الهويات الجنسية وانتاج أنماط معينة روتينية في العلاقات الجنسية. واعتبر فوكو ظاهرة الجنون جزءا من تاريخ الحضارة الغربية على الرغم من منهج الانكار والاقصاء نتيجة الكراهية الشعبوية ودور الخدمات الصحية القمعي عبر تلاعبها بالحقائق وفرضها آليات رقابية. وكان أحد مكونات مشروع فوكو الفلسفي هو دراسة السلوك الإنساني من خلال علاقة المرء بجسده ورغباته وبناء ذاته في وجه هيمنة السلطة ومؤسساتها.
الثقافة الجديدة: استكمالا للسؤال السابق، مع عودة وتعدد أشكال النضال والحراك الاجتماعي والطبقي عالميا، هل هناك إمكانية لإقامة علم نفس ماركسي للقرن الحادي والعشرين؟ او على الأقل اقامة سيكولوجيا جماهير ماركسية، او يسارية على اقل تقدير، خلال الفترة القادمة؟ بالضد من "سيكولوجيا الجماهير" البرجوازية؟ وان كانت هناك إمكانية لذلك هل يمكن لكم ان تحددوا أبرز ارهاصاتها المنهجية ان وجدت؟
د. الياسري: جوهر هذا السؤال هو تلخيص للتحديات الكبرى التي تواجه الأحزاب الشيوعية وطنيا وعالميا. وفي مقدمتها الفكرية والثقافية. وهذه جميعا تستدعي صياغة أفكار وروئ متجددة تستلهم ما هو ثوري وعلمي في الماركسية وبجوانبها النظرية، ومنها في علم النفس وعلى صعيد الممارسة عبر إزالة بقايا الرماد الفكري النظري الذي لم تدعمه الحياة بعد انفجار بركان انهيار الاتحاد السوفيتي، وليس الاستمرار في التعاطي مع خزين الموروث السلبي المتراكم خلال القرن الماضي؛ فالسعي الى التغيير والتكيف مع الظروف الجديدة جعلت من اغلب الأحزاب الشيوعية تعيد طرح نفسها بأشكال مختلفة ومتباينة، ولكن مع وجود مشتركات بينها على صعيد النضال العالمي ضد الرأسمالية ومن اجل العدالة الاجتماعية.
في تقديري هناك ضرورة للاستمرار في عملية النقد والتدقيق والتجديد لمسارنا الفكري بخصوصيتنا الوطنية. باعتبارها صيرورة وحركة من خلال اختبار منطلقاتنا النظرية عن الواقع العراقي عبر الممارسة السياسية لإعادة مسار التحول الوطني الديمقراطي والحذر من الحلول الوسطية لتنفيذ متطلبات المرحلة الانتقالية نحو إقامة مجتمع عادل أكثر إنسانية، يحقق الديمقراطية والتنمية الاقتصادية المستدامة والعدالة الاجتماعية صوب الاشتراكية. وفي هذا السياق تأتي مهمة تطوير علم النفس الماركسي بارتباطه بالنضال من اجل مجتمع أكثر عدالة وقادر على تحقيق الذات والوعي الإنساني الفردي والمجتمعي وطموحات الانسان في الحرية والمساواة والعدالة، الامر الذي ينسجم مع إعطاء أهمية أكبر للبنية الفوقية للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية. ولكن لا يتحقق الوصول الى مستوى نوعي متجدد من العلوم النفسية خاصة بجانبها السياسي عبر حوار ثقافي او فلسفي فقط، مهما كان عمقه التنويري بدون إسهامه فعليا وارتباطه بالنشاط السياسي. وبكلمة أخرى ليس مجرد نشاط أكاديمي وبحثي متعال نخبوي. وكل ذلك يجب ان يستلهم الماركسية كفلسفة في ظروف الثورة الرقمية والاتصالات والتنوع اللامتناهي للمعارف الإنسانية والعلمية وبشكل لم يشهده القرن السابق، الأمر الذي سيطرح إشكاليات تطور قوى الإنتاج مع متغيرات البنية الفوقية بمختلف جوانبها والتي بحاجة الى فهمها واستيعابها وتطويعها لتصبح جزءا من المنظومة الفكرية للماركسية المتجددة ومنها علم النفس.
أما عن مستقبل علم النفس الماركسي ففي رأيي في عملية صيرورة وبناء لارتباطه بدور الفكر الماركسي كنظرية وممارسة، والسرعة التي يستطيع من خلالها ان يحتل موقعه مجددا في الصراع التاريخي بين معسكري المادية والمثالية وبين النيوليبرالية ومجتمع أكثر عدالة وإنسانية، فالذي انهار في 1991 هو الاتحاد السوفيتي وليست الماركسية التي تشهد جهدا حقيقيا وملموسا لتجديدها كمنهج ومقاربة وليس كأيديولوجيا. ما هو جدير بالذكر أيضا ان بعضا وليس جميع مدارس علم النفس الروسي تحظى باهتمام لغاية اليوم في السعي للوصول الى مقاربات جديدة. وقد اثار اهتمامي تطور علم النفس في الصين التي يقودها حزب شيوعي، واستطاع ان يتجاوز حالة الانهيار التي اصابت الاتحاد السوفيتي السابق، وسلك طريقا خاصا وليس بمعزل عن التمايز الفكري والسياسي التاريخي بين التجربتين والتي وصلت الى حد الصدام الحدودي عام 1969 وانقسام الحركة الشيوعية آنذاك حتى نهاية الحرب الباردة. ففي خمسينات القرن الماضي جرت محاولة بناء علم نفس ماركسي اعتمادا على الفلسفة الماركسية اللينينية ولكن تراجع الاهتمام بها مع تغير المنهج السياسي والانفتاح على اقتصاد السوق ولكن ما زالت تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني.
اختم فكرتي هنا، بأن القضية المركزية مرتبطة بموقع ودور الفكر الماركسي المتجدد عالميا في الصراع الفكري حول مستقبل العالم والبشرية. والتي ستنعكس على العلوم الاجتماعية والإنسانية ومنها علم النفس. فما شهدناه منذ سبعينات القرن الماضي هو انتشار مفاهيم وأفكار في نطاق ما يسمى بالماركسية الغربية في الأوساط الأكاديمية النخبوية في الغرب وبعضها وجدت صدى بين المثقفين العرب والعراقيين، تحاول ان تردم الهوة بين الماركسية والفلسفات الشائعة في الغرب: البنيوية وما بعد الحداثة وغيرها. وعلى الرغم من تباين استنتاجاتها والكتابات العسيرة على الفهم العالية التجريد الا انها حفزت النقاش في جوانب معرفية عديدة وجعلت المنهج الديالكتيكي يلامس الواقع الموضوعي. ويؤكد الموقف النقدي المادي الديالكتيكي على ان ما فشل هو تجربة تطبيق نموذج محدد للاشتراكية لم تثبت شجرة الحياة الخضراء صحته، وان علينا كماركسيين ان نتعلم من الأخطاء أكثر من النجاحات. فحركة الحياة والمجتمع والتاريخ ستستمر وستدفع موضوعيا باتجاه التطور الارتقائي للمجتمع البشري الى مستويات أكثر عدالة وإنسانية وسيتحقق الحلم الاشتراكي ولكن ليس بصيغة النموذج الذي ساد في القرن الماضي. أي بتجريد شديد ان العنقاء ستنهض من رماد الماضي بكل عنفوانها. عند ذلك سنرى علم نفس ماركسيا متجددا في تناول موضوعات مثل والادراك والمشاعر والانفعالات والاحاسيس والشخصية والوعي، وستلعب تقنيات القرن الحادي والعشرين وتطبيقاتها على النشاط الفسلجي للدماغ دورا بالغ الأهمية في انتصار التفسير المادي لها.
الثقافة الجديدة: انطلاقا من كون الريعية ليست نظرية اقتصادية او ادارية فحسب، بل قضية ثقافية وعقلية ونفسية. وان للريع، بالإضافة الى بنيته الاقتصادية، بنية ثقافية وبنية عقلية ونفسية. فالدولة الريعية تخلق أسلوب حياة متكاملا، ريعيا بامتياز. حيث يرى عددا غير قليل من الباحثين ان الدولة الريعية افرزت سلوكيات ريعية، تحظى بالرضى والقبول وحتى بالشرعنة الاخلاقية. وهي سلوكيات اتكالية، انتهازية، استهلاكية، سلوكيات قائمة على الربح السريع.
هل يمكن الحديث فعلا عن نفسية ريعية؟ وان كانت موجودة، ما هي أبرز سماتها؟ وهل يمكن اعتبار استشراء النفسية الريعية آلية من اليات الهيمنة، وأحد الأسباب التي تعوق عملية التغيير؟
د. الياسري: فعلا سؤال مهم لأنه متعلق بالوعي وعلى المستويين الفردي والمجتمعي. ولكن اود ان أركز هنا على الجانب النظري لان ما جاء في السؤال يعكس أحد جزئيات المنظومة الفكرية الماركسية الغربية خاصة في التعامل مع سياسة تشريك وسائل الإنتاج (ملكية الدولة لقوى الإنتاج). التي اعتبرت احد جذور الدولة الاستبدادية، كما عكسته كتابات كارل فيتفوجل [1896-1988]، حول النظم الاستبدادية والشمولية. وان البديل هو إشاعة الخصخصة التي سلمت مؤسسات الدولة الى القطاع الخاص وأدت الى تكون طبقة من الاوليغارشية، التي قامت بتدويل أرباحها كما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. علما ان تشريك وسائل الإنتاج التي هي جزء من منظومة النظام الاشتراكي وتختلف جذريا عن عمليات تأميم مشاريع اقتصادية تابعة للقطاع الخاص عشوائيا التي اتبعتها بعض الأنظمة التسلطية في غياب فلسفة واضحة لإدارة الاقتصاد، كما حدث في العراق في فترة الجمهورية الثانية.
ولكن عند مناقشة الدولة الريعية كنموذج خاص لتراكم الثروة بيد الدولة في بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا تبرز الإشكالات التي عانت منها البنى الاقتصادية والاجتماعية. ولكن في العراق فاقم منها الاحتلال الأمريكي بعد 2003 نتيجة فقدان الرؤية الاقتصادية وتحطيم الصناعة والزراعة الوطنية التي حولت العراق الى بلد مستهلك بالكامل وما موجود حاليا هو نظرة سياسية واقتصادية مشوهة مستمدة من الفلسفة النيوليبرالية، وانعكاس لنمو السلطة الاستبدادية التي تستخدم الثروة الريعية لدعم بقائها في السلطة وبناء ميليشياتها المسلحة وتمويل ذبابها الإعلامي ومنصاتها لفرض الهيمنة الثقافية. وفي سياق هدر وسرقة المال العام، ولاحتواء الغضب المتنامي خاصة في أوساط شباب الالفية، عبر تقديم فتات من المعونات الاجتماعية. ومن هنا في تقديري ضرورة تبني مقاربة تعتمد على دور النضال السياسي والجماهيري في النضال من اجل التغيير الجذري لطبيعة السلطة والذي يتحقق عبر تحالف قوى سياسية واجتماعية وثقافية لفرض البديل، وهو قيام دولة اتحادية فاعلة تتبنى فلسفة ورؤية تدعم الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتضمن حقوق القوميات الأخرى.
واذا انتقلنا الى الجانب الرئيس في السؤال وهو التأثيرات النفسية و الاجتماعية للاقتصاد الريعي التي اعتبرها البعض مهمة عندما استخدم حازم ببلاوي مفهوم الاقتصاد الريعي في مقالته عن الدولة الريعية في البلدان العربية عام 1987 لتوصيف البلدان النفطية في الشرق الأوسط، التي يعتمد اقتصادها على احتكار استخراج وبيع الوقود الاحفوري، وتلعب دورا ابويا في توزيع العوائد على المواطن بآليات مختلفة، والتي اعتبرها المهتمون بالاقتصاد السياسي بانها تثلم العلاقة العضوية بين الجهد والحافز والمكافأة (بلغة أخرى الأجور مقابل العمل) الذي يعتبر الماكنة المحركة لتراكم الثروات في النظام الاقتصادي الرأسمالي بسبب الفضاء الواسع الذي يفصل بين المنتج (الدولة) والمستفيد (المواطن الريعي). وعليه يصبح المواطن سلبيا بسبب ضعف الحافز الذاتي للعمل والكسب، ويسود تفكيره شعور بالأحقية لنيل حصة اكبر من العوائد (كسلوك طفيلي يعكس ثقافة الغنيمة ويشيع رغبات الفساد) نتيجة تقوض الدور الاجتماعي والنفسي للعمل لدى المواطن الريعي، وتقلل من دوره في النشاط الجماهيري الجمعي والدخول في فعاليات مدنية ذات دور رقابي على الأداء الحكومي بسبب الالتباس في مسؤولية الفرد تجاه المجتمع الذي ينتظر هبة الدولة نقدا او عينا او وظيفة، ما يشيع الجزع والإحباط والاعياء النفسي وضعف نزعة الايثار والتضحية وغلبة الفساد في حالة عدم تحققه بالدرجة التي يتوقع احقيتها المواطن الريعي مقارنة بالنظم الاقتصادية التي يعتمد الدخل الوطني على الضريبة.
ومن الآراء الأخرى ان الدولة الريعية تعيق التطور الطبيعي للنظام الديمقراطي وتركز الثروة بيد اقلية في غاية الثراء. من الجانب الآخر يرى بعض الباحثين ان العقود الثلاث الأخيرة شهدت تطورا في قيام الدولة الريعية بتشجيع وتحفيز المواطنين على دخول سوق العمل عبر إقامة مشاريع صغيرة او متوسطة خاصة في ميدان التقنيات الحديثة بدعم حكومي كجزء من سياقات هندسة مجتمعية لضمان السيطرة والهيمنة. وقد امتد مفهوم الدولة الريعية ليشمل جميع الأنشطة الاقتصادية التي تحتكر الدولة عائداتها، والذي اعتبره البعض مثيرا للجدل، ويعقد مفهوم الدولة الريعية، ويثير قدرا كبيرا من الضبابية حولها، لان الدولة الريعية التقليدية ذات امتداد تاريخي للاقتصاد الخراجي.
ولكن ما افتقدته هذه الافتراضات هو وجود بحوث رصينة تعتمد الطرق البحثية في العلوم الاجتماعية حول العقلية الريعية التي تبقى لغاية اليوم مجرد افتراضات قابلة للتفسير على أساس التحليل النفسي - الاجتماعي الانثروبولوجي، وليس اسقاطها كليا على عاتق الاقتصاد الريعي.
الثقافة الجديدة: عانى الشعب العراقي منذ نيسان 2003، وعلى وجه الخصوص تلك الطبقات والفئات الاجتماعية التي كانت وما زالت ذات المصلحة الحقيقية في إحداث التغيير، من عطب نفسي - مجتمعي كبير، أو ان جاز التعبير جرح نرجسي غائر في الذات العراقية. وذلك ان خلاصهم وتحررهم من الدكتاتورية تم على يد قوى أجنبية، على يد الاحتلال. وربما كان لهذا أثر، الى هذا الحد او ذاك، على الكثير من الأحداث اللاحقة. وكان هذا الجرح ينكأ دوما، خصوصا في تلك اللحظات التاريخية الفارقة. مثلا: عندما تمكنت انتفاضات الشعوب العربية من إسقاط دكتاتوريها.
هل تتفق مع التوصيف أعلاه؟ والى أي مدى يمكن لهذا العطب النفسي ان كان مؤثرا على السلوك المجتمعي العام، هل يمكن ان يكون أداة بيد السلطة لإدامة هيمنتها؟ وهل يمكن اعتباره قيدا نفسيا اضافيا امام محاولات التغيير القادمة؟ وكيف يمكن الخلاص من هذا القيد ان وجد؟
د. الياسري: السياسة لها جانبان أولا النظري وثانيا الثقافي - النفسي (بالمفهوم الانثروبولوجي). وكلاهما جزء من منظومة البنية الفوقية للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية التي هي وراء خصوصية كل مجتمع وتختلف باختلاف زمانها ومكانها، وهي مرتبطة بمستويات الادراك والوعي. وفي تقديري ان اعتماد مقاربات في تحليل البنية السياسية والمجتمعية ووعي الفرد على أساس مفاهيم اللاشعور او الكبت او السنوات الأولى او الذكورية في تحليل البيئة السياسية، هو وسيلة غير مجدية بل ومضللة، كونها مبنية على فرضيات لا يمكن برهانها او استخدامها بسبب هشاشتها ولكونها غير علمية ولا عملية. البديل هو دراسة تنوع البيئة الثقافية ودور الموروثات المجتمعية والتاريخية على تشكل الوعي والتي ترتبط بمجال علم النفس السياسي والاجتماعي خاصة في دراسة الجوانب المتعلقة بالإدراك والشخصية والتقاطع بين الثقافات الوطنية التي يحفزها اضعاف الهوية الوطنية وإشاعة الطائفية وتوفر أرضية جيدة لإجراء البحوث المنهجية التي تتبع المعايير الحديثة في العلوم الاجتماعية، خاصة في ظروف القرن الحادي والعشرين كتأثير الثورة المعلوماتية والتواصل على صياغة الهويات السياسية وتأثير الاحتكاك بين الثقافة العراقية والخارجية إقليميا ودوليا وتأثيرها على الوحدة الثقافية. وما في حوزتي ليست أجوبة جاهزة بل مجرد قراءات خاصة محدودة نسبيا، تبقى في عالم الفرضيات وخاصة في نقد التوصيفات الدونية للمجتمع العراقي او ما يلقب بـ"الشخصية العراقية" المزعومة، تتراوح بين العنف والسادية والمازوخية والنرجسية حسب مزاج الكاتب ودرجة تشاؤمه من مستقبل العراق. ولهذا السبب سأركز على ما اعتقد أنه يمثل الحلقة المركزية وهو الوعي من المنظور المادي الماركسي.
كأي انسان في العالم، العوامل المؤثرة في صياغة وعي الإنسان العراقي الذي هو عالمه الروحي الخاص، هو تراكم المفاهيم والقيم والقناعات منذ حياته المبكرة، مصدرها الاسرة والمجتمع ومنظومات التعليم والتربية والثقافية الرسمية والدينية، كما يلعب تراكم الخبرة والتجربة البشرية العيانية في الحياة اليومية من سياسة واقتصاد وقضايا حياتية اجتماعية وروحية التي يعيشها الفرد، دورا في صيرورة الوعي، ولكن ما يحدد مسارها هو نوعية المنهج الفكري والحياة النفسية للفرد وهو نتيجة صراع بين النظرة المادية المستندة على العلوم والمعرفة خاصة في ما يشهده العالم من تطورات متسارعة في علوم الكون والانسان كالجينات والاستنساخ والعلوم الطبيعية والمنهج الذي يعظم المقدس وتفسيرات خاصة للفكر والطبيعة والمجتمع. اما الحصيلة النهائية لوعي الفرد فهي انعكاس لواقعه الاجتماعي وتفاعله مع بيئته الاجتماعية، يتفاعل فيها خليط من الأفكار والقيم والمشاعر لفهم واقعه ودوره في تطوير آليات عقلية لتنظيم هذه العلاقة.
ما أود قوله ان الوعي بالمفهوم المادي هو انعكاس للواقع الاجتماعي، يظهر على شكل نظريات ومفاهيم تجد تعبيرها في منظومة الأفكار والمعلومات والحقائق والآراء والمفاهيم ذات جوهر مادي او معنوي باعتبار الوعي جزءا من البنية الفوقية التي تشمل كافة جوانب النشاط الإنساني التي تعمق فهمه لمجالات حياته الاجتماعية وتطوير الياته الخاصة للتكيف وتغيير واقعه المادي. ومن هنا فإن هذا الواقع سيعكس في طياته أفكارا ومقاربات منهجية تتأثر بالأيديولوجيات المهيمنة التي تجسد مصالح طبقية محددة تعكسها ادواتها في خوض الصراع الفكري المحتدم، بهدف تزييف الوعي الطبقي وخلق حالة من الانقسام داخل الفئات المسحوقة والكادحة والمهمشة في مواجهة الصراع السياسي والاجتماعي المتسارع حول ضرورة وشكل ومحتوى التغيير.
وفي تقديري داخل كل وعي بشري عالمان في حالة صيرورة جدلية وحركة مستمرة. وهما عالم الوعي الزائف وعالم الوعي الحقيقي. فالزائف أحد اشكاله القناعة والقبول بالأمر الواقع والرضوخ والعزوف عن المشاركة العملية والفعلية في الأنشطة السياسية، كونها غير مجدية وتجنبا لمخاطرها، بينما تدفع اخرين باتجاه معاكس نحو التطرف وتقديس العنف بدون الاهتمام بالشروط الذاتية والموضوعية. اما الوعي الحقيقي فهو بالعكس تماما ومتفاعل إيجابيا مع العالم الخارجي وداعم لعملية التغيير المجتمعي باتجاه الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، ولكن وعي الانسان الواقعي هو مزيج منهما.
فمثلا وعي المهمشين والمحرومين والعاطلين عن العمل واغلبهم من الشباب هو صراع بين الوعي العفوي ضد الظلم والاستغلال يدفع الى مشاركتهم النشطة في الاحتجاجات سواء لدوافع اقتصادية او أوسع من ذلك (الحقيقي)، مع المفاهيم والقناعات المترسبة التي تقبل بالأوضاع القائمة التي تجسد وتكرس ظلمهم واستغلالهم وهو (الزائف). وقد لعبت المشاركة الفعلية في الاحتجاجات والتي توجتها انتفاضة تشرين 2019، إضافة الى ان الأنشطة الثقافية، التي ازدهرت في ساحات التظاهر من قبل مثقفين ثوريين عضويين، لعبت دورا هاما في دعم نمو الوعي الحقيقي. ذلك لأنها تصدت للوعي الزائف الوهمي. وتأتي أهمية الممارسة من ان فهم ملامح الهيمنة السياسية في المجتمع العراقي لا تغير منه شيئا إذا لم ينظم العراقيون، وجيل الالفية خاصة، أنفسهم في نشاط واع للتصدي للظلم واللامساواة والعدالة الاجتماعية. لأنهم هم من يصنع التاريخ الذي عادة ما يتشكل في ظروف لا يختارها البشر. لان ما يجعل المجتمع يتقدم الى الامام هو الصراع الطبقي والاجتماعي. ولكن في الوقت ذاته لا يمكن تحديد نتائجه مسبقا.
الملاحظ هنا أني اتناول الإجابة من جانب جدلية الوعي الحقيقي والزائف لدى الفرد. ولم أخُض في تفسيرات حول الشخصية المجتمعية لقناعتي بعدم علميتها. ولكن الامر مختلف على مستوى الفرد. فعلى سبيل المثال، تشكل الأمراض النفسية المعترف بها علميا عددا من اضطرابات الشخصية من بينها النرجسية. وتعد هذه من المسائل المهمة في مؤشر الحالات النفسية التي قد تصيب الفرد. ويتم تشخيصها سريريا، عبر توضيح التمايز بين الانماط السلوكية للمصابين باضطرابات الشخصية. السؤال هنا هل يمكن اسقاط ذلك على المجتمع ككل؟
في تقديري من الخطأ توصيف مجتمعات على اساس اضطرابات الشخصية التي يمكن ان تصيب الفرد. وهذه مسألة خضعت لعدد يصعب حصره من البحوث والدراسات. ومع ذلك فما زالت مثيرة للجدل في بعض أوساط المختصين بالأمراض النفسية من علماء النفس او الأطباء. وسبب هذا الاستنتاج لان المجتمعات لا تملك شخصية مثل الأفراد، بل قيم وسلوكيات تشكل هويتها الوطنية والتي يتفاعل معها الافراد وبامتداد تاريخي ولكن ليس بمفاهيم وتصنيفات اضطرابات الشخصية لان المجتمع هو أكثر من حاصل مجموع أفراده بفعل القيم والتقاليد والأعراف السائدة نتيجة تراكم معرفي طويل الأمد، فالفرد يكتسب شخصيته عبر تفاعل عالمين العقلي والخارجي وينعكس كأنماط في التفكير والسلوك. اما على صعيد المجتمع فيعود الامر الى ديناميكية مختلفة كليا. ولكن ذلك لا ينفي تفاعل الفرد مع المجتمع والمجتمع مع الفرد. لدينا قوانين للتطور الاجتماعي يمكن الاعتماد عليها لتطوير نموذج "باراديم" لتفسير السلوك المجتمعي، ولسنا بحاجة لاستحضار شياطين وأرواح أصبحت الآن جزءا من التاريخ مثل النظريات الفرويدية ومدارس التحليل النفسي.
ومع ذلك فمن الممكن ان بعض الزملاء وبعضهم ممن كتبوا حول شخصية المجتمع العراقي له نظرة مختلفة وخاصة من المختصين في مجالات علم النفس الاجتماعي او السياسي وانا احترم وأقدر آراءهم ولكن الاختلاف لا يفسد في الود قضية لان العلم والتعلم صيرورة وعملية مستمرة.