أيار 19

سبعون عاما من الكفاح المتواصل من أجل "فكر علمي... ثقافة تقدمية"!

    
 
في تشرين الثاني (نوفمبر) 1953 صدر العدد الاول من مجلة (الثقافة الجديدة) يتصدره شعارها التنويري العتيد: فكر علمي... ثقافة تقدمية! وفي هذا العام، 2023، تحل الذكرى السبعون لتأسيس المجلة، مؤكدة انها نحتت خلال العقود السبعة موقعها كمنبر متميز بين منابر التنوير والثقافة الوطنية والديمقراطية في بلادنا. واليوم ونحن نستعيد هذه الذكرى المجيدة لا لنتأمل فيها باعتبارها جزءاً من ماض طواه الزمن بل لنستخلص منها الدروس والعبر لمواجهة تحديات الراهن والمستقبل. إنّ دروس التاريخ جديرة بالتأمل على الدوام فلا يجوز التفريط بها.
     لم تكن (الثقافة الجديدة) مجرد حلم راود مجموعة من المثقفين الرواد الذين بادروا الى تأسيسها، بل كانت تتويجا لجهود حثيثة ومثابِرة حوّلت الأمر من مجرد حلم الى فعل ثقافي – فكري - سياسي نشيط. وبفضل جدّية المعنيين بصدورها آنذاك ومسعاهم الثابت الى أن تتحول المجلة الى مطبوع جديد يقدم بحق فكرا علميا وثقافة تقدمية، سعت (الثقافة الجديدة) الى تجسيد الفكرة والحلم عبر ممارسة الصراع الفكري والثقافي من خلال نقد الواقع السائد، وتفكيك خطابات القوى المسيطرة، ونشر الثقافة الوطنية والديمقراطية مستقطبة قطاعات واسعة من النخب الثقافية والباحثين الجادين. وقد ارتبط ظهورها ايضا بالأجواء السائدة آنذاك في بلادنا وفي المنطقة والعالم بعد النتائج التي ترتبت على الحرب العالمية الثانية والنهوض العاصف لقوى التحرر والديمقراطية والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والسلام والاشتراكية. وقد ساهم ذلك كله في بلورة فكرة هذا المنبر الجديد، وتحولها الى واقع ملموس لتكون (الثقافة الجديدة) ليس رقما عاديا من ارقام الاعلام والصحافة بل مطبوع يبشر بجديد نوعي في الفكر والثقافة ويؤسس لنقد الواقع بمختلف بُناه، ويساعد في إعادة بناء الوعي الاجتماعي.
    لم يكن الطريق سهلا قطعا.. بل كان صعبا ومحفوفا بمخاطر وتحديات شتى وخوض معارك فكرية/ سياسية لا ينتهي اوارها.. وهذا هو الطريق الجديد الناهض المتحدي والمتوثب لتكسير أصنام الوثوقية والمسلمات الجاهزة والأجوبة المعلبة "الصالحة" لكل زمان ومكان. وكان المؤسسون الأوائل للمجلة على وعي تام بصعوبة ومشقة المهمة التي اتجهت (الثقافة الجديدة) نحوها في خمسينات القرن العشرين العاصف وبحاجتها الى المثابرة والنفس الطويل. وعلى هذا الطريق رأت المجلة، منذ عددها الأول، أنه لن يكون هناك أي مبرر لوجودها إلا في انخراطها النشيط في بلورة مشروع ثقافي- سياسي نوعي يختلف عن السائد، واستشراف المستقبل عبر الرهان والترويج لبديل وطني ديمقراطي وبناء دولة عصرية، وتحفيز النخب الثقافية وقطاعات المجتمع المتنورة للمساهمة في تحقيق هذا المشروع والدفاع عنه، والمساهمة النشيطة في تأسيس خطاب ثقافي –اقتصادي - سياسي تنويري ديمقراطي عقلاني، وإعادة صياغة المفاهيم والكشف عن الظواهر والعمليات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .. الخ وما يرافقها من تناقضات وما يترتب عليها من استقطاب وتهميش وتركز للثروة والسلطة والنفوذ.  
    خلال أعوامها السبعين أرادت مجلة (الثقافة الجديدة)، باعتبارها ترجمة جادة لإرادة جماعية، أن تكون منبرا يرفض أية حواجز على الفكر وتنميط الواقع بمقاسات مصممة على وفق ما يريده الحكام والقوى المسيطرة. ولذا فقد اختارت طريق الكتابة والبحث العميق والمتنوع في قضايا الفكر والواقع العراقي وبناه الاقتصادية-السياسية وتراكيبه الطبقية/ الاجتماعية وإشكالياته الثقافية ودور نخبه الثقافية في التغيير المطلوب. وفي معالجاتها لهذه القضايا خاضت (الثقافة الجديدة) معارك فكرية متعددة الصُعد وسعت الى وضع قضية التغيير والعدالة والديمقراطية والتنوير والحداثة في صلب الهمّ الثقافي جاعلة منها مفاهيم جاذبة وليس أساطير عصية على الفهم.
    ويحق لـ (الثقافة الجديدة) ان تفتخر بان صفحاتها وخلال أعدادها المختلفة، طيلة سنواتها السبعين، احتضنت أكبر الأسماء العراقية (مع حفظ الألقاب) في مختلف الاجناس الابداعية الفنية والسياسية والاقتصادية: صفاء الحافظ ، صلاح خالص، ابراهيم كبة، محمد سلمان حسن، فيصل السامر، محمود صبري، عبد الملك نوري، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، عامر عبد الله، كاظم السماوي، كَوران، ديلان، شاكر خصباك، غائب طعمة فرمان، نهاد التكرلي، الشيخ محمد رضا الشبيبي، عطا صبري، يوسف العاني، نوري الراوي، وليد صفوت واسماعيل الشيخلي، وصالح جواد الطعمة، وعبد الله البستاني، و خالد الشواف، و نزيهة الدليمي، وذنون أيوب، وسعاد محمد خضر، وفائق بيكه س، ومحمد كريم فتح الله، وصاحب حداد، وعبد الرزاق الصافي، وخالد السلام، صباح الدرة، وكاظم حبيب، ونمير العاني، وشمران الياسري (ابو كاطع)، والفريد سمعان، وكريم كاصد، وزهير الجزائري وفالح عبد الجبار وعصام الخفاجي وغيرهم الكثير من الاسماء اللامعة، هذا الى جانب عدد كبير من الأدباء والشعراء وكتاب القصة والروائيين والفنانين التشكيليين والمسرحيين والسينمائيين، إضافة إلى الفلاسفة والمؤرخين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع وعشرات بل مئات غيرهم من المبدعين. كما ونجد أسماء: اندريه موروا، و أراغون، و أنطون تشيخوف، وأميل زولا، وبيرل باك، البير كامو ، هنري ماتيس، فيكتور هيغو، هربرت سبينسر... الخ.
     وبهذا الإطار اصبحت (الثقافة الجديدة) بتفاني روادها الأوائل وكتابها ومحرريها وجمهورها رافدا فكريا تقدميا فاعلا في تطوير الثقافة الوطنية الديمقراطية العراقية، وذلك من خلال احتضانها ورعايتها ونشرها للإنتاج الفكري والإبداعي في بلادنا. وواصلت ذلك النهج طيلة اعوامها السبعين رغم ما تعرضت له من ضغوط ومنع وعراقيل جمة، من بينها اضطرارها الى أن تصدر خارج الوطن لما يقارب العقدين والنصف، بسبب ما تعرضت له القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي العراقي من ارهاب وقمع في حقبة النظام الدكتاتوري المقبور.
    وبفضل جهود الرواد الاوائل (والمبادرة لإصدارها كانت لفقيدي الثقافة الوطنية الديمقراطية: الدكتور صلاح خالص والشهيد الدكتور صفاء الحافظ، اللذين كانا قد عادا الى الوطن بعد اكمال دراستهما الاكاديمية في فرنسا)، ممن حملوا الفكرة وحولوها الى واقع، وهيئات التحرير التي واصلت العمل خلال الفترة الماضية وبدعم قطاعات واسعة من المجتمع ونخبه الثقافية تحول اسم المجلة الى واقع مؤسس لا يسعى الى تمجيد الفكرة والحلم بقدر ما كان يعمل على بلورة أسس التغيير المطلوب ممثلا في شكل حركة فكرية/ ثقافية تلتف حول المجلة، تعتمد التحليل والنقد وتجاوز الواقع وتطوير الخطاب بمراجعة مفاهيمه وتصوراته وآلياته. ومن المؤكد ان مجلة (الثقافة الجديدة)، كانت على الدوام وما تزال، وستبقى أيضا، لا ترى مبررا لوجودها إلا في انخراطها النشيط في مشروع الكشف عن الواقع وتناقضاته الفعلية وطرح البديل لتجاوز هذا الواقع واستشراف المستقبل ولا ترى أي تعارض بينهما.
    إنها مهمة تنويرية ولا شك. ومهمة من هذا الحجم تستدعي مواكبة نقدية لكل القنوات المختلفة التي تصب في اتجاه تواصلها. فما نشرته المجلة وتنشره من كتابات وحوارات ومحاور وملفات تشكل جزءا مكونا لشخصيتها باعتبارها تسعى الى ان تكون صعيدا مشتركا للحوار والنقاش المفتوح، ومنبرا لمقاربات ثرية وحية على مستوى الفكر والواقع معا، لتكون بحق وفية لشعارها العتيد: فكر علمي.. ثقافة تقدمية. ولكي تواصل المجلة هذا الطريق كان عليها ان تسلك سبيل التقويم النقدي الذي لا يهادن الاجترار وإعادة انتاج "المسلمات" في الخطاب التقليدي، مصرة على ان تكون اداة فكرية فاعلة في معارك التنوير والحداثة والديمقراطية. وكان لها ذلك رغم كل الصعاب.
    إن ما يميز مجلة (الثقافة الجديدة)، هو مواصلتها الصدور عبر سبعين عاما من عمرها المديد، متحدية الصعوبات والعراقيل الكثيرة. صحيح انه حصل انقطاع عندما عطلت السلطة الملكية الرجعية (الثقافة الجديدة) بعد صدور عددها الرابع وظل حبيساً من عام 1954 إلى أن تم الافراج عنه – أســـوة بسجناء الرأي – بعد انبثاق ثورة 14 تموز الوطنية 1958. وتكرر الأمر بعد انقلاب شباط الاسود في 1963، ولاحقا القمع والملاحقة التي تعرضت لها القوى الديمقراطية في اواخر السبعينات من القرن العشرين. ولكن المجلة واصلت التحدي وهذا بفضل تضحيات وإصرار ومثابرة العاملين فيها على تأمين صدورها وتطويرها محتوىً وإخراجاً، اضافة الى الدعم المتواصل من قرائها ومن طيف واسع من السياسيين، والاكاديميين ومنتجي الثقافة ونخبها عموما، من الذين واصلوا دون كلل مدّ المجلة بأبحاثهم ودراساتهم وملاحظاتهم بهدف المساهمة في ارساء الأسس الثقافية والفكرية التنويرية في المجتمع العراقي.
    و اضافة لذلك نود الاشارة هنا الى اننا واحتفاء بهذه المناسبة العزيزة، نجد من الضروري التعبير عن اعتزازنا بما أنجز خلال سبعين عاما، وننتهز الفرصة هنا للإشادة بدور هيئات التحرير المتعاقبة ورؤساء تحرير المجلة وكوادرها ممن واصلوا المسيرة وعملوا بكل جد وإصرار على أن تبقى راية المجلة مشرعة. فبعد كل انكسار في الوضع السياسي كانت المجلة تعود تشحذ الهمم وتمارس دورها التنويري مجددا. وبهذه المناسبة الجليلة، نستذكر ايضا اولئك المؤسسين الاوائل ممن وضعوا اللبنات الاولى والاسمنت المسلح لهذا الصرح الكبير والى اولئك الذين واصلوا هذه المسيرة بعد الرواد الاوئل ونقول لهؤلاء جميعا: بوركت جهودكم.. انها كانت ولا تزال وستبقى المعين الذي لا ينضب، الذي يمنحنا الطاقة على مواصلة ما بذله الجميع من عطاء كبير طيلة السبعة عقود لتبقى (الثقافة الجديدة) منبرا عاليا للفكر العلمي وللثقافة التقدمية.
    ونود التنويه هنا أيضا، اننا شهدنا بعد 2003 استشهاد العزيز كامل شياع عضو هيئة تحرير المجلة ومستشار وزارة الثقافة العراقية، الذي داهمته في ظهيرة يوم 23/8/2008 رصاصات غادرة أطلقها قتلة محترفون، وكذلك رحيل الاعزاء: عزيز سباهي ود.غانم حمدون و د. صادق البلادي، والشاعران مهدي محمد علي وابراهيم الخياط محررا باب أدب وفن. ان رحيلهم، كما رحيل طيّبي الذكر الاخرين خلال مختلف الفترات، شكل ويشكل خسارة كبيرة للمجلة وللفكر التقدمي والديمقراطي، وبفقدهم نودع وبغصة كبيرة في قلوبنا نجوما كبيرة متلألئة في سماء الثقافة والأدب والنضال من اجل التنوير والحداثة والديمقراطية. وإذ رحل عنا هؤلاء الكبار، بعد عمر حافل بالعطاء في ميادين المعرفة وفي النضال طيلة السبعين عاما، فإنهم تركوا لنا تراثاً ثريا وإرثا طيبا من المواقف الأصيلة والذكريات الجميلة والسلوك الإنساني الرفيع والروح الشفيفة التي لا تساوم على القيم والمبادئ الكبرى، وهذا كله سيظل يتحدث عنهم، ويذكّر بهم، ويبقيهم أحياء دائمي الحضور بيننا.
    ومن جانب آخر ورغم ذلك المنجز التنويري الثر الذي قدمته (الثقافة الجديدة) فاننا لن نكتفي بما تحقق فطموحنا واسع ولدينا الرغبة الأكيدة لتطوير المجلة شكلا ومضمونا. ولأن (الثقافة الجديدة) هي مشروع تنويري حداثي يؤسس لثقافة ديمقراطية ويروج لـ "فكر علمي ... ثقافة تقدمية" فإنها تراهن على مساهمات نشيطة من كل من يعنيه تطوير هذا المشروع. ولدينا نحن في المجلة القناعة بأن النقد وقبول الملاحظات هو السبيل للتغلب على صعوباتنا وثغرات عملنا، وأيضا مراكمة ما تحقق طيلة العقود السبعة التي انصرمت، رغم كل الصعوبات والمخاطر والتحديات. كما ان أبواب المجلة ستبقى مفتوحة على الدوام امام النخب الثقافية والكتاب والباحثين من مختلف التخصصات. وننطلق في ذلك ايضا من قناعة ثابتة ان تطوير (الثقافة الجديدة) هو تطوير للخطاب الثقافي المناهض لخطاب السُلط المهيمنة التي سعت وتسعى لتكريس ايديولوجيا العُقم وتعميم الصمت وتطوير آليات الحصار والإقصاء والتهميش وشيطنة الآخر و "ثقافة" المحاصصات والهويات الفرعية. لقد تعودت السُلط الحاكمة، في مختلف المراحل، ان تنسى الحقيقة المُرة وهي أن الصمت لا ينتج الصمت أبدا. ولذلك كانت (الثقافة الجديدة) وستبقى صوتا مغردا خارج مسارات تلك السلط، تحرض على الترويج لثقافة جديدة عنوانها قيم الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية والسلام والاشتراكية. وستواصل مسعاها هذا دون كلل، مثلما حرصت على ذلك خلال العقود المنصرمة. ولا شك أن حضور سؤال المستقبل ايضا في أية ثقافة هو دليل حيويتها وعافيتها، فبقدر حضوره في تكوينها تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتـي. وعلى هذا الطريق ستواصل المجلة جهودها لرعاية الإمكانيات الإبداعية لمنتجي الثقافة والإبداع بشكل عام، وتحرير الثقافة من قيود الفكر الواحد والرأي الواحد ومن الجمود والتهميش، وإعادة الاعتبار لدور المثقف، وفتح دروب الإبداع الفكري والمعرفي له في مناخ من الحرية والاستقرار. وستبقى ابواب المجلة مفتوحة تحتضن كل الاصوات وكل الاقلام الداعية الى مُثل التنوير والحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية والسلام.
    تحية للذكرى السبعين لصدور العدد الاول من مجلة (الثقافة الجديدة) في تشرين الثاني 1953 ! وتحية لمؤسسيها الاوائل ولهيئات تحريرها المتعاقبة ورؤسائها وكتابها ومحرريها وقرائها ممن كان لجهودهم وتضحياتهم الكبيرة وشجاعتهم الدور الاكبر في ان يتواصل صدورها طيلة سبعة عقود رغم كل المصاعب والمخاطر والحصارات، وأن تبقى معبرة بحق عن شعارها العتيد: فكر علمي... ثقافة تقدمية !
     واحتفاء بالذكرى السبعين لتأسيسها وجهت هيئة تحرير الثقافة الجديدة رسالة دعوة الى طيف واسع من شخصيات الوسط الثقافي والسياسي والاجتماعي، داخل الوطن وفي الخارج، تشعرهم فيها بأنها تعتزم اعداد ملف خاص عن هذه الذكرى ضمن العدد (440) المخطط صدوره في شهر تشرين الثاني 2023، وتدعوهم للمشاركة في هذا الملف لاستذكار هذه المناسبة. وقد استجاب الى دعوتنا العديد ممن وجهنا لهم الدعوة في حين اعتذر اخرون لظروف بينوها في ردودهم على الدعوة. واذ نشكر كل من ساهم في الاستجابة لدعوتنا ونتفهم اسباب من اعتذر، نتمنى للجميع وافر الصحة والعافية والمزيد من الابداع.
 ننشر هنا المساهمات الواردة إلينا وحسب مواعيد وصولها الى هيئة التحرير.