اتسمت الدراسات التي تناولت الأحوال الشخصية في العراق ونواظمها الشرعية والقانونية بسمتين متداخلتين: الأولى أنها ركزت على قانون الأحوال الشخصية الوحيد الذي صدر في البلاد في العام 1959، وأثار لغطًا كبيرًا ورفضًا واضحًا من المؤسسة الدينية الشيعية، والأخرى أنها لم تحفل بسياقات القانون التاريخية، بل اكتفت بمنطق (دفاعي في الأغلب) عن القانون، من خلال مواده وأحكامه القانونية. يصدق هذا، تحديدًا، على الدراسات التي أتت من حقل القانون، وتكاد تشكل أهم ما أنجز في هذا المجال. ومن ثم، لا نجد أدبيات تحليلية عن السوابق والمحاولات التي مهدت لهذا القانون، وكأنه وُلد في لحظة قطيعة، من فراغ، وهبط من علٍ على أرض من دون ذاكرة تشريعية. والأمر ليس كذلك، بطبيعة الحال.
تسعى هذه المقالة إلى ملء الفراغ هذا، برسم صورة تاريخية للسياق الذي شُرّع فيه قانون الأحوال الشخصية، انطلاقًا من افتراض أنه لا يمكن فهم النزاع على القانون من دون فهم هذا السياق التاريخي الذي قاد إلى تشريعه، وأن النزاع عليه لا يرتبط بمواد قانونية بعينها، بل بما يحيط به، من مشرّع، ومنفِّذ، وإطار مؤسساتي، واجتماعي، وسياسي.
الطريق إلى قانون الأحوال الشخصية وتبعاتها الاستدلالية: الدولتية أولًا
لأعترف: أنا كنت ممن يتبنون تصور أن السجال القانوني على الأحوال الشخصية في العراق بدأ مع قانون 1959، لولا أن قادتني إشاراتٌ عابرة، ومتناثرة، وغير مترابطة، إلى أن هذا القانون الأخير سبقته محاولة أنتجت مسودة قانون كاملة، غير أن المؤسسة التشريعية العراقية لم تنجح في إصدارها وتشريعها، على الرغم من المحاولات المتعددة والطموحات المستمرة. وكان هذا يحدث في سياق إقليمي أوسع، نهض فيه موديل تنظيم الأحوال الشخصية بقانون دولتي. وقد سبقت العراقَ دول عدة في هذا المجال.
وبخلاف ما يُتصوّر من أن قانون 1959 وفكرته انبثقا فجأةً في عقل القيّمين على إدارة نظام الحكم ما بعد ثورة 1958 وقائدها عبد الكريم قاسم، تكشف التنقيبات أن فكرة إدراج الأحكام الإسلامية المتعلقة بالأحوال الشخصية في قانون، يكون قانونًا واحدًا، سبقت صدورَ القانون بأكثر من عقد، وأن مسودة قانون، سُمّي باسم "قانون الأحوال الشخصية"، كانت قد اكتملت في العام 1945، أنجزتها لجنة مختصة شكّلتها وزارةُ العدلية، ثم رفعتها إلى مجلس النواب للنظر فيها. وقد صادقت لجنة الشؤون الحقوقية في المجلس على المسودة، في صيف العام 1946، بعد أن أجرت تعديلات عليها، وأوصت باعتمادها وسنّها(2). وهذه المسودة هي نفسها التي جرى إحياؤها ما بعد الثورة، واعتُمدت لتشريع قانون 1959. سأقتبس، هنا، ما يقوله القاضي محمد شفيق العاني، الذي ألّف في العام 1970 كتابًا حمل عنوان أحكام الأحوال الشخصية في العراق: "كان يدور بخلد الكثيرين من المعنيين بالقضاء الشرعي جمعُ الأحكام الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية، أو أحكامها العامة على الأقل، في قانون واحد يُرجع إليه، ويكون سندًا في إصدار الأحكام. ويصدر الحكم بالنسبة للمسلمين كل حسب أحكامه الفقهية الخاصة به التي درج على اتباعها. وقد أُلّفت سنة 1945 لجنة مكونة من أربعة أشخاص، وأتمت المشروع، وأثبتت فيه الأحكام المشتركة بين الفرقتين الكبيرتين في هذا القطر، وهما السنة والشيعة، ثم ذكرت الأحكام التعريفية لكل فريق بالنص الواضح، وقُدّم المشروع إلى المجلس النيابي، فتلكأ المجلس في تشريعه، لمعارضةٍ لقيها مشروعُ القانون، حتى وافت سنة 1959، فألّفت وزارةُ العدل لجنةَ إعادة النظر في المشروع، وصاغت مواده مجدّدًا، عدا أحكام الإرث التي لم تدخل في المشروع، وإنما أُقحمت دون علم اللجنة بمجلس الوزراء من قبل هيأة [كذا] غير اللجنة الأصلية، [...] فصدر القانون باسم قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، ولقي معارضة فيما يتعلق بالمواريث، حتى ألغيت أحكام الإرث من القانون الأصلي، بالتعديل رقم 11 لسنة 1963"(3).
ظلت الإشارة إلى هذا المشروع (مسودة 1945-1946) محدودة جدًا وجزئية، متناثرة في عدد محدود من المراجع، بعضها مقالات صحفية، تذكرها بشكل عابر. ولذلك، كانت هذه المسودة أشبه بالتاريخ المنسي، غير حاضرة في السجال العام، وكأن تاريخ تقنين الأحوال الشخصية في العراق ابتدأ مع العام 1959.
وفي تقديري، غطّى التلقي السلبي، الذي ووجه به قانون 1959، على محاولة فهم سياقه التاريخي، وعلى إمكانية التعامل مع مادته القانونية نفسها وصلتها بأحكام الشريعة، انطلاقًا من فهم أن الرؤية التي قام عليها القانون هي اختيار الأنسب من الشريعة (على نحو ما نُصّ في الأسباب الموجبة له)، لا أن يستبدل بها قانونًا وضعيًا. وهذا التلقي السلبي يرجع، بحسب ما أقدّر، إلى مجموعة من الأطر الخارجية، منها تشريعه القسري، ذلك أن هذا القانون فرضته قسريًا سلطةُ الثورة التي يقودها الضباط، من دون حوار برلماني أو مجتمعي، كما حصل في مشروع 1945. وقد أسهمت مادة الإرث في تشكيل ردة الفعل عليه وفي أن يُفهَم بأنه نتاج إيديولوجيا اليسار النافذ في حكومة الثورة، وبأنه أكثر تطرفًا من مسودة 1945-1946.
وفي كل الأحوال، سيفيدنا تجذير قانون الأحوال الشخصية وإعادة رسم جينالوجيا وأصول له في سياق غير ما هو شائع عنه، أبعد وأسبق من لحظة 1959، في الوصول إلى حزمة من النتائج شديدة الأهمية، في صدارتها أن فكرة المحاكم الدينية والشرعية التي تبنتها الحقبة الملكية، وكان يُتصوّر أنها الخيار القضائي الذي تبناه العراق الملكي فيما يخص الأحوال الشخصية، إنما كانت استراتيجية انتقالية transitional، لا عنصرًا في نظام مؤسساتي دائم، وأن العلمانية الإدماجية التي قادتها الدولةُ كان يجب أن توصلها إلى تجاوز المحاكم الشرعية إلى قانون رسمي موحد وعام. ولذلك، سعت إلى تغيير ذلك، قبل التعديل الواسع للدستور العراقي، الذي حصل في العام 1946، بُعيد الحرب العالمية الثانية. وتجسد هذا في مسودة قانون الأحوال الشخصية السالفة، التي فشل مجلس النواب في إقرارها بسبب المقاومة الداخلية. وهو الأمر الذي سيتحقق في العام 1959. وهذا يعني أن قانون الأحوال الشخصية للعام 1959 ليس انعطافًا عن النظام القضائي للحقبة الملكية، كما يُتصوّر، بل هو استمرار للمشروع الذي بدأ في تلك الحقبة لإغلاق صفحة المحاكم الدينية بوصفها استراتيجية انتقالية أقرها البريطانيون، والوصول إلى قانون وطني.
والنتيجة الأخرى التي يتيحها اكتشاف مسودة 1945-1946، والتي قد تكون أكثر أهمية من النتيجة الأولى، أنه من غير الدقيق أن نعد قانون الأحوال الشخصية للعام 1959 نتاجَ حقبة محددة ذات لون إيديولوجي محدد، هي حقبة ثورة 1958، التي توصف بأنها حقبة "نفوذ اليسار". وإن عدم فهم السيرورة التي قادت إلى بناء هذا القانون، وتأطيره بإطار إيديولوجي يُفهم من خلاله بوصفه نتاجًا يساريًا، خلق مجموعة من المشكلات العويصة، في صدارتها أن نقاشه والتعامل معه - قبولًا أو رفضًا، تبنيًا أو مواجهة - ظل حبيس هذا الإطار الإيديولوجي: أن يفهم بوصفه فعلًا إيديولوجيًا فإن هذا يقتضي رد فعل إيديولوجي نقيض.
كانت قوانين الأحوال الشخصية تتويجًا لعمليات التحديث المركزية التي قادتها الدولةُ الوطنية في المنطقة العربية والمشرق، التي لم تتوقف عند اقتباس النموذج الغربي في الدولة والتنظيم السياسي والهوية الوطنية، بل إنها تعدّت ذلك لتصل إلى القوانين الناظمة للأسرة. ومن ثم، لا يرتبط رفض المؤسسة الدينية للقانون بوجود مواد مخالفة للشريعة، أو بكونه نتاجًا إيديولوجيًا، بل هو رفض لدخول الدولة منظّمًا لمجال الأسرة، التي هي آخر مساحات صلاحيات المؤسسة الدينية وولايتها. ولذلك، ترفض المؤسسة الدينية مبدأ وجود قانون للأحوال الشخصية من الأساس. وقد ظل الموقف من القانون قائمًا منذ أواسط الأربعينيات من القرن العشرين، حين عُرضت أول مسودة مكتملة للقانون، وإلى اللحظة الراهنة. وهو الأمر الذي تشي به بوضوح النصوص التي أنتجتها المؤسسة الدينية في هذا المجال.
يفيد السيد محمد بحر العلوم، في كتابه أضواء على قانون الأحوال الشخصية العراقي (1963)، بأن خلاف المؤسسة الدينية الشيعية الأساسي مع قانون الأحوال الشخصية ليس في محتواه، بل في أصل مبدأ ان تتولى الدولةُ تنظيمَ هذا المجال، يقول: "كان في مقدمة العلماء الأعلام الذين أصروا على وجوب إلغاء هذا القانون [قانون الأحوال الشخصية لعام 1959] سماحة الإمام الأكبر [...] السيد محسن الحكيم [...]. فقد بلّغ المسؤولين ضرورةَ إلغائه في كل مناسبة، وطالبهم بأن يتركوا المسلمين أحرارًا في أمورهم الدينية، يستقونها بحرية من منابعهم المذهبية دون ترجيح البعض على الآخر"(4)، ثم ينقل عنه قوله فيما يأمله من الحكومة التي تلت حكومة عبد الكريم قاسم بعد الانقلاب عليه في شباط/ فبراير 1963: "إن أول واجبات الحكومة هو إلغاء قانون الأحوال الشخصية، وإرجاع الأمور إلى العهد الذي كانت عليه سيرةُ المسلمين منذ أيام الخلافة الإسلامية، وإن موقفنا هذا هو نفس الموقف الذي وقفناه منذ صدور القانون حتى يومنا هذا، وإلى أن يتم رفعه"(5). الموقف نفسه عبّر عنه، قبيل صدور كتاب بحر العلوم بقليل، أحد الوجوه الأساسية في حوزة النجف، وهو الشيخ محمد رضا المظفر، الذي يُصنّف بوصفه أحد الوجوه الإصلاحية والتحديثية في الحوزة، وكان حينذاك عميدًا لكلية الفقه في النجف، إذ بعث رسالة بعد أقل من شهر على الانقلاب (مؤرخة في 7/ 10/ 1382 هـ، أي 3/ 3/ 1963)، إلى رئيس الوزراء حينئذ أحمد حسن البكر، ووزير العدل مهدي صالح الدولعي، بعد أن كانت الحكومة قد شكّلت لجنة لتعديل قانون الأحوال الشخصية (وعمليًا، صدر قانون التعديل في 21/ 3/ 1963). وقد دعا المظفر في رسالته إلى إلغاء القانون كاملًا(6).
ومن ثم، تبدو اعتراضات الحوزة على قانون الأحوال الشخصية اعتراضات مبدأية، وليست على مادة محددة، منها - مثلًا - صعوبة توحيد الفقهين الجعفري والحنفي في مدونة قانونية محددة، وأمور أخرى من هذا القبيل. ولكن الأساس، في تفسيري، هو رفض فكرة وجود قانون للأحوال الشخصية أصلًا، ورفض انخراط الدولة في تنظيم مجال الأسرة.
وأبعد من ذلك، يمكن القول إن الموقف من قانون الأحوال الشخصية هو – في جوهره - موقف من الدولة الحديثة نفسها، التي بدأت تعصف بالمؤسسة الدينية وسلطاتها. وبهذا المعنى، يكون موقفُ المؤسسة الدينية دفاعًا عن صلاحيات رجال الدين وحدود سلطتهم. وحيث أن ليس بمقدور المؤسسة الدينية التحكم بالمجال العام (إلا الحيّز المقدس منه)، ولا المجال الخاص، سيكون المجال الثالث هو مجال فاعليتها، وهو ليس المجتمع، ولا الفرد، بل الأسرة.
وإذا كان من غير الواضح ما إذا كان الحكيم يقصد بتعبير "أيام الخلافة الإسلامية" العمق التاريخي الذي يمكن أن يعود إلى أيام النبي محمد، فالأكيد أنه يقصد –أيضًا وربما في الصدارة - أيامَ ما قبل الدولة الحديثة، ولا سيما الحقبة العثمانية، التي – على الرغم من أنها توصف بأنها دولة طائفية كان لها موقف سلبي من الشيعة – سمح نظامُها الإمبراطوري اللامركزي ببقاء دور رجال الدين وسلطاتهم.
من هنا، لا يرتبط رُهاب الدولة لدى المؤسسة الدينية بكونها أداة للتحديث المجتمعي، أو على نحو أدق: يسبق الخوفَ من الدولة بوصفها أداة للتحديث المجتمعي، الخوفُ منها بوصفها منافسا في التنظيم المجتمعي.
وبالمنطق نفسه، تسبق حجةُ رفض تولي الدولة تنظيمَ الأسرة حجةَ أن قوانين الأحوال الشخصية تهدد الهويةَ الإسلامية، وهي حجة تتكرر في الخطاب الإسلامي على نحو عام، أو – في الأقل – إن هذين العنصرين (الموقف من الدولة الحديثة، والدفاع عن الهوية الإسلامية من هجمة التغريب) يتراكبان على نحو صميمي في هذا الخطاب.
ومع ذلك، ينبغي التوضيح، هنا، أن هذا الموقف من الدولة الحديثة لا يبطن نزعة أناركية anarchistic، بما يعنيه المصطلح في الفلسفة السياسية الحديثة، بل إنه يحاول أن يميز بين مجالين للصلاحيات، أو للولاية (وللسلطة، إن شئت): مجال الدولة ومجال الإكليروس. يقول بحر العلوم إن الدولة مسؤولة عن إصدار "قوانين لتنظيم حياة الناس من حيث المعيشة، والاقتصاد، ومن حيث استتباب الأمن، والاستقرار الاجتماعي، كقوانين المحاكم البدائية، والصلاحية، والجزائية وأمثالها، مما تتصل بالدولة ولا يستقيم المجتمع بغيرها. وهذه تختلف تمام الاختلاف عن قانون الأحوال الشخصية، فإن مواضيعه شديدة الاتصال بنفس الإنسان، لا من حيث علائقه بخارجه، إنما من حيث ذاته وكيانه الشخصي، فلا يُسمَح لأي فرد أو جهة أن تتحكم في أمر ذريته نفيًا أو إيجابيًا، أو في حياته الزوجية - وهي أقدس رباط عائلي - عدا واحد [كذا] له السلطة التامة في التحكم بذلك كله، وهو الدين"(7)، ويضيف: "التحكم في مصير الإنسان فيما يعود للأحوال الشخصية، وفرض ذلك التحكم في قرارة الأفراد، ليس من السهل اليسير، اللهم إلا المرجع الديني - باعتباره المصدر الوحيد القادر على التدخل في مثل هذه الأحوال - الذي يتمتع بالصلاحية الكاملة فيها، وهو يمكنه كل شيء"(8).
إن المطالبة بإلغاء قانون الأحوال الشخصية وإبطاله، من أجل عودة طبيعية من المواطن/ المؤمن إلى مراجع الدين، ليست تمييزا بين الوظائف، الذي يتحدث عنه عزمي بشارة، في كتابه الدين والعلمانية(9)، وهي ديناميكية يحاجج بأنها لم تبتدئ مع أوروبا الحديثة، بل شهد التاريخ كله، والحضارات كلها، ديناميكية تمايز بين الوظائف الاجتماعية. وإذا كانت صيرورة التمايز هذه هي جوهر عملية العلمنة، فإن السجال على قانون الأحوال الشخصية، في السياق الذي نتحدث عنه، في لحظة 1945، أو 1959، أو ما بينهما، أو حتى قبلهما أو بعدهما ربما، كان ذروة عملية العلمنة في العراق. ولم تمر هذه اللحظةُ بشكل تلقائي هادئ، بل إنها كانت محل نزاع، فهي تتجاوز ما يشير إليه بشارة نفسه عن العلمنة بوصفها "خصخصة للمجال الديني". إنها تمس التعريف، أو تحديد الماهية، أو لأقل بلغة سوسيولوجية: إنها تتضمن رسم حدود المجال الديني نفسه. ومن ثم، نحن أمام تأويلين مختلفين لهذه الحدود، ولوظائف المجال الدين وفاعليه، من ثم، تأويل الدولة وتأويل المؤسسة الدينية، الدولة التي تطالب بأن تتولى هي وظيفة تنظيم مجال الأسرة، والمؤسسة الدينية التي تنسب للدولة وظائف أخرى يجب أن تتولاها (حدّدها بحر العلوم في نصه أعلاه)، إلا مجال الأسرة، الذي ينبغي أن يقع في مجال صلاحياتها، هي حصرًا.
وبهذا المعنى، أقول إن موقف المؤسسة الدينية من قانون الأحوال الشخصية محاولة للدفاع عن سلطة وحدود صلاحيات رجال الدين التقليدية، وقد بدأت تعصف بها هجمة الحداثة العاتية (وسنكتشف، لاحقًا، أنها محاولة للدفاع عن النظام الاجتماعي القائم، بتراتبياته وتوازناته القائمة)، وكذلك لتثبيت هذه السلطة وافتكاكها من الدولة، التي تريد مصادرتها.
(شريعة/ دولة) لا (شريعة/ قانون وضعي)
إن هذا التحديد (أن أصل الصراع على قانون الأحوال الشخصية هو لمواجهة دخول الدولة منظمًا لمجال الأسرة) سيفضي بنا هذا إلى استنتاج شديد الأهمية، في السياق الذي نتحدث فيه، وهو أن الثنائية التي تحكمت بهذا السجال لم تكن ثنائية (شريعة/ قانون وضعي)، على نحو ما يصوّر الخطاب المناهض لقوانين الأحوال الشخصية (بفهم أن القانون الوضعي هو الأحكام التي لا تجد أصولًا لها في الشريعة، وليست البشرية منها فقط، ذلك أن جزءًا كبيرًا من متن الشريعة هو بشري)، بل هي ثنائية (شريعة/ دولة).
ويدعم هذا الاستنتاج أنه لا قانون 1959، ولا مسودة 1945-1946، كانت الغاية منهما استبدال قوانين وضعية بالقوانين الإسلامية، ولم يكونا تعبيرًا عن رغبة أو مشروع من هذا النوع، ذلك أن القانون والمسودة اعتمدا مواد الشريعة نفسها، واختارا منها، ولم يعارضاها. ويكشف ذلك نص "الأسباب الموجبة" لكل من المسودة والقانون، وكذلك النصوص العديدة ذات الصلة المحيطة بهما، والتي تكشف عن الفلسفة التي تقف وراءهما.
تنص الأسباب الموجبة لمسودة 1945-1946 على "أن مصدر جميع الأحكام المتعلقة بالحقوق المدنية في هذه البلاد هي الأحكام الفقهية الإسلامية، [… وأنه] وجد من الضروري تنسيق الأحكام الفقهية المتعلقة بالزواج والطلاق والنفقة والنسب والولاية والإيصاء والإرث العائدة للمسلمين وتدوينها بشكل قانون. وحيث أن المادة 77 من القانون الأساسي [دستور 1925] نصّت على أن القضاء في المحاكم الشرعية يجري وفقًا للأحكام الشرعية الخاصة بكل مذهب من المذاهب الإسلامية بموجب أحكام قانون خاص فقد وجد من الضروري تأليف لجنة لدرس هذه الأحكام وتدوينها، فدُوّنت لائحة الأحوال الشخصية […] على هذا الأساس"(10)، ثم يضيف نص "الأسباب الموجبة"، بشكل واضح لا لبس فيه: "أخذت اللجنةُ الفقه الإسلامي كوحدتين أساسيين، هما الفقه السني والفقه الجعفري، فدوّنت ما أمكن الاتفاق عليه من الأحكام بصورة مطلقة، وما لم يمكن الاتفاق عليه ذكر الاختلاف فيه بصراحة"(11).
وعلى العكس تمامًا مما يجري تصويره بأن القانون هو عمل مناهض للشريعة، يبدو من نص الأسباب الموجبة لمسودة 1945-1946 أنه عمل دفاعي عن الشريعة، ذلك أن تدوين الفتاوى والأحكام الفقهية في مدونة قانونية محددة تكون بين أيدي الحكام أمر استدعاه تحول وضع الحكم، حين لم يعد الحكّام مجتهدين. ورد في نص الأسباب الموجبة: "الأحكام [الفقهية] كانت قد دُوّنت في وقتها بنتيجة الأخذ بنصوص الأحكام الشرعية الاصلية والاستنباط من هذه النصوص، فحصلت الكتب الفقهية المدوّنة. ونتيجة الحادثات والاجتهاد لإعطاء تلك الحادثات أحكامًا أُلّفت مؤلفات الفتاوى. وكان هذا الأسلوب من التدوين والتأليف للأحكام والحادثات والوقائع أسلوبًا مفيدًا، إذ أن من كانوا قائمين بممارسة الحكم والقضاء مجتهدين يتمكنون من إعطاء الظروف والأحوال حقَّها في الاجتهاد، إلا أنه لما تقاصرت الهمم ووقف التطور الاجتماعي في الأمم الإسلامية أصبح ممارسو الحكم والقضاء مقلدين لا مجتهدين، وجرت العادة بالتمسك بالفتاوى التي كانت قد صدرت في أزمان مختلفة بنتيجة اجتهادات اختلفت ظروف الوقائع فيها ودرجت في كتب مختلفة، فآل الأمر إلى عدم الإحاطة بالأحكام الواجبة للتطبيق، وأصبح الناس غير متمكنين من فهم ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات"(12)، ويضيف: "انتبه قبل أكثر من نصف قرن رجال الدولة العثمانية إلى الضرر المحتم حدوثه من جراء تبعثر الأحكام في كتب مختلفة، فألّفوا جمعية المجلة. وقامت هذه الجمعية بتنسيق الأحكام الفقهية الخاصة بالعقود والمعاملات، باستثناء الأحوال الشخصية والوقف، ودوّنتها في المجلة. أما ما يتعلق بالأحوال الشخصية فعلى ما يظهر أنه كان مسئلة [كذا] انتظار إلى زمن يمكن فيه ذلك"(13). ويشدّد نص "الأسباب الموجبة" على أنه ينبغي للتدوين القانوني أن يتجاوز العودة إلى الفتاوى المبثوثة في مظان متفرقة، ولكل واحدة منها سياق تاريخي قد لا يتلاءم مع التحولات الراهنة. والأساس في هذه التحولات ظهور الدولة، التي أصبح تدخلها ضروريًا لتثبيت العقود ومنع التلاعب والتزوير: "لما كانت [كذا] بقاء الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية بشكل فتاوٍ [كذا] صدرت في أزمان مختلفة وحادثات ووقائع ظروفُها خاصة، لا يأتلف مع مقتضيات الزمن الحاضر، لا سيما وقد أصبح تدخل الدولة في شؤون الازدواج والولادات من ناحية تثبت أزمانها وعقودها أمر ضروري، إذ عدم التدخل يعطي المجال الواسع لتلاعب الشهادات المزورة في مقدرات الحقوق المبينة على الازدواج وفي الانساب، وجد من الضروري تنسيق الأحكام الفقهية [ذات الصلة بالأحوال الشخصية] […] وتدوينها بشكل قانون"(14).
إن الافتراضات غير الدقيقة، عن أن الثنائية التي تحكمت بالسجال على الأحوال الشخصية هي ثنائية (الشريعة/ القانون الوضعي)، يدحضها كذلك أنه حتى بين النخبة العلمانية، كان التيار السائد يتمسك بحيز طاغ للشريعة في هذا المجال، سواء باعتمادها كليًا، أو نسخة منقحة منها، تنسجم مع تحولات الحياة والعلاقات الاجتماعية. وهذه النزعة بين النخبة العلمانية لا تعبّر، في تقديري، عن موقف ديني، بقدر ما أنها نتاج نظرة ثقافويّة للشريعة، تتمسك بها بوصفها إرثًا قانونيًا خاصًا.
وفي الحقيقة، لم يذهب السجال في هذا المجال إلى العمل الفكري الشاق والمعقد والإشكالي، وهو إرجاع الشريعة إلى التاريخ، أي نزع اللازمنية عنها، والتعامل معها بوصفها أحكامًا مرتبطة بسياقات تاريخية محددة، الغالب منها أنتجه بشر، ومن ثم، هي قابلة للنقد والتجاوز، بما في ذلك "الإلهي" فيها نفسه، الذي يُضفى عليه بعد لازمني، في حين أن "لازمنية الإلهي" ليست معطى ذاتيًا جوهريًا، وأن إسباغ اللازمنية على الإلهي فعل بشري محض. أقول: إن الاتجاه العام في التعامل مع تقنين الشريعة لم يذهب إلى هذه المنطقة، بل إن سقف طموحه كان بناء نسخة منقحة، لا تبقى حبيسة مذهب محدد، بل تنفتح على المذاهب، ولا تبقى حبيسة السائد، وتنفتح على الاختيار بين الأقوال، وما إلى ذلك مما يجعل الشريعة مطواعة لأن تختار من مدونتها أو متنها ما يمكن أن يتلاءم مع قيم حديثة بدأت تبدو بأنها كونية، كحرمة تعدد الزوجات بوصفه حقًا وامتيازًا ذكوريًا غير مبرر، وكحماية الطفولة، وكتحييد كل ما يحط من شأن المرأة ويميز ضدها.
العودة المستمرة لقانون الأحوال الشخصية: إطار تحليلي
شهد قانون الأحوال الشخصية، منذ لحظة تشريعه أواخر العام 1959 وإلى لحظة الغزو الأميركي للبلاد في 2003، نحو 16 تعديلًا، أبرزها التعديل الأول في آذار/ مارس 1963، بعيد انقلاب البعث الأول، ثم عُدّل 15 مرة خلال حكم البعث، بدءًا من العام 1978.
وبلا شك، لم يكن بإمكان المؤسسة الدينية الشيعية أن تعلن عن رأيها في القانون في خلال حكم البعث الشمولي.
وبمجرد سقوط نظام البعث، عادت النخبةُ الإسلامية الشيعية إلى القانون، محاولة إلغاءه، لا تعديله، أو تعديل مواد منه، على نحو ما حصل في المدة من 1963-2003.
تمثل أول هذه المساعي في القرار الذي أصدره مجلس الحكم، ذي الرقم (137)، أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2003، والذي عُد بمنزلة إلغاء للقانون. ومع أنه لم يذكر قانون الأحوال الشخصية بالاسم، إلا إنه نص على العودة إلى "تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية"، فيما يخص المسائل ذات الصلة بالأحوال الشخصية، من زواج، ونفقة، وطلاق، وحضانة، وإيصاء، وميراث، وما إلى ذلك، من خلال محاكم شرعية مذهبية، وإلغاء سائر القوانين والقرارات والتعليمات والبيانات وأحكام المواد التي تخالف هذا المبدأ. وقد أثار البيان، حين صدوره، ضجة كبيرة، ولا سيما بين المنظمات النسوية، ما اضطرّ المجلس إلى إصدار قرار بإلغائه، أواخر شباط/ فبراير من العام 2004 (القرار رقم 32)، بعد أقل من شهرين على صدوره.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أنه من غير الواضح ما القيمة التنفيذية لهذا القرار، ذلك أن مجلس الحكم كان مجرد هيئة عراقية استشارية في زمن الاحتلال الأميركي، الذي كانت السلطة فيه تحتكرها الإدارة المدنية للاحتلال، المعروفة بـ "سلطة الائتلاف المؤقتة CPA".
وفي كل الأحوال، كان هذا مؤشرًا على أن النخبة الإسلامية تخطط لتحييد القانون، إن لم يكن من الممكن إلغاؤه. ولذلك، ستعود هذه النخبة، بعد أقل من سنتين، لتثبت في دستور 2005، المادة (41)، التي تنص على الآتي: "العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم"، وهي المادة التي ستتأسس عليها سائر الخطوات اللاحقة. وأولاها مسودتا القانونين المتلازمين، اللذين أعدتهما وزارة العدل، وأقرهما مجلس الوزراء، وقدمهما إلى مجلس النواب في ربيع العام 2014، آخر عهد حكومة المالكي الثانية، وهما "قانون الأحوال الشخصية الجعفري" و"قانون القضاء الشرعي الجعفري"، اللذين يستبدلان للمواطنات والمواطنين الشيعة بقانون الأحوال الشخصية الوطني العام قانونًا خاصًا بهم، يستند إلى الفقه الجعفري، ويطبقه قضاء ديني.
تُفهم الخطوة الأولى، التي أصدرها مجلس الحكم، حين كان يتولى رئاسته الدورية السيد عبد العزيز الحكيم، بأنها ذات طابع ثأري مباشر، وأنها امتداد لمحاولة المؤسسة الدينية والنخبة الإسلامية الشيعية الثأر من نظام عبد الكريم قاسم، الذي شُرّع في عهده القانون، وتفهمه بأنه عمل على انتزاع الأسرة من صلاحياتها، وقد ناضلت هي ضده طويلًا. ودليل ذلك، بحسب هذا الفهم، أن متخذ القرار، عبد العزيز الحكيم، هو نجل المرجع الشيعي الأعلى السيد محسن الحكيم، الذي شُرّع قانون الأحوال الشخصية في عهده واعترض عليه، وارتبطت باسمه مواجهة القانون وحقبة قاسم وتركته عامة، هذا فضلًا عن كون السيد عبد العزيز هو أحد أبناء الحكيم الذين انخرطوا في الحركة الإسلامية الشيعية في بواكيرها.
ويجري تعميم فكرة النزعة الثأرية من القانون على سائر العودة المتكررة لإلغائه أو احتوائه.
وقد يكون ذلك صحيحًا إلى حد ما، إلا إن هذا المعنى لا يصدق على كل مساعي مواجهة القانون، عبر أكثر من عقدين، كما أن المعنى الأول، الذي طبع رفضَ المؤسسة الدينية الشيعية للقانون، والذي افترضت هذه الدراسةُ أنه كان يدور على مناهضة دخول الدولة منظمًا لمجال الأحوال الشخصية، حدثت عليه تطورات ذات دلالات مهمة.
لا أفترض أن الموقف الأول الرافض للقانون ولتدخل الدولة قد تغير وأن المؤسسة الدينية الشيعية تقبل الآن بدخول الدولة منظمًا في هذا المجال، بعد التغيرات الكبيرة التي حصلت منذ لحظة 2003، ولكن، بلا شك، يختلف موقفها حين كانت تواجه الدولة من موقع خارجي تمامًا عن موقفها وهي ذات نفوذ في هذه الدولة، وكانت طرفًا رئيسًا في تصميمها، وجزء أساسي من الفئة الحاكمة مرتبط بها، أو على صلة وثيقة بها. موقع المؤسسة الدينية الشيعية من الدولة قد تغير على نحو جذري بين لحظتي 1959 و2003.
هذا فضلًا عن أن الدولة الحديثة، بما تحمل من سلطة مركزية، وهوية وطنية جامعة، وبيروقراطية كثيفة، قد ترسخت ظاهرةً اجتماعية، وتكيفت معها المؤسسة الدينية عبر عقود من التعامل، ولم تعد في موقع المواجهة الذي طبع العقود الأولى من العلاقة بينهما.
هذه المعطيات كلها أعادت صياغة موقفها القديم، وتصورها للدولة، بل وحتى طريقة صناعتها لها، حين وجدت نفسها في قلب هذه العملية، تسهم فيها بقدر ليس قليلًا.
ما أسعى إليه في هذا المبحث هو رسم إطار تحليلي لفهم موقف المؤسسة الدينية والنخبة الإسلامية الشيعية الراهن من القانون، وعودتها المتكررة لإلغائه ومواجهته واحتوائه، وكيف تتمفصل هذه العودةُ وتتقاطع مع موقف الرفض القديم، اتفاقًا واختلافًا، ما العناصر التي استمرّت، وما العناصر التي تغيرت.
يقوم هذا الإطار التحليلي على ستة عناصر:
أولها هو الذكورية، فالتشريعات الدينية - انسجامًا مع الطابع العام للحضارات البشرية - تعطي امتيازات ذكورية، في القيمومة، والزواج، والإرث، والقرار داخل الأسرة، وما إلى ذلك. وقد سعت قوانين الأحوال الشخصية، في سائر تجاربها في البلدان المسلمة، إلى أن تقيد - قدر الإمكان - النزعة الذكورية وامتيازاتها، التي تتضمنها التشريعات الدينية، مواكبةً للتطورات العامة في الحضارة البشرية، والتغير الجذري والمستمر في وضع المرأة. حدث ذلك، على نحو خاص، في المدة ما بين العشرينيات والستينيات من القرن العشرين (من قانون حقوق الأسرة، التي أصدرته الدولة العثمانية في العام 1917، أواخر أيامها، وصولًا إلى قانون حماية الأسرة، الذي صدر في إيران في العام 1967، وبينهما القوانين التي صدرت في مصر وسورية وتونس والعراق)، إذ طبعت قوانين الأحوال الشخصية التي صدرت في البلدان المسلمة نزعة تقدمية. ولذلك، نجد المنظمات النسوية والناشطات والناشطين في هذا المجال هم أكثر الناس دفاعًا عن قوانين الأحوال الشخصية. ولم يكن تقييد امتيازات الذكورية، الذي حاولته قوانين الأحوال الشخصية، يحصل بالتشريع من موقع خارجي مناهض للشريعة، بل مما تتيحه مدونة الشريعة نفسها، من إعادة تأويل، أو تنوع في الأقوال والآراء الفقهية، أو مراجعة للأسانيد، أو ما إلى ذلك من أدوات استدلال أصولي. وبلا شك، تنتمي أية محاولة لإجهاض قوانين الأحوال الشخصية والعودة إلى مرحلة ما قبل القانون إلى موقع ذكوري، يسعى إلى الحفاظ على الامتيازات الذكورية.
يرى أستاذ القانون الأميركي من أصول عراقية حيدر علاء حمودي أن هناك صراعًا بين الإسلاميين المحافظين والليبراليين، وأن المحافظين يظهرون أن دعوتهم إلى تطبيق الشريعة، ومنها قانون الأحوال الشخصية، تنطلق من موقف ديني، في حين أنها نابعة من محافظة اجتماعية، هدفها المحافظة على النظام الاجتماعي القائم (بما يتضمن من بنى وهيراركية قائمة، وفي صدارتها الذكورية الاجتماعية)، الذي - في المقابل - تقود الدولة التحديثية مشروع تغييره(15). وفي تقديري، أن دفاع المؤسسة الدينية المحافظة عن النظام الاجتماعي، بتوازناته القائمة، يتضمن - في القلب من ذلك - دفاعًا عن صلاحياتها وسلطاتها، التي بدا واضحًا أن الدولتية النامية تريد أن تنتزعها.
ثانيًا، ترتبط مناهضة قوانين الأحوال الشخصية، على نحو صميم، بالتحولات الإيديولوجية التي شهدها الإسلام السياسي، والذي أفترض أنه تحرك من مبدأ "أسلمة المجتمع"، الذي طبع نشأته الأولى، سواء بتياره السني العام (حركة الإخوان المسلمين)، أو نسخته الشيعية (حزب الدعوة الإسلامية)، والذي تجسد على نحو خاص بفكرة "الدعوة"، إلى مبدأ "أسلمة الدولة"، ثم هو يعود الآن إلى مبدأ "أسلمة المجتمع"، لا لدواع براغماتية ترتبط بمدى القبول الداخلي والخارجي لمبدأ "أسلمة الدولة"، بل كذلك إيمانًا بأن "أسلمة المجتمع" هي شرط "أسلمة الدولة"، إذ توفر القاعدة التي تقوم عليها الدولة.
هذا المسار الإيديولوجي، في علاقة الإسلام السياسي بمجتمعه، لا ينفيه الفهم العام لنشأة الإسلام السياسي بأنها كانت رد فعل على موجات التحديث المغربن.
وفي تقديري، تقع مسألة الأسرة في قلب التحقق الإيديولوجي (أو الفاعلية الإسلامية) للإسلام السياسي المعاصر، مع هذا التموقع الجديد لمبدأ "أسلمة المجتمع"، فهي تضمن إبقاءَ الأسرة (التي أصفها بأنها المجال الثالث الوسيط بين الفرد والمجتمع) داخل حيز المجال الديني وقواعده. ولا مناص عن مجال الأسرة في مساعي أسلمة المجتمع، حتى وإن توافر الإسلام السياسي على أدوات عدة في هذا المجال.
ثالثًا، ظلت المؤسسة الدينية الشيعية في العراق تتمتع باستقلالية عن الدولة، ما قبل 2003، حين حمتها نظرةُ الدولة إلى المسألة الشيعية بوصفها مسألة أقلوية، وإليها بوصفها مؤسسة دينية أقلوية، على الرغم من أن الشيعة يشكلون الأغلبية السكانية في العراق. وقد عاد هذا على المؤسسة الدينية بأن تعيش عصرها الذهبي في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فتوسع - على نحو لافت - عدد العلماء، والطلبة، ومراكز التعليم، قبل أن يبدأ التضييق الذي مارسه نظام البعث منذ أواخر الستينيات.
وبعد 2003، وعلى الرغم من النفوذ الكبير الذي حققته المؤسسة الدينية الشيعية داخل الدولة ومؤسسة القرار، وكان لها الدور الكبير في رسم المسار السياسي منذ تلك اللحظة، وعلى الرغم مما حازه الإسلاميون الشيعة من دور مركزي في منظومة الحكم منذ ذلك التاريخ، لم تسع المؤسسة الدينية إلى ابتكار صيغة اندماج ما لها بالدولة، بل عملت على أن تحافظ على استقلاليتها عنها، حتى وإن كانت ذا نفوذ فيها، هذا إن لم نرد أن نقول إنها تحولت إلى سلطة موازية (أو سلطة فوق دستورية، بتعبير الباحث حارث حسن)(16)، مفيدة من مواردها المالية والبشرية الكبيرة. وهذا يعني أن الحوزة، على الرغم من صلتها الكبيرة بدولة ما بعد 2003، لم تنته إلى المصير الذي انتهى إليه الأزهر، أي الدولنة، ليكون خاضعًا للدولة.
ومن ثم، عملت الاستقلالية المستمرة للمؤسسة الدينية (وسلطتها الموازية) على بقاء النزاع الوظيفي مع الدولة، في مجال الأسرة تحديدًا، الذي تنظر إليه المؤسسة الدينية بأنه جزء من ولايتها، وغير قابل للدولنة، حتى وإن كانت طبيعة علاقتها الراهنة بالدولة قد اختلفت على نحو جذري عما كانت عليه قبل هذا التاريخ.
رابعًا، لا يمكن فصل محاولات العودة إلى المحاكم الدينية والشرعية، أو خلق مسودات شرعية مذهبية موازية للمتن القانوني الوطني، عن النظام التوافقي المكوناتي، الذي ثمة مساع لتكريسه. وفي تقديري، أن مساعي تعديل قانون الأحوال الشخصية هي أحد مظاهر هذا التكريس وجزء منه. ولذلك، يرتبط السجالُ على القانون صميميًا بالسجال على حدود النظام المكوناتي وتصادمه مع النظام القومي الكلاسيكي. ولعل الحالة اللبنانية تعلمنا المزيد عن ارتباط التوافقية المكوناتية بطبيعة التعامل المكوناتي مع الأحوال الشخصية. وفوق ذلك، يضفي النظام التوافقي المكوناتي نوعًا من الحماية والاستمرارية على القضاء الديني.
خامسًا، وبالقدر الذي تعبّر فيه التوافقية المكوناتية عن تحول أو انعطاف عن الصيغة الدولتية التي نمت وتطورت عبر عقود في العراق، تمثل مساعي مواجهة قانون الأحوال الشخصية وتأسيس سلطة موازية لسلطة الدولة، حتى وإن كان على مستوى المدونة القانونية، شكلًا من أشكال إعادة صياغة الدولة.
وبالنسبة لي، لا يمثل هذا التحول تحولًا عامًا عن الدولة الفيبرية، بقدر ما أنه نتاج حالة ضعف الدولة المزمن، الذي كرّس فيها أن تستعين بفاعلين من خارجها (كاستعانتها بقوى أمنية غير رسمية للإسهام في إدارة الملف الأمني، التي ربما كانت التجسيد الأبرز لهذه الديناميكية)، وأعاد صياغة طابعها الريعي من كونها دولة خدمات شاملة، إلى أن تكون مجرد جهاز لتوزيع عوائد الريع.
لا أزعم أن ضعف الدولة هو الذي قاد إلى إعادة طرح تعديل قانون الأحوال الشخصية، ولكن ما أراه أننا أمام تعبيرات متوازية في تحول صيغة الدولة، ناجم في الأساس من ضعفها، الذي قادها إلى خيارات القبول بأشكال لا رسمية داخلها، وهو تحول كبير في الصيغة الدولتية.
سادسًا، إن هذا التحول في الصيغة الدولتية لا يؤشر فقط نهاية للدولة المركزية التي عرفناها، بل كذلك نهاية للدور التحديثي للدولة، أو لأقل: نهاية للدولة التحديثية، التي كانت تنسب لنفسها دورًا رسوليًا في نقل المجتمع وتحوله، لننتهي إلى دولة يتمثل مشروعها الأساسي في تقعيد النظام الاجتماعي القائم.
ولعل ما يجري في مجال الأحوال الشخصية، في العراق وبلدان أخرى ربما، هو التعبير الأكثر أهمية عن هذا التحول.
الهوامش
(1) يمثل هذا النص جزءًا من كتاب أوشك الكاتب على الانتهاء منه، بأمل أن يصدر في صيف العام 2025، ويتناول – في الأساس - موقفَ المؤسسة الدينية الشيعية في العراق من قانون الأحوال الشخصية، انطلاقًا من السؤال المركزي الآتي: لمَ أثار هذا القانونُ المؤسسةَ الدينية، في بلد كانت أجزاء منه تعيش قدرًا عاليًا من الحريات الشخصية؟ والسؤال عن توقيت "انتفاضة" المؤسسة الدينية الشيعية على القانون مهم جدًا هنا، فالدولةُ العراقية - مع تأسيسها في الربع الأول من القرن العشرين - قادت مشروعًا تحديثيًا غربي الطابع، يصنّفه البعض بأن فيه قدرًا من الليبرالية السياسية، وقدرًا من الليبرالية الاجتماعية، حتى وإن كانت مقصورة على الحواضر الكبرى، ولا سيما العاصمة بغداد. ومن ثم، تتفرع عن السؤال المركزي السالف الأسئلةُ الآتية: لمَ بدا التحديثُ الغربي الطابع إشكاليةً مع الخمسينيات، ومع ثورة 1958، وليس قبل ذلك؟ هذا مع أن المشروع التحديثي المغربن قادته دولةُ ما قبل 1958، التي كانت ترتبط بعلاقة صميمة مع الغرب وبريطانيا، وأن دولة 1958 أرادت أن تنقلب عَلى هذا التغريب؟ هل يختزل مضمونُ قانون الأحوال الشخصية موقفَ المؤسسة الدينية الشيعية الأصولي من عملية التحديث؟ وهل يمكن فهم الأمر من خلال ما تضمنه القانونُ من مساواة الذكور والإناث في مسائل الإرث ووضع قيود على تعدد الزوجات وما إلى ذلك؟ أم يتعدى الأمر ذلك؟ لماذا تعود هذه المؤسسة والأحزابُ الإسلامية ونخبها (ولا سيما الشيعية)، بشكل متكرر، إلى هذا القانون، محاولةً إلغاءه، أو إعادة صياغته، أو تشريع قانون موازٍ له، يحد من ولايته ومن مفاعيله ويضيّقها، أو إعادة تشكيل محاكم دينية، تؤدي الوظيفة نفسها؟ أية عقدة في هذا القانون؟ وما الذي يشكله، قانونيًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، ودينيًا؟
(2) لائحة قانون الأحوال الشخصية مع مذكرة الأسباب الموجبة، مطبعة الحكومة، بغداد، 1946، ويُنظر:
Anderson, J. N. D. “A Draft Code of Personal Law for ’Irāq.” Bulletin of the School of Oriental and African Studies, vol. 15, no. 1, 1953, pp. 43–44.
(3) محمد شفيق العاني، أحكام الأحوال الشخصية في العراق، 1970، بغداد، ص 5-6.
(4) محمد بحر العلوم، أضواء على قانون الأحوال الشخصية العراقي، مطبعة النعمان، النجف، 1963، ص9
(5) المرجع نفسه، ص 9-10.
(6) يُنظر نص الرسالة في: محمد رضا المظفر، "حول قانون الأحوال الشخصية"، مجلة النجف، العدد 6، السنة الخامسة، آذار/ مارس 1963، ص 1-4.
(7) المرجع نفسه، ص 250-251.
(8) المرجع نفسه، ص 251-252.
(9) عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة/ بيروت، ج 1، ص 409-436.
(10) لائحة قانون الأحوال الشخصية مع مذكرة الأسباب الموجبة، ص 36.
(11) المرجع نفسه.
(12) المرجع نفسه.
(13) المرجع نفسه.
(14) المرجع نفسه.
(15) Haider Ala Hamoudi, "The Political Codification of Islamic Law: A Closer Look at the Draft Shi’i Personal Status Code of Iraq", Arizona Journal of International and Comparative Law, vol. 32. No. 2, 2015, pp. 329-333.
كتب حمودي دراسته هذه في سياق عرض مسودة قانون الأحوال الشخصية الجعفري، التي رآها تجسيدًا لهذه النزعة.
(16) Al-Qarawee, H. H, “The ‘Formal’ Marjaʿ: Shiʿi Clerical Authority and the State in post-2003 Iraq”. British Journal of Middle Eastern Studies, 46, no. 3, 2019, 481–497.