أيلول/سبتمبر 12
   
 
أخلص منصور البكري لفنه ومهنته (الرسم) ولم يتركها لأية مهنة أخرى، وظل يرسم ويرسم فقط بشكل حر منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى رحيله مؤخرا. هو الفنان الذي حاصرته المنايا اكثر من مرة وتمكنت منه في المرة الأخيرة، ولم يستطع اكمال احلامه الواردات في خاطره الطويل الذي كسرته الأنظمة وعتمة الوطن الذي غادره مبكرا وما زال يحلم بالعودة اليه. هذا الفنان الذي تربى في مدرسة الابداع العراقي من معاهد واكاديميات وتوجها بدخوله مبكرا الى قلعة الابداع (دار ثقافة الأطفال) حين اخذ بيده الفنان طالب مكي الى رئيس تحرير مجلة (مجلتي) وتعيينه براتب شهري ليكون ضمن فريق المجلة وكان جلهم من تشكيليي العراق الكبار، وهو لا يزال فتى في عمر الرابعة عشرة وتدرب مع آخرين حتى عمل في ما بعد في مجلة (المزمار) توأم (مجلتي) وتولى تصميم غلافها. ومن هذا الباب دخل الى السينوغرافيا بوصفها جزءا من تصوير المشهد دراميا، تلك المهمة التي يتقنها جيدا في رسم المناظر والشخوص، وعمل مع أشهر مخرجي المسرح العراقي (عوني كرومي، سعدي يونس)، ونبغ بالرسم والتصميم حتى أهلته تلك الغوايات لينال الجائزة الأولى في تصميم الطوابع البريدية ضمن المسابقة المقامة على هامش مهرجان الربيع بالموصل عام 1979.
قد تكون تلك السنوات بدايات التأهيل الحقيقية من دراسته في اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد وتخرجه منها عام 1978 وانتسابه الى فريق (مجلتي)، بيد أن مغادرته الوطن عام 1981 بداية حرب الخليج الأولى والأفق المجهول نحو المستقبل كانت مرحلة جديدة للتكيف واكتشاف خصائص الذات الخلاقة التي تستطيع تفكيك مقولات الواقع من اجل صنع شرنقتها الخاصة التي يلتحف بها، لتنير عتمة روحه التي خلفها وراءه في مدينته (بغداد) وهي تحترق بدخان الحرب التي بدأت للتو وصدمته الأولى حين واجه أنوار (روما) المدينة الجديدة التي تحيا مضيئة طوال ساعات اليوم، ويقارن بين هذه وتلك من اجل اكتشاف تلك المغاليق، لكن عينه بقيت مفتوحة على (بغداد) حتى لحظاته الأخيرة وظل العراق حاضرا في كل زاوية من رسوماته وأن بغداد تسبقه دوما الى شوارع برلين التي يسكن حاراتها ويجول طويلا في شوارعها وأزقتها بعد انتقاله اليها مبكرا من روما بسنة واحدة فقط، على الرغم من مواصلته الدراسة وحصوله على الشهادة العليا في الكرافيك عام 1988. وقد توج هذا المخاض الجمالي بتصميم كتاب كبير يتضمن ملحمة كلكامش ويضع تخطيطاته الداخلية ورسوماته المائية في معالجة احداث الملحمة دراميا، واستكمالا لهذا المشروع ينتظم للدراسة مرة أخرى ويحصل على شهادة الدبلوم العالي للفنون في موضوع علم نفس وفانتازيا الأطفال عام 1989 مع رسم وتصميم كتاب (زيارة مزهرية قديمة) باشراف استاذه راينهارت براون. وكانت هذه المرحلة آخر محاولاته في الدراسة والعمل المؤسساتي ليتوجه الى الرسم الحر والتصوير الفوتوغرافي لينجز مشروعه الشخصي او استكمال ما بدأه، اذ اقام (30) معرضا شخصيا لفنه في اقامته الألمانية وأسس مركزا ثقافيا باسم (شهرزاد) ليكن قريبا من الحكايا البغدادية في اصطفائه هذا الاسم الذي يمتد بانساغه الى بغداد والعراق، اذ بقي فاتحا مخيلته على حضارته العراقية ورموزها قديما وحديثا وينجز ما يمكن انجازه أو ما تتيح له الظروف في النظر اليه. وفي كل هذا المنجز يعتقد البكري ان الوطن الأم هو الذي يمنح الفنان زخما ثقافيا واللوحة معنى، ويرى أن الفن العراقي ملتزما بجذريته التي تمنحه سمة متعالية في ضوء الانضباط الذي يحكمه بخلاف ثقافة الآخر السائبة والبعيدة عن الضوابط، ويعد هذا علامة فارقة وايجابية تتميز بها ثقافتنا الفنية ويعدها ايضا جزءا من تكريس تجربته وغناها على مستوى التحولات والأجناس التي خاضت بها، بدءا من التصميم ومرورا برسم الكاريكاتير الفني الذي مارسه في عدد من الصحف والمجلات العراقية فترة وجوده في الوطن الأم، وتميز به كثيرا عن طريق تعامله مع الموضوعات المضمرة عند رسم الصورة الشخصية.
اتسمت تجربته بالجمع بين الرسم الاحترافي والطريقة الكاريكاتورية في التعبير، على الرغم من تنوع اشتغالاته وتعدد الأجناس التي ابدع فيها، وهذه الطريقة قد تكون ميزة لدى القلائل من المشتغلين بهذا الجنس الفني في التشكيل العالمي والعراقي، وهو يسير على خطى (بهجوري) ومحايثة تجربة علي المندلاوي، اذ تتبعا المنهج ذاته في التعبير من أجل تخليص العمل الفني من سطحيته ومباشره وبعثه الى محمولات دلالية تغتني بلعبة التعبير عن الجوهر في العمل والمضامين الانتقادية التهكمية والساخرة التي يحملها هذا الفن. ولكن مصورات البكري بتشريحتها ومشابهتها للأصل البشري وقوانين وجوده في الواقع المعيش، تحمل في الوقت نفسه جزءا كبيرا من المضمر والخفي في تلك الشخصيات ما منحها طاقة تعبيرية كبيرة أخرجتها من خانة التعاطي الصحفي والرسم الكاريكاتوري الى خانة فن الرسم بكامل طاقته وأدواته.
كان يسابق الزمن ويحلم بالعودة للوطن من اجل اعادة وترميم البنى الفنية المخربة ومنها تحقيق امنيته في اعادة اصدار مجلة (مجلتي) المتوقفة بشكل جديد يتماهى مع الأنساق الفنية والاصدارات التي تعلمها من دراسته الأكاديمية ومشاهداته المتعددة في غرب الأرض، فضلا عن اعداده خطة متكاملة لتأسيس منتدى للفنانين الشباب في العراق وبغداد تحديدا، المدينة التي أحبها وظل ملتفتا اليها طوال سنوات المهجر، يعنى هذا المنتدى بتبادل الخبرات بين الأجيال وتلاقح ثقافتها وتطوير أساليب عمل جديدة في فن التشكيل العراقي. لكن المصائر المجهولة كانت تتربص به وادخل المستشفى وخلال الأيام الأربعين التي قضاها في الحجر الصحي كان يرسم أيضا ويعمل اسكيتشات ملونة لعدد من الأعمال التي ينتظر انجازها. وجسدت هذه الموضوعات صورا لشخصيات عالمية من مشاهير الفن والأدب والثقافة، فضلا عن موضوعات أخرى تنتمي لحضارة شرق آسيا، بيد أنه أراد الايفاء لبعض الشخصيات التي تعلم منها وكان مشروعه القادم وبذات الروحية التي عمل عليها طويلا، وهو الرسم الكاريكاتوري لشخصيات يمنحها طاقة تعبيرية عالية، فرسم 40 لوحة وزعها لوحة لكل يوم قضاه في غرفة الحجر فصور (كاسترو، جيفارا، تولستوي، ديلاكروا، بيكاسو، مظفر النواب، فيصل لعيبي) وغيرهم الكثير، لكن يد الأقدار لم تمهله في تصيير هذه المصغرات أعمالا فنية وبقيت رهينة سجل مخططاته مع مدونات أخرى لمشاريع لم تكتمل كان يأمل تحقيقها.