
تقترن مهنة التمثيل بالموهبة وتوفر الامكانات والمهارات الفائقة، فضلا عن اكتساب المعرفة والدراسة والاطلاع والتدريب. وهي التي تقود إلى فهم طبيعة الدور وتفسير وفهم الشخصية، وإدراك فلسفة حكاية العمل ككل، كما تتطلب الاحاطة بمتطلبات إتقان الأداء، والالمام بحرفة التجسيد ودقة التعامل مع الشخصيات الاخرى، والاهتمام بجاذبية الشكل وقيمته، ومرونة الجسد وطبيعة الهيئة، وخصائص الصوت وكيفية النطق، واجادة أنماط التعبير، وما إلى ذلك من اشتراطات. واوفر حظا، لمن توفرت لديه مثل هذه العناصر فضلا عن الوسامة وألق الحضور لكلا الجنسين. وافضل فرصة هي التي تذهب إلى الممثل القدير المتمكن من أدائه، الذي يجيد فهم دوره، وفهم النص مع المخرج، واجادة فن التفاعل الحيوي مع الممثلين المشاركين معه، وله مهارات وقدرات متفردة، وثقافة عالية وحرفة التعامل مع الكاميرا والملاك الفني ككل، مع الالتزام والاحترام اللائق بين فريق العمل.
وقد وصل العديد من الممثلين والممثلات إلى مستوى النجومية والتفوق الفني العالي. بل حصدوا الجوائز واعجاب المختصين والجمهور، وهذا ما يؤثر ايجابيا بانتعاش الانتاج الفني ككل ويفتح آفاقا واسعة في التمثيل اذا ما توفرت وازدادت فرص العمل.
ولكن نجد احيانا ان بعض الممثلين والممثلات يختفون من الشاشة، ولم يتم اختيارهم في العمل بمسلسل أو فيلم جديد، الا بعد مضي فترة زمنية قد تستمر طويلا، وهذا ما يولد استياء حادا من قبل الممثل أو الممثلة، بل يخلق “بطالة” تزيد من شدة التذمر والاحباط في الوسط الفني عموما. وفي ما سيأتي سنشير الى بعض الملاحظات التي ترتبط بهذه المسألة والتي لها كبير الصلة بآلية الحصول على فرصة التمثيل في العمل الفني.
ترتبط فرص التمثيل نسبيا بمستوى مهنية وتقاليد عمل المؤسسة الانتاجية ودرجة احترافها للعمل. لا شك أن المخرج المتمرس هو من يجيد فن اختيار الممثلين بما يلائم شخصياتهم وامكانياتهم مع ادوارهم حرصا منه على اتقان الدور بتجسيد مثير ومشوق. ونعتقد ان فرصة التمثيل ومنح الدور ينبغي أن تخضع لاشتراطات ومعايير فنية محكمة ترتقي بدقة المطابقة بين الممثل والشخصية، وليس على اساس العطف أو الهبة والمساعدة وارضاء الآخر، وهناك فرص في التمثيل خلقت نجوما وصنعت أبطالا من التصنيف الاول لعدد من الممثلين والممثلات بما فتحت لهم من آفاق واسعة بعروض فرص مهمة أخرى.
من متطلبات التمثيل ان يقرأ الممثل أو الممثلة النص ويفهم كل تفصيلاته وأفكاره ولغته ومن حقه ان يعرف حجم وقيمة ومستوى دوره ويفسره في قصة العمل، كي يعرف ما مطلوب منه أن يعمل ويجسد ويعبر وكيف يظهر ويتفاعل مع الاخرين، وان يعرف دوره في الصراع والأحداث عموما.
أحيانا يرفض بعض الممثلين أو الممثلات اختيارهم لدور معين، وبعدها يتم الاعلان عن الشعور بالندم لهذا الرفض لسبب أو لآخر، منها التفوق الكبير الذي حققه الممثل الآخر في هذا الدور المرفوض، او لسبب اخر. وقد ترفض فرصة التمثيل لأسباب مختلفة، منها ما يتعلق بطبيعة الدور الذي قد يحمل جرأة أو خرقا للحياء أو ثقلا من الإغراء أو انتهاكا لقداسة ما، او ما تحمل من علامات ومفاهيم فكرية أو روحية خطيرة، قد تسبب حرجا للبعض أو للمجتمع، او ان ممثلا ما، قد اخفق كثيرا وفشل في أدائه بالدور “س”، بما لا يشجع الاخرين على اختياره مرة أخرى، وهنا يكون قد ضيّع الفرصة، فضلا عن أسباب عديدة.
في سياقات العمل الفني، تحصل احيانا بعض الاخفاقات في مسألة اختيار الممثلين لأسباب خارجة عن المعايير الفنية السليمة بمعنى أن الاختيار كان خاطئا وغير مطابق لسمات الشخصية، مما يشكل خللا في جسد العمل والوسط الفني عموما، بعيدا عن التوازن والمهنية الصحيحة، وكذلك تتاثر فرصة التمثيل بقرار الاختيار الذي يحذر من عدم الانسجام بين الممثلين أنفسهم، او من حالة انتقاء البطولة من بين المرشحين لها وعلى قدر قياس مستوى الكفاءة.
يعاني احيانا الممثل أو الممثلة في حالة عدم وجود فرصة متاحة للتمثيل وبانتظار طويل جراء توقف عجلة الانتاج، خاصة عندما يعرفهم الجمهور جيدا ويصبحون وجوها معروفة في الشاشة، والممثل أو الممثلة لكل منهما حياة خاصة، بها حاجة إلى رعاية ودعم وتشجيع، وان مهنة التمثيل هي مصدر العيش الرئيسي وبدونها يصعب عليهم العمل في ميدان مهني اخر وخاصة في أعمال بسيطة لا تليق بمكانتهم ونجوميتهم سيما وان بعضهم قد اقترنت هيئته بالدور الفلاني والشخصية المعروفة في القصة المعينة التي تعاطف الجمهور معها أكثر.
تسعى بعض القنوات الى اختيار بعض الممثلين أو الممثلات بتقديم البرامج لما يتمتعون به من حضور وقبول عال لدى الجمهور لاستقطاب ذائقته، وهنا قد تختلف الآراء، منهم من يرى ذلك نوعا من الانتشار والشهرة. فيما يراه البعض الآخر نوعا من الاستهلاك الذي يولد الاشباع والملل، على الرغم من الفائدة الربحية التي يجنيها الممثل أو الممثلة من هذه البرامج والتي يسعى إليها احيانا، بسبب عدم حصوله على فرصة تمثيل مناسبة.
ان اختيار الممثل “س” لدور معين وقد اثبت اخفاقه فيه، من دون اعطائه للممثل “ص” وهو المناسب جدا للدور، وخارج عن معايير الاختيارات الصحيحة من قبل المخرج أو هيئة الانتاج، يشكل خرقا في التقاليد وضعفا في مستوى الفيلم او المسلسل، وهذا ما يكشف عن قصور الاختيار وإهمال الخبرات المبدعة والذي يساعد على البطالة المقصودة في هذه المهنة.
أحيانا تلعب العلاقات الشخصية وتفشي ظاهرة المجاميع “الكروبات” دورا في حرمان العديد من الممثلين والممثلات من فرص العمل وتبعدهم عن الاشتراك في الأعمال الفنية، فليس من المهنية الصحيحة ان يمنح الدور لاغراض شخصية أو بدافع المصالح والمنافع أو الصلات الخاصة، والمساومات وغيرها من العلاقات المشروطة، رغم اننا لا نستبعد وجودها في السينما العالمية، وبلا تحفظ.
من حق المخرج أو المنتج ان يختار على وفق ما هو اكثر ملاءمة للدور والعمل الفني بشكل عام، حتى لو كان من خارج الوسط الفني، واحيانا يتم الاختيار على ممثل أو ممثلة من غير الدارسين لفن التمثيل أو من غير الذين قد تعلموه سابقا في ورشة أو معهد خاص بذلك. ومعروف في تاريخ السينما ان العديد من المخرجين الكبار، أقدم على اختيار بعض أبطاله وممثليه من الأشخاص العفويين التلقائيين والبسطاء وممن لم يدرسوا السينما وفن التمثيل من قبل، وقد نجحوا نجاحا باهرا.
نأمل من المؤسسات الفنية المعنية بالإنتاج التلفزيوني والسينمائي الحكومية أو الخاصة محليا أو إقليميا أو دوليا، ان تعمل على زيادة وتائر الانتاج وباعمال عديدة ومتنوعة في السينما والتلفزيون والاذاعة والمسرح لإتاحة فرص العمل بشكل اوسع، للقضاء على مسألة “ندرة الفرصة” لاحياء روح الانتاج وازدهاره، بما ينعكس ايجابيا على اجواء العمل في الوسط الفني.
ان مستويات التمثيل مختلفة بلا شك، وهناك من تنطبق عليه التوصيفات الجديرة بمكانته، فهناك النجم STAR وهناك بطولة، رئيسي، ثانوي، وهناك مستويات اقل وأقل لغاية الكومبارس، وهناك ادوار مهمة معروفة، يجيدها س وص بسبب قدراتهم وكفاءتهم، المعروفة ولن يجيدها الآخرون بسبب محدودية الكفاءة وضعف المهارة، وهناك فرص تمثيل لحالات خاصة مثل العمر او الإعاقة أو قصر القامة، او لون البشرة أو جنس أو بيئة معينة أو لغة محددة من البشر، او ان تقنيات المكياج ساعدت على خلق التشابه والاقتراب من الشخصية المطلوبة، أو انه عرف بنمط معين من الاداء بدور يليق بما يناسب نمطه كأن يكون شهيرا في الاداء الكوميدي مثلا. وهناك من يتمتع بسمات وعلامات ومهارات خاصة منها قيادة الطائرات والسباقات والتعامل مع الحيوانات والاسلحة وتسلق الجبال وبقية المهن كالالعاب الرياضية كافة والعزف الموسيقي والغناء وأنواع الحركات، وغيرها من المؤهلات الأقرب إلى الدور، وهذا ما يؤشر على بيان نظام آلية توزيع الأدوار، لمن هو الأمثل ملاءمة للدور دون غيره.
من الجميل أن يجد الممثل أو الممثلة فرصة التكليف بدور مناسب لشخصيته محليا أو عربيا أو عالميا، وهذا ما يتطلب توفر المؤهلات الفائقة والطريقة الصحيحة في الاختيار ولكن، هناك البعض ممن لم يتسن له الحصول على الأدوار البسيطة “الكافية” حتى محليا، مما نجده عاطلا. أما صعوبة الحصول على دور عربي أو عالمي فهذا موضوع طويل جدا وأسبابه معروفة. هو عدم إجادة فن تسويق النجم، خاصة وأن غالبية الممثلين والممثلات المحليين لا يجيدون فن التكلم بلغات اجنبية مما يصعب ذلك في الاقناع والانتشار، ويثلم من القدرة التعبيرية بما في ذلك طريقة النطق والأداء والتفاعل مع العالم الآخر.
قد تكون بعض المواقف المتشنجة والانفعالات السلبية والاخطاء وعدم التفاهم وبعض التجاوزات في العمل الفني وعدم الالتزام بتقاليد العمل، مسوغا لعدم اختيار المخرج لممثل ما وضياع فرصته، وهذا ما يخلق الاجواء غير الصحية في الوسط الفني، الأمر الذي ينبغي أن تشاع فيه الروح المتسامحة العالية وتجاوز ما حصل في موقف سابق بثقافة الاعتذار، مع فتح صفحة جديدة في العمل الجديد، وبروح المحبة والاحترام.
ليس غريبا ان تتوالى فرص التمثيل على ممثل معين، بحيث يصعب عليه تنظيم وقته في تنفيذ التزاماته في التصوير وبما يكثر من حضوره في الشاشة، على العكس من البعض الذي كبرت المسافة بينه وبين فرصة العمل.
اننا نتبنى الموقف الكريم لكرامة الممثل والممثلة، ممن يرفضون الابتذال، والمساومة، وعدم احترام الطريقة الرخيصة في تعامل بعض المنتجين أو المخرجين في منحهم الدور المعين على اساس انه “صاحب فضل” في هذه الفرصة “المشروطة” على الممثل أو الممثلة، ولسنا مع الذين يسعون بشتى السبل الوضيعة والدنيئة من أجل حفنة من المشاهد والادوار في عمل ما، بما يفقد احترامه وهذا ما يحقق القدر المتدني في سياقات العمل الفني. بل ويفقد أوجه الكرامة وعدم تقدير الكفاءة.
ما زلنا بأمس الحاجة إلى وضع نظام جديد في تصنيف المستويات الفنية للممثلين والممثلات، ومراقبة اليات توزيع فرص التمثيل وبما يتكافأ مع مهاراتهم واجيالهم واعمالهم ، وبما يساعد على إعادة النظر بالسقف الحالي المتبع في منح اجور التمثيل غير الخاضع لنظام أو سياق عمل صحيح، قياسا إلى سقف اجور الممثلين في دول أخرى. ونعتقد ان نقابة الفنانين وبقية الاتحادات المختصة جديرة بوضع تصورات دقيقة عن الانتاج السينمائي والتلفزيوني موسميا، وكيفية سير العمليات الانتاجية، وهي الاجدر على رعاية حقوق الممثلين والممثلات والعمل وفق مفردات الانظمة واللوائح المثبتة في العقود عبر مراقبة سير الأعمال الانتاجية ومستويات تطبيقها لسياقات الانتاج المعمول بها في أقرب أو اغلب دول العالم.
لا ننسى ان نسجل أعلى معاني الاعجاب والتقدير للممثلين والممثلات في اصقاع العالم الذين يصرفون شهورا عديدة وأوقاتا طويلة في التدريب والمعايشة الحقيقية لطبيعة ادوارهم المهمة والصعبة والخطيرة والموبوءة في ميادين او حقول الحياة والعمل أو في بيئات مختلفة، او في دواخل ذواتهم العقلية والنفسية والشعورية لاجل اجادتها وتجسيدها على أكمل وجه، بوصفها فرصة تمثيل مهمة تستحق الاهتمام والمعرفة والابتكار للإمساك بسمة الإبداع.